كتبوا في السينما

 

 
 

جديد حداد

خاص بـ"سينماتك"

حول الموقع

خارطة الموقع

جديد الموقع

سينما الدنيا

اشتعال الحوار

أرشيف

إبحث في سينماتك

إحصائيات استخدام الموقع

 

فيلم تحت القصف .. تحويل الرواية إلى وثيقة

عدنان مدانات

كثير من النقد السينمائي الشائع له علاقة بمعرفة ناتجة عن متابعة الأفلام وليس بمعرفة هي نتاج متابعة السينما بنظرياتها وأفلامها وأنواعها ومدارسها، ووعي وسائلها التعبيرية قديمها وحديثها بما يسمح للناقد باكتشاف التعبير أو الأسلوب أو المنهج الجديد أو حتى المبتكر.

النقص في معرفة السينما سبب أساس في أزمة النقد السينمائي عالميا وعربيا على نحو أخص. تتعلق هذه الملاحظة بردود الفعل عبر تعليقات في بعض وسائل الإعلام العربية على منح الجائزة الأولى في مهرجان دبي للسينما 2007 للفيلم اللبناني الروائي الطويل تحت القصف للمخرج فيليب عرقتنجي، تلك التعليقات التي خلت من أي تحليل حقيقي للفيلم ولم تتفق مع منح الفيلم الجائزة وعدّتها مجرد جائزة ترضية سياسية. كتب بعض النقاد مستغربين منح الفيلم جائزة؛ في حين أن أفلاما كثيرة كانت أقوى منه تقنيا . وهذا كلام صحيح فقط إن فهمت التقنية وحدها على أنها أساس وأهم ميزة في فن الفيلم، لكن التقنية بمعنى الاستخدام الماهر المتقن حرفيا لوسائل تقنية مثل الكاميرا والصوت والمؤثرات والأزياء والديكور وغير ذلك من عناصر مادية في بنية الفيلم لا تكفي وحدها لتجعل من الفيلم فنا، بالمعنى الإبداعي الإنساني للكلمة. ولو كانت التقنية عبر وسائلها المادية هي الأساس، لما نالت أفلام عديدة من العالم الثالث لا تتوفر لها الإمكانيات التقنية اللازمة إعجابَ العالم أجمع.

لقد كان فيلم تحت القصف مفاجأة المهرجان الجميلة. قبيل عرض الفيلم استمعت لمخرجه وهو يقول أثناء تقديمه للفيلم إن الفيلم صنع على عجل . وبعد مشاهدة الفيلم تأكدت ليس فقط من صحة كلامه، بل إن العجلة في تصوير الفيلم كانت سبب الإنجاز الدرامي الفني الذي تحقق فيه، حسب ما بدا لي، إذ إن الأسلوبية التي قام عليها الفيلم تعتمد على الارتجال المتزامن مع توفر حدث واقعي يحصل في تلك اللحظة، بحيث يجري تصوير الحدث المصمم من قبل المخرج أثناء جريان الحدث الواقعي الذي أدخل المخرج قصته فيه. والارتجال هنا لا يكتفي بإدارة المشهد وتصويره، بل يسبق ذلك حتما كتابته وحتى إعادة كتابة ما جرى كتابته سابقا بالتوافق مع ما استجد في الحدث الواقعي زمانا ومكانا.

حكاية الفيلم بسيطة: امرأة تعود من الخارج إلى جنوب لبنان للبحث عن طفلها الذي تركته برعاية أختها الصغيرة، فتتفق مع سائق سيارة أجرة على إيصالها إلى الجنوب المدمر، حيث يبحث الاثنان معا عن الأخت والابن الطفل طوال أحداث الفيلم وعلى مدى ثلاثة أيام.

يبدأ الفيلم من اليوم الأول الذي تلا انسحاب القوات الإسرائيلية الغازية من جنوب لبنان. وخلال هذه الرحلة المليئة بالمعاناة والمخاطر تحصل أحداث مؤثرة عاطفيا وتتبدل وتتطور علاقات إنسانية بين بطلي الفيلم ونتعرف على أجواء الجنوب ومعاناة سكانه، وثمة إضافة إلى ذلك ما يمكن عدّه وجهات نظر في قضايا وطنية، ومنها الأزمة الأخلاقية والوجودية التي يعاني منها أولئك الذين كانوا في جيش لحد ، ما أجبرهم تاليا على العيش لاجئين في إسرائيل بعد هزيمتها في جنوب لبنان.

وليست هذه المقالة بصدد تحليل حكاية الفيلم ومناقشة أفكاره والحفر في أعماقها، مع أن في الفيلم الكثير مما يستحق الحديث عنه، فما يثير الاهتمام في الفيلم هو كيفية رواية الحكاية، أي كيفية بنائها دراميا ومن ثم إخراجها.

في البداية يجدر القول إن أساس الحكاية يحتوي على قدر كبير من الميلودراما، لكن السيناريو لا يستعين أبدا بالحلول الميلودرامية لإثارة العواطف والتعاطف مع مأساة بطلة الفيلم التي تبحث عن أختها وطفلها لتكتشف تباعا موتهما، بل يضع هذه المأساة في جوها الواقعي ويحولها من مأساة فردية إلى مأساة جماعية. في أكثر من مشهد في الفيلم نرى الأم الملتاعة تندفع نحو نساء جنوبيات، نساء موجودات فعلا على أرض الواقع ولسن من طاقم التمثيل، وتخبرهن عن مأساتها وتسألهن إن كن رأين أختها أو ابنها، لتكتشف من ردود أفعالهن الهادئة أن كل منهن فقدت واحداً أو أكثر من أفراد عائلاتها، وأن كثيرات فقدن بيوتهن التي صارت ركاما، ومع ذلك يتحملن بصبر مأساتهن.

ثمة تيار تنامى عبر تاريخ السينما، ظل يسعى ليس للمزج بين الروائي والتسجيلي الوثائقي في السينما فقط، بل وبشكل خاص تقريب شكل الفيلم الروائي من الفيلم التسجيلي بحثا عن مصداقية أكثر لشكل الفيلم. وضمن هذا المسعى قام مخرجون مبدعون بتحقيق جماليات الفيلم الروائي من خلال المنهج التسجيلي وحتى صيغة الفيلم السياسي المباشر، كما هي الحال عند المخرج الإيطالي المبدع فرانشيسكو روزي، بل إن عددا من المخرجين تعمدوا تصوير أفلامهم بطريقة تتجاهل المهارات الحرفية فلا يمانعون إن اهتزت الكاميرا أحيانا أو غاب الوضوح بعض الشيء عن بعض اللقطات أو اختل توازن التكوين داخل الكادر أو إن لم يتطابق الصوت مع الصورة كل الوقت، وأفلام الفرنسي جان لوك غودار الذي تأثر بسينماه ونظرياته عشرات المخرجين في العالم خير نموذج هنا.

فيلم تحت القصف ينتمي إلى هذا النوع من السينما، بل ويخطو في هذه الطريق خطوات أبعد، فلا يكتفي مخرجه بتقريب فيلمه الروائي من الفيلم التسجيلي، بل يصنع من الرواية وثيقة ويحوّل الحكاية المتخيلة إلى تأريخ سينمائي لواقع معاش، مطورا بذلك ما أنجزته أولى أفلام الواقعية الجديدة في إيطاليا مباشرة بعد الحرب العالمية الثانية.

كيف توصل المخرج إلى ذلك؟ إنه يضع ممثليه ويحركهم ضمن أحداث جارية آنية، أحداث لم يصممها ويرتبها بنفسه بل صمم وأدار ممثليه ضمنها في اللحظة نفسها، وفي هذا الكثير من الصعوبة والجدة والارتجال الخلاق. ونكتفي هنا بمثالين نموذجيين: يصور المخرج لحظة وصول طلائع القوات الفرنسية إلى الجنوب اللبناني ثم يدفع بطلي فيلمه بين المحتشدين لمشاهدة الحدث، إذ إنهما يتوقعان العثور على مصور فرنسي افترضا أنه سيجيء لتصوير الحدث بعدما قيل لهما إن ثمة مصوراً فرنسياً أنقذ الطفل واصطحبه إلى مكان ما.

مثال آخر: يصور المخرج بطلي الفيلم وسط منكوبي الجنوب وهم يحفرون القبور الجماعية بحثا عن جثامين مفقوديهم، إذ إن بطلة الفيلم أيضا تريد أن تعثر على جثة أختها التي أبلغوها أنها ماتت تحت القصف ودفنت في مقبرة جماعية. وكل هذا حقيقي ومؤثر ومؤلم حقا. في النتيجة نحن أمام فيلم يزيل الحدود بين السينما والواقع.

أخيرا، منحت بطلة الفيلم ندى أبو فرحات جائزة أفضل دور نسائي. وهي تستحقها فعلا، كما يستحق بطلُ الفيلم جورج خباز جائزة أيضا، فالاثنان أديا بنجاح دورين صعبين معقدين.

* ناقد سينمائي أردني

الرأي الأردنية في 25 يناير 2008