حول الموقعخارطة الموقعجديد الموقعما كـتـبـتـهسينما الدنيااشتعال الحوارأرشيف الموقع 

مهرجان أبوظبي السينمائي ـ 2011

مقالات من داخل المهرجان

عناوين كثيرة في نصّ واحد

"دايماً براندو" للتونسي رضا الباهي

نديم جرجوره

مرّ المشروع السينمائي الأخير للمخرج التونسي رضا الباهي في مراحل عديدة. أراده، منذ البداية، تماهياً بصرياً بين شاب تونسي يُدعى أنيس والممثل الأميركي العملاق مارلون براندو. سبب ذلك: الشاب التونسي يُشبه براندو شاباً. الشبه دافعٌ إلى مقارنة ممتدّة من الشكل إلى المضمون. أي إلى قراءة العلاقات القائمة بين الناس في القرية السياحية الصغيرة، وبينهم وبين القادمين إليها. توفّي مارلون براندو في الأول من تموز/يوليو 2004. لقاءات عدّة جرت بين المخرج التونسي و"العرّاب". اتفاق شبه نهائي بلغه الطرفان. لكنه الموت. والموت، إذ نال من ممثل قدير ولامع أنهى حياته في عزلة وانقباض ومآسي، شكّل صدمة غير متوقّعة لرضا الباهي، الذي اضطرّ إلى إجراء تعديلات متفرّقة على السيناريو، من دون الإساءة إلى النواة الرئيسية.

لعلّ التزامن الحاصل بين وفاة مارلون براندو صيف العام 2004، والتحوّلات الدولية الحاصلة في أمكنة جغرافية عديدة في الوقت نفسه، جعلت "دايماً براندو" (مسابقة الأفلام الروائية الطويلة) ينفتح على عدد كبير من المسائل والقضايا والتفاصيل، مُقدّماً في مضمونه الدرامي حكايات إنسانية، وعلاقات مبتورة، وانهيارات شاقّة. البُعد الذاتيّ البحت حاضرٌ بقوّة منذ اللحظة الأولى: رضا الباهي روى بصوته الحكاية كلّها، مُدخلاً على السياق الدرامي حصيلة تفكيره السياسي والسينمائي في القضايا المطروحة: الاعتداء الإرهابي على الولايات المتحدة الأميركية في الحادي عشر من أيلول/سبتمبر 2011. الاحتلال الأميركي للعراق. غوانتانامو. الهجرة السرّية إلى أوروبا. الفقر والجوع والمرض. الحب المبتور. السياحة. تحويل الجمال الطبيعي إلى أمكنة تصوير سينمائي. العلاقة الصدامية أو المتكاملة بين عرب وغربيين. إلخ.

هذا كلّه محصور في أربع وثمانين دقيقة فقط. جزء كبير منها قُدِّم في ما يُشبه النسق التوثيقي، متمثّلاً بسرد رضا الباهي حكايته مع مارلون براندو، ومدمجاً فيه لقطات للممثل في أدوار ومواقف. جزء آخر انفلش على المتخيّل: في القرية الريفية السياحية تلك، دارت كاميرا فريق عمل سينمائي أوروبي أميركي لتصوير فيلم عن القارة الغارقة في البحر والزمن "أتلانتس". هناك، انتبه المخرج والممثل والمنتجة إلى أن أنيس شبيه براندو. أنيس مغرم بابنة الجيران. لكنه حالم دائماً بالخروج من مستنقع الخوف والفقر والألم هذا. الشخصيات معروفة، لا تختلف عن تلك العائشة في أي قرية أخرى: المحتال، الغبي، المؤمن، الجميلة. هكذا، بين حلم الهجرة والتشابه الشكلي والحب المفقود والمتاهات القاتلة، قدّم رضا الباهي مداخلته السينمائية تلك: عن التمثيل والبلد والمنعطفات الكثيرة. عن الخوف المتربّص بالناس. عن ثنائية الحياة والموت. عن الخيبة والمتاهة. عن الاستغلال والطمع. عن البراءة المفقودة أيضاً.

التقديم الرسمي للفيلم اختصر النصّ بقوله إن "العمود الفقري" للفيلم تمحور حول "تغييرات طرأت على شاب تونسي، إثر اكتشاف شبهه بمارلون براندو". غير أن مُشاهدة الفيلم تعكس ما هو أبعد من هذا التشابه: كل واحد من أبناء القرية منغمس في همّه وقرفه وألمه. كل واحد منهم راغب في الخلاص المصطدم بحصار الداخل وانفضاض الخارج عنه، مع أن الخارج "متيّم" بجمال الطبيعة التونسية وسحرها وناسها، شرط أن يبقى ناسها في جغرافيتهم. كل واحد متشدّق للهرب، إما من ذاته أو من الآخر، سواء غاب عن الآخر أو ذهب إليه.

التداخلات بين اللقطات كثيرة. بين السياسة الدولية والحروب القاتلة. بين الأحلام المجهضة والبحر الذي ابتلع ويبتلع الجميع. بين الحبّ الطاهر والجسد المفتوح على خيانة الذات أولاً. أستعير من التعريف الرسمي بالفيلم جملة مفادها أن فحواه الجوهرية مركَّزة على التجليات التي تحيط بقرية الشاب "وقد اقتحمها فريق التصوير الأجنبي، الذي قلب حياتها الهادئة الراضية، وجرف المفاهيم كلّها المتأصّلة فيها، فإذا بكل فرد يبحث عن مكسب له".

"دايماً براندو" نصّ ذاتيّ خالص، أراده رضا الباهي مقاربة أدبية تأملية مشغولة بصور سينمائية، عن الزمن والذاكرة والحكايات والراهن.

من داخل المهرجان في

20/10/2011

جميع الحقوق محفوظة لموقع سينماتك
  (2004 - 2011)