كتبوا في السينما

 

 
 

جديد حداد

خاص بـ"سينماتك"

حول الموقع

خارطة الموقع

جديد الموقع

سينما الدنيا

اشتعال الحوار

أرشيف

إبحث في سينماتك

إحصائيات استخدام الموقع

 

مهرجان روتردام السينمائي الدولي السابع والثلاثون

الحب المراهق الناضج في "جونو" والعودة إلى الماضي في "نعجة لله" و"بيضة"... رحلة طريق في الشريط الساخر "مارلون وبراندو" ... وعلاقة حب بين أسترالي وأفغانية في "سماء لامتناهية"

روتردام ـ ريما المسمار

حينما دُمرت روتردام بشكل كامل خلال الحرب العالمية الثانية، بقي صرح وحيد منتصباً وسط خرابها المعماري هو مقر البريد الذي يختلف عمرانياً عن باقي المدينة وينتصب شاهداً على تاريخ أبعد من ذاك الحديث. لكأن هذه المدينة أبقت على صلة شعرة بماضيها لتبني عليه حاضرها ومستقبلها. ولكن المظهر الحديث الذي يكسو روتردام عمارةً وتاريخاً لا ينسحب على حياة المدينة وعيش أهلها. فحيويتها الثقافية تدفع الزائر إلى تخيل تاريخ طويل من الممارسات الثقافية، يتجلى في عدد متاحفها وانفتاحها على الفن المعاصر بشكل كبير. أما مهرجانها السينمائي السنوي والذي يتخطى عمره نصف عمرها الحديث بقليل، فيشكل فرصة كبرى لقياس مزاجها السينمائي وميل شعبها اليه. الدورة السابعة والثلاثون للمهرجان التي انطلقت قبل أربعة أيام هي في الواقع تكريس للدورات السابقة واضافة اليها في الوقت عينه. فبينما يمضي رئيس المهرجان الجديد روتغر وولفسن خليفة ساندرا دين هامر في تكريس نكهة المهرجان الخاصة، يمنحها، هو الآتي من عوالم المتاحف والفن المعاصر، منحىً مختلفاً يتجسد في برامج تحتفل بسينما ربما ينطبق عليها وصف "هجينة" في تدليل على استعانتها بالفنون الأخرى ودمجها في اطار بصري وتجريبي. من هنا نقع على برامج نكريمية لسينمائيين وفنانين يشتغلون بالصورة كفضاء لامتناه مفتوح على الدمج والقطع والاستغلال. في الاطار عينه، نعثر على برنامج "دراغون إن" الذي يستعير من المخرج التايواني عنوان فيلمه Goodbye Dragon Inn الذي يحكي سيرة صالة سينمائية كبرى فقدت مكانتها ووظيفتها. يرتكز البرنامج على فكرة العثور على طرق جديدة لعرض الافلام منها تجهيزات الفيديو بما هو تكريس اضافي لفكرة تماهي الحدود بين السينما والفنون الاخرى. ولا ننسى شعار المهرجان لهذا العام الذي أطلقه رئيسه "الراديكاليون الأحرار" لوصف مجموعة برامج تقدم افلاماً شديدة الخصوصية والحدية وهو ما يثير بعض ردود الفعل هنا في كواليس المهرجان لأنه بشكل ما يضيق مساحة الافلام الاخرى غير الراديكالية. ولكن ليس هذا ما أراده المهرجان باطلاق ذلك الشعار. فميزة روتردام مازالت تلك التوليفة المتقنة من الافلام الجديدة والشابة والمكرسة. ولكن ما اضافه المهرجان في دورته الحالية هو تبني نهج أكثر حدية في اختيار الجديد والخاص. لم يعد الجزء المعني بالسينما الجديدة مقتصراً على افلام مستقلة ومهمشة بل تخطاه إلى افلام أكثر حدية او راديكالية في قول ما تريد قوله. يوسع ذلك من مروحة المهرجان فنعثر على أكثر الافلام شهرة وسمعة كما نقع على افلام تسمي نفسها مثلاً Junk Films او أفلام النفايات.

ولكن للمخرجين حساباتهم في كل ذلك. فأن يتم وضعهم في هذه الخانة لاسيما اذا لم نكن افلامهم بتلك الراديكالية يعني ان يتم استبعادهم من مهرجانات كثيرة أخرى. تماماً كما لبعضهم الآخر حساباته حتى في ما يخص الدعاية والمقابلات الصحفية حيث يعتبر ان تسليط الضوء بشكل كبير على العمل في مهرجان ما سيفقده بريقه بما يؤثر على مشاركاته في مهرجانات أخرى. انها حسابات المهرجانات الضيقة وهي تختلف بين مهرجانات الصف الاول مثل كان والبندقية وبرلين وبين مهرجانات الصف الثاني ومنها روتردام. ولكن الأخير وجد لنفسه المساحة بحيث أصبح يجسد اليوم المهرجان الاكثر انفتاحاً على السينما بكافة أطيافها والملجأ الذي يلوذ به اصحاب التجارب الصغرى والغريبة. من جهة ثانية، يبقي المهرجان على صلاته بعالم الصناعة السينمائية من خلال سوقه "سيني مارت" أحد أكبر الاسواق السينمائية بين المهرجانات في العالم والفرصة الابرز للمخرجين لتسويق أفلامهم لاسيما بعد خيبات المهرجانات الكبرى التي تعد بالكثير لجهة التسويق ولكن الفائزين قلة.

ذلك بعض المشاهدات الذي يستوقف المتابع للمهرجان ومجموع تلك المشاهدات يشكل صورة ما للمهرجان. ومن تلك المشاهدات ايضاً احساس الزائر باحتضان المدينة لمهرجانها احتضاناً ليس عاطفياً بقدر ما هو عضوي. لسبب ليس خافياً يستوقفنا نحن الآتين من تجربة مع المهرجانات العربية هذا النوع من المشاهدات شبه المفقود في الاخيرة. خلا الملصقات التي تملأ شوارع روتردام ومحلاتها ومطاعمها، سيرشدك إلى المهرجان معرفة اهل المكان به وتلك علاقة على بديهيتها لا تتكرس بسهولة وتستلزم طرفي معادلة: المهرجان وجهوده من جهة والناس وفضولها وانفتاحها على السينما من جهة ثانية. كل ذلك ليس كافياً للخروج بمهرجان من طينة المهرجانات الكبرى وان كان ضرورياً. فثمة مزيج، غير سحري، من كل ذلك وسواه يصنع المهرجانات السينمائية في مقدمه الافلام بالطبع. كيف يمكن الخروج برأي نقدي اذا كانت نسبة المشاهدة القصوى لن تتعدى العشرة بالمئة (خمسة افلام في اليوم على مدى عشرة ايام) او في أحسن الاحوال 12 بالمئة؟ هل تكفي تلك الافلام الخمسون للحكم على برنامج من خمسمئة فيلم؟ الاجابة لا بطبيعة الحال ولكن الآلية ليست مستحيلة. فثمة سبل أخرى، إلى مشاهدة أكبر كم من الافلام، إلى الخروج بنظرة ما عن البرنامج. فمراجعة حثيثة لفئاته كافية للتدليل على التنوع الهائل للأشكال السينمائية وانواعه المتمثل في فئات المهرجان الاساسية والهامشية. فأن تتمثل التجارب السينمائية وتجتمع في بوتقة واحدة من العروض هو كسب للمهرجان والجمهور على حد سواء. لا يهم بعد ذلك التقويم النقدي لكل فيلم فالقيمة تكمن في التجربة نفسها أي بمعنى آخر في خروج التجربة إلى حيز الانجاز. بعض الافلام يكفي ان ينوجد ولاحقاً يُصار إلى مناقشته وتقليب مقوماته الفنية من دون ان يلغي الرأي النقدي مهما بلغت درجة سلبيته او ايجابيته قيمة التجربة. ثم تأتي دلالات أخرى على مكانة المهرجان منها اتساع رقعته الجغرافية كالوصول إلى تجارب سينمائية من اماكن تتمتع بطزاجة سينمائية وتمثل انتاجات العالم، ليس على خلفية التوازن، في البرنامج. وبالمعنى عينه، تحضر تجارب السينمائيين الكبار او المكرسين التي تتيح دائماً استمرارية ما للمهرجان وتواصلاً مع دوراته السابقة وقبل اي شيء التجذر في تاريخ السينما كمشارك في صنعه وليس فقط كشاهد عليه. ومن ملامح ذلك ايضاً نبش المهرجان في تاريخ السينما وميراثه وحاضره عن اسماء منسية او غير مقدرة بالقدر المطلوب او تكتسب مراجعتها اعادة نظر في اعمالها واسهاماتها السينمائية. كل ذلك يمكن تحسسه إلى جانب قدر كبير من الانفتاح على التجارب المختلفة القائمة على الاختبار والتجريب والتي لم تصل بعد إلى شكل نهائي تستقر عليه وقد لا تصل ابداً.

ينعكس كل ذلك على الافلام. فمنها ما يطل من زاوية الاكتشاف ومنها ما يبحث عن اعتراف وهناك أفلام تصل روتردام بعد أن طافت مهرجانات كثيرة أخرى ولكنها تجد في مهرجان المؤلف هذا اذا جاز التعبير مساحة مختلفة. تلك كانت الحال مع الكسندر سوكوروف الذي عرض فيلمه الأخير "ألكسندرا" هنا بعد ان قدمه في "كان".. "بعد ثلاثيته الشهيرة عن رجال السلطة (Moloch وTaurus وThe Sun)، يعود سوكوروف بفيلمه الحالي إلى أجواء فيلمه الاول Mother and Son عام 1999 القائم على العلاقات الانسانية والمشاعر غير المباحة. ولكنه ايضاً أكثر أفلامه مقاربة للسياسة. شريط عن الحرب بدون حرب. فهم عميق لوحشيتها وقسوتها وبشاعتها من دون أن يوجه عدسته إلى مشهد قتال واحد أو معركة. بهذا المعنى، يكتسب الشريط بعداً انسانياً شاملاً وعالمياً في مقاربته الحرب والانسان. على الرغم من ان المكان هو الشيشان والحرب هي حرب الروس عليها، لا يعترض سؤال "الكسندرا" عن معنى "الارض الوطن" بخصوصيته السياسية ونقده الحرب على الشيشان، شمولية الفيلم وقدرته على الاحاطة بالحرب في اي زمان ومكان. انها الحرب كماكينة تسحق الانسانية. يختار سوكوروف ان يقول ذلك من خلال شخصيته المذهلة "ألكسندرا" التي تجسدها بروعة مماثلة مغنية الاوبرا غالينا فيشنيفسكايا. تزور "ألكسندرا" الشيشان لتقفد حفيدها المقاتل في الجيش الروسي. تقيم مع الجنود في الجبهة. بينما يقوم "دينيس" (حفيدها) باطلاعها على المكان متشوقاً ليعرض عليها السلاح الذي يستخدمه والدبابات التي يمتلكونها، تبدو "ألكسندرا" مأخوذة بتفاصيل أخرى. تنظر إلى وجوه الجنود الشابة التي لم ينمُ شعرها بعد بينما ينظفون أسلحتهم. تسألهم عن أعمارهم وعن نوعية الطعام الذي يتناولونه. تعرض عليهم الطعام في مشهد آخر وتسأل "دينيس" متى سيتزوج. بتلك الاسئلة، تضيء الكسندرا على الانسانية المفقودة في الحرب. واذ تنحشر داخل الدبابة، تضايقها الرائحة وتتساءل عن عدد الجنود الذي تتسع له. تقضي الكسندرا أكثر من نصف الفيلم بين الجنود، تتجول بينهم وتخاطبهم. ليس المكان جديداً عليها وحسب بل انه يغدو كذلك بالنسبة إلى الجنود ايضاً اذ يستحيل وجود الكسندرا في ذلك المكان معجزة لم تتحقق في الحرب. فهي بكل ما تحمله من مواصفات، تمثل الدفء والبيت والوطن مهما بدا مفهوم الاخير ضبابياً. في الشق الثاني من الفيلم، تقصد الكسندرا السوق المجاور ضاربة عرض الحائط بأوامر الجنود. تلتقي هناك امرأة شيشانية "ماليكة" تبيع الدخان. عندما تتعب الكسندرا تأخذها إلى بيتها حيث تتشارك الامرأتان جلسة عفوية حميمية على فنجان شاي ساخن بما لا يتوفر لأحفادهما. من تلك الجلسة، تخرج معاني الفيلم الاخرى عن الحرب التي تُصنع بعيداً من ارادات الشعوب والجنود وعن صورة العدو التي تُزج في المخيلة كوحش جاهز للانقضاض. يترافق كل ذلك مع صورة قاسية بائخة الالوان وضوء قاسٍ ينقل حرارة الشمس على الجنود بينما الليل رمادي كئيب. أما الصوت فعمارة حقيقية متقنة البناء تتداخل فيها أحاديث الجنود وتمتمات الكسندرا وقرقعة السلاح والموسيقى. ولكن الاضافة التي حققها المهرجان للفيلم هي الجلسة الحوارية الصغيرة مع مجموعة صحافيين تحدث خلالها المخرج الروسي عن السينما كاشفاً عن حبه العميق للأدب الذي يعتبره أساس الفنون وملهمه الحقيقي ومبيناً الفرق الاساسي بين السينما والادب حيث يعجز الأخير عن خلق المزاج والمناخ العام بينما تتمكن السينما بأدواتها من صنع ذلك.

الافلام

كانت انطلاقة المهرجان مع الفيلم الأرجنتيني Lamb For God الذي أثار ردود فعل ايجابية لاسيما انه يشكل باكورة أعمال مخرجته الشابة لوسيا سيدرون. ولكن الشريط الذاتي أثبت نضجاً ربما مفاجئاً وحرفة نادراً ما يجتمعان في الفيلم الاول عموماً. ولعل ما اضاف إلى حسن استقبال الفيلم والتعاطف معه ما ذُكر في كاتالوغ المهرجان من انه مستوحى من أحداث واقعية عاشتها المخرجة. غير ان الاخيرة اوضحت خلال النقاش الذي تلى الفيلم انه ليس مبنياً على أحداث معينة بل مستوحى من مجموعة أشخاص ووقائع عايشتها في طفولتها ومراهقتها. تبدأ أحداث الفيلم في العام 2002 باختطاف المسن "أرتورو" على يد عصابة تطلب فدية مالية كبرى لاطلاق سراحه. ولا تجد حفيدته التي تعيش معه وسيلة لمساعدته سوى الاتصال بوالدتها "تييزا" التي تعيش في منفاها الباريسي منذ العام 1978. ولكن الفيلم يلمح منذ اللحظات الأولى إلى انه ليس مجرد فيلم تشويق عن الاختطاف اذ تظهر في المشاهد الاولى للفيلم صور تنتمي إلى زمن آخر حيث الحفيدة طفلة في سيارة والدها. بهذا المعنى، تشكل عودة الام مدخلاً إلى ذلك الزمن، زمن الديكتاتورية والقمع. ولكن ثمة ما هو ملتب س في العلاقة بين "تيريزا" ووالدها "أرتورو" ما ينعكس سلباً على علاقتها بابنتها الشابة ايضاً التي تعشق جدها. من هناك، يسير الفيلم في زمنين: الحاضر الذي يحوي حكاية الرجل المخطوف ومحاولات ابنته وحفيدته تأمين المال لاسترجاعه وزمن اواخر السبعينات الذي نطل عليه من خلال الشخصيات في حاضرها لنفهم أحاسيسها وعلاقاتها من خلال ذلك الماضي. ليست اهمية الفيلم في خصوصية حكايته ذلك ان حكايات القمع والتعذيب في عهد الديكتاتوريات لاسيما في اميركا اللاتينية واوروبا الشرقية مادة نقع عليها في أفلام كثيرة ولكن الخصوصية هي خصوصية المقاربة وسلاسة السرد بين زمنين. والاخيرة لعبة ليست بيسيرة ولكنها بين يدي سيدرون تتجسد نقلات رشيقة سلسة تتخذ من المكان او الذكرى نقطة عودة في فلاش ـ باك قد ينتهي مع شخصية أخرى بما يمنح السرد شكلاً دائرياً متراصاً وصلباً. ولكن ليس ذلك فقط بل ان لعبة الزمن نقع عليها داخل الزمن الواحد ايضاً. بمعنى آخر، هناك لعبة زمن أخرى في المشاهد التي تعود إلى العام 1978 حيث تنطلق الحكاية من آخرها وترجع إلى الخلف كاشفة ببطء عن التفاصيل والاحداث التي تفسر فهمنا للشخصيات في الحاضر. وتلك اللعبة الدائرية اذا جاز الوصف هي التي تحفظ الفيلم من السقوط في التفسير والتوضيح وتضعه في خانة الكشف والفهم. الفيلم أشبه ببازل كبير لا يكتمل حتى المشهد الاخير والكشف لا يقتصر على المشاهد فقط بل على الشخصيات ايضاً التي لا تعرف حقيقة الحكاية كاملة. للفيلم ميزة أساسية أخرى هي الأداء التمثيلي للشخصيات وقدرتها على نقل الحالة مع مساحات الصمت الكثيرة التي تسيطر على المشاهد لاسيما العائدة إلى الماضي.

من الأرجنتين إلى تركيا حيث ينسج المخرج حسين كاراباي حكاية فيلمه الساخر My Marlon and Brando الذي يروي قصة حقيقية بشخوصها والكثير من أحداثها. النتيجة فيلم قوي ومؤثر تتنازعه الرواية والتوثيق. انها حكاية "عائشة" الممثلة التركية التي تعيش في اسطنبول وتتعرف بالممثل الكردي "حاما علي" خلال تصوير فيلم معاً. مع نهاية الفيلم، يعود كل إلى موطنه ولكن حكاية الحب التي بدأت لتوها لا تذوي. في اسطنبول حيث تحضر عائشة لعرض مسرحي، تتناهى اليها أخبار التحضيرات الاميركية لاجتياح العراق بما يجعل اتصالاتها الهاتفية بحاما غير ممكنة دائماً. أما "حاما" فيرسل اليها بين الحين والآخر رسالة فيديو يحملها مكنوناته وأحلامه التي يترجمها مشاهد سينمائية ركيكة كأن يتخيل نفسه سوبرمان. ولكن عائشة لا تطيق انتظاراً فتقرر الذهاب إلى شمال العراق حيث حاما بالتزامن مع اندلاع الحرب. هكذا يتحول الشريط فيلم طريق حيث تعبر عائشة من اسطنبول إلى طهران وصولاً إلى شمال العراق. ومن هناك ايضاً يتحول الفيلم عيناً ساخرة وخبيثة على المكان بينما يجتاز الامكنة ملتقطاً تفاصيل صغرى قد لا نراها بالعين المجردة. لعل شريط كاراباي ليس فيلماً فنياً من الطراز الاول ولكنه مقاربة ذكية لأمور كثيرة: الحب، العلاقات، الدين، المدينة، الموت والحياة. وهو بتنازعه على المتخيل والموثق واقامته علاقة متوترة بينهما انما ينقل ذلك التوتر إلى مناحي أخرى في الفيلم.

من تركيا ايضاً، قدم المخرج سميح كابلانوغلو فيلمه Egg الثاني في ثلاثية بدأت بفيلم Angel's Fall ويعتزم اختتامها بمشروعه المقبل Milk. تدور حوادث الفيلم حول "يوسف" الشاعر الذي يملك مكتبة في اسطنبول ويصله ذات مساء خبر وفاة والدته. يعود إلى قريته بعد غياب طويل لاتمام مراسم الدفن وهناك يلتقي "آيلا" قريبته الشابة التي رافقت والدته في سنواتها الأخيرة. يلاحظ "يوسف" جاذبية الفتاة وتدريجياً تنمو بينهما مشاعر القربى من دون بوح وكلام قليل. واذ يعتزم بداية الانتهاء من مراسم الجنازة والعودة إلى حياته المدينية، يجد نفسه مشدوداً إلى البقاء متفكراً في ماضيه وحياته الهادئة التي كانت. حكاية الفيلم المعقودة على حوارات قليلة والكثير الكثير من التأمل تقول الكثير عن العودة إلى الماضي والجذوروالذكريات والحب الذي يتفتح من دون جهد او انذار. في اسلوب كابلانوغلو تقشف يحيل التفاصيل الصغرى في سياق الأحداث محطات تحول. فحين تترك "أيلا" حبيبها الشاب نفهم انها انجذبت إلى "يوسف" وحين يقرر الاخير تنفيذ وصية والدته الاخيرة بعد تردد ندرك انه يفعل ذلك من أجل البقاء مدة أطول مع "أيلا". ولكن شيئاً من ذلك لا يُقال صراحة بل تنضح به الحركات والتعابير والمساحة الفارغة بين الاثنين. انه شريط يشبه إلى حد بعيد الشعر باختزاله والحب بغموضه والحياة بواقعيتها غير المفهومة أحياناً. لا نفهم لماذا ابتعد يوسف عن عائلته ولا يوضح لماذا كف عن نشر كتبه ولكن شيئاً يُحس من كل ذلك. وكما لا يجد يوسف سبباً منطقياً لترك حياته خلفه والبقاء إلى جانب "أيلا" ولكنه يفعل، كذلك لا يعثر المشاهد على اجابات ولا تفاصيل ملموسة ولكنه يسافر بعيداً في رحلة داخل عالم الفيلم المتخيل والسينمائي ليصل إلى اعماق الشخصيات وربما من خلالها إلى أعماق ذاته.

كذلك قدمت الدورة السابعة والثلاثون للمهرجان عرضاً للفيلم الاميركي Juno حائز ترشيح الاوسكار مؤخراً لأفضل فيلم وممثلة هي آلن بايج. شريط جايسن رايتمن مفاجئ بكل المعاني. فهو جدي حيث يبدو للمتفرج انه على وشك السقوظ في الميلودراما وهو ساخر في الاماكن الجادة ومرح في المواقف الجادة. انه ببساطة شريط ضد النوع شكلاً ومضموناً. او لنقل شريط غير تقليدي في تناوله موضوعات تقليدية. والبداية مع تلك المراهقة الآسرة "جونو" التي تكتشف حملها من صديقها في المدرسة الثانوية. وبعد ان تواجهه بالحقيقة وتلمس عدم قدرته على ارشادها إلى الحل الصحيح، تقرر المضي في قرار الاجهاض. ولكنها لا تلبث ان تتراجع مفضلة الابقاء على الجنين ومن ثم عرضه للتبني على زوجين لا ينجبان. تلك هي المفاجأة الاولى: صلابة الفتاة. المفاجأة الثانية تكمن في رد فعل والدها وزوجته اللذين يتخطيان المفاجأة سريعاً إلى دعمها انطلاقاً من معرفتهما بشخصيتها المتفردة والمتمردة. تعثر الفتاة على الزوجين المنشودين: "ميليسا" التي تتوق إلى الانجاب انما من دون طائل وزوجها "مايك" المؤلف الموسيقي الذي اقتصر موهبته على تأليف موسيقى للاعلانات. حول حبهما للموسيقى، يتلاقى مايك وجونو لتبدأ تحولات كل منهما في اتجاه مختلف. فبينما يجد مايك في جونو الرفيقة والمحرضة التي تشاركه عشق للموسيقى، تعثر جونو من خلال مايك على نموذج للعلاقة والحب بشكلهما المألوف والمريح غير الموجود في محيطها. وتقع الصدمة لكليهما عندما يقرر مايك ترك زوجته. بعقلها الصغير وذهنها المتوقد، تطرح جونو أسئلة اساسية عن الحب والعلاقات. وحيث يتوقع المشاهد ان تتبدل جونو بفعل تطور علاقتها بالطفل، يحدث التبدل فعلاً وانما من خلال التجربة نفسها وليس بفعل ما قد يُسمى غريزة الأمومة. فحتى المشاهد الأخيرة، تحتفظ شخصية جونو بصلابة نادرة كما يقاوم الفيلم كل مغريات الميلودراما ليخرج بواحدة من قصص الحب الاجمل والانضج .
اما الاوسترالي بيتر دانكن المعتكف منذ مدة عن السينما ومكرساً معظم وقته للكتابة فيعود بشريط
Unfinished Sky عودة محيرة بعض الشيء اذ يتخذ من الفيلم الهولندي The Polish bride للجزائري كريم طريدية ملهماً لعمله الجديد ليغدو اعادة لفيلم طريدية في اطار جغرافي مختلف. في قرية اوسترالية يعيش الارمل "وولدرينغ" حياة روتينية، يربي الماشية فاقداً كل اهتمام بالحياة. ولكن الامر يتبدل عندما يعثر في حديقة منزله على امرأة جريحة في حالة نفسية يُرثى لها. يؤويها ويعتني بها بينما تنتابها حالات ذعر شديدة توحي بتعرضها لأذى فادح نتلمسه من أطياف المشاهد التي تداهمها اذ تتعرض للضرب والاغتصاب. يكتشف الارمل ان المرأة افغانية وتُدعى "ثمينة" وقد جاءت للبحث عن ابنتها في اوستراليا. من هناك تتخذ الحكاية منحىً متوقعاً اذ تنمو مشاعر الالفة بين الاثنين في ما يبدو انه يعوض "وولدرينغ" عن حياته السابقة التي عاشها مع زوجته وما يتخلل ذلك من مشاهد طريفة حول انعدام لغة التواصل بينهما. ولكن مشاعر وولدرينغ تجاه ثمينة هي خليط من الحب والكره اذ تقاوم "ثمينة" محاولاته تشبيهها بزوجته بينما يقاوم هو الحياة التي عادت لتدب في شرايينه. على الرغم من مكامن الضعف الكثيرة في الفيلم لاسيما المتعلقة برسم شخصية "ثمينة" وتحولاتها وخروجها السريع من تأثيرات الاغتصاب عليها، يتكئ الفيلم إلى التحول الكبير الذي يلون شخصية "وولدرينغ" على خلفية ادانة مجتمع متحضر بالعنصرية والعنف.

المستقبل اللبنانية في 29 يناير 2008