حول الموقعخارطة الموقعجديد الموقعما كـتـبـتـهسينما الدنيااشتعال الحوارأرشيف الموقع 

                          دراما رمضان التلفزيونية لعام 2010

سهاد القيسي:

تحول شهر رمضان إلى كرنفال ومهرجان مسلسلات

فاطمة عطفة

عندما نقترب من المرأة العراقية أو الفلسطينية لا بد أن نلامس جراحا قديمة وجديدة تنزف آلاما لا يعادلها إلا كبرياء الروح وشموخ النفس وعزتها. بالعلم والإرادة الحرة تسهم المرأة العربية في صنع تاريخ الأمة، وهي مزودة بالأمل والطموح للوصول إلى مستقبل أفضل. إن الوطن الذي يستلب ويستباح ستبقى فيه المرأة، إلى جانب الأحرار من أبنائه، واقفة شامخة كأشجار الزيتون والنخيل، ولا خوف عليه. وضيفة 'القدس العربي' اليوم شابة عراقية تحمل في أفكارها الكثير عن حضارة الرافدين، وقد حملتها معها إلى إيطاليا بلد الفن والإبداع، لتمتزج الأصالة بالحداثة ويدخل التراث عنصرا مهما وتيارا حيا في علوم العصر ومعارفه، ثم تعود اليمامة المهاجرة، بكل ما اختزنته من تجربة الاغتراب، إلى الوطن العربي، وها هي تعمل في قناة 'سما دبي' وتقدم فيها أهم وأجمل البرامج. إنها الفنانة المبدعة والإعلامية المتألقة سهاد القيسي التي تفضلت مشكورة لتخص قراء 'القدس العربي' بهذا اللقاء.

·         ماذا عن البيئة العراقية والإضافات التي زودتك بها؟

* 'لبيئتي العراقية خصوصيتها التي تميزها عن باقي الدول، فهي كالفتاة الجميلة الذكية مطمع دائم. نشأت وترعرعت في بلاد ما بين النهرين، دجلة والفرات، عمري من عمر هذه الأرض المعطاء، أخذت من عذوبة ورائحة وجمال وثورة نهريها وغرابة وحكمة أساطيرها، توالت علينا محطات مأساوية مزقت وسلبت ونهبت وجارت، وكان هذا العراق يستعيد عافيته ويبدأ من الصفر مرة ثانية. في عمري القصير عشت حروبا شعواء وأقسى حصار فرضته الولايات المتحدة على العراق، وأخيرا الغزو المتعدد الجنسيات الذي استباح كل ما هو جميل وثمين، استباح الشخصية العراقية في عمق دارها، حتى آثارنا لم تسلم من الغزو الأمريكي.

نعم هي ظروف استثنائية جعلتني فتاةً استثنائية فاكتسبت مناعة ضد الصعاب وصبرا وقوة:

(بلادي وإن جارت علي عزيزة/ وأهلي وإن شحوا علي كرام). أنا في حالة عشق دائم للعراق'.

·         ما هي الإضافات المكتسبة من إيطاليا؟

*السفر حظ، قد يصادفك فيه ما لا يصادف غيرك. لم أحس كثيرا بالغربة في إيطاليا، فقد انتقلت من حضارة بلاد الرافدين إلى حضارة الرومان وأخذت الجنسية الإيطالية.

إيطاليا متحف مفتوح، وطالما كنت أمشي في شوارعها وأزقتها وأنا أشعر بسعادة فكل ما فيها عبارة عن ثورة فنية، ملحمة من المواهب التي تركت أصابعها في كل زاوية ومكان، معجزات فنية في كل مكان، أنا أحب وأحيا بالفن، اكتشفت نفسي أكثر وعرفت أن لي حقوقاً انفتحت على الآخر واحترمت جميع الآراء والمعتقدات، حتى إن كنت أخالف بعضها. الشعب الإيطالي جميل ويقدر ويحترم الجميع مهما كان اختلافه معه، لم أحس بالغربة، بل كان هناك تشابه بيني وبينهم.

أصبحت أكثر صحة على الصعيد النفسي، وأحس أني أصبحت أجمل وأكثر أنوثة. إن مجتمعنا العربي يبقى هو الأكثر تلوثا اجتماعيا على الإطلاق، هذا هو رأيي، لكن على الرغم من ذلك فإيطاليا لم تقتلع جذوري العراقية الضاربة بأعماق ثمانية آلاف عام'.

·         'التواصل العربي مع إيطاليا قليل رغم أنها جارة قريبة، ما هي الإغراءات الموجودة في بلدان أوروبا الغربية.. وتفتقدها إيطاليا؟

* 'قليل لكنه موجود فهناك علاقات تربط بين إيطاليا ودول المغرب العربي، وهناك حوار سياسي ومشاورات ولقاءات ودية ومعاهدات حسن جوار، نظرا للقرب الجغرافي. أما سبب قلة العلاقات مع الدول العربية المتبقية فيعود لعدم وجود وسائل متقاربة للتواصل مع العالم العربي، علما أن إيطاليا لها مبادرات كثيرة من حيث المحطات الفضائية التي تبث باللغة العربية. وقبل أشهر أطلقت صحيفة يومية باللغة العربية، هناك تحرك إيطالي باتجاه العالم العربي. أما ما ينقص إيطاليا فهو الاستقرار السياسي، هناك فوضى وفساد إداري في ايطاليا وضرائب كثيرة على كاهل المواطن الإيطالي'.

·         للسيدة سهاد تجربة إعلامية في إيطاليا، ماذا ينقص الإعلام العربي، من حيث وسائل التقنية أو مناخ الحرية؟

* 'قدمت الأخبار باللغة العربية في محطة إيطالية محلية، وكانت هذه هي تجربتي الأولى في الإعلام، تعلمت وخبرت وأسعدتني التجربة. إيطاليا هي صاحبة التجارب الأولى في كل أنواع الفنون، فلديهم المواهب الكبيرة والحس الفني العالي الذي ينقص الإعلام العربي، نحن العرب نمتلك كل الوسائل والأجهزة التقنية العالية، فنحن نشتريها طبعا، ونمتلك القنوات والمحطات ونمتلك الكثير من الخبرات الإعلامية، علما أنني أجد إعلامنا العربي السياسي متفوقا جدا على الفني والثقافي، وبالتأكيد في الإعلام السياسي هنا فقر بقول الحقيقة، سقف الحرية واطئ، والإعلام مسيس، حتى في إيطاليا نفسها فرئيس الوزراء سيلفيو برلسكوني له مجموعة محطات الميديا ست وهي الأكثر مشاهدة من قبل العالم'.

·         الإعلام سلاح ذو حدين، وفي شهر رمضان ضخ كبير من الدراما، كيف تجدين تأثيراتها على مجتمعنا العربي؟

*'أنا أعتبرها أزمة فكر وإبداع، هي حالة تسبب تشتت المشاهد العربي المشتت أصلا من كثرة الفضائيات، لقد تبددت روحانية شهر رمضان منذ زمن بسبب سطوة الإعلام على الشهر الفضيل، واليوم لا يمكن فصل الثقافة والفن عن السياسة، هناك تدخلات واضحة من وجهات نظر معينة في فرض أدواتها على المشاهد العربي الذي يجب أن يشاهد ما يجب عليه أن يشاهده، وفي الوقت الذي يجب عليه أن يشاهده، ومن خلال فرض ممثلين معينين يتكررون في جميع الأعمال المهمة. هناك أعمال جميلة لفنانين كبار لم تجد لها مكانا في شهر رمضان ولم تعرض أصلا. والحقيقة أنا مشاهدة صعبة جدا ويصعب إرضائي بعمل خال من الفن والإبداع، يجب أن يلامس العمل الفني مشاعري ووجداني. وإن سألتني عن آخر عمل عربي شاهدته فهو قبل سنتين مسلسل 'أبناء الرشيد' للمبدع الفنان رشيد عساف. لقد طرح العمل قضية مهمة جدا في وقتها وتابعت أيضا المسلسل البدوي رأس غليص، كان ممتعا للغاية'.

·     نجد بعض الشاشات تقدم شارات غير محتشمة تتضمن لقطات سريعة لمشهد خلاعي لتظهر بعدها عبارة 'رمضان مبارك'، هل يتناسب عرض صور مغنيات غير محتشمات مع هذه العبارة عن رمضان؟

* 'هذا لا يتناسب وشهر رمضان طبعا وفي غير شهر رمضان أيضا، استخدام جسد المرأة كسلعة وتجارة.. هذا يزعجني، لقد تحول شهر رمضان إلى كرنفال ومهرجان مسلسلات وإعلانات وصراع بين الممثلين الأكثر ظهورا خلال الشهر ما يسرق الصائم عن أداء فريضته.

·         أسالك أستاذة فاطمة لماذا لا يقوم المسيحيون بما نقوم به أثناء صيامهم؟

في السابق كنا نستمتع بفيلم مميز، بمسلسل، بفوازير، ببرنامج مضحك، بمسابقات، بشيء منوع.. لكن اليوم أنا مشتتة وقلقة من كثرة الفضائيات والأعمال'.

·         الدراما العربية اليوم في أوج تألقها، لماذا ابتعدت سهاد عن التمثيل واتجهت إلى الإعلام؟

* 'الدراما العربية ليست في أوج تألقها، إنما نحن نكثر والكثرة مثل قلتها، وهذا ما سبب أزمة للفنان العربي الحقيقي الموهوب، هناك اختيارات تقوم على أساس العلاقات الشخصية في الوسط الفني، دخلت التمثيل حبا في الإخراج، كنت أنوي دخول الإخراج في إيطاليا، لكن الظروف عاقت ذلك. لقد شاركت بالتمثيل في فلم عصابات نيويورك، بطلها ليوناردو دي كابريو. وكنت مأخوذة بالمخرج مارتن سكورسيزي، مخرجي المفضل. تجربة لن أنساها في استوديوهات 'شينا شتا' في قلب روما، وتوالت التجارب بإيطاليا. ولقد عرضت علي أعمال عربية وعراقية وأنا أرفضها. الوسط التمثيلي لا يبشر بخير كثيرا وإن بشر بخير فسأمثل، إن كانت فكرة العمل تعجبني، وإن كان الدور قريبا لشخصيتي المحافظة'.

·     تقومين في عمل إعلامي متنوع، وخاصة بالنقل من مكان الحدث، هل يكفي هذا طموحك؟ وفي أي البرامج تجدين مكانك وسعادتك؟

* 'طموحي ليس له سقف، لكنني مستمتعة بعملي كمراسلة وصحافية ومحررة في 'سما دبي'، أتنقل كالفراشة من مكان لآخر، علما أن القناة لم تعطني الفرصة الحقيقية لحد الآن، أطمح إلى برنامج يحقق معادلة وحالة فنية جديدة بالإعلام العربي لأحقق فيه المتعة والفائدة للمشاهد وأحقق فيه ذاتي. وأنا أحاول الآن السعي إلى تقديم الأخبار، إن سنحت لي الفرصة'.

·         لماذا المرأة العربية موجودة في الإعلام أكثر من الرجال، هل لأنها أجمل وأقدر؟

* 'حضور المرأة إعلاميا هو في اتجاه تصاعدي منذ أن اقتحمت المرأة مجال الإعلام ولم يشهد أي تراجع، وإن هذا الوجود ما زال مقتصرا على قاعدة الهرم، أما قمة الهرم فالأولوية هنا للرجل، أي صنع القرار الإعلامي مازال خاضعا له، وقليلا ما نجد امرأة مديرة صحيفة أو إذاعة أو تلفزيون. أما سبب وجود المرأة أكثر في الشاشة، فهذا يعتمد على أولويات الجمهور من حيث ان النساء هن أكثر متابعة للشاشة من الرجال، لذلك تميل البرامج للموضة والطبخ وال'وسب (الفضائح الفنية). طبعا، هناك اهتمام بالمواضيع الثقافية والسياسية والرياضية يقدمها رجال ونساء والتي هي اهتمام مشترك من قبل المرأة والرجل، وأنا أرى أن كليهما ممكن، إن توفر لديه الحضور والكفاءة والذكاء'.

·         مثلك بالحياة.. ومثلك بالإعلام.. وما هي المبادئ والمثل التي تريدينها لأطفالك؟

* 'ولله المثل الأعلى في الأرض وفي السماء مثلي الأعلى مرتبط بالفترة الزمنية وظروفها والمواقف التي أعيشها، ففي كل موقف أتذكر شخصا معينا وأقول يا ترى كيف كان سيتصرف، وقد لا يكون شخصا ذا أهمية عظمى في المجتمع، قد يكون إنسانا بسيطا لكنه يتحول إلى نجم لامع في هذا الظرف وهذا الموقف. وإن سألتني بمن تأثرت سهاد، فببساطة إن شخصية السندباد البحري في كرتون السندباد هي من خطت لي شخصيتي في الطفولة، فقد كان طيبا كريما صادقا يساعد الجميع، وكان شجاعا في قول الحق. هذا ما أخذته منه، بالإضافة إلى بلاغته في اللغة العربية. أمي وأبي هما مثلاي في كل ذلك وأكثر، فقد شهدت صبرهما على الشدائد وقوتهما وحبهما للآخر وعمل الخير، بالإضافة إلى عفوهما عند المقدرة. ليس لي مثل معين بذاته بالإعلام، فأنا أتابع الإعلام الإيطالي والعربي والعراقي والأمريكي وأختار ما يلمسني في لحظتها وما يهمني، أما عندما سيكون لي أطفال فسيكون لهم اختيار مثلهم الأعلى'.

·     انسحاب الجيش الأمريكي من بغداد، وهناك شركات أمنية سوف تأتي بأعداد كبيرة، ماذا يعني هذا؟ هل يستعاض عن الجيش بالأمن؟

* 'أمريكا خططت منذ البداية لتدمير القوات المسلحة العراقية تدميراً شاملا بنية إطالة مدة بقائها في العراق ونهب خيراته. النفوذ الأمريكي لن ينتهي في العراق، فتاريخ أمريكا يقول إنها عندما تدخل بلدا لن تخرج منه أبدا. سأعطيك أقرب مثال: في نهاية الحرب العالمية الثانية دخلت أمريكا إيطاليا لتحريرها من الألمان ولم تخرج من إيطاليا من وقتها لحد الآن، فالقواعد الأمريكية مازالت في إيطاليا منذ خمسة وستين عاما. وفي دول كثيرة نفس الشيء، والعراق نفس الوضع. أمريكا تدعي أنها تركت العراق، لكنها تركت خلفها خمسين ألف جندي لتدريب القوات العراقية ومكافحة الإرهاب على حد قولها طبعا. العراق اليوم في مأزق كبير، هناك أطماع كبيرة من الجميع في النيل من العراق وسيادته، العراق أمام عدو ظاهر هو أمريكا وإسرائيل، وهناك ما هو أخطر وأدهى وأعمق وأفتك هو الخطر الإيراني لأنه عدو مستتر ومتربص لأمن العراق منذ آلاف السنين، وعندما تذهبين للعراق ستحسين بذلك.

طبعاً أنا أتمنى لك أن تزوري العراق المتعافي والمزدهر والحر، وأنا متأكدة من نهضته بأبنائه الشرفاء عن قريب، بإذن الله'.

القدس العربي في

02/09/2010

 

إفطار على الوجع.. و'بحة' نور الشريف!

محمد سعيد 

لطالما كفكفت دموعي وأنا أشاهد فيلماً حزيناً، وانقبض صدري وأنا أتسمر أمام مشهدٍ سينمائي مروع، وتسارعت أنفاسي وأنا أتابع لقطة مثيرة ونابضة.. السينما تأسرني، وتهيمن على مشاعري، وتسلب مني الواقع، وتستبدله بعالم آخر مواز، أتوحد معه وأنا أحد صناعه، أتوه فيه وأنا عالم بأسراره.. ظننت منذ تعلقت بالسينما أنها الوحيدة القادرة على احتوائي، وأنني لن أخونها أبداً مع فنٍ آخر، مهما بلغ سحره وجماله.. لكن مسلسلاً تليفزيونياً غرر بي، واحتال على وجداني، واستدرج قلبي كي أضاجع مشاهده المؤثرة وقصته الفاتنة.. أنا الخائن!

(حارة) سامح عبد العزيز

كان الجسر الذي حملني من ملكوت السينما الخالد إلى دنيا التليفزيون العابرة هو سامح عبد العزيز.. اختطفني هذا المخرج الشاب بمهارة وحرفية من فيلمه (الفرح) إلى مسلسله (الحارة)، لأجد نفسي محاطاً بذات العذوبة والجاذبية السينمائية، ولكن بأدوات تليفزيونية بلغ التمكن منها ذروته.. (الفرح) الذي انتهى إلى (مأتم) في الفيلم، واصل في المسلسل كآبته، فالواقع التعيس الذي يعيشه سكان الحارات والأزقة في مصر هو ينبوع سامح عبد العزيز الذي نهل منه في الفيلم (2009) والمسلسل (2010) على السواء: الجدران هنا وهناك تمزعها نفس الشقوق والتصدعات، جروح البشر هي هي، الحزن المكتوم، الحسرة، الوجوه الخالية من المساحيق.. سامح عبد العزيز استعار من السينما ألوانها الخصبة، وزين بها حارته التليفزيونية الحزينة، فبدت الصورة كعروس تسير في جنازة..

ما أن يرتفع أذان المغرب، وأشرع في تناول فطوري، حتى تبدأ (الحارة) على إحدى القنوات المصرية.. أشرد كالعادة في كلمات التيتر بصوت المغني طارق الشيخ: آه يا زمان يا مفركشنا.. ماسبتناش ولا يوم عشنا.. عمال يوماتي تقرمشنا.. حتت حتت وتاكل فينا....' أمضغ الطعام ببطء وأنا أسبح في تلك الأبيات الجريحة، أتخيل كل يوم وجهاً جديداً لأحد البائسين الذين أعرفهم، وهو ينطق بها.. ثم سرعان ما أعود إلى اللقطات الحقيقية التي اختلستها كاميرا مدير التصوير جلال الزاكي من الحارات الشعبية في مصر القديمة، والوجوه التي سحقها القهر والفقر، لكنها مع ذلك تبتسم!!

ينتهي التيتر، وأدخل إلى الحارة الضيقة ذات البيوت المتلاصقة.. فأرى بائعة الخبز سوسن بدر، وهي تجمع فضلات القطن من أمام ورشة المنجد كي تحشو بها وسادة ومرتبة تُزوِّج بهما ابنتها، فيما تحاول صرف أحد الكلاب الضالة التي تطمع مثلها في قطعة قطن بالية.. ثم أراها وهي ذاهلة أمام الحريق الذي شب في قطنها يوم التنجيد المنتظر بسبب 'لمبة جاز'، يندفع سكان الحارة لإخماد الحريق إلا هي.. سعادتها انطفأت مع اندلاع اللهب، لسانها انعقد، دموعها تحجرت، لكن عينيها تصرخان في صمت، وتستحثان دموعي، فأترك الملعقة من يدي، وأعجز عن ابتلاع الطعام.. إنه إفطارٌ على الوجع!

أسمع نحيب سلوى خطاب، العانس التي تصعد على أكتاف المتظاهرين بحجة الهتاف، كي تُشبِع قليلاً من شهوتها.. إنها تبكي لأن الرضيعة ـ التي عثرت عليها ذات مساء بجوار سلة القمامة وأودعتها الملجأ ـ كبرت، واشتاقت لوالدها المجهول، وها هي تكتب له رسالة تلح على سلوى في تسليمها إليه.. تصفعني عبارات الرسالة، ويبهرني أداء الطفلة، وأصدق دموع سلوى خطاب...

يتردد صوت الشيخ تمام (صلاح عبد الله) وهو يعظ المصلين، ويردد بين فينة وأخرى: وحد الله من قلبك يا سِيدي! وأجد نفسي أستجيب، كما لو كنت أجلس بينهم في المصلى.. لا أتعاطف مع تشدده، لكنني لا أكرهه.. ولا أقتنع بخطابه الضحل، لكنني أرى في مريديه إيماناً حقيقياً به.. يدعوهم إلى الدين وهو الذي أخفق في تنشئة ابنه أحمد فلوكس عليه.. فلوكس يحيي أفراح الحارة، ومنها يحصل على فرصته الأولى كمطرب محترف.. يطرده الأب من منزله، ثم يسقط مغشياً عليه عندما يرى أفيشاً بصورته في الشارع.. أما زوجته عفاف شعيب فلا حول لها ولا قوة.. ترتدي واحدة من عباءتيها القاتمتين، وتتبعه في خضوع وذلة إلى أحد الجيران في الحارة للمواساة أو التهنئة..

هذه هي نيللي كريم بائعة المخدرات المحجبة، التي يدفع بها عشيقها أمين الشرطة باسم السمرة إلى السجن.. وها هو محمود الجندي الذي لا يفارق نرجيلة الحشيش.. ومحمد أحمد ماهر الذي أدمن اصطياد الفتيات عبر الإنترنت.. وسلوى محمد على الجارة المسيحية الودودة.. وفتوح أحمد الذي طبع بصمات والده الميت على مبايعات وهمية ليستولي على إرث شقيقته.... وجوه مصرية، لا يجمع بينها سوى الاحتياج والطموح المتعذر.. ونسيجٍ درامي أجاد حياكته السيناريست أحمد عبد الله، ونفخ فيه الروح مهندس الديكور إسلام يوسف..

عندما تنتهي الحارة، عادة ما أنظر إلى أطباقي فأجدها كما هي، لكنني أكون قد فقدت شهيتي، ليس فقط إشفاقاً على أبطالي التعساء، وإنما ندماً على خيانتي للسينما... لولا أن الحارة تستحق!

(عار) مصطفى شعبان

قبل منتصف الليل، تنادي عليّ أمي: العار حتبدأ..! أترك كتبي وأوراقي، وأخرج من كهفي، بينما أسمع كلمات أيمن بهجت قمر بصوت المطرب آدم في التيتر: قولوا للي أكل الحرام يخاف.. بكره اللي كله يفسده.. يابا الغني بالحرام لو شاف.. ابن الحلال يحسده...

تناسب هذه القصة أيامنا هذه.. كما كانت تناسب بداية الثمانينات ـ وقت ظهورها في الفيلم لأول مرة ـ عندما كان المرتزقة يتكالبون على حصد ثمار الانفتاح.. اليوم يخشى الأغنياء من نضوب ينابيع الثراء، ويشتد الجوع على المحرومين فيأكل بعضهم الحرام.. صارت حكاية (العار) مثل آدم وحواء.. قصة سارية المفعول في كل زمان ومكان، يطوّعها للمسلسل هذا العام السيناريست أحمد محمود أبوزيد عن فيلم والده الذي حمل نفس العنوان عام 1982، لكن بأحداث مختلفة، وأبطالٍ حاول بعضُهم محاكاة الأصل ففشل، وتعاطى البعض الآخر مع جوهر القصة فنجح بأدائه في إحياء حكمتها.. ولو وزعتُ الأبطالَ الجدد على سلم الإقناع، ستحتل عفاف شعيب (الأم) الدرجة الأولى بلا شك، يليها حسن حسني (الأب) في الدرجة الثانية، ثم أحمد رزق (سعد) في الدرجة الثالثة.. بينما أفرط شريف سلامة (أشرف) في التظاهر بالحزن والفتور، فبدا مملاً ومنفراً.. كما أسرف مصطفى شعبان (مختار) في تقليد نور الشريف، فحرم نفسه من شخصية جديدة في مسيرته الفنية كان يمكن أن يثريها وتثريه.. والأمر نفسه ينطبق على الممثلة التونسية درة (سماح)، التي تفتقد أساساً لموهبة التمثيل، فاجتهدت في نسخ شخصية الفنانة نورا، التي جمعت في الفيلم بين جمال ونبل بنت البلد، لكن لا أفلحت درة في المحاكاة، ولا نجحت في اقناعنا ـ على الأقل ـ بأنها مصرية..

أتابع المسلسل لأنني أحببت الفيلم، وأود أن أترك المقارنة بينهما للنهاية، لكنني أشعر في مشاهد مصطفى شعبان بأنني أتجرع دواء مراً.. بحة صوته تستفزني، وتحديقة عينيه تثير اشمئزازي.. يحاول المسكين أن يتقمص بهما شخصية نور الشريف في الفيلم، لكن هيهات.. هذا هو مصير كل من أراد أن يختصر الطريق بسرقة إبداعات الآخرين، وهذا هو العار الحقيقي في المسلسل...

استرجل

بين كل فاصل إعلاني وآخر، فاصل إعلاني.. القنوات المصرية مصابة بحمى الإعلانات منذ فترة، لكنها في رمضان تتحول إلى هستيريا بلا حدود، ويأمل التليفزيون المصري في أن يتجاوز عائد إعلاناته هذا العام 150 مليون جنيه (حوالي 30 مليون دولار).. وهو ما يفسد على المشاهد متعة مواصلة أحداث المسلسل دون انقطاع، فيضطر مثلي لمشاهدة الإعلانات رغماً عن أنفه، حتى لو كان أحدها ينصحه بتناول مشروب من الشعير، ثم يأمره مستنكراً بصوت أجش: استرجل!! أو يزايد بدموع سيدة فقيرة فازت برحلة عمرة من شركة لمساحيق الغسيل، فتقول وقد احمرت وجنتاها من الانفعال: هذا المسحوق حاسس بينا!! أو إعلانٌ يجمع خمس نجوم يرددون جملة موسيقية رقيقة تستمتع بها، إلى أن تسأل نفسك فجأة: يا ترى كم تقاضى كل من هؤلاء في هذا الإعلان؟ فتشعر بخيبة الأمل!! الإعلان الوحيد الذي يستحق المشاهدة والتقدير هذا العام لعب بطولته ماجد الكدواني، ليس فقط لعفويته في الأداء، ولكن لفكرته المبنية على رغبته في الاستفادة بما يحتاج إليه فقط.. فإذا كان لا يقرأ صفحات الرياضة، لم لا يسمح له البائع بشراء نصف الصحيفة فقط؟ وإذا كان نصف البطيخة أقرع، فلم لا يكتفي بشراء نصفها الأحمر؟!!

كاتب من مصر

القدس العربي في

02/09/2010

جميع الحقوق محفوظة لموقع سينماتك
  (2004 - 2010)