كتبوا في السينما

 

 
 

جديد حداد

خاص بـ"سينماتك"

حول الموقع

خارطة الموقع

جديد الموقع

سينما الدنيا

اشتعال الحوار

أرشيف

إبحث في سينماتك

إحصائيات استخدام الموقع

 

«حين ميسرة»: الرقابة العطوف في زمن الرفق بالأفلام

القاهرة - فريال كامل

إن كان خالد يوسف أراد أن يصنع فيلماً صادماً، فقد فعل، حين عرض موسوعة الممنوعات والمحرمات في فيلمه الجريء «حين ميسرة» وسنرى خلال العرض إلى أي درجة كانت الصدمة شافية أو قاتلة.

هذا الفيلم يفجر حالياً عاصفة من الجدال بين النقاد والجمهور في وسائل الإعلام، لما احتشد به من صور البؤس في العشوائيات (30 منطقة عشوائية يسكنها 15 مليون مواطن من 75 مليوناً هم تعداد السكان في مصر)، التي تطوق مدينة القاهرة وتوشك على الانفجار.

يستدعي السيناريو الذي كتبه ناصر عبدالرحمن حوادث عدة تداولتها الصحف وشغلت الرأي العام في مصر، منها حادث «التوربيني» وأحداث قلعة الكبش وغيرها، تلك الأحداث التي تعد مادة خصبة لكتّاب السيناريو ولكن ليس بالطبع بعرضها عرضاً تسجيلياً إنما بطرحها طرحاً إبداعياً في بناء درامي مؤثر.

يلفت النظر في البداية عنوان الفيلم «حين ميسرة» والذي يكثف معاني الاتكالية وغياب الخطة وسقوط المسؤولية وأيضاً هلامية التوقيت. وفي مستهل الفيلم ينتقي المخرج مشهداً صادماً يُعدّ جمهوره لتلقي ما يليه من الغرائب، وذلك حين تنهال الزوجة وفاء عامر على زوجها ضرباً بالحذاء ما يستدعي الأهالي لفض الاشتباك. وتنتقل الكاميرا إلى الجدة هالة فاخر التي تعيش على أمل عودة ابنها من العراق محملاً بالخيرات، ذلك الابن الذي انقطعت أخباره منذ سنوات في بلد طحنته الحروب. تقدم هالة فاخر هنا شخصية إنسانية فريدة ترعى أحفادها - الذين تخلى عنهم آباؤهم لضيق ذات اليد - إلى النهاية حين تحتضنهم مغادرة العشة بينما تحاصرهم النيران.

يتدفق السرد في إيقاع ديناميكي تضبطه المونتيرة الشابة غادة عز الدين لموسوعة الجنس والعنف والضياع، إضافة للحمل سفاحاً والتحرش الجنسي وتعدد الزوجات والمتاجرة بالأطفال، غير أطفال الشوارع، والاغتصاب. والمثير للدهشة أن المخرج لم يكتف بما سبق بل أضاف المزيد من المحرمات والانحرافات مثل العلاقات النسائية المثلية والرشوة وغيرها والتي لا تتصل مباشرة بظروف الحياة البائسة في العشوائيات. وما زاد الطين بلة كما يقول المثل أن تتوسط الشاشة في خاتمة الفيلم عبارة مفادها أن الواقع أكثر بؤساً وأشد مرارة مما شاهدناه على الشاشة. فكان من الطبيعي حين تضاء أنوار الصالة أن يخيم الصمت ويزحف الجمهور بخطى ثقيلة منكساً الرؤوس نحو باب الخروج، بينما يتزاحم الجمهور على شباك حجز التذاكر ما يمثل حالة جديرة بالدراسة.

جلد الذات؟

يحق للمرء هنا أن يتساءل عن الجدوى من جلد الذات كمحصل طبيعي لما يشيعه الفيلم من الكآبة والإحباط. ويقيني أن خالد يوسف من فرط حماسته لإحراج الحكومة واستثمار ديموقراطية الرقابة، لم يقدر بالضبط مردود الفيلم على جمهوره حين قرر إخراج فيلم ثوري ينذر الحكومة بالقنبلة شديدة الانفجار في العشوائيات، ويبصّر الجماهير بالخطر المحدق بهم، ويستفزهم لتغيير الأوضاع ولكن جانبه الصواب لأن الأمل هو وقود الثورة بينما اليأس عدوها اللدود.

غاب عن كاتب السيناريو أن الجماهير لا تتحرك إلا للدفاع عمن تتعاطف معهم، ولا تتأثر إلا بشخصيات إنسانية لديها أمل في الحياة، ولا تثور إلا من أجل نفوس عامرة بالضمير. غاب عن كاتب السيناريو أن عرض صور من حياة البؤساء - في حد ذاتها - لا يخلف تأثيراً لدى المشاهدين بالقدر الذي يحدثه تحايل البائسين من أجل الحصول على رغيف العيش أو شربة ماء أو عنائهم لإسعاف مريض. وغاب أيضاً عن كاتب السيناريو أن لا شيء يعادل في تأثيره وخز الضمير حين تضطر الشخصية اضطراراً إلى حرق الأخلاقيات والشرائع.

على مدار الأحداث لم يظهر على الشاشة طفل يسطر سطراً، ولا امرأة تتكسب من حرفة متواضعة. وبالتالي لم نشاهد رجلاً يكدح لإطعام عياله بل شاهدنا أطفالاً تخلى عنهم آباؤهم، وأمهاتهم (مليونا طفل تعداد أطفال الشوارع في مصر بحسب أكثر الإحصاءات تفاؤلاً) وذلك باستثناء عادل حشيشة (عمرو سعد تميمة الفيلم الذي تنتظره أدوار رائعة على الشاشة) الذي يتكسب من لعب القمار على المقهى ويتعاون مع المباحث بينما يعمل مع أحد تجار المخدرات، فما أن يفشل في مهمته حتى يتم تأديبه بوحشية من قبل كل من رجال الأمن ورجال المعلم وفي مشهد إنساني تدمع عين (حشيشة) وهو ينتزع إسورة أمه الذهبية للوفاء بحق المعلم.

في الحي العشوائي تتصادم ثلاث جبهات: جبهة الأهالي، والجماعة الإرهابية التي تمول نشاطها من تزوير العملة وتجارة المخدرات (ولا أفهم لماذا لا يعرض الفيلم للفكر السلفي الذي يتعارض مع الطبيعة والحياة)، فيما تمثل الجبهات الأمنية الجبهة الثالثة في الحي فتطارد أفراد الجماعة وكما يقول الكاتب الفرنسي بلزاك: «أينما تتصارع الأفيال يدفع العشب الثمن»، فتشتعل النيران في الحي وتنهار العشش فوق رؤوس الأهالي ويسجل الفيلم غياباً تاماً للأحزاب والحكومة.

يتضح أسلوب المخرج في الاهتمام بالحدث من دون الشخصية. حيث تتلاحق الأحداث بينما يسقط مردودها على الشخصيات، الأمر الذي يفرغها من إنسانيتها، فيفتقد المشاهدون مشاعر الأم (سمية الخشاب) حين تضطر للتخلي عن وليدها لمصير مجهول. ويفتقدون أيضاً مشاعر المرأة حين تُغتصب، ومشاعر الأم الصغيرة حين تنجب وليدها على قارعة الطريق. بينما فرض المخرج على جمهور المشاهدين من دون داع فيضاً من المشاهد الوثائقية عن مسلسل الحروب في العراق إضافة الى الإسهاب في عرض الفقرات الراقصة للفنانة سمية الخشاب.

حقيقة الأمر يُقدَّر هنا للمخرج خالد يوسف أنه لم يتبع خطى أفلام الهزليين الجدد وأنه تخير موضوعاً جريئاً عرضه بأسلوب صادم عن مجتمع متصدع تنفرد بحكمه قوات الأمن في غياب تام للحكومة والأحزاب والمجتمع المدني.

بدا الديكور الذي صممه حامد حمدان للحي العشوائي غاية في الصدق و «الجمال» خلال كاميرا الفنان رمسيس مرزوق، الذي أبدع توزيع درجات العتمة لتعكس البؤس الداخلي للشخصيات. وتجدر الإشارة هنا إلى أكثر المشاهد قوة وإنسانية والذي صوره المخرج على سطح قطار ينطلق بأقصى سرعة حين يهاجم بعض الصبية المشردين الأم الصغيرة ليخيروها بين الخضوع لرغباتهم الدنيئة أو القذف بوليدها من أعلى القطار ما يمثل أقسى وأمر اختيار لصبية في مثل سنها، ويمثل أيضاً فتحاً جديداً في الرقابة على الأفلام وليشهد العالم - حتى أميركا - أن فيلماً سينمائياً بات أحد قنوات المعارضة.

الحياة اللندنية في 1 فبراير 2008