تعلن اليوم جوائز مهرجان كان الـ٦٥، من بين أفلام الأيام الأخيرة فى
المسابقة كان الفيلم المكسيكى «بين الضوء والظلام» إخراج كارلوس ريجاديس
تجربة فاشلة على كل المستويات إلى درجة أنه حقق أكبر عدد من الأصفار فى
قائمة نقاد فرنسا «٦ من ١٥» ونجمة واحدة «٤ من ١٥»، وفى المقابل شهدت تلك
الأيام «تحفة» أخرى من أستاذ كبير وهو فنان السينما الكندى العالمى دافيد
كروتنبرج فى «كوزموبوليس» الذى يعد «مانيفيستو» أو بياناً سينمائياً عن
عصرنا وأزمة الرأسمالية الجديدة فى ظل العولمة.
ويعبر الفنان المفكر فى فيلمه عن رؤية تحليلية ثاقبة فى شكل سينمائى مبتكر
مؤكداً مكانته فى صنع سينما ما بعد الحداثة، وكأنك تشاهد السينما لأول مرة
فى حياتك، ويصنع نهاية فذة يدور فيها الحوار بين الطرفين «الفقراء
والأثرياء» وكل منهما يمسك مسدساً ويستعد لقتل الآخر، فى حجرة قذرة مليئة
بالمخلفات بعد منتصف الليل، وفى اللقطة الأخيرة تصل المواجهة إلى ذروتها،
لكن من دون إطلاق النار.
لجنة التحكيم
وتتشكل لجنة تحكيم مسابقة الأفلام الطويلة التى تعلن اليوم جوائز المهرجان
السبع «السعفة الذهبية والجائزة الكبرى وجائزة لجنة التحكيم وأحسن إخراج
وسيناريو وممثل وممثلة» من فنان السينما الإيطالى العالمى الكبير نانى
موريتى الذى سبق أن فاز بالسعفة، رئيساً، وعضوية كل من الممثلة إيمانويل
دينوس والمصمم التشكيلى جان بول جولتير من فرنسا، والمخرجة أندريه أرنولد
والممثل إيوان ماك جريجور من بريطانيا، والممثلتين الألمانية ديان كروجر
والفلسطينية هيام عباس، والمخرج الأمريكى الكبير ألكسندر بانى والمخرج
راؤول بيك من هاييتى.
لجنة تحكيم الأفلام القصيرة وأفلام الطلبة
وحسب تقاليد مهرجان «كان» العريقة هناك لجنة خاصة لمسابقتى الأفلام القصيرة
وأفلام الطلبة، وتتشكل هذا العام برئاسة فنان السينما البلجيكى العالمى
الكبير جان بيير داردينى الذى سبق أن فاز بالسعفة مع أخيه بوك، حيث يشتركان
فى إخراج كل أفلامهما، وعضوية الممثلة الكندية أرسينى كانجيان، وكاتب
السيناريو الفرنسى إيمانويل كاريرى، والمخرج الصينى يو - ليك واى، والمخرج
البرازيلى كاريم أنيوز.
وحسب تقاليد المهرجان أيضاً تعلن جوائز مسابقة أفلام الطلبة، وهى الوحيدة
فى المهرجان، التى لها قيم مالية إلى جانب القيمة الأدبية، فى حفل خاص قبل
حفل جوائز الأفلام الطويلة والقصيرة اليوم.
وفى هذا الحفل تعرض الأفلام الفائزة بالجوائز الثلاث الأولى «١٥ ألف يورو»
والثانية «١١.٢٥٠ يورو» والثالثة «٧.٥٠٠ يورو»، ويتم ترتيب الجوائز بالأولى
والثانية والثالثة، لأن أفلام الطلبة من إنتاج معاهد وكليات السينما، ويتم
تقييمها فى امتحان نهاية السنة على هذا النحو، وبالتالى لابد أن تختلف عن
مسميات أفلام المحترفين، فضلاً عن أنها تتم تحت إشراف أساتذة الكلية مهما
كان قدر الحرية الذى يمنح للطالب.
حفل بسيط ورائع
يقدم حفل جوائز أفلام الطلبة جيل جاكوب، رئيس المهرجان، بنفسه، وهذا العام
تمر ٣٥ سنة على بدء عمله فى المهرجان عام ١٩٧٧، وقد قدم رئيس اللجنة
داردينى كلمة جميلة وبليغة عن الذين لم يفوزوا ذكر فيها أن من يفوز يكون
أكثر سعادة من غيره بالتأكيد، لكن على من لا يفوز ألا يكون حزيناً، فقد قبل
«قواعد اللعبة» التى تحتم فوز البعض، وقال إن كل الأفلام واعدة، ولشباب
مازالوا يدرسون أو انتهوا من دراساتهم لتوهم، أى فى بداية حياتهم، وعليهم
أن يسعدوا بمجرد اختيار أفلامهم، ويتطلعوا إلى المستقبل بقوة وثقة.
وأعلن أن الجائزة الثالثة كانت بالإجماع، أما الجائزتان الأولى والثانية
فكانتا بالأغلبية، وقد فاز بالأولى الفيلم الروسى «الطريق إلى» إخراج تاسيا
أجيومينتسيفا، وبالثانية الفيلم الأمريكى «الوصيفة» إخراج ماتيو جيمى
ريللى، والثالثة الفيلم الكوبى «المضيفون» إخراج ميجيل أنجل موليه.
وقد شاهدت الأفلام الثلاثة الفائزة التى تعرض بعد إعلان الجوائز، كما شاهدت
الفيلم اللبنانى «بجانبى أشجار الزيتون» إخراج باسكال أبوجمرة، الذى عرض فى
برنامج اليوم نفسه من البرامج الأربعة، التى تعرض فيها الأفلام الـ١٥
المختارة لمسابقة أفلام الطلبة هذا العام. وتتميز الأفلام الثلاثة الفائزة
بأنها أفلام «قصيرة» بالمفهوم الدرامى الصحيح، أى أنها ليست «ملخصات» أفلام
طويلة، وإنما موقف معين محدود، أو زاوية معينة محدودة من حيث الشكل، لكنها
تعبر عن رؤية قد تكون كبيرة وشاملة للحياة والعالم.
الطريق إلى
الفيلم الروسى الفائز بالجائزة الأولى «الطريق إلى» الأول لمخرجته، وأسلوبه
متماسك فى التعبير عن الحياة اليومية لشاب روسى «عادى» يعمل بائعاً فى أحد
المحال، ويعيش مع والده فى شقة من شقق عمارات الطبقة الوسطى المتلاصقة،
والتى تبدو أقرب إلى السجون فى اللقطات العامة، وتنشأ بينه وبين زميلة له
تعمل بائعة فى نفس المحل وتكبره فى السن علاقة «عادية» أيضاً، لكنها تبدو
بين النجاح والفشل عاطفياً وجنسياً.
يبدأ الفيلم بلقطة عامة للمكان «الحى» وعلى شريط الصوت يرتفع صوت الشاب يسب
كل السكان بألفاظ شديدة البذاءة وهو يصرخ ويكاد يفقد وعيه من شدة السكر بعد
منتصف الليل. وينتهى بأن نراه وزميلته يرددان الشتائم نفسها لكن وهما
يضحكان ويسخران من كل شىء.
ويؤخذ على الفيلم «٣٢ دقيقة» عشر دقائق زائدة على الأقل.
أما «الوصيفة»، الفائز بالجائزة الثانية، فهو الفيلم الرابع لمخرجه، عن
فتاة تعمل فى محطة بنزين على الطريق تكره عملها، وتريد المغادرة، وتدور كل
«الأحداث» فى المكان نفسه، ورغم جودته، فهناك دقائق زائدة أيضاً من مدة
عرضه البالغة ١٧ دقيقة، وأما الفيلم الذى أجمعت عليه لجنة التحكيم للجائزة
الثالثة الكوبى «المضيفون» وهو الثالث لمخرجه، فهو أقرب إلى فيلم تسجيلى من
١٦ دقيقة عن زوجين فى نهاية العمر فى حى من الأحياء العشوائية فى هافانا،
وكان يمكن بدوره أن يكون من عشر دقائق، والفيلم يشير لموهبة مخرجه، لكن
المشكلة الحقيقية أنه شاب «يتخيل» ما يعانيه الشيوخ من الرجال والنساء.
موهبة من لبنان «بجانبى أشجار الزيتون»، أول فيلم من لبنان يعرض فى تاريخ
هذه المسابقة، وأول فيلم يعيد السينما اللبنانية إلى البرنامج الرسمى
للمهرجان منذ جورج نصر فى الستينيات، ومارون بغدادى فى الثمانينيات
والتسعينيات. وقد جاء الفيلم تحفة سينمائية مثل جوهرة صغيرة لكن ثمينة،
وأفضل فى تقديرى من الأفلام الثلاثة الفائزة، والأرجح أنه من الأفلام التى
اختلفت عليها اللجنة، وأدت إلى إقرار الجائزتين الأولى والثانية بالأغلبية.
والأرجح أيضاً أن يكون الخلاف على تفسير الموقف السياسى للفيلم، لكن ليس
على أسلوبه، فنحن أمام فيلم يستوعب سينما ما بعد الحداثة، ويروى قصته
بلقطات تشكيلية متقنة وتمثيل بارع، حيث أدت المخرجة الدور الرئيسى، وبسيطرة
كبيرة على مفردات لغة السينما، التى اختارتها لأسلوبها من دون حركة كاميرا.
لا توجد مادة درامية فى تاريخ لبنان فى السنوات العشر الماضية منذ مولد
القرن الجديد عام ٢٠٠٠ أكثر ثراء من اللبنانيين الذين هربوا إلى إسرائيل
بعد تحرير الجنوب من الاحتلال الإسرائيلى، وكانوا من أنصار الفرقة العسكرية
المعروفة باسم «جيش أنطوان لحد»، المتعاون مع الاحتلال، فهم مرفوضون من
إسرائيل ولبنان معاً، وقد مرت عشر سنوات ولد فيها جيل جديد منهم حائر بين
الطرفين.
وتعبر باسكال أبوجمرة فى «بجانبى أشجار الزيتون» وهو فيلمها الأول عن هذه
القضية من خلال الشابة مريم وأخيها الصغير اللذين يعيشان مع جدهما وجدتهما
وحمار بائس يملكه الجد، ويصعب عليه حتى إطعامه، لقد قررت مريم أن تعبر
الجدار الفاصل وتعود إلى لبنان مع أخيها، كما قرر جدها بيع الحمار. وعندما
وجدت عملاً كبائعة فى عربة لبيع المأكولات على الطريق يعجب بها أحد الشباب،
وعندما يطلب هذا الشاب من مالك العربة أن ينتحى به جانباً نتصور أنه سوف
يطلب الزواج منها، لكن صاحب العربة يعود ويقول لها: لماذا لم تخبرينى بأنك
جئت من إسرائيل؟! ويفصلها من العمل. وفى الوقت نفسه يتعارك شقيق مريم
الصغير فى المدرسة مع زملائه عندما يصفونه بأنه «عميل وابن عميل» ويفصل من
المدرسة، وبينما يبيع الجد حماره، تتسلل مريم وأخوها فى الظلام ويعودان إلى
إسرائيل.
إنه عمل فنى جميل يعلن مولد موهبة سينمائية حقيقية سيكون لها شأن فى صنع
مستقبل السينما فى لبنان.
samirmfarid@hotmail.com
المصري اليوم في
27/05/2012
سـينما تحــت المطــر الحياة .. الحب .. الموت ..
موضوعات قديمة في أفلام حديثة جداً
رسالة كان خيرية البشلاوي
سؤال لا أعتقد أنه خطر علي بال أي من الواقفين في الطوابير الممتدة
تحت الأمطار. والرياح تحرك المظلات التي في أيديهم وتجعلها تتصادم.
وحوافيها تتساقط منها المياه وتطول آخرين من المشدودين إلي بعضهم البعض في
انتظار الدخول. وكل واحد يشد معطفه إلي جسده حتي لا يتسلل البرد إليه
المشهد غريب فعلاً أمام مقر المهرجان وعلي امتداد البصر فهل تستحق السينما
كل هذا العناء؟؟
اتساءل وقد اصابني الجو بانفلونزا حادة.. والاجابة نعم بكل تأكيد وإلا
ما هرولت هذه الآلاف إلي دور العرض.
جميع الأفلام المشاركة في مهرجان كان تحظي بمشاهدة عالية جداً أياً
كانت جنسيتها وبغض النظر عن شهرة الممثلين الذين يؤدون أدوار البطولة طبعاً!
وجميع صالات العرض داخل مقر المهرجان شديد الأبهة والتنظيم والانضباط
تمتلئ حتي آخرها. والصالات تحمل أسماء المخرجين الفرنسيين. صالة "لوميير"
"مخترع الصور المتحركة" تتسع لأكثر من ألفي متفرج. وصالة "بنويل" وصالة
"دوبس" وصالة "بازان" بالإضافة إلي صالات أخري لا تحضرني أسماؤها.
هذا المشهد نفسه. يستدعي علي الفور مقارنة بين الجمهور هنا في كان
وعلاقته الغرامية الشديدة بالسينما وجمهور مهرجان مثل القاهرة السينمائي
الدولي الذي يحرص أكثر علي حفلتي الافتتاح والختام أو أي حفلات أخري ولا
يحرص علي مشاهدة الأفلام المعروضة في هذه الحفلات نفسها.. فهل العيب في
التنظيم. أم في مضمون العلاقة بين الفيلم والجمهور. وشروط هذه العلاقة.
في مهرجان دولي مثل مهرجان القاهرة لن تجد جمهوراً يملأ نصف مقاعد دار
عرض صغيرة أو متوسطة إذا كان الفيلم من سراييفو مثلاً. أو جنوب أفريقيا.
عشاق السينما في القاهرة. غير عشاق السينما في المدينة الفرنسية
بالتأكيد. ومن الصعب أن تجد الجمهور في بلادنا يقف لدقائق ويصفق بإعجاب
شديد لفيلم من البوسنة والهرسك بعنوان "أطفال سراييفو" وللمخرجة الشابة
عايدة بجيك وقد عرض ضمن برنامج "نظرة ما" أحد أقسام المهرجان.
العمل بعيد تماماً عن الإبهار وعن المعني التقليدي للترفيه ولا يعتبر
بالمعايير الفنية الكلاسيكية من الأفلام القوية. وأما قيمته الحقيقية في
موضوعه والمعالجة البسيطة والعميقة في نفس الوقت الذي ظهر بها.
"أطفال سراييفو" يتمحور حول الفتاة "رحيمة" التي تبلغ من العمر
23 سنة وتعمل في مطعم في مدينة سراييفو. وتتحمل مسئولية شقيقها المراهق
نديم "14 سنة" الذي حرمته الحرب من أبويه وأصابته بعدوي العنف. فصارت له
حياة أخري لا تعرفها شقيقته. أنه واحد من الآلاف الأطفال في سراييفو الذين
يواجهون مصيراً مجهولاً.
نموذج "رحيمة" جدير بالإعجاب فعلاً. فهي امرأة مسلمة في مجتمع يعاني
من التمييز العرقي والديني وهي أيضاً عاملة داخل مطعم تديره امرأة قاسية
ومتسلطة وتعاني من زوج أصولي يتمسك بالأفكار "الوهابية" ويحرمها من أطفالها.
ورغم انتهاء الحرب فإن حياتها أصبحت أكثر صعوبة خصوصاً عندما يشتبك
شقيقها مع ابن مسئول كبير ويجرها إلي البوليس. ومع ذلك لا تنهزم.
ووسط الاضطراب المجتمعي تضيف المخرجة وهي نفسها كاتبة السيناريو.
خيطاً رفيعاً رومانسياً بين طائرين هما غراب وحمامة جمعتها ألفة شديدة.
ولمعرفة أسباب هذه الألفة يتضح أن كل واحد منها أعرج أي يعاني من اصابة في
ساقه بمعني أن لديها ألماً مشتركاً وحنيناً إلي الطيران مثل رحيمة وشقيقها.
بل ومثل العاملين داخل المطعم.
قيمة الفيلم إلي جانب القيمة الموضوعية. اكتشاف مخرجة موهوبة ولدت في
سراييفو "1976" وتخرجت في أكاديمية الفنون عام "2000" وقدمت أول تجاربها
كمشروع للتخرج عن الموت "أول تجربة للموت" عرضه مهرجان كان عام 2001 وحصل
علي جوائز في مهرجانات عديدة.
وفي عام 2003 اخرجت عايدة بجيك
Aida Begic
فيلمها الثاني. روائي قصير كنت له السيناريو بعنوان "الشمال أصيب
بالجنون" وبعد ذلك قدمت فيلمها الروائي الطويل الأول بعنوان "ثلج" Snow
عرضه "أسبوع النقاد" في مهرجان كان وحصل علي الجائزة الكبري ثم حظي بعروض
عديدة في المهرجان الدولية إلي جانب العديد من الجوائز. ثم أخرجت عدداً من
الأفلام التسجيلية وعملت شرائط إعلانية ودعائية.. هي اذن زهرة خرجت من وسط
الانقاض فلا حياة مع اليأس.
ورغم ظروفها الصعبة جداً أسست في عام 2009 شركة لانتاج الأفلام
المستقلة. و"أطفال سراييفو" هو فيلمها الثاني الذي عرض يوم الثلاثاء الماضي
في قسم "نظرة ما" في مهرجان كان المنعقد حالياً "16 ــ 27 مايو".
شارك في انتاج الفيلم ألمانيا وفرنسا وتركيا. ونلاحظ هنا أن الأفلام
المشتركة أي التي يشارك في تمويلها عدة دول تعتبر سمة غالبة في الانتاج
الأوروبي وحتي في الانتاج العربي وبالذات دول شمال أفريقيا.
فرنسي جداً
وعلي الجانب الآخر. وبنفس الحماس والسخونة يستقبل الجمهور في كان فيلم
"وكأنك لم تر شيئاً بعد" للمخرج الفرنسي آلان رينيه الذي يعتبر أحد أقطاب
الموجة الجديدة الفرنسية من أواخر الخمسينات والستينات وضمن أهم الأسماء في
السينما الفرنسية عموماً. وصل هذا المخرج الجليل إلي مشارف التسعين "89
سنة" ومازال يضع الأفلام الفنية والفتية في آن واحد وأفلامه علي درجة من
التركيب والحذلقة الفنية والفكرية تجعلها جديرة بالعرض في المهرجانات
الكبري.
الفيلم "فرنسي تماماً" كما علقت صديقة فرنسية عندما سألتها عن رأيها
في الفيلم. وهنا أعاود من جديد المقارنة وأسأل: ماذا لو عرض هذا الفيلم
أمام جمهور القاهرة؟ حسب ما أتصور لن يصمد كثيرون لمشاهدته حتي النهاية
اللهم إلا حفنة من المثقفين. ناهيك عن عدد من يتذوقه رغم المستوي الفني
الذي يكشف عن رصافة في الذوق. وهندسية دقيقة في البناء وموسيقي تضاهي
وتعمق الأجواء والتركيبة الخاص لهذه المغامرة الفنية.
يبدأ الفيلم باتصال تليفوني يتكرر بنفس الجملة مع عدد من الشخصيات
التي تظهر تباعاً في لقطات قريبة. المكالمة تقول "انطوان دانتاك توفي وترك
وصية من المهم أن تحضر قراءتها. ولا أعتقد أنك سوف تخزل الرغبة الأخيرة
لصديقك".
والشخصيات من اصدقاء الراحل وهم ممثلون مشاهير. والراحل مخرج مشهور
وأفضل أعماله مسرحية "يوريديس" المقتبسة عن الأسطورة اليونانية الشهيرة.
وقد أخرجها عدة مرات وهؤلاء الممثلون هم من قاموا بأدوار البطولة فيها.
أنهم من أجيال مختلفة ويلعبون نفس أدوارهم في الفيلم.
والوصية التي تركها الراحل العزيز يعتبر مفاجأة.. انها فيلم يظهر فيه
المخرج الراحل بنفسه ويطلب منهم الرأي حول امكانية اعادة اخراج نفس هذه
المسرحية القديمة بناء علي طلب فرقة حديثة من الشباب المسرحي جاءت تستأذنه.
بعد المكالمة يلتقي الجميع مع حامل الوصية في منزل أقرب إلي القصر
القديم. فقد كان المرحوم يهوي اقتناء البيوت ذات الطابع الفريد. وهذا
المنزل بمعماره ومساحته وتصميمه يتحول علي الفور إلي مايشبه المسرح حيث
يجلس الجميع يتابعون المسرحية في طبعتها الحديثة وسرعان ما يجدون أنفسهم
في حالة اندماج. يمددون الحوار نفسه الذي حفظوه من خلال الأدوار القديمة
التي لعبوها في المسرحية..
وتتداخل المسرحية في شكلها الحديث مع المسرحية نفسها في شكلها القديم.
ومع تواليل الاحتكاك النظري الفكري والفني بين الحديث والقديم تتولد مشاعر
وتموج أفكار وتختلط الأمور حول الحب والموت والحياة والفن.
الفيلم اذن أقرب إلي المسرح داخل السينما. أو مسرح وسينما في حالة
تداخل وامتزاج. أنه نوع من التجريب لمخرج شاب ومازال شاباً ووصل إلي ارذل
العمر ومازال مغامراً وربما كان الفيلم هو آخر أعماله وقد اختار له عنواناً
يحمل دلالة ومعني فلسفياً و"كأنك لم تي شيئاً بعد" فمهما طال العمر مازال
هناك ما لم نعرفه ومالم تره ومالم تكتشفه.
وفي نهاية الفيلم بدا وكأن الجمهور مازال سارحاً مع الموسيقي. حتي
الفجر في تصفيق حاد للفيلم ولصانعه ولهذه الثقافة الغربية الغزيرة التي
ينتمي إليها المخرج الذي شكل منها موضوعه المأخوذ عن مسرحيتين للكاتب جان
انوي هما "يوريديس" و"عزيزي انطوان" وشارك في تمثيله مشيل بيكولي وسابين
ازيها وبيير ارديتي وآن كونسيني ولامبرت ويلسون.
عولمة بلا تخطيط
مازلت مع جمهور كان هذا العجب الذي جاء من كل صوب. خليط من الأجناس
والثقافات والأعمار. أتمني لو أن أعضاء مجلس الشعب في بلادي اكتشفوا سر هذا
العشق الجميل لفن السينما.. وأتمني أصحاب الايدولوجيات الجامدة أن يتعرفوا
علي ابداع العالم.
فرغم كل ما يقال عن الحلال والحرام يمثل نوعاً من حب الحياة ورغبة في
تأملها واصرار علي استمراريتها. ومعرفة كنهها وحكاياتها وتاريخ هذا العالم
وابداعاته الفنية والروحية.. ولكن ليس كل ما يتمناه المرء يدركه. عموماً لم
يخل المهرجان من الوجوه المصرية والعربية ولم تحرم سينمانا الوطنية من تحية
كبيرة وخالصة للإنتاج الذي شارك في المسابقة المصرية ممثلاً لمصر.. لا يهم
تقييم الفيلم الآن. ولكن ردود الفعل الأوروبية كانت تحمل في ثناياها أيضاً
تحية لمصر "بعد الموقعة" التي لم تنته وثورة يناير التي مازالت تواجه
اعداءها.
أيضاً لم تخل المناسبة السينمائية الكبري من مشاركات غريبة تستحق
الوقوف أمامها بتحية كبيرة وفي ذهني الفيلم المغربي "يا خيل الله" للمخرج
نبيل عيوشي "43 سنة" صاحب القصيدة السينمائية البديعة "علي زاوا" "2000"
وأيضاً الفيلم الجميل "كل ما تتمنا لولا" "2007" الذي أثار جدلاً واسعاً
عند عرضه في القاهرة.
فيلم نبيل عيوشي أيضاً وجد من الجمهور حفاوة بالغة.
ألاحظ أن الأفلام التي تسلط الضوء علي التطرف والإرهاب الذي يعاني
منه عالمنا العربي بسبب ظروف المعيشة واشياء أخري اجتماعية وسياسية. ألاحظ
أن هذه الأفلام تجد قبولاً وحفاوة بالغة وهي عموماً تستحق وقفة خاصة تحت
العودة إليها قريباً.
سينما أمريكية خالصة
وشاركت السينما الأمريكية بعدة أفلام. منها فيلم "اقتلهم بلطف" kill them gently
وهو عمل اعتقد أننا شاهدنا مثله عشرات المرات. فهو أمريكي خالص ويمثله جوهر
ما تمثله. وأكثر بضائعنا رواجاً وأعني العنف الدموي والخروج علي القانون
عدداً من أفلام "الكاوبوي". مروراً بالعصابات المنظمة.. و"بالرجال
الخارجون علي القانون" والأخير اسم لفيلم آخر للمخرج جون هيلكوت عرض ضمن
أعمال المهرجان. ولكن الأهم من هذه البضاعة. هناك "النجوم" من عينة براد
بيت. وبروس ويليس وادوارد نورتون وشيا لابوف.. الخ الأبطال الذين شاركوا في
بطولة "اقتلهم".. والخارجون علي القانون إلي جانب البراعم الصغيرة التي
ظهرت في فيلم الافتتاح "مملكة مون رايز".. بضاعة الفيلم الأمريكية مثل أي
صناعة قوية لا تتوقف عن الانتاج البشري. أجيال وراء أجيال يمكن أن تلمحها
هنا من خلال الأفلام الحديثة المشاركة في المسابقة. والأفلام الكلاسيكية
وحتي من خلال صور النجوم الأمريكيين المرشوقة بأناقة شديدة علي الجدران في
مقر المهرجان.
وفي خلفية المشاهد الدموية من الأفلام الأمريكية المعروضة في المسابقة
تري تسمع أصوات الرؤساء جورج بوش. وأوباما علي شاشة التليفزيون. يتحدثون عن
الأزمة الاقتصادية ويرددون حيث اللغو الاستهلاكي عن مثالية الولايات
المتحدة والشعب الواحد حيث لا فارق فيه بين جنس أو دين أو عرق.. ما لوح به
أوباما عند بداية توليه. بينما يعلق براد بيت الذي يلعب دور "جاكي" القاتل
المحترف أن أمريكا ليست شعباً واحداً وهذا الكلام ليس حقيقياً.
إن هذه المفارقة بين الصورة والأصل كثيراً ما تظهر في الأفلام ولكن
الأكثر أن السينما الأمريكية تلعب دوراً لا يستهان به في استخدام الصورة
لتجميل الأصل وهذا ما يتجسد هنا في مدينة كان ومن خلال مهرجانها الأكبر.
ومن خلال مواكب النجوم الأمريكيين والاحتشاد الهائل والأمن المكثف وأسطول
السيارات الفاخرة ثم ظهور النجم روبرت دي نيرو. ونعومي واتسي وجين فوندا..
الخ نجوم فيلم "مدغشقر" الجزء الثالث الذي عرض في مهرجان كان. رغم أنهم
مثلوا بأصواتهم فقط. فكما نعلم أن الفيلم من أفلام الرسوم المتحركة
الناجحة. وكان معروضاً وسط اقبال جماهيري كبير ضمن العروض الخاصة.
إن مدينة كان في هذا التوقيت تصبح حالة سينمائية فريدة من الإبداع
العصري. والهوس الجماهيري بالسينما ومواكب النجوم. وأهالي المدينة الذين
يرتدون ملابس السهرة ويقفون علي الأرصفة في انتظار من يلبي أمنيتهم في
الحصول علي دعوة للدخول.
المساء المصرية في
27/05/2012 |