حول الموقعخارطة الموقعجديد الموقعما كـتـبـتـهسينما الدنيااشتعال الحوارأرشيف الموقع 

مهرجان أبوظبي السينمائي ـ 2011

مقالات من داخل المهرجان

لوحة إنسانية عن وقائع وحالات

"انفصال" للإيراني أصغر فرهادي  (مسابقة الأفلام الروائية الطويلة/جائزة لجنة التحكيم الخاصة)

نديم جرجوره

كعادته في استنباط العناوين الكبيرة لمعالجتها درامياً من تفاصيل حياتية تكاد تكون هامشية، محوّلاً إياها إلى أجزاء متكاملة ومتناسقة مع بعضها البعض، لرسم ملامح بيئة وأناس وحالات، حقّق المخرج الإيراني أصغر فرهادي فيلمه الجديد "انفصال نادر وسيمين" (مسابقة الأفلام الروائية)، الحائز على جائزة "الدب الذهبي" في الدورة الأخيرة (شباط/فبراير 2011) لمهرجان برلين السينمائي. كعادته في تحويل القصص الصغيرة، المنثورة في حيثيات العيش اليومي العادي، إلى فضاءات درامية وبصرية متّسعة لألف سؤال وحكاية، أنجز فرهادي واحداً من الأفلام الجميلة في مقاربتها حساسية اللحظة والذات، من أعماقها المدفونة في القهر والارتباك. هكذا، يُمكن الدخول إلى العالم السينمائي الخاص بمخرج إيراني، لفت الانتباه إليه منذ فيلمه الأول "الرقص في الغبار" (2003)، لكنه أثار حماسة نقدية وجماهيرية كبيرة بفضل "عن إيلي" (2009)، الذي عكس قدرة بصرية هائلة على الممارسة السينمائية لـلتلصّص الإنساني على شؤون الحياة والمجتمع، من خلال قصص قصيرة وحالات انفعالية لمجموعة من الشباب الإيرانيين.

البساطة الواضحة في تقديم الفيلم الجديد له باتت سريعاً أشبه بمتاهة أربكت الشخصيات الرئيسة والمُشاهدين معاً، بفضل قوّتها الإبداعية، وجمالياتها المفتوحة على معاني العلاقات والطبقات والانفعالات، وهي معان أبدع فرهادي بإيهام مُشاهدي فيلمه هذا بأنها مفقودة، أو ملتبسة الشكل والمضمون. علاقات قائمة بين زوجين، بين والدين وابنتهما، بين والد وأبيه. علاقات قائمة بين طبقتين اجتماعيتين، انتمت الأولى إلى ما يُشبه البورجوازية الصغيرة والعلمانية المنفتحة، وجاءت الثانية من الفقر والقهر والألم، ومن الإيمان أيضاً والتزام تعاليم الدين الإسلامي. علاقات قائمة بين الناس والسلطات أيضاً. وفي مقابل العلاقات والطبقات هذه كلّها، بل بالأحرى بسبب تصادمها، انبثقت انفعالات موزّعة بين الحقد والحبّ، وبين الرغبة في الانتقام والسعي للحصول على حقّ مهدور. وإذا ذهبت الرغبة في الانتقام بصاحبها إلى الكذب والافتراء، من أجل إنقاذ صورة أو سمعة أو حالة، فإن السعي للحصول على الحقّ المهدور ارتبط ارتباطاً وثيقاً بالتزام نهج إيماني بلغ، أحياناً، حدّ الاقتناع بأن ماورائيات معيّنة وهواجس ووساوس قادرة على إنزال العقاب على كاذبين أو مفترين، مع أن أصحاب السعي هذا ملتزمون دينياً، ومؤمنون.

خطوط متوازية شكّلت ركائز الحبكة الدرامية لـ"انفصال". لكنها خطوط متداخلة ومتشابكة، إلى درجة التعقيد والاختناق في حصار مدوّ، قبل أن يُقفل أصغر فرهادي الصفحة الأخيرة، بإغلاقه الباب على الابنة الصغيرة، ذات الأحد عشر عاماً، داخل غرفة القاضي، من دون أن يسمح لأحد بمعرفة الجواب الأخير للابنة، ردّاً على سؤال القاضي (ومن ورائه الوالدين): "هل قرّرت مع من تريدين البقاء؟" (معرفة الخاتمة لا تُلغي إطلاقاً جمالية المتابعة الدقيقة للمسار الدراميّ، الآيل إلى انفتاح النصّ السينمائي كلّه على احتمالات والتباسات معلّقة).

البداية متمثّلة بجلوس الوالدين أمام الكاميرا ("إنها" القاضي، الذي يُسمَع صوته من دون رؤية وجهه)، لأن الزوجة طلبت الطلاق، ردّاً على رفض زوجها السفر معها إلى الخارج. كل شيء بدا كأنه يسير باتّجاه الاحتدام، لأن الطلاق دونه منع الزوجة من حقّ رعاية الابنة. وهذا فَتَح أبواب الجحيم على الجميع: الزوج مسؤول عن والده المصاب بمرض "ألزهايمر". هذا يعني أنه محتاج إلى خادمة. تأتي الخادمة ملتحفة بقناعاتها الدينية، هي الحامل والمتعبة والفقيرة. مآزق جمّة تواجه الجميع، والسياق المعتمد في سردها مشغول بحرفية لافتة للانتباه، تمثّلت بتوازن توليفي متماسك بين القصص والحالات كلّها.

الجميل في "انفصال" أيضاً قدرة السيناريو على موازنة التفاصيل المروية من وجهات نظر مختلفة، بل متناقضة، موهماً المُشاهدين، في الوقت نفسه، بأن الحقّ إلى جانب كل واحد من الشخصيات المتصادمة مع بعضها البعض. ميزة "انفصال" كامنةٌ في أنه مكتف، ظاهرياً على الأقلّ، بالسرد الحكائي المكتوب ببراعة سينمائية شديدة التوهّج والاحتقان والغضب، من دون تصنّع. ولعلّ الأداء التمثيلي (ليلى حاتمي وبايمان موادي وشهاب حسيني وغيرهم) ساهم في تحويل هذا كلّه إلى لوحة إنسانية عكست وقائع، وطرحت تساؤلات.

من داخل المهرجان في

19/10/2011

جميع الحقوق محفوظة لموقع سينماتك
  (2004 - 2011)