حول الموقعخارطة الموقعجديد الموقعما كـتـبـتـهسينما الدنيااشتعال الحوارأرشيف الموقع 

نصف قرن على إنشاء التلفزيون المصري

السيد الغضبان يكتب :

التليفزيون المصري بعد نصف قرن

·     الجماهير فقدت الثقة فيه > قنوات حديثة تتفوق عليه؟! > الفساد ومافيا الإعلان يسيطران على ماسبيرو> مذبحة الإذاعيين عام 1971 فتحت الأبواب لمن لا يملكون الموهبة > الإنقاذ ممكن إذا توافرت الإرادة السياسية

في يوم الحادي والعشرين من شهر يوليو عام 1960 وفي أجواء الاحتفالات بعيد ثورة يوليو، تجمع أفراد الأسر المصرية التي اقتنت الصندوق السحري لتركز عيونها علي الشاشة الصغيرة انتظاراً للحظة المثيرة التي يشاهدون فيها أول بث تليفزيوني للبرامج والأغاني والأفلام بعد أن ظلوا لعدة أسابيع يشاهدون علي هذه الشاشة صورة ثابتة للأهرامات وأبي الهول.

هذه البداية سبقتها أشهر طويلة من الإعداد تولت خلالها الهندسة الإذاعية بقيادة رئيسها ومنشئها المهندس صلاح عامر، تولت مهمة تركيب الهوائيات الخاصة بالبث ومحطات التقوية وإنشاء الاستوديوهات والتجهيزات الهندسية التي يتطلبها البث التليفزيوني.

وبالتوازي مع هذه الجهود الهندسية بدأ العمل لإعداد الكوادر البشرية التي ستتحمل مسئولية الأعمال البرامجية، إنتاجاً وتقديماً علي الشاشة.

تشكلت المجموعة الأولي التي أسندت إليها هذه المهمة من عدد من الإذاعيين المتميزين، وتولي قيادة هذه المجموعة الأستاذ عبدالحميديونس، وكان يشغل منصب مدير عام البرامج بالإذاعة، يعاونه الأساتذة محمد محمود شعبان (بابا شارو) وأنور المشري وسعد لبيب وعباس أحمد وتم اختيار عدد من مذيعات ومذيعي الإذاعة منهم السيدات سميحة عبدالرحمن وسميرة الكيلاني وهمت مصطفي وصلاح زكي وأحمد فراج وتم إيفاد بعثات للخارج للتدريب علي الإخراج وعلي مختلف فنون إنتاج وإخراج وتقديم البرامج.

وقبيل بدء البث اختلف محمد محمود شعبان وأنور المشري مع السيد محمد عبدالقادر حاتم حول أمور مهنية، وكانت النتيجة أن أطاح حاتم بالرجلين فعاد محمد محمود شعبان إلي موقعه بالإذاعة، أما أنور المشري فقد نقله حاتم إلي وزارة التربية والتعليم.

هكذا بدأ البث التليفزيوني في مصر.. وبعد مضي عام كامل تم إطلاق القناة الثانية (21 يوليو 1961).. وتم التخطيط لتكون القناة الثانية متخصصة في تقديم المواد الثقافية رفيعة المستوي، مع تقديم نشرات أخبار باللغتين الإنجليزية والفرنسية.

وظلت القناتان الأولي والثانية وحدهما علي الساحة لأربع وعشرين عاماً كاملة عندما بدأت القناة الثالثة بثها في السادس من أكتوبر عام 1985، وقد رؤي أن تكون القناة الثالثة قناة محلية تعني بشئون القاهرة الكبري، وتتالي بعد ذلك إطلاق القنوات المحلية وكانت القناة الثامنة هي آخر القنوات المحلية التي أطلقت عام 1996.

الطفرة في عدد القنوات

مع بداية التطلع للبث الفضائي وإطلاق القمر العربي عرب سات Arab sat قرر وزير الإعلام (صفوت الشريف) إطلاق قناة النيل الدولية الناطقة بالإنجليزية والفرنسية لمخاطبة الرأي العام الأوروبي والأفريقي عبر البث الفضائي وأطلقت قناة النيل الدولية في عيد الإذاعة (31 مايو 1994).. وبعد عامين قررت مصر إطلاق أول فضائية عربية ليبدأ بث هذه القناة في أول يونيو 1996.

وبعد أن أطلقت شبكة ART قنواتها المتخصصة قرر وزير الإعلام إطلاق عدد من القنوات المتخصصة، وعندما بدأ بث القنوات المتخصصة في أكتوبر عام1998 كان عدد هذه القنوات إحدي عشرة قناة، وقد أضيفت لها في العامين الأخيرين أكثر من ثماني قنوات.

ويبلغ عدد ساعات البث لجميع القنوات المصرية الرسمية ما يزيد علي السبعمائة ساعة يومياً، والسؤال الذي يفرض نفسه علي ضوء هذه الحقائق هو: لا يستطيع منصف أن يقدم إجابة علي هذا التساؤل تتضمن حكماً عاماً علي مجمل أداء التليفزيون خلال نصف القرن المنصرم، وإذا أردنا أن نتعرف بقدر معقول من الموضوعية علي أداء هذا الإعلام وعلي تأثيره، فإنني أري أن هذا الأداء وذلك التأثير تفاوت بدرجات ملحوظة خلال هذه السنوات، ونستطيع بغير تجاوز للتقييم الموضوعي أن نقسم الأداء والتأثير إلي خمس مراحل زمنية لكل منها ظروفه التي أثرت سلباً أوإيجاباً في الأداء والتأثير.

المرحلة الأولي

انبهار.. وثقة

وتبدأ هذه المرحلة منذ أيام البث الأولي وحتي يوم الهزيمة الكبري في الخامس من يونيو عام 1967، في هذه السنوات كانت المشاعر القومية قد بلغت الذروة.. وكانت الجماهير في مصر تحلق في سماء الآمال القومية، والطموح المنطلق إلي أبعد مدي في إمكانية تحقيق نصر حاسم علي العدو الإسرائيلي وتحقيق وحدة عربية شاملة، وإنجاز مشروعات عملاقة للتنمية، وكان التليفزيون يغذي هذه الطموحات بأداء مهني متميز في مجال البرامج الثقافية والفنية ويسخر هذه البرامج لتعبئة المشاعر الجماهيرية في اتجاه دعم السياسات التي تتبني تلك الطموحات، وتوافقت أحلام وطموحات الجماهير العريضة مع ما يبثه التليفزيون، وتغاضت الجماهير عن الرقابة الصارمة المفروضة علي «الأخبار» المتعلقة بالسياسات الداخلية والخارجية في غمرة الحماس المتدفق لتحقيق الأحلام والطموحات التي كانت القيادة السياسية تبشر بها وكان التليفزيون يدعو لها ويؤكد أن تحقيقها أصبح قاب قوسين أو أدني.

وفي هذه الفترة لم يكن التطور التكنولوجي في وسائل البث والاستقبال التليفزيوني يسمح للمواطنين بمتابعة أي بث تليفزيوني من خارج حدود مصر، وأضاف هذا الوضع عنصراً إضافياً ساهم في تمكين التليفزيون المستأثر وحده بالساحة، من تثبيت ثقة الجماهير فيما يبثه، فضلاً عن حالة الانبهار الطبيعية التي تصاحب ظهور مثل هذه الوسائل الجديدة، خاصة أنها ـ أي هذه الوسائل ـ تقدم للمشاهد الصورة الحية المبهرة.

ولا يمكن في هذا المجال أن نغفل الدور المهم للكوادر البشرية التي تولت مسئولية العمل في التليفزيون في تلك المرحلة، فقد تم اختيار الإذاعيين الموهوبين والذين يملكون الخبرة الممتازة والمستوي الرفيع من الثقافة واستطاع هؤلاء أن يقدموا الأعمال التليفزيونية بدرجة عالية من الحرفية وأن ينقلبوا علي النقص الخطير في مجال التدفق الحر للأخبار والمحاذير الكثيرة التي تحاصر الاقتراب من الموضوعات السياسية التي لا يرضي عنها نظام الحكم، وكانت وسيلتهم لذلك العناية الفائقة بثقافة التنوير وبتقديم الفنون الراقية التي ترتفع بالذوق العام.

المرحلة الثانية

الانكسار.. وفقدان الثقة

كان يوم الخامس من يونيو يوماً حاسماً انتهت فيه حالة الثقة في كل شيء.. تحت تأثير الهزيمة المزلزلة واكتشاف أكاذيب القيادات وبالتبعية ترديد الإعلام لهذه الأكاذيب، فقدت الجماهير الثقة في الإعلام والتليفزيون إحدي حلقاته المهمة، وانهارت الأحلام العريضة التي ارتبطت بمرحلة المد القومي وحركة التنمية.

وبذل العاملون بالتليفزيون جهوداً مضنية في محاولة لاستعادة بعض الثقة المفقودة، وفي سبيل تحقيق هذا الهدف تقدموا لوزير الإعلام ـ آنذاك ـ الأستاذ محمد فائق بعدد من المطالب التي يرون أنها تساهم في نجاح محاولاتهم لاستعادة بعض ثقة الجماهير، وكان أبرز هذه المطالب التي تمت الموافقة عليها:

1 ـ التخفيف من القيود الصارمة المفروضة علي الأخبار والسماح بقدر معقول من بث أخبار كانت تعتبر من قبل من المحظورات، وإتاحة الفرصة لشخصيات معارضة بالظهور علي شاشات التليفزيون، خاصة في البرامج الثقافية والفنية.

2 ـ السماح بقدر معقول من انتقاد أداء وممارسات السلطة التنفيذية خاصة علي مستوي المحليات.

3 ـ عدم إذاعة الأناشيد التي تتغني بشخص عبدالناصر والتركيز علي الأناشيد الوطنية التي تدور حول كفاح الشعب المصري في مختلف مراحل التاريخ.

ولم تستطع هذه الجهود أن تستعيد ثقة الشعب المفقودة بدرجة كبيرة، وظلت هذه الثقة مهتزة علي أحسن الأحوال.. غير أن الجماهير كانت مضطرة لمتابعة التليفزيون، خاصة متابعة المواد الترفيهية والثقافية وفي مقدمتها الأعمال الدرامية باعتبار التليفزيون هو وسيلة الترفيه غير المكلفة خاصة بالنسبة للجماهير العريضة.

وأدرك العاملون في التليفزيون هذه الحقيقة فتم التركيز علي هذه المواد.

تدمير العنصر البشري

لا يجادل من يملك الحد الأدني من الخبرة في مجال الإعلام في اعتبار العنصر البشري أهم عنصر في مجال النشاط الإعلامي، وهو العنصر المحوري الذي يرتفع بأي نشاط إعلامي إلي ذروة النجاح أو يهبط به إلي قاع الفشل.

وقد شهد شهر مايو 1971 مذبحة هائلة للإذاعيين في الإذاعة والتليفزيون، فقد تولي السيد محمد عبدالقادر حاتم منصب وزير الإعلام بعد استيلاء الرئيس السادات علي الحكم، فيما عرف بحركة التصحيح، كما أطلق عليها السادات.

وكان أول عمل قام به السيد حاتم فصل ونقل أكثر من مائة وخمسة وعشرين من القيادات العليا والوسطي في الإذاعة والتليفزيون، وكانت هذه المجموعة تمثل النخبة من أصحاب الخبرات والمواهب المتميزة.

ولملء هذا الفراغ تم تعيين عدد كبير من العاملين أكثرهم لا يملك الخبرة ولا الموهبة التي تؤهله للعمل في هذا المجال، وقفزت إلي مواقع القيادة كوادر لم تكتمل خبرتها.

وكانت النتيجة الطبيعية لهذه الأوضاع عدم قدرة هذه الكوادر البشرية علي أداء العمل بنفس الكفاءة والمقدرة والخبرة التي كانت السمة المميزة للكوادر التي أطاح بها السيد محمد عبدالقادر حاتم، وقد احتفظ للتليفزيون ببعض الأعمال المتميزة نتيجة لوجود عدد من الكوادر المتميزة التي تمرست بالعمل واكتسبت الخبرة تحت رعاية الكوادر والقيادات التي تم إبعادها.

المرحلة الثالثة

استعادة الثقة مؤقتاً

من الأيام الفارقة والتي حددت بشكل حاسم بداية مرحلة ونهاية مرحلة، يوم السادس من أكتوبر عام 1973، في هذا اليوم بدأ العبور العظيم لجيش مصر في افتتاحية رائعة لمعركة التحرير، ونقل التليفزيون أخبار بداية الحرب وتطوراتها بدرجة عالية من الصدق والموضوعية، وارتفعت معنويات الشعب إلي عنان السماء، وتركزت العيون كلها علي شاشات التليفزيون تتابع بفرحة غامرة وشعور عميق بالفخر تطورات القتال، وكانت أخبار النصر العظيمة لجيش مصر تمسح من النفوس آثار الهزيمة المذلة التي تجرعها شعب مصر.

استعاد التليفزيون ثقة الجماهير، وفي هذه المرحلة لم تستثن الجماهير نشرات الأخبار أو البرامج السياسية من ثقتها، بل منحت هذه الثقة لمجمل ما يبثه التليفزيون.

بداية اهتزاز الثقة من جديد

ظلت الجماهير تمنح ثقتها للإعلام عامة، وللتليفزيون حتي بعد وقف إطلاق النار وبدء المفاوضات التي عرفت بمفاوضات الكيلو 101، كانت الجماهير تتطلع لليوم الذي يتم فيه تحرير كامل التراب المصري، ولم ترفض أن يتم التحرير بالتفاوض وبشروطنا كمنتصرين، ولهذا ظلت ثقتها قائمة وهي تتابع أنباء التفاوض في كل مراحله.

وجاءت لحظة فارقة جديدة يوم أعلن السادات ذهابه إلي القدس، وعادت الرقابة الصارمة لتفرض علي التليفزيون قيوداً حديدية لمنع أي إشارة تحمل شبهة معارضة لسياسة السادات، ولم يكن من السهل علي الجماهير التي ترسخ في وجدانها شعور عميق بالعداء لإسرائيل، لم يسهل علي هذه الجماهير تقبل هذه الزيارة وما يمكن أن يليها من تصالح مع العدو الاستراتيجي، وكان التليفزيون شأنه شأن الإعلام الرسمي بعامة يروّج لهذه الاتجاهات الجديدة الصادمة لمشاعر الجماهير وكان طبيعياً أن يفقد التليفزيون ثقة الجماهير من جديد، وحاول التليفزيون أن يعوض هذه الثقة المفقودة في المجال السياسي بالاهتمام المبالغ فيه بالمواد الترفيهية بكل أشكالها ليجذب الجماهير، ولم تكن أمام الجماهير فرصة لمتابعة مثل هذه المواد الترفيهية علي شاشات أخري فقد كان البث الفضائي بعيداً عن الساحة العربية.

وبدا أن الثقة التي أولتها الجماهير للتليفزيون خلال أيام المعركة قد بدأت تهتز بقوة.

المرحلة الرابعة

الثقة المفقودة مرة أخري

تبدأ هذه المرحلة بإعلان السادات توقيع معاهدة الصلح مع إسرائيل وإعلان الدول العربية مقاطعة مصر، في هذه الأيام كان رد فعل السادات بالغ العنف سواء في مهاجمته للدول العربية أوفي محاولة إحياء نعرة عنصرية فرعونية.

وكان طبيعياً أن يستخدم السادات كل أسلحته المتاحة في صراعه هذا مع الدول العربية، والإعلام أحد أهم أسلحته، وتحمل التليفزيون مسئولية الترويج لهذه السياسات التي تتصادم بطبيعتها مع الكثير من القيم والقناعات المستقرة في ضمير الشعب المصري، وإذا بالثقة المهتزة تنهار تماماً، وتتعامل الجماهير مع التليفزيون باعتباره بوقاً للدعاية وليس وسيلة إعلامية، وزاد من عدم ثقة الجماهير في التليفزيون انهيار واضح في المستوي الفني والمهني في الأداء في معظم المواد التي يقدمها التليفزيون سواء منها المواد الثقافية أو الترفيهية.

وبدأت «مافيا الفساد» تفرض سلطاتها علي التليفزيون بقوة، وانعكس انتشار الفساد بهذا الشكل السرطاني علي الأداء، وعلي مستوي المادة التي يبثها التليفزيون.

مافيا الإعلان والفساد

في هذه المرحلة بدأت أخطر آفات تدمير التليفزيون في فرض سلطتها بقوة، وتضافرت قوتان «مافيا المنتج المنفذ» و«مافيا الإعلان» لتوجه الضربة القاضية للتليفزيون، سواء علي مستوي ثقة الجماهير أو علي مستوي الأداء في جميع المجالات الترفيهية والثقافية.

أما «مافيا المنتج المنفذ» فقد تكفلت بتوجيه ضربة قاصمة للإنتاج الدرامي المصري، فأبناء كبار المسئولين بوزارة الإعلام، وعدد من محترفي إفساد الذمم تولوا تحويل الإنتاج الدرامي، خاصة المسلسلات إلي ساحة لنهب الملايين من المال العام، ولم يكن من الممكن نهب هذه الملايين إلا في ظل تقديم أعمال هابطة، والمؤسف أن «مافيا المنتج المنفذ» هذه تشكلت من عدد من أبناء وأقارب كبار القيادات بوزارة الإعلام.

أما «مافيا الإعلان» فقد قضت علي البقية الباقية من المستوي الفني للأعمال الدرامية وتعدتها إلي البرامج، وقد تحالفت مافيا المنتج المنفذ ومافيا الإعلان، بل إن بعض أبناء كبار المسئولين بوزارة الإعلام جمعوا بين عضوية القوتين المدمرتين.

واستسلم المسئولون في اتحاد الإذاعة والتليفزيون تماماً لسطوة مافيا المنتج المنفذ ومافيا الإعلان، بل وشارك بعضهم في عمليات النهب التي مارستها هذه المافيا.

ومع انهيار المستوي الفني للأعمال الدرامية وللبرامج فقد التليفزيون قدرته علي جذب الجماهير لهذه المواد التي كانت تتكفل بإبقاء بعض الجاذبية للتليفزيون، رغم فقدان الثقة في الموضوعات السياسية.

التوسع العشوائي

أمام حالة الانهيار المهني للتليفزيون، تصورت قيادات وزارة الإعلام أن «التوسع» في إطلاق قنوات تليفزيونية يمكن أن يكون حلاً لجذب الجماهير، وذلك بفرض الحصار علي هذه الجماهير بكم هائل من القنوات تبث مئات الساعات علي مدار اليوم الواحد.

وفتحت الأبواب علي مصراعيها لأعداد هائلة يحتاجها العمل في هذه القنوات، والغالبية العظمي ممن تولوا العمل لا يملكون أدني حد من المقومات التي يتطلبها العمل الإعلامي في التليفزيون.

المرحلة الخامسة

التنافس.. والفشل

مع بدء البث الفضائيي انتهي احتكار التليفزيون المصري لساحة البث، وأطلقت الدول العربية ورجال الأعمال وغيرهم مئات القنوات التليفزيونية التي تقدم للمشاهد في كل مكان بالوطن العربي آلاف الساعات من البرامج السياسية والأعمال الترفيهية والثقافية بكل أنواعها.

في هذه الظروف أصبح المشاهد المصري والعربي قادراً علي الاختيار من بين مئات القنوات والآف من ساعات البث ومئات البرامج، وتنافست هذه القنوات لتقدم للمشاهد العربي ما تري أنه يلبي حاجاته ورغباته.

ففي الشأن السياسي ظهرت قناة «الجزيرة» لتكسر كل الخطوط الحمراء وتبث كل الأخبار المحظورة، وكان طبيعياً أن تجذب هذه النوعية من الأخبار والموضوعات السياسية الجماهير العريضة في مصر، وظهرت القنوات المنافسة للجزيرة كقناة العربية (السعودية، والحرة الأمريكية، والـBBC الإنجليزية، وروسيا اليوم «الروسية»، وفرانس 24 «الفرنسية» والقناة الألمانية والتركية والصينية».. وغيرها، هذا الكم الهائل من القنوات المعنية بالشأن السياسي في المحل الأول والتي تسمح بالتدفق الحر للأخبار بدرجة كبيرة سحبت البساط تماماً من تحت أقدام التليفزيون المصري الذي لم يزل مكبلاً بأغلال رقابية صارمة فيما يتعلق بالأخبار، خاصة الأخبار المتعلقة بالمشكلات الداخلية، وكانت النتيجة الطبيعية أن توجهت الجماهير المصرية إلي هذه القنوات لمتابعة الأخبار عامة والأخبار الداخلية المصرية التي لا يقدمها التليفزيون المصري.

وعلي صعيد البرامج والمواد الترفيهية والثقافية، فقد استطاعت قنوات غير مصرية توجيه ضربة قاضية للتليفزيون المصري، تمثلت هذه الضربة في شراء بعض هذه القنوات للأفلام السينمائية المصرية واحتكار هذه القنوات لبث تلك الأفلام، وحرم التليفزيون المصري من ثروة فنية هائلة تجذب ملايين المشاهدين المصريين والعرب.. ولم يكتف المسئولون بذلك، بل قام اتحاد الإذاعة والتليفزيون ببيع كم هائل من الأغاني النادرة التي تعتبرها أي مؤسسة ثقافية أو إعلامية كنزاً لا يمكن التفريط فيه، وكانت النتيجة هذه المرة أيضاً حرمان التليفزيون المصري من امتلاك مادة شديدة الجاذبية من الممكن أن يستخدمها لجذب الملايين.

أضاع المسئولون في مصر وفي التليفزيون هذه الكنوز النادرة والتي تمنح من يملكها فرصة هائلة للمنافسة علي جذب ملايين المشاهدين، وحرم التليفزيون المصري من مادة مصرية جذابة كان يمكن أن تعوضه بعضاً من النقص الذي يعانيه.

ويضاف إلي هذه التصرفات الكارثية عجز التليفزيون المصري عن المنافسة في مجال احتكار بث البطولات العربية والإقليمية والعالمية لكرة القدم وهي مادة شديدة الجاذبية للجماهير المصرية.

فماذا تبقي للتليفزيون المصري بعد أن فقد المادة الجذابة في مجال الترفيه والثقافة وعجز عن تقديم الأخبار بحرية، وتقديم المادة السياسية بموضوعية؟!، والمؤسف أن التليفزيون المصري يمثل موقعاً متواضعاً للغاية في قائمة القنوات التليفزيونية العربية، وهو المؤسسة التي أنشئت منذ نصف قرن وكانت تضم الخبرات التي تسعي إليها جميع المؤسسات العربية.. ويسبق التليفزيون المصري في هذا التنافس قنوات لم يمض علي إطلاقها سوي سنوات تعد علي أصابع اليد؟!

هل من حل؟!

يبذل المسئولون باتحاد الإذاعة والتليفزيون جهوداً كبيرة في محاولة لاستعادة بعض الثقة المفقودة وبعض التأثير الزائل، غير أنني أري أن هذه الجهود تسلك طريقاً لا يستطيع معه التليفزيون أن ينهض من كبوته.. فجهودهم تتركز علي محاولة المنافسة في مجال الأعمال الترفيهية عامة والدرامية خاصة، ويتصورون أنهم يستطيعون اعتماداً علي جذب الإعلانات أن يحتكروا بعض هذه الأعمال. والمؤكد أن المنافسين العرب لديهم قدرة أكبر في هذا المجال، الحل الصحيح يحتاج إلي إدراك واع وإلي معرفة بكيفية الاستفادة من الخبرات المهنية المصرية التي تستطيع قطعاً أن تنقذ التليفزيون من حالة الانهيارالتي يعانيها، وأن يستعيد التليفزيون عافيته، بل ويسترد مكانته عربياً.

والحل يحتاج إلي رغبة سياسية حقيقية في إنقاذ التليفزيون وإلي قرارات سياسية شجاعة وإلي عقد مائدة مستديرة يتشاور فيها خبراء المهنة ويتداولون المقترحات، أما الاجتهادات الفردية لبعض المسئولين فمع كل التقدير لها فإنها ستظل اجتهادات مقصورة ولن تتمكن من إنقاذ التليفزيون.

الدستور المصرية في

13/07/2010

جميع الحقوق محفوظة لموقع سينماتك
  (2004 - 2010)