حول الموقعخارطة الموقعجديد الموقعما كـتـبـتـهسينما الدنيااشتعال الحوارأرشيف الموقع 

مهرجان كان السينمائي الدولي الرابع والستون

ثلاثة أفلام لألن ولاي ورامساي في مهرجان كان السينمائي

"منتصف الليل في باريس" سحري و"الجميلة النائمة" منتهكة و"يجب أن نتحدث" صورة مخيفة عن العائلة

كان ـ ريما المسمار

منذ أعلن مهرجان كانّ السينمائي برنامج الدورة الرابعة والستين التي انطلقت أول من أمس، يراهن الجميع على دورة كبيرة، لاسيما بالمقارنة مع دورة العام الماضي التي لم تولّد الكثير من المفاجآت والنقاشات. والرهان مصدره أوّلاً ذلك الكم الكبير من السينمائيين المعروفين في المسابقة الرسمية، الآتين من سجل حافل في المهرجان وخارجه. مجرد اسماء هؤلاء تبعث على الطمأنينة وتؤشر إلى أن نصف أفلام المسابقة على الأقل لن تكون مخيّبة، إذا ما استمر أمثال بيدرو ألمودوفار وناني موريتي ونوري بيلج جيلان ولارس فون ترير وآكي كاوريزماكي والأخوين داردن وتيرينس ماليك وباولو سورينتينو على نهجهم في اجتراح تجارب سينمائية تحمل بصماتهم الفريدة. في اليوم الثاني من المهرجان، لم يكن البرنامج قد كشف إلا عن القليل جداً. فيلمان عرضا قبل الإفتتاح وثالث في الصباح التالي، لا يمكن في أي حال من الأحوال أن تقول شيئاً واضحاً عن الاختيارات عموماً، ولكنّها تكشف عن نفسها كأعمال تنتمي إلى مخرجيها. ففيلم الإفتتاح "منتصف الليل في باريس" حمل توقيع المخرج الأميركي وودي آلن، أحد أكثر السينمائيين الذين احتضنهم المهرجان على مرّ السنوات، وإن لم يقم بعرض أي من أفلامه الأحد عشر السابقة التي شاركت في كانّ في المسابقة. من خارج المسابقة ومن قلب باريس مدينة الأضواء، بدا الشريط فيلماً افتتاحياً بامتياز، بخفّته وسحره وذكائه. فيه، يكمّل آلن الرحلة التي بدأها قبل نحو ست سنوات معلناً خروجه، أو أخذه استراحة، من مدينته نيويورك التي احتضنت كل أفلامه السابقة. من نيويورك، توجّه إلى لندن حيث أنجز أربعة أفلام بين 2005 و2010 ("نقطة المباراة"، "سكوب"، "حلم كساندرا" و"ستلتقين غريباُ أسمر طويل")، تخللها مرور في إسبانيا حيث صوّر "فيكي كريستينا برشلونة" (2008) وعودة قصيرة إلى نيويورك حيث أنجز "أياً كان ما يصلح" (2009). بين تلك الأفلام، حقق "نقطة المباراة" الإجماع النقدي، تلاه "فيكي كريستينا برشلونة" بردود فعل متفاوتة إنما ميالة إلى الإيجابية. بخلاف نظرته إلى لندن ومدريد التي أحالها إلى شخصيات فيلمه، بدا ألن في تجربته الباريسية أكثر ميلاً إلى توريط نفسه في وجهة النظر الشخصية. ربما بسبب مكانة باريس كجزء اساسي من السينما الفرنسية التي أثّرت في جيله عموماً لاسيما بموجتها الجديدة، وربّما لأن باريس تقدّم نفسها مدينة مشاع ملك الجميع وجزءاً من ثقافة كونية واسلوب عيش. بهذه الأفكار، يقبل ألن على باريس، وبنظرة لا تختلف عن نظرتنا، يمكن أن توضع بسهولة في إطار الكليشيه. فمن المشهد الإفتتاحي الطويل القائم على توليف مشاهد باريسية لمعالم مألوفة على وقع موسيقى الجاز، لا ينكر آلن افتتانه بالمدينة ولا يدّعي صلة بها تتجاوز النظرة التقليدية. إنها باريس السينما التي لم تتغير معالمها على مرّ العقود، وواجهة المدينة التي لا يذهب آلن أبعد في استكشافها. فشخصياته أميركية بمعظمها، تترواح نظرتها إلى المدينة بين الرومنسية والتشييء. "غيل" (أوين ويلسن)، كاتب السيناريوهات الناجح في هوليوود، ينتمي إلى الفئة الأولى، محاولاً إقناع خطيبته "إينيز" (رايتشل ماكآدامز) بالإنتقال للعيش في باريس بعد الزواج. أما الأخيرة فتحلم بماليبو ولا ترى في باريس سوى متحف للفنون والثقافة والمقتنيات الثمينة التي يمكن أن تشحنها إلى جنتها الأميركية. "غيل" ايضاً لا يرى باريس المعاصرة بل صورة متحوّلة لعصر ذهبي كان في العشرينات. هذا الإنكار لحاضره، في أميركا وباريس على حدّ سواء، وتوقه إلى زمن مضى، يولّد مسافة كبرى بينه وبين "إينيز"، المتسلّطة والإستغلالية. ولكن آلن يدفعنا إلى التفكير في ما تقوله. "ما الشيء العظيم في مدينة ممطرة؟" تسأل بسخرية رداً على بوح "غيل" بعشقه لمدينة تحت المطر. وفي مكان آخر، تقنعه بالتخلّي عن حلمه بكتاية رواية والإستمرار في ما يبرع فيه: كتابة السيناريوهات لأفلام هوليوودية. ولكنّ "غيل" لا ينفك يبحث عن شيء يلهمه. فإذا بذلك الإلهام يأتيه من خارج الواقع، في منتصف ليل باريسي حيث تقله سيارة أجرة إلى باريس العشرينات. هناك يجد نفسه في حضرة عمالقة من أمثال ف. سكوت جيرالد وإيرنست هيمينغواي وبابلو بيكاسو ودالي ولويس بونويل. ولا يلبث أن يتبادل الآراء حول روايته مع غيرترود ستاين (كاثي بايتس) ويقدّم فكرة فيلم "سحر البورجوازية الغامض" لبونويل! ولكن الأهم من كل ذلك لقاءه عشيقة بيكاسو "أدريانا" (ماريون كوتيار) والوقوع في حبّها.

لا يقدّم "منتصف الليل في باريس" أفكاراً كثيرة بل يلعب على فكرة وحيدة طوال الفيلم هي وهم الحنين، فيما يشيّد من حولها لحظات مبهجة، تستمدّ جاذبيتها من حضورها ومن سخرية ألن وحبّه، يعملهما بدون حرج أو عناء في تخيّل شخصيات تعتبر اليوم ايقونية.

الجميلة النائمة

كان "الجميلة النائمة" أول فيلم يعرض في "المسابقة الرسمية"، مسبوقاً بالكثير من الترقّب والحماسة، لاسيّما بعد انتشار الشريط الترويجي للفيلم بعيد إعلان مشاركته في كانّ. يفسّر ذلك القاعة الممتلئة عن آخرها على الرغم من أن العرض الصحافي أقيم قبل الإفتتاح الرسمي للمهرجان. يشكّل الفيلم التجربة السينمائية الأولى للروائية الأوسترالية جوليا لاي، مقروناً باسم المخرجة الأوسترالية المعروفة جاين كامبيون، كراعية للفيلم في صيغة "جاين كامبيون تقدّم". ولعلّ اقتران الفيلم باسم كامبيون اثار المزيد من الترقّب بسبب من مكانة المخرجة التي انطلقت باكتشاف المهرجان لها في العام 1989 حيث قدّمت باكورتها الروائية "عزيزتي" (Sweetie) ومن ثم حازت السعفة الذهب في العام 1993 عن فيلمها "البيانو". لاشكّ في أن السمعة التي سبقت الفيلم اشتغلت ضدّه، فضلاً عن أن عرضه في المسابقة الرسمية، الأقرب إلى معبد السينما بين اقسام مهرجان كانّ المختلفة، حدت بكثيرين إلى توقّعات فاقت طاقة الفيلم ومخرجته. ببطء معقود على توتر وعنف داخلي وخارجي يؤذن بالانفجار في أية لحظة، تتكشّف حكاية الفيلم عن "لوسي" (إميلي براونينغ) الطالبة الجامعية التي تجد نفسها موزّعة على أعمال صغيرة-وغريبة- لكسب عيشها. هكذا تعمل نادلة في مطعم بسيط وموظفة صغيرة متخصصة بتصوير الأوراق وفرزها في مكتب ما و"فأر تجارب" في مختبر طبي. بينما تقوم بمغامرات صغيرة في الليل في الحانات، لا نفهم تماماً منطلقها، سوى أنها تؤشر إلى علاقة "لوسي" المرتبكة (وربما الإنتقامية) بجسدها المثالي وجمالها الجليدي. تمهّد ذلك التفصيل في بداية الفيلم لمآل الشخصية لاحقاً. فحين تستجيب لإعلان عمل يطلب فتيات جذابات، تجد نفسها أمام "كلارا" التي تشرح لها أن طبيعة العمل تقوم على تقديم "خدمات" جنسية من نوع خاص لرجال من نوع خاص. توافق على العمل بدون تردد كأنها في قرارة ذاتها مقتنعة بأنها خلقت لهذا العمل. ولكن كلارا تشدّد على أن شروط العمل تحرّم تماماً العلاقة الجنسية الكاملة. هكذا تبدأ "لوسي"، وقد اصبح اسمها "ساره"، بتلبية نداءات عمل في قصور فخمة حيث الزبائن من الرجال المسنين، يقيمون الولائم بينما فتيات مثل طلوسي" يقمن بخدمتهن شبه عاريات. يبحلقن بأجسادهن، يلمسنهن كأنهن فاكهة محرّمة. ولكن حاجة "لوسي" إلى المال الإضافي بعيد تركها منزلها، تحتّم عليها طلب عمل إضافي. وذلك بمثابة كلمة السر التي تنقلها إلى مستوى آخر من الخدمات الخاصة جداً، تلبيها في قصر "كلارا" النائي. وتفترض المهمة أن يتم تخديرها حيث يمضي الرجال معها ليلة في مخدعها المخملي، يفعلون ما يشاؤون بها، إلا العلاقة الجنسية الكاملة. هنا، يصبح الفيلم على تماس متناقض مع خرافة "الجميلة النائمة" التي تروح في نوم عميق على أثر غرز اصبعها بإبرة المغزل وتنتظر مئة عام قبل أن تستفيق بقبلة أمير. فالجميلة في فيلم لاي نائمة بتأثير المخدّر، فيما "الأمراء" الذين يلمسون جسدها ليسوا سوى موتى يمارسون "فانتازيات" الإغتصاب وينتهكون جسدها بشتى صنوف الخيالات الجنسية المثيرة للغثيان.

المشلكة في شريط لاي أنه لا يذهب أبعد مما نراه ولا يسيطر على المشاهد تماماً. فالأخير يستعيد ملامح من افلام مثل "عيون مغلقة على اتساعها" من دون أن يكون لـ"الجميلة النائمة" ذلك التأثير العميق. يمكن أن نشعر بالتهميش الذي تعانيه "لوسي" والإنتهاك الممارس على جسدها ووجودها على أكثر من صعيد. ولكن لا شيء أكثر من ذلك، بما يجعل الفيلم أقرب إلى استعراض تقني منه إلى تجربة غامرة ومؤرقة.

"يجب أن نتحدّث عن كيفن"

لم يكن هذا العمل المتقن والعميق مفاجئاً بالنسبة إلى من عرف مخرجته لين رامساي سابقاً. فالمخرجة الإسكوتلندية الشابة خطت خطواتها السينمائية الأولى في كانّ عندما فاز فيلم تخرّجها القصير "ميتات صغيرة" بجائزة لجنة التحكيم الخاصة في دورة العام 1996. كذلك ابلى فيلمها القصير الثالث "رجل الغاز" في دورة 1998. ثم عادت إلى المهرجان في العام التالي بباكورتها الروائية الطويلة "مصيدة الجرذان" التي كرّستها واحداً من الأصوات السينمائية الجديدة الواعدة، بينما نال فيلمها الثاني "مورفرن كالار" جائزة الشباب في كانّ 2002 . في جديدها، "يجب أن نتحدّث عن كيفن"، اقتبست رواية ليونيل شريفر التي تتناول حكاية عائلة تواجه مصائر ماسوية بسبب من العلاقة المرتبكة بين الأم "إيفا" (تيلدا سوينتن) والإبن "كيفن" (إزرا ميللر) وبينهما الأب السلبي والمستكين "فرانكلن" (جون سي رايلي). تبدأ أحداث الفيلم من الحاضر حيث "إيفا" االوحيدة ولمحطّمة تحاول إعادة تركيب شريط حياتها لتفهم ماذا حصل. بينما تحاول أن تحصل على وظيفة في وكالة سفريات وسط إنكار أهالي البلدة ونظراتهم الحادة وردود فعلهم العنيفة، يعود الماضي إليها في شكل مشاهد متقطّعة، ووفق خط زمني متداخل وغير مستقيم. اللون الأحمر المتكرّر يؤشر إلى النهاية المفجعة التي لن تتكشّف قبل اكتمال قطع "البازل". والتركيب هنا وظيفته ليس سرد الأحداث فقط، بل استعادة حياة كاملة منذ وقعت في حبّ زوجها وقرّرت إنجاب طفل. إلا أن هذا الحدث سيترك لديها أثراً سلبياً، يترافق مع طباع طفلها الصعبة وبكائه المستمر. يكبر "كيفن" ليصير ولداً عنيداً إنما شديد الذكاء. يعارض والدته في كل شيء ويعبّر لها عن كرهه لها واحتقارها في كل ردة فعل. من جهتها، تتعامل معه "إيفا" بمزيج من الخوف والكره. يكبر الولد ليصير مراهقاً، يحاول جذب انتباه أمّه تحديداً بطرق تزداد خطراً مع تقدّمه في السن. فمن معاندتها وهو طفل ورفضه قضاء حاجته في الحمّام، يصل به الحد لاحقاً إلى قتل أرنب اخته الطفلة ومن ثم التسبب بأذية الأخيرة. أما والده، فيعيش حالة من الإنكار الساذج، معتبراً أفعال ابنه مجرد طيش أولاد، رافضاً أن يواجه واقع الحال. يأتي كل ذلك في إطار من التأمل والرصد غير المفتعل، وبدون إطلاق أحكام على الشخصيات تقصيها بين خير وشرّ. الجرأة التي يوظّفها الفيلم كامنة في رصده حالات مسلم بها مثل الحب بين الأهل والأولاد الذي لا يمكن أن يكون محل نقاش أو سؤال. ولكننا نرى "إيفا" هنا تسأل نفسها إن كانت تحب ابنها بالفعل. بينما نسأل أنفسنا إن كان الاب الطيب بطبيعته المسالمة السبب الذي أوصل الأمور إلى نهاياتها المرعبة بمنعه "الحديث عن كيفن" من أن يتمّ. أما "كيفن" فنموذج للطفل الذكي الذي يشعر بعاطفة أمه السلبية تجاهه، فيقرر أن يبادلها إياها مسقطاً الأقنعة بينه وبينها. فيلم قاسٍ وشديد الإتقان، تحرّكه الشخصيات بامتياز، بأداء مذهل لسوينتن التي تحتل كل مشهد في الفيلم والممثل الشاب ميللرالذي استطاع أن يجسّد الطاقة المعتملة في داخلها بدون حوار كثير وبالطبع رايلي المقتضب كعادته والمتقشّف في أدائه.

على الرغم من أن المهرجان مازال في يومه الأول، إلا أن الشعور الذي خلّفه "يجب أن نتحدّث عن كيفن" هو قدرته على المنافسة بين أفلام الكبار التي سيكشف النقاب عنها تباعاً خلال الأيام المقبلة.

المستقبل اللبنانية في

17/05/2011

 

ندين لبكي تسأل من "كان": "وهلأّ لوين؟"

كان ـ ريما المسمار 

حكت ندين لبكي أمس حكايتها في مهرجان كان السينمائي عن ضيعة تشبه بلداً ومعضلة تشبه حاضراً وتعيد إلى الأذهان ماضياً لم يُطوَ بعد. "وهلأّ لوين؟" هو عنوان الشريط الذي عرض أمس في قسم "نظرة ما"، معيداً المخرجة إلى الكروازيت ثانية، بعد أن عرضت باكورتها "سكر بنات" في تظاهرة "نصف شهر المخرجين" العام 2007، ومتنافساً مع أفلام أخرى لمخرجين معروفين، ليس من بينها أعمال عربية سوى تجربة لبكي الفيلمية الثانية. ولا شكّ في أن السنوات الأربع الفاصلة بين "سكر بنات" و"وهلأّ لوين؟" أتت بثمارها على الأخير الذي خرج أنضج وأعمق، مبرهناً عن ثقة كبيرة لدى المخرجة في التعاطي مع الموضوع المرح والساخر والدرامي في آن، كما مع الشكل البصري المفتوح على المشاهد الخارجية والعدد الكبير من الممثلين، غير المحترفين بمعظمهم، واللغة السينمائية المستلهمة من مرجعيات سينمائية غير خافية، في مقدمها سينما بيدرو ألمودوفار وإمير كوستوريتسا ومشهديات إيرانية، اتخذت خصوصية المكان بطلاً ومحرّكاً درامياً للأحداث والشخصيات.

وغير بعيد من المقاربة فوق الواقعية للواقع، تلوح في الخلفية تجربتان لبنانيتان، إحداهما أنجزتها المخرجة اللبنانية ديما الحر في "كل يوم عيد" (2008)، وثانية ظلّت مشروعاً على ورق بسبب وفاة مخرجتها رندى الشهال ونقصد بها "لسوء حظّهم". الأخير أيضاً كان معنياً بحكاية قرية منقسمة حول مباراة كرة قدم، فيما مالكة المقهى الجميلة (كان يُفترض بالدور أن يذهب إلى هيفاء وهبي) عالقة بين الطرفين. لا يقلّل من شأن فيلم لبكي اقترابه من عوالم ألمودوفار وكوستوريتسا ولا يضيره التماس مع تجربتين لبنانيتين أخريين. بل إن التماس الأخير يجعله ينتمي إلى رؤية جديدة لموضوع الحرب، تذهب بها إلى تخوم يختلط عندها الواقع بالخيال، كتعبير عن فشل الوعي في استيعاب الواقع كما هو. الحرب في شريط لبكي حاضرة بشكل مباشر، وإن كان القالب الحكائي وافتتاحية الفيلم يحيلانها حكاية أشبه بخرافة، في إشارة إلى ضرورة استخلاص عبرة منها.

تبدأ الأحداث في قرية جبلية، سكانها من المسلمين والمسيحيين الذين اختبروا حرباً في الماضي، لا تزال آثارها ظاهرة في المقبرة القريبة والأسود الذي يوحّد لباس بعض النسوة وفي النكات والتعليقات الطائفية المبطّنة والظاهرة. تبدو القرية جزيرة مقطوعة عن العالم، إلا من خلال جهاز تلفزيون قديم مثبت في الهواء الطلق في زاوية يتيمة قادرة على استقبال إشارات البث، وبعض الصحف الذي يجلبه "نسيم" (كيفن عبود) إبن صاحبة الفرن "تقلا" (كلود باز مصوبع في أداء لافت) من خارج القرية بواسطة دراجته القديمة. أما حدودها فحقول ألغام قد يذهب ضحيتها أحد أهاليها أو المعزة "بريجيت"! لا يلبث ذلك التواصل مع العالم الخارجي أن يتحوّل تهديداً بانقسام طائفي جديد، لا يحتاج إلى الكثير لكي ينفجر. فأخبار التلفزيون والصحف تنقل بوادر حرب قادمة، ما يلقي الرعب في نفوس النساء اللواتي لم تجف دموعهن بعد على فقدان أبنائهن وأزواجهن في الحرب السابقة. هكذا يقرّرن، على الرّغم من شكوكهن الذاتية بالسلم والتعايش، تجنيب الرجال حرباً ثانية وبأي ثمن. فتنطلق سلسلة من الخطط الطريفة للتحايل على الرجال وإلهائهن، تصل في النهاية إلى حل سوريالي، يحمل في باطنه سؤال "ماذا لو؟".

لا تنأى تلك المحاولات النسائية المستشرسة لتجنّب الحرب بالقرية عن الأحداث التراجيدية، ما يمنح الفيلم جانبه الدرامي في مشهدين أو ثلاثة أساسية. حول هذه المشاهد، تصوغ لبكي (شاركها الكتابة كل من جهاد حجيلي ورودني الحداد، شريكيها في "سكر بنات، وتوما بيديغان أحد المشاركين في كتابة "نبي" لجاك أوديار) مشاهد كوميدية عدة وقصصاً جانبية بين النساء أنفسهن وبينهن وبين الرجال، تقودها حكاية حب صامتة ومكبوتة بين "آمال" (ندين لبكي) المسيحية صاحبة المقهى الذي يرمز إلى أرض تعايش محايدة وبين "ربيع" (جوليان فرحات) المسلم. وفي اتجاه ثالث، يبرز الخط الموسيقي الغنائي (موسيقى خالد مزنّر وكلمات تانيا صالح) عنصراً معزّزاً للمقاربة فوق-الواقعية ولغة تعبير تفصح عن المكبوت. ولعلّ تلك الخطوط مجتمعة، فضلاً عن التناول الساخر للطائفية ونظيره المرح واللعوب للمعتقدات الدينية (التي نراها هنا "مستغلّة" لغاية تجنّب الحرب وليس تبريرها كما هي الحال غالباً) هي التي تجنّب الفيلم أسئلة واقعية من نوع: هل الإنغلاق على الذات وتجنب المواجهة هما الحلّ لدرء مخاطر الحرب؟ هل التحايل على الواقع والتلهي عنه السبيل الوحيد إلى التعايش بسلام؟ وهل الموسيقى والغناء قادران على مواجهة التطرّف كما اقترح الراحل يوسف شاهين في فيلمه "المصير"؟ كل هذه الأسئلة وغيرها تعبر الذهن في لحظة أو أخرى ولكنّها لا تلبث أن تتلاشى أمام محاولات المخرجة الدؤوبة الخروج بفيلم يناوش الواقع ويؤلم في بعض المواضع من دون أن يتخلى عن نبرته الساخرة والمرحة. إنه فيلم عن كل الأسباب المنطقية والمحقّة التي نعرفها ونردّدها والتي يجدر بها أن تقف في وجه أي حرب طائفية جديدة، ولكنّها تُشلَ غالباً أمام سؤال "وهلأّ لوين؟" الذي يعيدنا إلى نقطة البداية ويرمي بنا في المتاهة من جديد.

من أجواء فيلمها الأول، استعادت لبكي في جديدها تجربة العمل مع الممثلين غير المحترفين إنما على نطاق أوسع، إلى جانب عدد من المحترفين مثل عادل كرم وآنجو ريحان ومحمّد عقيل وزياد أبو عبسي وسمير عوّاد ومنذر بعلبكي الذين اضطلعوا، إلى لبكي، بأدوار لا يختلف تأثيرها ومساحتها عن تلك التي يلعبها غير المحترفين بحرفية وأداء لافتين. كذلك، نذرت فيلمها الجديد كما الأول لحكايات النساء بالدرجة الأولى ولرؤيتهن. "وهلأّ لوين؟" إنتاج مشترك بين فرنسا ولبنان وإيطاليا ومصر للمنتجة الفرنسية آن-دومينيك توسان التي أنتجت "سكر بنات".

المستقبل اللبنانية في

13/05/2011

 

نادين لبكي: أيها اللبنانيون اتحدوا!

عثمان تزغارت  

بعد باكورتها «سكر بنات»، تألّقت المخرجة اللبنانية في الدورة 64 من «مهرجان كان السينمائي»، وحصد فيلمها «هلأ لوين؟» عاصفة من التصفيق

كان | كانت الكروازيت أمس على موعد مع فيلم «وهلأ لوين؟» لنادين لبكي، الذي أعاد إلى السينما العربية حضوراً وتألقاً افتقدتهما في «مهرجان كان». العمل الجديد لصاحبة «سكر بنات» استُقبل بعاصفة من التصفيق خلال عرضه الرسمي ضمن تظاهرة «نظرة ما». وحظي العمل بحفاوة نقدية كبيرة أشادت برسالة الفيلم الإنسانية، وتميّزه على الصعيد الفني، وخصوصاً لجهة الرؤية الإخراجية المحكمة التي حملت بعضاً من بصمات الراحل يوسف شاهين، في طريقة نحت البورتريه الجماعي، واستعارة تقنيات الكوميديا الموسيقية التي ليست غريبةً عن نادين لبكي الآتية من عالم الفيديو كليب.

على صعيد المضمون، جاء الفيلم أشبه بنشيد من أجل المحبة والتسامح، حاملاً رسالة قوية في إدانة التعصب والطائفية، لكن بعيداً عن أي خطابية مباشرة، باستثناء مشهد واحد ـــــ كان بالإمكان الاستغناء عنه ـــــ وهو عبارة عن مونولوغ طويل تخاطب فيه نادين لبكي («أمل» في الفيلم) رجال القرية، وتحذّرهم من الاقتتال الطائفي. مع ذلك، نجح الفيلم في القفز برشاقة بين الكوميديا الفاقعة التي ترصد المفارقات الاجتماعية وأسلوب الـburlesque الذي يضع اليد على جراح دامية، لكن في إطار من التراجيكوميديا الخالية من أي منحى ميلودرامي. حتى إن الفيلم يذكّر في أكثر من موقع بسينما إيليا سليمان، وما تتّسم به من الفكاهة الباردة التي تندرج ضمن المضحك/ المبكي.

يصوّر الفيلم قرية جبلية معزولة في شمال لبنان لا يصلها البث الإذاعي ولا التلفزيوني، ويعيش أهلها في هناء وتسامح. هنا، يتجاور المسجد والكنيسة، ويتشابه خطاب الإمام والخوري، ولا يمكن التفريق بين المسيحي والمسلم. فجأة، بدافع الاحتفاء بالألفية الجديدة، يقرر مختار الضيعة تزويدها بصحن لاقط لاستقبال الإذاعة والتلفزيون. وإذا بأحداث الاقتتال الطائفي في بيروت تعصف بأجواء المحبة والتسامح بين سكان القرية، فتتطور الأمور إلى مواجهات تكبر مثل كرة الثلج، وإذا بنساء القرية اللواتي يخشين عودة الحرب الأهلية التي فجعت العديد منهن في أولادهن، يكتشفن أن رجال القرية بدأوا سراً بتخزين السلاح وتجهيزه تحسّباً لنشوب اقتتال طائفي جديد في البلد. تلجأ نساء القرية إلى أساليب شتى لثني رجالهن عن هذا المنزلق الدموي: واحدة تضع دماً زائفاً على شكل دموع تنهمر من عيون تمثال العذراء، وأخريات يتسللن ليلاً لتحطيم الصحن اللاقط، حتى ينقطع الإرسال عن القرية، فيما تتولى أخرى رمي كومة الصحف اليومية في فرن المخبز، حتى لا يقرأ أحد من سكان القرية أخبار المواجهات الطائفية المتجددة. تجرّب نساء القرية مختلف أنواع الحيل لصرف رجالهن عن «نداء الدم». لكنّ فاجعة تضع القرية على حافة الهاوية، حين يُقتل أحد شبابها برصاصة طائشة خلال مواجهة طائفية. ورغم أن الواقعة حدثت بعيداً عن القرية، أثناء تسلل هذا الشاب مع أحد رفاقه سراً إلى بيروت لقضاء سهرة في ملهى، يهدد الخبر ـــــ إذا انتشر ـــــ بمواجهة طائفية دامية، ما يدفع والدة الشاب إلى إخفاء جثته في بئر، ريثما تجد نساء القرية طريقة ما لامتصاص الاحتقان الطائفي. وفي النهاية، تقرّر نساء القرية جميعهن تغيير ديانتهن، بحيث تصبح المسلمة مسيحية والمسيحية مسلمة، وتواجه كل واحدة زوجها وأولادها قائلة: «لقد صرت منـ«هم»». وإذا بالجميع يكتشفون أنّ الآخر (العدو) الذي كانوا يستعدون لمحاربته هو أهلهم وأقرب الناس إليهم.

يختتم الفيلم بجنازة الشاب القتيل التي يشارك فيها جميع سكان القرية، مسلمين ومسحيين. وعندما يصل الموكب الجنائزي إلى المقبرة، يحارون إلى أين يمضون بالنعش: مقبرة مسيحية على اليمين وإسلامية على اليسار، وبينهما طريق مسدود، ما يدفع حملة النعش إلى التساؤل: «وهلأ لوين؟». ومن هنا جاء عنوان الفيلم...

الأخبار اللبنانية في

18/05/2011

جميع الحقوق محفوظة لموقع سينماتك
  (2004 - 2011)