كتبوا في السينما

 

 
 

جديد حداد

خاص بـ"سينماتك"

حول الموقع

خارطة الموقع

جديد الموقع

سينما الدنيا

اشتعال الحوار

أرشيف

إبحث في سينماتك

إحصائيات استخدام الموقع

 

"هي فوضى".. ابتذال السينما بركاكة خطاب "الكُشري" السياسي

هاني درويش

يقول المخرج خالد يوسف في أكثر من حوار تلفزيوني وصحافي إن "استاذه" شاهين أصر على وضع أسمه معه في مقدمة فيلم "هي فوضى"، فيما خالد يتوسل له ألا يفعل. ولايبالغ الأخير في وصف ما وصل إليه مخرج متعب ضجر من السينما الى الحد الذي يجعله، وهو يدخل الثمانينات، غير قادر على احتمال نفاد القريحة، ومن ثم يسلم قيادة تاريخه بأكمله لمن رأى فيه وريثا شرعيا لتمرد لم يقده وغواية جماهيرية لم يتذوقها يوما. وإلا كيف نفسر ما ارتضاه شاهين لنفسه من "توسل" وانكماش في مخبأ الشيخوخة، فيما ظله الباقي (خالد يوسف) يتحدث أمام الكاميرات بلسان مدير الأعمال الذي فهم روح "الأستاذ" أكثر من كل ممن عملوا معه على مدى مسيرة نصف قرن؟ كيف نفهم ونبررـ وقد حاولنا منذ الإنعراجة الخالدية الشهيرة في فيلم "المصير" أن نبرر لأهم مخرجي مصرـ تلك الفجاجة والسطحية التي بدت معها سينماه أقرب للمناشير السياسية المكتوبة زمن الثمانينيات البعيدة. نعم الثمانينات التي شهدت تلك الصبغة التجارية المتواقحة لسينما تتحدث مثلا عن الإنفتاح علي هيئة فيلم تجاري تافه. إنه وعي الثمانينات المفتخر والمتفاخر بالهموم وعاطفية الشنشلة واللطم على خدود النوستالجيا. ولا يبدو "هي فوضى" آخر إبداعات المخرج المعتزل الحياة في كهف تلميذه إلا نموذجا متأخرا لصحوة هذا الوعي، لكن على الأقل كانت تلك الطريقة في زمنها أقرب لملامح عصرها. كانت أقرب للمكلومين على بقايا وروائح زمن "والله زمان ياسلاحي" الكلاسيكي. لكن أن تأتي سينما تجارية الروح والهدف لتتحدث عن ثورة الشعب المنتظرة فهذا مالم نتوقعه يوما مثلا من ناصر حسين أشهر مخرجي المقاولات الثمانينية. وربما تبدو مقاربة غثاء "هي فوضى" بالثمانينات ظلما فادحا لتلك الفترة، ظلما فادحا لأي مقياس مهما تبدت رداءة المقاس به. لأن ما يقدمه يوسف شاهين ـ في الخلفية ـ وخالد يوسف ـ في المقدمة ـ (وتستطيع عكسهما بحسب فهمك للمبتدأ والخبر) هو بعينه نقيض السينما بأبسط تعريفاتها البدائية، بتعريف أنها فسحة من الخيال قادرة علي "إيهامنا" لزمن مقدر سلفا بأن ما يحدث على الشاشة حقيقي بدرجة ما. وهي بهذا التعريف، وفي أحد أهم جوانبه، تعني نقيض الإفتعال. بمعنى آخ،ر ماذا يكون موقفك من فيلم تبدو فيه كل الأحداث مفتعلة غير قادرة على إيهامك بأن هذا يحدث فعلا؟ ماذا تفعل أمام فيلم يحاول كل من قدموه التأكيد على أنهم يمثلون ويصورون ويهندسون المناظر ويخرجون شيئا غير حقيقي؟.

يدخل خالد يوسف فيلمه من البداية بمنطق المتذاكي ـ الذي هو عديم الذكاء أصلا ـ علي جمهور ورقابة متذاكية ـ هي الآخرون عديمو الذكاء ـ فتصبح المعادلة غباء في غباء. يكتب في مقدمة الفيلم أن أحداثه لاتعني وزارة الداخلية ولا تشكك في دورها الوطني!! وأن شخصية أمين الشرطة المقدمة نموذج لايعيب جموع رجال الشرطة الشرفاء. هل تتخيل عزيزي القارئ ان تلك الحيلة الساذجة تنطلي على وزارة الداخلية أو المشاهد أو أي ذي عقل ممن يتابعون أحاديث المخرج القومجي الشنيف المعارض في الصحافة والتلفزيون؟ ولأن وزارة الداخلية المصرية الذكية تعلم تماما أن الفيلم لن يقدم أو يؤخر شيئا تتعامل معه بمنطق الواجب الوظيفي فتعترض على مشاهد ، لكي يخرج علينا خالد ليقول إنه يقدم الواقع ويتنازل عن مشهدين ثلاثة فتزدحم دور العرض بعد البروبجاندا المحسوبة بعناية، والتي تستثمر مشاعر الجماهير. لكن إلي أين يذهب خالد يوسف بجماهيره؟ يأخذهم كالسائرين نيام إلى خلطة تجارية مضمونة الرواج، إلى أبطال تجاريين، موضوع سياسي لا يختلف في ضجيجه وتهافته عن مظاهرات "كفاية" في ميدان التحرير، قصة حب مرضية من طرف واحد تنتهي بمشهد إغتصاب، في موازاة قصة حب تلفيقية رومانتيكية بين البطلة الفقيرة وإبن الناظرة وكيل النيابة. ياإله الرموز رفقا بالجماهير، فكل تفصيلة مرمزة ذلك الترميز الفج والمباشر، كل كلمة تصب في تلك الروح الخطابية التي نسمعها من المعارضة كما من الحكومة في برامج التوك شو، كل الشخصيات تتحدث من الشفاه لا أبعد من ذلك، ومن ضمير مستتر تقديره أن الشر شر والخير خير بلا هوامش. "كشري" سينمائي بطعم الكاري، يعطي إحساسا زائفا بالشبع ويغني عن جوع ساعتين من اللهاث خلف سيناريو لم يضع في إعتباره العلاقات السببية التي تسمح لنا بأن نفهم لماذا فعل هذا الشخص ذلك الشيء ولم يفعل شيئا آخر. سيناريو حاول أن يضغط أحداثا وذرى درامية متعددة ليصل إلى تصفيق منقطع النظير وتطهر صالاتي ـ نسبة إلى صالة السينما ـ يخرج بعده المشاهد وهو مطمئن إلي تحقيق العدالة على الشاشة بموت الشر، وكأن كامل منطق الفيلم الذي يبشر بالفوضى إذا ما خرجت الجماهير لتحرق وتحاصر أقسام الشرطة يقدم مقلوبة. فبدلا من أن يحرض يسكن، وبدلا من أن ينال التصفيق يضحك الجمهور عندما يميل قائد القسم على أمين الشرطة المنتحر ليسأله ببلاهة "أنت زعلان ليه دلوقتي مش أنت اللي عملت في نفسك كدا". يخرج الجمهور منفهشا من تحقيق أحلامه في الإنتقام من ضباط الشرطة على الشاشة، يخرجون وهم لم يصدقوا لحظة أن ما شاهدوه قد يحرك مشاعرهم المهفهفة إلى مستوي مهاجمة أقسام الشرطة، هل لذلك وافقت وزارة الداخلية على عرضه في إطار تطهرها العام من تهمة التعذيب في أقسام الشرطة؟.

الفيلم بمجمله في مقام النوايا الحسنة غير السينمائية. كل كلمة فيه وكل مشهد مهندس ليخدم تلك الدعوية الفجة بالمعارضة للحكومة. يستخدم خالد يوسف عدسة الزووم التي لانراها إلا في لقطات فيديو الأفراح الفقيرة ليظهر يافطة صديقه مرشح مجلس الشعب الناصري "حمدين صباحي" بلا مبرر وكأننا في فرح "أبن عمدة القرية"، أو كأن خالد يوسف يقدم فيلمه مصداقا للنكتة المصرية التي ينعي فيها ساعاتي بخيل والده فيكتب في إعلان الوفيات "خالد يوسف ينعي والده ويصلح ساعات". لكنه هنا يقول "خالد يوسف يخرج فيلما وهو ناصري وصديقه مرشح لمجلس الشعب". وعلى شاكلة ذلك تأتي باقي المشاهد. لابد من إدانة الإخوان والتأكيد علي أنهم لايمثلون بديلا، فتدخل "بهية" وإبنتها المدرسة لمكتب مرشح الإخوان ذي الذقن والشارب ـ لايعرف أن معظم الإخوان حليقو الذقن ـ ليحدثهم المرشح عن ضرورة أن ترتدي الشاكية وأمها الحجاب. في حوار فج عن السينما تقول البطلة "مش منعوا البوس في السينما وسموها نضيفة" وترد عليها صديقتها" هوا السينما تنفع من غير بوس، وفي مشهد ـ قل عاشرأوعشرين ـ تحكي الناظرة (بلا مناسبة وبلهجة ملتاعة) عن زوجها الذي مات في المعتقلات بعد أن تعرفت عليه خلال مظاهرة في السبعينات، ولأن الشر لابد له من عنوان على مقاس الدارج من كلام الصحافة نكتشف في مشهد وحيد لوالد خطيبة وكيل النيابة أن عضو "لجنة السياسات" فيما المشهد يكاد يضج بروائح فساد بشكل مجاني، فالبطل الذي يذهب لبيت خطيبته يدور بينه وبين حميه ذلك الحوار فيما إبنته ترسم تاتو عارية على يد فنان حاول خالد أن يوصمه بالمثلية الجنسية. ذكورة طافحة نستطيع أن نستدل عليها في مشهد تقديمه للخطيبة التي تدخل حوش المدرسة ترتدي الميكروجيب فيما الكاميرا ـ عين المخرج ووجهة نظره ـ تلتقطها كما فتيات الفيديو بورنو. إنتقام رخيص من الطبقة السياسية عندما يصمها بالإنحراف الأخلاقي عبر إرتداء إبنتها الملابس الفاضحة، ويصمم على إنعاش ذكورة المشاهدين وأخلاقيتهم عندما يدفع البطل للإنفصال عنها لأنها "ترقص" وقد أسقطت جنينها منه. لكن نفس الذكورة تقع في مطب التناقض عندما يدور حوار ـ مباشر آخر ـ بين والدة البطل ومدرستها ـ البطلة ـ حول ملابس زمان التي كانت أكثر تحررا فيما "ابلة الناظرة" ـ المتحفظة على ملابس خطيبة إبنها الفاضحة ـ تغوي تلميذتها بإرتداء فستان عاري الكتفين!!.

لا نعلم من أين جاء خالد يوسف بكامل هذا البرود حين يقتل السينما في صميم خيالها؟ لانعرف أيضا تحت أي مسمي يمكن تصنيف هذا الفساد النقدي الذي رأي أن هناك ثمة فيلم يمكن مناقشته. ولانعلم أخيرا كيف تجرأ يوسف شاهين على وضع اسمه قبل خالد يوسف على أفيش الفيلم!!، فالرجل، وإحقاقا للحق، لايملك في هذا الفيلم إلا تسمية إحدى بطلاته بإسم بهية ـ هل تذكرونها؟

الأزمة الحقيقية أن المحذر الأعظم من الفوضي يبدو أكبر مستثمريها، ففوضى مصر الحقيقية أن هناك مخرج إسمه يوسف شاهين ـ عفوا خالد يوسف.

المستقبل اللبنانية في 6 يناير 2008