كتبوا في السينما

 

 
 

جديد حداد

خاص بـ"سينماتك"

حول الموقع

خارطة الموقع

جديد الموقع

سينما الدنيا

اشتعال الحوار

أرشيف

إبحث في سينماتك

إحصائيات استخدام الموقع

 

قضية رأي عام : ميلودراما بوليسية تهدف لانتشال صورة الشرطة من الوحل

لاحتواء الفضائح المتكررة وامتصاص غضب الشارع المصري

د. عماد عبد الرازق

تشهد منابر الإعلام المصرية الرسمية وبعض المسماة زورا بالمستقلة، حملة منظمة منذ فترة لتلميع صورة أجهزة الشرطة وضباطها علي اثر الفضائح المتوالية التي تكشفت مؤخرا عن ممارسات تعذيب وحشية ترتكب ضد المواطنين في أقسام الشرطة وغيرها من مراكز الاعتقال وأوكار المباحث، دفع عدد من المواطنين ضحايا هذه الممارسات حياتهم ثمنا لها، ولما بات ظاهرة تعكس تغول أجهزة الشرطة وانفلاتها، كأحد أبرز مظاهر الدولة البوليسية التي ترسخت دعائمها طوال أكثر من نصف قرن، واستفحل نموها في السنوات الأخيرة. ومع تكشف وقائع تعذيب جديدة طرحت القضية مجددا إعلاميا وسياسيا، اشتدت بالتوازي الحملة الاعلامية المضادة التي تهدف لاحتواء الفضائح البوليسية وامتصاص غضب الشارع المصري، وتحويل الأنظار عن حقيقة الصورة المزرية لرجال الشرطة بالدفاع عنهم وتبرئتهم بمزاعم من قبيل ان تلك ممارسات فردية ولا تعكس ظاهرة او تيارا عاما او ثقافة أقل ما توصف به أنها إجرامية متغللة في صفوف أجهزة الشرطة ورجالها.

وفي هذا الصدد، لم تغب الدراما المصرية عن هذه المعمعمة، وقد غصت مسلسلات رمضان الماضي بشخصيات لضباط شرطة أقل ما توصف به أنها خرافية في مجافاتها للواقع المزري. واحد من أبرز هذه المسلسلات كان قضية رأي عام الذي نال من الاطراء والجوائز أطنانا، من نفس الجهات الرسمية التي تروج لتلميع صورة النظام وأجهزته القمعية.

مسلسل قضية رأي عام يقدم معالجة ميلودرامية فواجعية فاقعة، مشهدا تلو المشهد من الندب ولطم الخدود والبكاء والعويل والنحيب، بسبب المصائب التي حطت علي رؤوس الشخصيات النسائية الثلاث وذويهم واصدقائهم. نفهم ان كل هذا من إفرازات البيئة الاجتماعية التي خلقت من الشرف مفهوما سطحيا مرتبطا بغشاء البكارة بحيث يعادل فقدانه بغيرالزواج فقدانا للحياة ذاتها. لكن لا يمكن ان يكون هم الدراما الرئيسي هو إعادة إنتاج هذه المشاعر المرضية التي نمت من تراكم مفاهيم مغلوطة مبالغ فيها أنتجها مجتمع أقل ما يوصف به أنه قرونوسطي. كان لا بد من مناقشة مفهوم الشرف السطحي الذي يصر علي ربطه بغشاء بكارة الأنثي كما يقول نزار قباني تظل بكارة الأنثي بهذا الشرق عقدتنا وشاغلنا... فعند جدارها الموهوم قدمنا ولائمنا.. وذبحنا ذبائحنا.. .

كتاب الدراما الحكومية

طغت علي المسلسل ما يمكن تسميته المعالجة الحكومية في الحلقات الأخيرة، فلم يعد مكتفيا بتبييض صورة ضباط الشرطة، وهي السمة المشتركة لمسلسلات هذا الموسم الرمضاني، بل اتسعت رقعة التزييف المشبع بالنفاق لتمتد الي الحزب الحاكم والقيادة السياسية علي أعلي مستوي، في مشهد رخيص وكذوب يستدعي فيه أمين الحزب (شخص ملزق ومتكلف يشبه صفوت الشريف مع فارق وحيد أنه لم يصبغ شعره)، الضحية د. عبلة ليلقي عليها وعلينا موعظة الحزب الحاكم بأن التوجيهات لديه من أعلي مستوي (لم يعد هناك أعلي منه سوي رئيس الجمهورية وربما لجنة السياسات أو الأمين العام للأمم المتحدة بان كي موون؟)، حتي ان الضحية المسكينة كادت عيناها ان تدمعا من فرط التأثر لأنها اكتشفت فجأة أن الدنيا بخير . كان يمكن ان يكون موقف الحزب وأمينه المتنطع مقبولا لو أنه قدم في إطار صراعات القوة والنفوذ داخل الحزب او المؤسسة السياسية بدلا من أن يقدمه لنا المؤلف في صورة طوباوية نعلم جميعا مجافاتها الصارخة للواقع، الذي يلقي بظلاله الكثيفة الكالحة علي كل تفاصيل الحياة اليومية في الشارع المصري الذي يدرك من أصغر سائق تاكسي إلي طلاب المدارس الابتدائية ان البلد غارق لأذنيه في الفساد.

المشهد الطويل الذي اوشك ان يبتلع حلقة بكاملها وتمت الاستعانة فيه بالمذيع عمرو اديب الذي استضاف فيه الدكتورة عبلة كان ركيكا للغاية، وعبيطا جدا، وانقلب الي حصة وعظ لم يكن فيها المذيع/ الممثل مقنعا بأدني درجة.

تكرر نفس المشهد لكن هذه المرة مع الوزير المتهم ابنه، في محاولة مبتذلة للإيحاء بحرية التعبير وحرية انتقاد المسؤولين أيا كانت مناصبهم. أي نوع من البرامج التلفزيونية الحوارية في أي قناة عربية، وفي مصر المحروسة بالذات، نري فيه المذيع يسخر من ضيفه، الوزير صاحب النفوذ والسطوة والملايين، ويظل يتهكم عليه بعبارات ابنك المتربي جدا ، قبل كل سؤال او استفسار؟ والوزير يقبع هادئا متماسكا؟ وفي الوقت ذاته يفسح المذيع المجال له ليشن هجوما كاسحا علي د. عبلة، قبل ان يذكره المذيع بعد ان انهي هجومه الكاسح علي الدكتورة بأنه لا ينبغي ان يفعل ذلك لأن الموضوع بين يدي القضاء؟ نفس هذا الفاصل الممجوج تكررفي الحلقة التالية باستضافة المذيع ذاته الدكتورة عبلة، مع فارق اساسي أنه كان متعاطفا ومنحازا لها من الألف للياء. فإن كانت تلك صورة صادقة للبرامج والحوارات التي يديرها بالفعل في برنامجه الذي يقدمه، فلا غرابة إذا أن يتم اختياره هو بالذات للعب دور المذيع في هذا المسلسل الخزعبلائي.

يفترض ان الدروس الأخلاقية المضمرة في أي عمل درامي متروكة للمشاهد كي يستخلصها بنفسه من سياق تطور العمل الدرامي. لكن ان يقوم المؤلف بإلقاء العظات في شكل مونولوجات مملة فهذا هو الدليل الأكبر علي فشل الدراما.

كثير من الوعظ. قليل من الدراما

بعد تبييض وجه النظام كنا علي موعد مع موعظة أخري في شكل ندوة صممت خصيصا لتلقي فيها د. عبلة موعظة الحضارة والعراقة والتاريخ هذه المرة. فراحت ترهف بكلام مطاط وخطابي عن الحضارة الفرعونية والأشورية والسومرية والقبطية وكل الأديان السماوية و الفضائية الي آخر هذه الأسطوانة المستهلكة لتخرج من كل هذا باستنتاجات خزعبلائية تربطها قصرا بقضية الاغتصاب. وكيف للمشاهد ان يربط هذه الموعظة الإنشائية الفارغة بشخصية زوج الدكتورة مثلا الذي انهار عالمه بعد اغتصاب زوجته، وأوشكت علاقتهما علي التحطم. فيكون أول ما يفعله ان يذهب للارتماء في علاقة رخيصة مع امرأة قائمة علي الاستغلال والغش والخداع من الطرفين. لكن أحدا لا يجادل في شأن شرف هذه العلاقة لمجرد انها تتم في إطار من الزواج العرفي، في حين أنها في الواقع لا تخرج عن كونها نوعا من الدعارة المقنعة. هذه العلاقة التي اقحمت علي سياق العمل بهدف تطويله بضع دقائق في كل حلقة، تختفي تماما من علي مسرح الأحداث حينما يشاء المؤلف، ولا تعرف الزوجة عنها شيئا بالمرة، حين يثوب الزوج الي رشده ويعود الي زوجته الضحية. لا يهتم المؤلف هنا بأن يصدر حكما أخلاقيا علي هذه العلاقة ولا علي هذا الزوج، فهو يلقي علينا المواعظ فقط حين يعن له، وعلي لسان الشخصية الرئيسية يسرا التي تم تفصيل المسلسل علي مقاسها.

يبدو ان الناس في مصر لم يعودوا يقيمون في الشقق المتواضعة بعد اليوم، فالجميع يرفل في النعيم باستثناء سيد شكمان الغارق في دخان المخدرات. فلا فرق بين الوزير الفاسد الذي يراكم الملايين من صفقاته المشبوهة (حتي أنه ينفح المحامي مليون وستمئة الف جنيه كترضية عن صفقة سابقة غير أتعابه عن الترافع في قضية ابنه) وبين الطبيب والطبيبة المتزوجين، فكلاهما يعيشان في فيلا فاخرة بها حمام سباحة. وكذا ضابط الشرطة الشريف المستقيم يقيم في فيلا فاخرة، دون ان ننسي انه تفرغ تماما لقضية الاغتصاب وصارت شغله الشاغل والهم الأول لمديرية الأمن ومن ورائها أعلي مستويات القيادة السياسية في البلد .

لا يمكن مناقشة أي من هذه المسلسلات المصرية علي نحو جدي طالما أنها تخضع جميعها للمبدأ الأعلي الذي يحكم إنتاجها وهو المط والتطويل بكل السبل لتمتد حلقاتها لتغطي شهر رمضان بأكمله. هذا هو أس البلاء والطامة الكبري التي تعصف بكل معطيات الدراما في هذه الأعمال. فلا يمكن لمؤلف ان ينطلق في كتابته لنص درامي من عامل اساسي غير درامي أو Anti-drama ، لأن العمل الدرامي له قوانينه الخاصة التي تحكمه وليس من بينها ضرورات شهر رمضان وتعظيم ربح المنتجين. إن كل شيء يصير خاضعا من هذا المنطلق لمبدأ الثلاثين حلقة فيتم خلق شخصيات غير ضرورية ليس لها أي وظيفة درامية، وتصنيع أحداث وتلفيق أخري، وافتعال حوارات والتواءات جانبية، جميعها تصب في خانة حرف التطور الدرامي عن مساره الطبيعي أو المنطقي، ومن ثم إضعاف تماسك العمل وإفقاده الإيقاع الذي ينتظم الأحداث علي نحو متسق، وأهم من ذلك حرمان العمل من أهم عناصره البنائية وهو التوتر الدرامي الذي يتأتي من احتدام الصراع بين الشخصيات وتطوره في إطار حبكة متماسكة، وبدون هذا التوتر تتحول تجربة المشاهدة او المتابعة لأحداث المسلسل إلي عذاب مقيم.

إن جوهر فكرة المعمار الدرامي ذاته يتم نسفه من اساسه بسبب متغير الوقت المقحم قسرا علي العمل، فيأتي مهلهلا، مفككا، مختل العناصر، يستجدي اهتمام المشاهد المسكين الذي يعاني اصلا من تخمة مسلسلاتية تجثم علي أنفاسه طوال ثلاثين يوما، جميعها تعاني نفس المرض العضال، فيصير متقافزا بين القنوات ليتابع شذرات من كل مسلسل وسط انهماكه في التهام كميات من الطعام من الفطور الي السحور. وفوق كل هذا يظل المشاهد حائرا بين شخوص المسلسلات وأبطالها المتحولين دوما عبر ما لا يقل عن أربعة او خمسة مسلسلات للممثل او الممثلة في اليوم الواحد. فـأنت تري سوسن بدر وعزت أبو عوف وصلاح عبد الله ومنة فضالي ولقاء الخميسي وعبد الرحمن أبو زهرة، ووفاء عامر، وسلوي خطاب وغيرهم كثيرون من الوجوه الجديدة والقديمة في حفنة مسلسلات يتكرر بثها أكثر من مرة في الليلة الواحدة علي عدة قنوات. صار الممثل كسائق التاكسي يقبل أي زبون طالما أنه سيدفع الأجرة، دون أي اعتبار لتأثير ذلك علي جودة أداء الممثل او الممثلة، الطامة الكبري في هذا المسلسل تكمن في ان كل المواعظ التي صدع بها المؤلف رؤوسنا طوال حلقاته الثلاثين، عن جريمة الصمت او التستر علي الجناة، وعن قيم المجتمع والحضارة العريقة ومهد الحضارات والأديان، وعن حتمية انتصار الحق وقهر الخير للشر والأشرار، كل هذه الرطانة تفقد النزر اليسير من المصداقية الذي قد يكون كامنا فيها بسبب التزييف الفاضح للواقع الذي غرق فيه المسلسل بإصراره الفج والغشوم علي تبرئة جهاز الشرطة والحزب الحاكم والقيادات السياسية التي قدمها كأنها تقطر خيرا وصلاحا باستثناء هذا الوزير الفاسد الوحيد الذي قرر الحزب ان يتبرأ منه، بعد أن تورط ابنه في جريمة أخلاقية. فأي نكتة سخيفة وممجوجة هذه؟ إن هذا يعني ببساطة أن الحزب الحاكم بكل قده وقديده والقيادة السياسية علي أعلي مستوي ظلت تغض الطرف عن فساد الوزير صاحب النفوذ والسطوة والصولجان طوال كل هذه السنين، رغم معرفة القاصي والداني بفساده وثرائه الفاحش غير المشروع. ولم تفق القيادة السياسية علي أعلي مستوي إلا حين تورط ابنه (وليس الوزير نفسه) في جريمة أخلاقية. وبمعني آخر فإن الحزب والقيادة السياسية علي أعلي مستوي كانوا دائما علي استعداد للتكتم علي فساد الوزير بل ودعمه إلي آخر المدي حتي أنه كان علي وشك ترشيحه لرئاسة الوزراء، وطالما ظل الطابق مستورا والفضائح متكتما عليها ويا دار ما دخلك شر.

القدس العربي في 10 يناير 2008