حول الموقعخارطة الموقعجديد الموقعما كـتـبـتـهسينما الدنيااشتعال الحوارأرشيف الموقع 

رحيل الكاتب أسامة أنور عكاشة

طارق الشناوي يكتب :

شنطة سفر إلى العالم الآخر!!

قبل نحو عامين كان «أسامة أنور عكاشة» قد غادر لتوه المستشفي بعد أن استرد بعض صحته حيث أجري عملية استئصال جزء من الكلي.. وقتها قالت لي مذيعة التليفزيون «عزة مصطفي» إنها بصدد حلقة في برنامجها «حوارخاص جداً» مع «أسامة» وقد طلب منها أن أوجه له سؤالاً!!

بيني وبين «أسامة» الكثير من المشاغبات الصحفية.. كان «أسامة» في مرحلة زمنية عندما يقرأ مقالاً ينتقد عملاً له يسارع بالرد وفي العادة الرد يستتبع أيضاً التعقيب وندخل في دائرة لا تنتهي.. ورغم ذلك فإن هذا الجدل بيننا لم يسفر سوي عن مزيد من التلاقي الفكري إلي درجة أننا ظللنا علي مدي 15 عاماً كلما أقامت قصور الثقافة لقاء رمضانياً لأسامة يتم اختياري لمحاورته.. بدون أن يقصد أو أقصد، وتغيرت طبيعة «أسامة» ولم يعد حريصاً علي الرد، كان يكتفي بأنه قد قدم عمله الفني وهو الذي يتولي الرد بالنيابة عنه.. أتذكر أنني كتبت مقالاً عقدت من خلاله مقارنة بين مسلسلي «الحاوي» لمحسن زايد و«أهالينا» لأسامة أنور عكاشة، وكان العنوان «الحاوي بنار الفرن وأهالينا من الديب فريزر».. كان المعني الذي قصدته هو أن «أسامة» يستدعي بعض أفكار شخصيات من مخزونه الإبداعي القديم ليعيد تقديمها في عمل فني جديد.. اختلفت مع بعض مسلسلاته ولكنني مع الزمن عندما تتحول النظرة الأحادية إلي نظرة بانورامية لإبداع «أسامة» فأنا لا أري مسلسلاً ولكن خريطة متكاملة لمدرسة متفردة صنعها هذا المبدع.. ومع تعاقب السنوات اكتملت رؤية «أسامة» وظل بالنسبة لي هو الكاتب الدرامي الأول بحكم التراكم الذي حققه عبر السنوات والقفزات، حيث لم يستطع أي كاتب آخر أن يصل إلي هذا الكم من النجاح فهو الغزارة التي تمتزج بالثراء الإبداعي.. كنت وما زلت أري أن كل مبدع يخضع لحالات متباينة، قد ينجز عملاً فنياً معتقداً أنه الذروة التي ما بعدها ذروة ثم تأتي الحصيلة النهائية بالسلب.. الصورة الإبداعية أراها وقد اكتملت بعد أن وصل إلي خط النهاية.. إنه الكاتب النجم الأول بلا منازع، هذه حقيقة لا يستطيع أحد أن يقفز فوقها أو يتجاهلها لسبب أنها تخضع للرقم.. «أسامة» لم يكن يوماً صوتاً للدولة ولم يقبل أن يتم وضعه تحت مظلة صوب الدولة التي تحيل المبدع إلي آلة تخدم النظام، كانت لدي «أسامة» قناعة بأنه ينبغي أن يظل صوت نفسه.. صحيح أنه دفع الثمن لأنه كثيراً ما اصطدم بالدولة.. حتي إن حلمه لتقديم فيلم عن حرب أكتوبر ورغم أن كل المؤسسات السيادية قد وافقت ومنحت ضوءاً أخضر للفيلم فإن هجمة شرسة تعرض لها قالت إنه ليس ساداتياً وأكتوبر محسوب للرئيس «السادات» فكيف يكتب فيلماً عن انتصار أكتوبر؟!.. ولم يكن «عكاشة» ضد «السادات» ولا يمكن أن يغفل أيضاً حقيقة تاريخية لكنهم انتصروا عليه وقتلوا مشروعه وظل هذا الجرح غائراً.. كان «أسامة» يقول دائماً إنه يقدم أكتوبر من خلال الجندي الذي حارب وليس رصداً للقادة الذين اتخذوا القرار.. ولم تفلح محاولاته وواصل المشوار رغم آلام الجرح.. نجح «أسامة» أن يراهن علي الإبداع وأن يجد لنفسه متنفساً، صحيح أنه كان يقف في منطقة متوسطة، حيث لم يصطدم بالنظام وأيضاً لم يسمح للنظام بأن يغتاله فكرياً.. لم يقل كل شيء وأيضاً لم يقل ما يريده النظام، كان يعلم أن البعض مسموح به وليس الكل ومن حقه تحقيق بعض أحلامه فقط، وفي ظل غطاء من الدولة قال ما يستطيع في إطار هذا المناخ.. إنها القيمة التي تستطيع النفاذ في الصخر.. لم يكن كل إبداع «أسامة» يستهويني ولكن ظللت لديَّ هذه الصورة التي رسمها «أسامة».. قلت إنه أقام حدائق إبداعية مترامية الأطراف لها سور وأن أغلب من كتب دراما بعد «أسامة» أخذ بعض ثمرات هذه الحديقة وأن المطلوب أن يأتي جيل يقفز فوق السور الذي صنعه.. علي الجانب الآخر كان «أسامة» يعتقد أنه لم يبن سوراً ولكنه وضع علامات علي الطريق، وأضاف إذا كنت بنيت سوراً فأنا أعلم جيداً أن الزمن القادم قادر علي أن يخلق مبدعين وجيلاً آخر يقفز فوقه.. وحكي «أسامة» عبر نفس البرنامج أن أحد أصدقائه قال له لديك «زير» وكل من جاء بعدك ألقي «كوز» وأخذ ما تيسر.. قلت لأسامة وأنا أتحسس كلماتي وحتي لا أخون الحقيقة إنه مسافر إلي رحلة الخلود ووضع في حقيبته كل مسلسلاته البالغ عددها 43 مسلسلاً ولكن المسئول عن إنهاء إجراءات السفر قال له ينبغي أن تتخلص من ثلاثة مسلسلات لأن الوزن زائد وعليك أن تسارع بإنهاء الإجراءات علي الفور قال «أسامة» للمذيعة "طارق" يقصد أكثر من ثلاثة مسلسلات طلبت منه المذيعة أن يذكر أسماء أجابها أنه سوف يترك الحقيبة كلها ويصعد للطائرة غير مثقل بهذه الأحمال ويكتب هناك في عالم الخلود مسلسلات أخري.. أتذكر مرة في برنامج قديم في الإذاعة أن "نجاة" سألت الشاعر «كامل الشناوي» عن الصفة التي يسافر بها للخلود هل يحمل أشعاره أم مقالاته كصحفي؟ أجابها أسافر كشاعر وهناك أمارس الصحافة.. «أسامة» مارس أيضاً الكتابة الصحفية ولكنه لن يصطحب معه شيئاً به ربما قال ذلك كنوع من الهروب فهو لا يريد أن يضحي بأي عمل فني كتبه.. هو يدرك أن بعض الأعمال متواضعة فنياً إلا أنه في نفس الوقت لا يريد إحراج من شاركوه فيها أو يحملهم المسئولية وانتهي الأمر إلي أنه قال إن من بين كل هذه المسلسلات يعيش له في التاريخ 20 مسلسلاً وهو ما يقترب من 50% من مجموع مسلسلاته وربما أنا أري أن ما تبقي لأسامة 30 مسلسلاً نشاهدها مع الزمن وأيضاً نستمتع بها هذه هي قناعتي وهي نسبة ضخمة لا أتصور سوي قلة فقط حققوها.. لو راجعت أفلام «صلاح أبو سيف»، «يوسف شاهين»، «كمال الشيخ»، «عاطف الطيب» لن تجد أحداً قد تجاوز هذه النسبة بين أعمالهم القادرة علي الحياة.. ويظل أن رهان المبدع يصطدم عادة بمحاذير عديدة وهو يراوغها هنا أو هناك.. «أسامة» في حياته كان حزيناً علي مسلسل راهن عليه كثيراً وجاء فشله كبيراً أيضاً إنه «لما التعلب فات» لم يحدث أن شعر «أسامة» بخسارة إصابت قيثارته الإبداعية إلا مع الهزيمة التي مني بها هذا المسلسل وهو أول لقاء بين النجمين الأقرب إلي «أسامة» هو نفسه يقول دائماً إنهما الأكثر إبداعاً «محمود مرسي» و«يحيي الفخراني» وبعد أن ينجح في أن يجمعها معاً ثم يفشل كان هناك قصور في الرؤية التلفزيونية للمخرج «محمد النجار» فلم يستوعب التفاصيل.. رغم ذلك بنبل الفرسان يعلن «أسامة» أنه لن يلقي بالتبعية علي أحد.. هل كنا ننظر إلي «أسامة» بعد الرحيل غير «أسامة» الذي كان قبل أيام يسعي بيننا؟.. أزعم أنني تحدثت عنه في أكثر من أي قناة فضائية بحياد وما قلته بعد رحيله بساعات هو بالضبط ما كنت أكتبه في حياته.. فأنا لم أكن أري مثلاً أن «أسامة» قدم للسينما إبداعاً له وهج خاص قلت هذا في حياته ولا تزال هذه قناعتي.. صحيح أنه مع «عاطف الطيب» له فيلما ن «كتيبة الإعدام» و«دماء علي الأسفلت» ولكنهما لا يقفان متوازياين مع إبداعه التليفزيوني «ليالي الحلمية»، «الشهد والدموع»، «الراية البيضاء»، «أبو العلا البشري».. إبداع خاص وقيمة ينبغي أن نذكرها لكن البعض تعود القسوة علي الراحلين وحتي ودماؤهم لا تزال ساخنة تحت التراب!!

الدستور المصرية في

01/06/2010

جميع الحقوق محفوظة لموقع سينماتك
  (2004 - 2010)