حول الموقعخارطة الموقعجديد الموقعما كـتـبـتـهسينما الدنيااشتعال الحوارأرشيف الموقع 

مهرجان أبوظبي السينمائي ـ 2011

مقالات من داخل المهرجان

مقاربات بصرية متنوّعة من دون تكلّف

أفلام عربية قصيرة تتنافس على جوائز عديدة

قيس قاسم

من دون حاجة إلى جهد كبير، أعلنت الأفلام العربية القصيرة لوحدها، تلك المتبارية في المسابقة الرسمية، عن مقارباتها، والقواسم المشتركة بين مواضيعها. فالهجرة مثلاً  موضوعٌ جامعٌ لأفلام مغاربية، والصراع مع إسرائيل محور فيلمين فلسطينيين. أما المرأة والطفل في ظلّ اختلال اجتماعي يعيشه العالم العربي، فحضرا في أكثر من واحد منها. على المستوى التقني، امتاز جُلّها ببساطة وتقشّف. وعلى مستوى الإنتاج، شعر مُتابعها أن مبدأ "مساواة" أنواع الأفلام كلّها (الروائية الطويلة والقصيرة والوثائقية)، باعتبارها في النهاية نوعاً فنياً واحداً، لا يزال بعيد المنال عربياً. مع هذا، فإن هناك مؤشرات نحو تحسِّن ما على مستوى الأفكار المطروحة في بعضها، واهتمام أفضل بنوع الصورة والعناصر المكملة لصناعة أي فيلم في بعضها الآخر. هذا واضح عند الجزائري أمين سيدي بومدين، الذي أعلن وعيدا، في فيلمه: "غداً، الجزائر". يشي بذلك عبر مجموعة شباب تقضي معظم وقتها في حوارات يغلب عليها هاجس التغيير والهجرة، كما في حالة فؤاد، الذي قرّر الهجرة إلى فرنسا، وحاول إقناع رفاقه بها. كان من الممكن أن يظلَّ هذا الموضوع مصدر حكاية الفيلم كلّه. لكن، في لحظة تجسيد تقاطع طرق الأصدقاء، ظهر على الشاشة تاريخ الزمن الذي كانوا فيه: إنهم في اليوم الرابع من تشرين الأول/أكتوبر 1988، أي قبل يوم واحد من الأحداث الدراماتيكية التي عاشتها الجزائز حينها. عمل أمين سي بومدين مراوغ، حمّال أوجه: هو قابل للتفسير بكونه قراءة لتاريخ يتوعّد بإعادة نفسه إذا حدث تغيّراً في البلد، شبيه بالذي عرفته تونس ومصر. بمعنى الخوف من انفلات يعيد البلد إلى "سنوات الجمر". وفي قراءة ثانية، بدا كأنه تنبّأ بحدوث تغيير وشيك في الجزائر، كالذي حدث في الجوار العربي. في الحالتين، أعطى التاريخ المكتوب في خاتمة الفيلم لوحده معنىً درامياً، رفع من قيمة العمل وأغناه.

كما حصل في الفيلم السوري أيضاً "يوم صمت" لرنا كزكز وأنس خلف: الضربة الأخيرة فيه رفعت قيمته الفنية. فطيلة دقائقه الست عشرة، بدت الأم (سلاف فواخرجي) مفتَعلة في أدائها، وفي إصرارها على أن يتعلّم ولدها الأصم الأبكم طرق تعامله مع أصدقائه، كنوع الحماية التي عليه اللجوء إليها عند تعرّضه لإستخفاف أو إساءة من آخرين، يُعيِّرونه بإعاقته، ويذكّرونه بإختلافه عنهم. لكن المبالغة والافتعال هذين زالا سريعاً، لحظة نزعت الأم عن أذنيها سمّاعات تقوية الصوت، ليحلّ صمت تام، كالذي احتاجه ولدها. لا تُركِّز اللقطة طويلاً على السماعات، التي أوحت ربما بأنها مجرّد أقراط أذن. غير أن المهم كامن في الأم هذه، التي تشبه في حالتها الجسمانية وفي رغبتها في الهدو والصمت، طفلها المعوّق. فالصمت تمثيل لوسط فيزيائي تبادلي، تكاملت عبره مجموعة سلوكيات أناس يعيشون في مجتمع عربي، تقدير الخصوصية الفردية واحترام الإختلاف لا يزالان قليلين فيه. لهذا، تحوّلت الرغبة في الإرتكان إلى الذات وغلق قنوات التواصل بين المعوَّق و"الأسوياء"، هنا، إلى حاجة، في ظلّ بقاء النظرة الخاطئة السائدة لهؤلاء البشر. ربما يتحمّل مُقترح المخرجان لهذا النصّ القول إن الضربة "المفاجئة" المُعتَمَد كثيراً عليها في بناء الفيلم القصير، تحقّقت في عملهما هذا، وساعدت فواخرجي على إيصالها.

هناك ثيمة التمييز بين الجنسين، كمادة درامية للأفلام العربية القصيرة، كما في الفيلم التونسي "مخبي في قبة" لليلى بو زيد مثلاً، وذلك عبر حكاية مكثّفة لشابة تعرّضت للعنف، فانصبّ ردّ فعل العائلة على لَملمة الموضوع، وحصره في أضيق مساحة ممكنة، تجنّباً لإحراجات تسبّبها مجموعة قِيَم وقياسات اجتماعية وُضِعت بصيغ مختلفة، وكلّها تكرّس تحجيماً للمرأة. على مستوى آخر معاكس، تجد المرأة دائماً لنفسها أساليب تعبير جسدية، كمعادل لذلك العسف الإجتماعي: الرقص هنا، وإن تكرّر في أفلام كثيرة قبله، كتكرار مشاهد العري في الحمامات العامة، التي يُراد بها بصرياً التعبير عن حالة الشهوانية الجنسية، ومحاولة تفجيرها ضمن وسط ضامن لها. هذا النصّ المكثّف استخدمها وسيلة علاجية وتأهلية، لهذا اننهى مشهد الرقص في الحفل بآخر ظهرت فيه الشابة وسيدة البيت معها على الشاطئ بملابس زاهية، ظهرتا فيه بحالة نفسية مسترخية، بعد أن أفرغتا عن كاهليهما ثقلاً عظيماً. غير بعيد في المغرب أيضاً، حيث تعيش المرأة، بسبب الفقر والعوز، حالة مركّبة من القهر، نقلتها لما علي في "وداعاً أيها المنفى". في عنوانه سخرية مبطنة، كون الحكاية كلّها تؤكّد أن المنفى حاضرٌ بقوّة، لدرجة غدا معها الإعلان عن نهايته بمثابة اعتراف ضمني بقوّة وجوده. الهجرة المغربية لا تُبعد الناس عن وطنهم وحسب، بل يمتّد أثرها السلبي، في أحيان كثيرة، على المُقرّبين من الأهل، الذين يعيشون حالة من القهر والعوز تدفعهم هم أيضاً إلى التفكير بها، كالأم الشابة التي انتظرت دعوة زوجها للإنضمام اليه في فرنسا، لكن الأمر أخذ وقتاً أكثر مما تصوّرته، ووعدت طفلها الصغير به. راح الولد يبحث عن مصدر يُعيل به أمه في ظلّ غياب كل مصدر رزق، وصار خطر سقوطه بين أيدي تجّار المخدّرات قوياً. لهذا، فكّرت الأم في الشروع بالهجرة عبر طرق غير شرعية، انتهت بخسارتها طفلها، وعودتها من حيث أتت.

حاول فيلم "سلام غربة"، أو كما عنونه المهرجان "وداعاً أيها المنفى"، تلمّس الحالة النفسية والجسدية لامرأة في ظلّ غياب زوج امتدّ وقتاً طويلاً (وثد يمتدّ وقتاً أطول أيضاً)، تضعف فيه قوّة مقاومتها حاجاتها الجسدية والمادية. وفي ظلّ عزلة وتكافل اجتماعي ضعيف يزيد الضغط عليها، تلجأ هي نفسها إلى فعلٍ يزيد خسائرها، وهي كثيرة إلى درجة توجع القلب.

على المستوى السياسي، أعاد مروان خنيصر عبر "ذاكرة قصيرة" الحدث الواقعي المأسوي لتفجير إحدى بنايات منطقة الشياح في العام 2006، سينمائياً. قصة المبنى الذي قصفته الطائرات الحربية الإسرائلية أثناء حرب تموز، وسَوّته ومن فيه من بشر بالأرض، معروفة. لم يكن هاجس خنيصر عرضها ثانية، قدر تركيزه على بشاعتها، عبر إعادة الحياة لأطفال المبنى لحظة انشغالهم عن الموت بألعابهم البريئة، متماهين مع عالمهم البريء في انسجام تام. في لحظة جنونية واحدة، انتهوا وانتهى معهم مبنى كان يعجّ يوماً بالحياة.

الفلسطيني "البير" لأحمد حبش يقارب الموضوع السياسي اللبناني بالعلاقة مع إسرائيل، لكونها هي من قصفت وقتلت سكّان مبنى الشيّاح، وهي أيضاً من هجّرت الفلسطينيين قبل أكثر من نصف قرن. زمن حدث "البير" عاد إلى العام 1948، حين اضطر فلسطينيون كثراً على مغادرة بلدهم خوفاً على حياتهم من بطش منظّم. حكايته منقسمة إلى مستويين دراميين: الأولى اجتمعت فيه ثلاثة أجيال على طريق غربتهم. وخوفاص من كشف عصابات إسرائيل أمر هروبهم، دخلوا بيراً جفّ ماؤه، واتّخذوه ملجأ لهم. فيه، حكوا عن حالهم، وماذا ستؤول أحوالهم إليه. وحين أذِن وقت خروجهم، توزّعت سُبلهم بين دربين: الأول عاد به العجوز إلى بيته، والثاني قاد الأب الشاب وابنه الى خارج البلد. على مستوى المعالجة المختلفة في زمنها الدرامي وبعدها السياسي، أمسك "بيّاع الورد" لإيهاب جاد الله موضوع الخيانة وسط الصراعات، ونظرة الأطراف المتصارعة للخائن الخارج من بينها. فعلى مدى التاريخ البشري، حضر الموضوع في غالبية روايات التاريخ. وعندما يُكتب عن صراع ما بين قوّتين، يأخذ الخائن والخيانة مكانهما في النصّ. في الحالة الفلسطينية، حضر الموضوع هذا دائماً، لدهاء خصمهم الإسرائيلي الذي لا يتوانى عن استخدام كل وسيلة لإضعافهم وكسر شوكتهم، وحالة بائع الورد الفلسطيني إحداها. الشاب الذي يكسب قوته اليومي من بيع الورد، ويحظى بحبّ الناس له، أخفى سلوكاً آخر، تمثّل بمساعدته المخابرات الإسرائيلة على تنفيذ عمليات اغتيال قادة سياسيين وعسكريين من أبناء جلدته. عند انكشاف أمره، نُفذ فيه حكم الموت. لا أحد ربما سيتعاطف مع "بيّاع الورد" على فعلته، ولا على الحكم الصادر بحقّه. لكن أهمية العمل تأتي من عرضه اللحظة القصيرة وقبل إعلان موته، التي قرّر العودة فيها إلى ضفّته الوطنية، وكشف أسرار المخابرات الإسرائيلية. غير أن شدّة الصراع ويقين امتلاك الحقيقة، لم يُتيحا لمقرِّري مصيره التريّث قليلاً قبل إعلان موته، أو حتى قبول ندمه. في هذا العمل، دعوة إلى قراءة داخلية ذاتية للتجربة كلّها في أدّق تفاصيلها، وأكثر مسلّماتها، كما في حالة بائع الورد الفلسطيني، الذي باع قضيته يوماً، وعندما أراد شراءها ثانية، عجز عن ذلك ومات.

من داخل المهرجان في

20/10/2011

جميع الحقوق محفوظة لموقع سينماتك
  (2004 - 2011)