حول الموقعخارطة الموقعجديد الموقعما كـتـبـتـهسينما الدنيااشتعال الحوارأرشيف الموقع 

مهرجان أبوظبي السينمائي ـ 2011

مقالات من داخل المهرجان

بودلير في زمن "فايسبوك"

"زهور الشرّ" لدافيد دوسا

هوفيك حبشيان

"زهور الشرّ" (عروض عالمية) أول فيلم روائي طويل للمخرج المجري دافيد دوسا. يصعب التنظير على هذا العمل الغريب، من دون الأخذ في الاعتبار مسألة هامة وهي الخيارات الجمالية. اختار دوسا لفيلمه حقيقة بصرية تشبه عصرنا: فوضوية، متكسرة، صارخة بفجاجتها وألوانها. ثم قرّر الأصعب: أن يحمل المُشاهد الى التعاطف مع ما يقدّمه. هذا النمط الـ"تعذيبي" قد يجعل بعض المتفرجين يهرعون إلى باب الخروج، بعد أقل من ربع ساعة على بداية الفيلم. وقد يستطيع أن يُسمّر آخرين في مقاعدهم، ليس من باب المتعة، بل للتعرّف إلى مخرج تشي خياراته "الانتحارية" بالكثير من الجرأة.

فيلم تجريبي إلى حدّ ما. بنيته الحكائية على قدر من الانسجام مع مكوّنات العمل، مع أنه يروي أشياء بسيطة انطلاقاً من لقاء شاب ابن مهاجر عربي (رشيد يوسف)، يعمل في فندق باريسي، بفتاة إيرانية تدعي أناهيتا (أليس بلعدي)، تصل إلى العاصمة الفرنسية هرباً من خطورة الأحداث التي تلت إعادة انتخاب الرئيس الإيراني محمود أحمدي نجاد. منذ اللحظة الاولى لهذا اللقاء، يبدو مشروع المخرج واضحاً: السعي لتقريب كائنين مختلفين عن بعضهما البعض، بغية تسليط الضوء على ما يجمعهما. فإذا كان هناك ما يُسمّى "حقّ في الاختلاف"، هناك أيضاً ما يُعرف بـ"الحقّ في التشابه". يبحث الفيلم عن قضية ويجدها في هذين النقيضين.

تمنح معالجة الفيلم الانطباع الخاطىء بأن ما نراه عمل هواة، من شدّة ضعف الموازنة. لكن هذا الضعف يضعه المخرج في توظيف واضح، بغية ترسيم ملامح سينما تستمد شرعيتها ولغتها من انعدام الإمكانات. وعلى الرغم من أن العنوان المُستعار للفيلم من الكتاب العظيم لشارل بودلير، فإنه لا يمكن أن يُعدّ أكثر من إقحام بريء يحمل نوايا طيبة. الإيجابي في الموضوع كامنٌ في أن هذا الخيار يليق بالموضوع. الشاب غيكو، من محبّي الـ"هيب هوب"، يتسلّق الجدران، ويرقص في أزقّة باريس على قفاه، ويقوم بتعبيرات جسمانية مستقاة من إحدى أكثر الحركات الثقافية ارتباطاً بالشباب، الذين يختارون هذه اللغة للاعتراض على "السيستم" المفروض عليهم. في تعلّقه بهذا التعبير الحرّ، وإصراره على مزاولته أينما كان وكيفما اتفق، يلتقي غيكو دوسا، ليتحوّل إلى "أناه الأخرى" و"شقيقه الأصغر" على الشاشة. لكنه يلتقي أيضاً (وخصوصاً) تلك الفتاة التي تجعله يتعرّف على ذاته من خلالها. مثلاً: في أحد مشاهد الفيلم، أمام تذمّر أناهيتا من الوضع في بلدها، يردّ غيكو غاضباً: "على الأقل، أنتِ تستطيعين تشخيص المشكلة التي تعيشينها. أما أنا، فلا أعرف ما هي مشكلتي. لا من أين جئتُ، ولا إلى أين أذهب".

لكن، هذا ليس بيت القصيد. هناك اهتمامات أخرى عند دوسا، في مقدّمها: تكنولوجيات التواصل الحديثة، التي لم يعد يُفرّق المرء، في ظلّها، الحقيقة عن الكذب. الشاشات تتكاثر، وشبابيك "إنترنت" والمنتديات الاجتماعية تفرض مزاجها على الفيلم، لتنصهر عين المشاهد وسط رموز كثيرة، تجعل المساحة المستطيلة للسينما نافذة حميمية على عالمنا اليوم: "فايسبوك"، "تويتر"، "يوتيوب"، وإلى ما هنالك من مواقع باتت ترافق يومياتنا الحافلة بالتلصّص على حيوات الآخرين ومآسيهم. هذه المواقع، التي تتيح للمخرج رؤية النسخة الحيّة لما يحصل في إيران من مظاهرات وقتل ومطاردة، تحلّ في المكان الرديف لتقنية قديمة: "الفيلم داخل الفيلم". هذه المشاهد المتداخلة والطارئة التي تصل عبر الكمبيوتر المحمول لأناهيتا، الذي يراقفها أينما حلّت (وأحياناً بلا مسوغ درامي)، قد تكون نقطة الخلاف الأكبر مع فيلم يقتفي، في هذا الجانب تحديداً، خطى جوليان شنايبل في "ميرال"، عندما يصوّر شاب وفتاة وهما يتبادلان القبل، مقطعاً هذه اللحظات بحوارات عن حركة "حماس". ما يستفزّ في الفيلم إذاً، هذا الاستهتار غير الإراديّ بما تنقله لنا شاشة الكمبيوتر من قتل وهتك، في حين أن الاثنين جالسان على السرير.

من أجل بلوغ الفيلم خطابه المرتقب عن هذا العالم، الذي يتبيّن سريعاً أنه "لا خطاب"، يتوجّب عليه المرور من طريق حكاية غرام كلاسيكية، مع كل ما تحمله من شوائب اللقاء الأول ورعونة الانفصال. يُبدي دوسا حاجته إلى نوعين سينمائيين: واحد واضح لا يحتمل أي تأويل، والثاني خفيّ. لا شك في أن الازعاج (ولا سلبية كثيرة هنا في كلمة "ازعاج")، متأتّ من حقيقة أن الفيلم لا يُراعي الشعور، إذ تفوح منه أحياناً رائحة موت. لكن مخرجه يبحث فيها عن رائحة سلام وطمأنينة. كما هي الحال مثلاً في اللقطة التي تعتقد فيها أناهيتا أن الرجل المقتول الذي ينقل الـ"ويب" صورته، صديقٌ لها. ثم بعد التدقيق، يتبيّن أنه شخص لا تعرفه. فـ"يتنفّس الفيلم الصعداء"، والشخصيّتان أيضاً، كأنّ حيوات الآخرين لا تساوي شيئاً، بل فقط الأصدقاء يستحقون العيش.  

من داخل المهرجان في

15/10/2011

جميع الحقوق محفوظة لموقع سينماتك
  (2004 - 2011)