حول الموقعخارطة الموقعجديد الموقعما كـتـبـتـهسينما الدنيااشتعال الحوارأرشيف الموقع 

رحيل الكاتب أسامة أنور عكاشة

أسـامـة أنـور عكـاشـة ...

ملحمـة مصـر الحديثـة وبـانـورامـا الشـعـب

قد يكون واحدا من أبرز كتّاب المسلسلات التلفزيونية العربية، بل إن العديدين يضعونه في المرتبة الأولى.

لكن بعيدا عن هذا التصنيف المرتبي، لا يمكن لأحد أن ينكر حضور أسامة أنور عكاشة في الحقل المرئي، وبالتالي الثقافي، في العالم العربي، إذ إنه من أبرز الكتّاب المعاصرين الذين أعادوا الاعتبار إلى الدراما المصرية، عبر مسلسلاته التلفزيونية التي رصد بعضها التطور السياسي والاجتماعي في مصر.

رحل أسامة أنور عكاشة صباح أمس الجمعة، في القاهرة، عن عمر يناهز 69 عاما، متأثرا بأزمة صحية ألمت به طيلة الشهرين الماضيين، وانتهت به في مستشفى وادي النيل للحالات الحرجة في القاهرة.

وكان يتلقى العلاج هناك، بعد أن نقل إليها إثر إصابته بضيق في التنفس بسبب معاناته من مياه في الرئة، قبل أن يصدر الرئيس المصري قرارا بعلاجه على نفقة الدولة، لكونه أحد أبرز المبدعين المصريين.

يذكر أن الراحل أجرى من قبل عمليتي قلب مفتوح بسبب ضيق في شرايين القلب، الأولى العام 1998 والثانية قبل 3 أعوام.

ارتبطت أعمال عكاشة بعدد من الممثلين البارزين، كفاتن حمامة في «ضمير أبلة حكمت» ومحمود مرسي في «لما التعلب فات» وبدون شك يحيى الفخراني الذي عمل معه في أكثر من عمل، لكن أشهرها يبقى بالطبع «ليالي الحلمية» الذي يعد من أطول المسلسلات العربية، إذ امتد لنحو 150 حلقة، في خمسة أجزاء، قدم فيها رصداً للتطور السياسي والاجتماعي في مصر، منذ عهد الملك فاروق قبل قيام الثورة العام 1952 وحتى العصر الحالي. إلى هذه المسلسلات لا بد من أن نذكر «الراية البيضاء» و«الشهد والدموع» و«زيزينيا» و«قال البحر» و«رحلة أبو العلا البشري» و«ما زال النيل يجري».

وكان آخر أعمال الكاتب الراحل «المصراوية» الذي أُنتج منه الجزآن الأول والثاني في العامين الماضيين، بهما أعاد أيضا تقديم رؤيته لتطور تاريخ مصر، من خلال حكاية عن عمدة قرية مصرية تدعى بشنين في دلتا النيل.

ولد أسامة أنور عكاشة في 27 تموز العام 1941، في مدينة طنطا، محافظة الغربية، وتخرج من كلية الآداب عام 1962، حيث حصل على إجازة من قسم دراسات علم النفس والاجتماع.

اشتهر عن أعماله أنها تقدم دائما لمحة عن مدينة الإسكندرية لحبه الشديد لها، حيث كان يقضي معظم شهور العام فيها، متفرغا للكتابة، بعد تخليه عن وظيفته الحكومية في وقت مبكر من حياته.

تعرض عكاشة مرارا لانتقادات بسبب مواقفه السياسية التي انعكست على رواياته، وكان غالبا ما يجيء ردّه بأنه ليس مؤرخا بل هو كاتب يقدم رؤيته. ومن هذه الانتقادات ما أخذوا عليه دفاعه عن فترة حكم الرئيس الراحل جمال عبد الناصر، وانتقاده الكبير لفترة حكم أنور السادات، كما تبدى ذلك بشكل كبير في «ليالي الحلمية». إذ عُرِف عنه كونه ناصري التوجه وفدي الهوى، إضافة إلى تصديه في أعماله بشكل واضح للسلفية والتكفيريين ورفضه هيمنة رأس المال الخليجي على الدراما المصرية، ما سبب له صدامات عدة مع قنوات خليجية كبرى كانت ترفض التعاقد على أعماله.

كتب عكاشة للسينما، لكن أفلامه لم تعرف النجاح مثل المسلسلات، مثل «كتيبة الإعدام» و«الهجامة» و«دماء على الإسفلت» كما له روايات وقصص منها «منخفض الهند الموسمي»، وقد حاز أوسمة عدة أبرزها «جائزة الدولة التقديرية». كذلك كتب المقالة الصحافية لسنوات طويلة في صحيفتي «الأهرام» و«الوفد» المصريتين، وطالب بحل جامعة الدول العربية، وإنشاء «منظومة كومنولث للدول الناطقة بالعربية»، مبنية على أساس التعاون الاقتصادي.

هنا شهادات لأدباء وفنانين من مصر وسوريا ولبنان نوردها بحسب التسلسل الأبجدي لأصحابها:

سلـوى بكـر:  محفـوظ الدرامـا المصريـة

مثل مسلسل «ليالي الحلمية» نقــلة في الدراما المصرية على مستوى الموضوع من مرحلة ما هو اجتماعي إلى ما هو اجتماعي سياسي تاريخي، ونجح في هذا إلى حد كبير، وكان غير مسبوق في هذا التناول. كان عكاشة أول من قدم دراما ذات طابع سياسي واستطاع أن يصل بأعماله لقطاعات واسعة جــدا. وأزعم أن «ليالي الحلمية» كان عملا مميزا، يضارع ما قام به نجيب محفوظ في الرواية في ما يخص التأريخ لثورة 19.

حاتـم حافـظ:  فاعـل فـي تأسيـس قيمنـا

في عام 1993 نُشرت بعض حلقات المسلسل الأشهر للكاتب الكبير أسامة أنور عكاشة «ليالي الحلمية». وقد تصدّر المجلد الضخم الذي ضم الحلقات مقدمة للمؤلف بعنوان «الأدب الدرامي» عن الأدب وعلاقته بالدراما التلفزيونية من حيث إمكانية أن تكون الأخيرة شكلا من أشكال الأدب. وفيها طرح سؤالا عن إمكانية أن يكون هناك أدب درامي تلفزيوني، فيقرأ قُراء الأدب النصوص التلفزيونية كما يقرأون الروايات. ومبرره أن الدراما التلفزيونية ـ لا شك ـ قد أثّرَت على الأدب، وأنها قد سلبته جمهوره من القراء إلى آخر هذا الكلام الذي كانت السينما أولى به باعتبارها سابقة على الدراما التلفزيونية.

والحقيقة أن المسكوت عنه في المقدمة التي كتبها أسامة أنور عكاشة (الذي يُعد من أهم كتّاب الدراما التلفزيونية العربية إن لم يكن أهمهم على الإطلاق) في أنه يشعر بأن الأدب ـ لا بد ـ أرقى من الدراما التلفزيونية ـ حتى في أكثرها جدية ـ ومن ثم فهو يتساءل عما إذا كانت هذه الأخيرة يمكن أن ترقى لأن تكون أدبا.

ولعل البداية المعروفة لكاتبنا الكبير كقاص (في مجموعته الأولى خارج الدنيا عام 1967) تُفسر هذا المسكوت عنه، والذي عَبّر عنه في بعض حواراته بمدى تقديره للأدب وبمدى الخسران الذي ألمّ به بعزوفه لفترة طويلة عن كتابة الأدب رغم ما ناله من نجاح غير مسبوق ككاتب درامي.

ورغم قلة ما نُشر له من مجموعات قصصية (خارج الدنيا 67، مقاطع من أغنية قديمة 88) وروايات (أحلام في برج بابل 84، منخفض الهند الموسمي 2003، وهج الصيف 2004، تلك الأيام 2005، جنة مجنون 2009) فإنه يُعبر كيف أن الأدب كان يهجس لأسامة أنور عكاشة باستمرار، وكاتبنا إذ كان يُبحر في وطن الدراما فإن الأدب ظل إمكانية قابلة للتحقق كلما عن له ذلك.

ومع هذا أعتقد أني ـ وجيلي ـ لا نحب رواياته وقصصه مثلما أحببنا أعماله الدرامية، التي حققت عن جدارة فكرته عن الأدب التلفزيوني، فكان لمسلسلاته حضور الأدب العظيم في حياتنا. لم تكن مسلسلاته مجرد دراما شاهدناها في أوقات فراغنا بل كانت فاعلا حقيقيا في عملية تأسيس القيم التي توقفت ـ إلى حد كبير ـ الأسرة والمدرسة والشارع والمسجد والكنيسة عن أن تكون طرفا فيها.

سيظل جيلي يذكر الوقفة التي وقفها دكتور أبو الغار بمعية بعض المخلصين من أبناء وطنه أمام جبروت المال المحض التي مثلته «فضة المعداوي» في مسلسله الرائع «الراية البيضاء» وستظل صيحة المعلمة فضة «ولا يا حمووو» صيحة يعرف جيلي أنها مُهدّدة له ولتاريخه ولوطنيته. كما سيظل جيلي يذكر الدعوة التي أطلقها على لسان «حسن أرابيسك» ذلك الفنان الشعبي الذي فهم أنه لا يمكن صنع هوية بتجاور الثقافات، وإنما في تمازجها وصهرها لصنع هوية جديدة. لقد كان رحمه الله مهموما بالوطن وبقضاياه محاربا حتى النفس الأخير في صفوف هؤلاء المطحونين الذين لن يدافع عنهم أحد بعد الآن في صراعهم مع حكومات ورجال أعمال مصروعين بالسلطة والكسب.

هيثـم حقـي:  ذروة التعـاون

إحساس كبير بالخسارة لشريك ومعلم مؤسس لدراما تلفزيونية عربية تحمل المتعة والمعرفة. أحببت أعمال أسامة أنور عكاشة التي قدمها في الثمانينيات (ليلة القبض على فاطمة، وقال البحر، الراية البيضا....)، وكنا في سورية نتلمس بدايات الطريق إلى دراما تلفزيونية مختلفة، فجاء مسلسله المتميز «ليالي الحلمية» ليجمعنا معاً في إطار مفهوم توافقنا على أنه الشكل الأمثل لتقديم المسلسل التلفزيوني ألا وهو الرواية التلفزيونية. فبالتوازي مع «الحلمية» أخرج عندنا «هجرة القلوب» ثم تتالت أعمالنا «أرابيسك» و«خان الحرير»، «زيزينيا» و«الثريا» .. إلخ. وتبادلنا الإعجاب في الندوات التلفزيونية التي كانت تجمعنا على الهواء دائماً، وبالمصادفة، أسامة من مصر وأنا من سورية. إلى أن التقينا مطلع القرن الحالي وبدأنا نفكر جدياً بتعاون مشترك أخرج فيه أحد أعماله، لأن أسامة رأى مبكراً أهمية الطريقة السورية في الإخراج وتحدث مرات عديدة عن «خان الحرير» وكتب مقالاً موسعاً عن «ذكريات الزمن القادم»، مشيداً بالطريقة السينمائية في العمل التلفزيوني السوري.

وتأخر التعاون بيننا حتى قامت الفنانة الكبيرة سميرة أحمد بجمعنا في خطوة جريئة يومها في مسلسل «أحلام في البوابة» . وكان السند الأكبر لي في هذه التجربة ووصولها إلى نهايتها المرجوة الكاتب والإنسان الكبير أسامة أنور عكاشة. فقد فهم بحسه الإنساني ومعرفته العميقة بالتناقض بين آليتين في العمل مدى الصعوبة التي يجدها مخرج مثلي، كأول مخرج يأتي من الدراما السورية ذات الأسلوب الفني السينمائي (بكاميرا واحدة وآلية عمل بالضوء والتصوير مختلفة)، ليتعامل مع عقلية تمانع وتقف أصلاً ضد هذه الطريقة.

لم يتوقف أسامة عن الدعوة إلى تعاون مثمر بين الطريقتين السورية والمصرية في الدراما التلفزيونية، وامتدح امتزاجهما الذي وصل في العام الفائت إلى ذروته بدخول مخرجين سوريين ومصريين إلى الدراما المصرية يصورون بآلية عمل مختلفة بدأت تفرض نفسها كحل لتقديم دراما تلفزيونية عربية جيدة، كما آمنا معاً. فليس هناك صراع بين دراما سورية ومصرية، بل بين دراما تلفزيونية عربية سيئة ودراما تلفزيونية عربية جيدة، يغيب عنها اليوم أحد أهم رموزها الكاتب الإنسان والصديق أسامة أنور عكاشة.

حسين حمودة:  وعي الخالق الأدبي

أتصور أن جزءا كبيرا من قيمة أسامة أنور عكاشة أنه دخل إلى عالم الدراما التلفزيونية بوعي «الخالق الأدبي»، إن صح هذا التعبير. تميزه عن كتاب الدراما الآخرين يتمثل في أنه لم يكن مجرد «واضع لسيناريوهات أو لقصص درامية»، وإنما كان صاحب نبرة خاصة في معالجاته الدرامية، تفيد هذه النبرة أحيانا من النفس الملحمي، وأحيانا من الحس التسجيلي أو التأريخي لفترة بعينها أو لمكان بعينه بكل ما في هذه الفترة أو ذلك المكان من علاقات، وأحيانا تفيد هذه النبرة من النماذج الأصلية الأدبية الماثلة في أعمال إبداعية كبرى: هكذا يمكن أن نلحظ ثيمات وموتيفات وعناصر من الإلياذة والأوديسا ومن أعمال ديستويفسكي وشتاينبك، ومن أولاد حارتنا لنجيب محفوظ، كلها تتردد في دراما عكاشة، لكن بعد أن تم استيعابها وتمثلها وادخالها في صياغات وتناولات خاصة به وحده.

بدايات تجربة أسامة أنور عكاشة الأدبية الخالصة (وقد استهلها كما نعرف بمجموعته القصصية الأولى «خارج الدنيا» 1967، وتلاها بروايته «أحلام برج بابل» 1973) لم تكن تنبئ عن كاتب له القامة نفسها التي سوف نجدها في كتاباته الدرامية. لقد أفصحت هذه الأعمال عن مستوى من الكتابة ليس شديد التفرد بين الأدباء من أقران عكاشة. لكن هذه الأعمال من ناحية أخرى أفصحت عن ذائقة أدبية سوف يفيد منها عكاشة وسوف يوظفها في أعماله التي كتبها وأعماله التي أعدها لدراما التلفزيون.

جزء آخر من قيمة أعمال عكاشة الدرامية انبنى على تصوره عن نفسه كخالق دراما وليس مجرد حرفي.

مما أدركه عكاشة، في هذا السياق، تلك المسافة الممكنة، بل الضرورية، بين الحقيقة التاريخية والحقيقة الفنية. لم ير في نفسه مجرد ناقل لوقائع متوارثة حقيقية أو غير حقيقية، وإنما تصور في نفسه صاحب رؤية بمقدوره ومن حقه إعادة اكتشاف تلك الوقائع. ومن هنا تسللت إلى أغلب مسلسلاته قراءته أو إعادة قراءته للأحداث وللشخصيات بل وللثوابت الشائعة في التاريخ الشائع. وبذلك كان عكاشة «رائيا» وخالقا بقدر ما كان حرفيا ماهرا.

مع ذلك كله تستحق أعمال عكاشة الأدبية: روايته «منخفض الهند الموسمي» ومجموعته «مقاطع من أغنية قديمة» وروايته «وهج الصيف»، وروايته «سوناتا لتشرين» تستحق أن تحظى بقدر لائق من الاهتمام الذي افتقدته بسبب تركيز كل الأضواء على تجربة عكاشة الدرامية. ربما نستطيع القول إن دراما عكاشة قد جنت على هذه الأعمال.

ريـم حنـا:  آخـر التنويرييـن

أنا أسمّيه آخر التنويريين الكبار في الدراما العربية، ولعله أول من استطاع أن يرفع سقف هذا الجنس الفني إلى مستوى الرواية التلفزيونية.

لا ندري ما حال الدراما في غياب المعلم، ولكن يبقى الأمل في ما تعلّمناه من مفردات هذه الصنعة، ليبقى النص التلفزيوني مشروعاً تنويرياً يمتلك حصانة في مواجهة ما هو ضد الجمال.

أعطى الراحل عكاشة في فترة الثمانينيات والتسعينيات الملامح الأولى للشخصية الدرامية فأعطاها بعداً جديداً، يحولها إلى نموذج بشري من لحم ودم يكاد يخرج من الشاشة ويجلس بيننا. هذا إلى جانب أننا تعرفنا على جغرافيا الشارع المصري عبر مسلسلاته.

نادراً ما شعرت بالمعنى الحقيقي لكلمة فخر، إلا عندما سمعت شهادات طيبة منه حول مسلسل «ذكريات الزمن القادم»، حينها كنت فرحة حقاً برضا المعلم.

تمتع الراحل بشجاعة كبيرة دفعته لأن يفجر قنبلة حينما مارس نقداً ذاتياً لواقع الدراما المصرية بمقارنة الدراما السورية الصاعدة بقوة في حينها، لكنني أعتقد أنه ندم على ذلك في ما بعد، لأن بعضنا وصل به الغرور الأعمى لدرجة إلغاء كل ما هو دراما غير سورية، متناسين الريادة التاريخية للدراما المصرية (بغثها وسمينها).

عبـد المنعـم رمضـان:  مريـد مخلـص لمحفـوظ

بالنسبة لي أرى أن أسامة أنور عكاشة هو الترجمة المرئية البصرية لنجيب محفوظ. هو أتى على أرض ممهدة. قرأنا نجيب محفوظ وأتى عكاشة ليعيد صياغة إبداع محفوظ بما يتناسب مع التلفزيون، وأظن أن جماهيريته مردها لصاحب «أولاد حارتنا». يمكنني القول إن نجيب محفوظ زرع، وأتى أسامة أنور عكاشة ليحصد ما زرعه محفوظ. وهذا حصاد لا يلام عليه عكاشة، لكن لا يمكن اعتباره نقلة ما، هو قدم لنا عالما أليفا نحب أن نتذكره، عالم خارج من إبداع نجيب محفوظ.

حتى الاختلافات بينهما، هي اختلافات ثانوية. هو حاز جمال أن يكون تلميذا مخلصا... حاز ما يجب أن يحوزه التلميذ المخلص لقطبه، وقطبه هو نجيب محفوظ.

الخاص في تجربة عكاشة، أن محفوظ لم يُتح له أن يقرأ تحولات المجتمع المصري في الثمانينيات والتسعينيات، فقام عكاشة بقراءتها بأدوات محفوظ! استطاع أن يكمل ما لم يره محفوظ، لكن بأدواته، عكاشة لم يخترع الأدوات ولكنه استفاد من الأدوات المحفوظية في قراءة زمن لم يره محفوظ.

نهـاد سيريـس:  الروايـة التلفزيونيـة

في الثمانينيات كنت أعمل على الرواية ولم يكن يشغلني شيء آخر. لم أكن أفكر في كتابة الدراما رغم إعجابي الشديد كمشاهد بأعمال أسامة أنور عكاشة. وما إن أطلت التسعينيات حتى بدأت فكرة كتابة الدراما التلفزيونية تختمر في ذهني. وفي الحقيقة تظل أعمال أنور عكاشة هي الدافع القوي لي لأدخل هذا المضمار.

كان البعض يسخر من الدراما المحلية في كتاباته ويعتبرها أدنى مستوى من غيرها من الكتابات، حتى أنه كان عليّ أن أفكر طويلاً قبل أن أدخل هذا المضمار. إلا أن أعمال هذا العملاق، حينها، رفعت من مستوى الدراما التلفزيونية وأصبحت لها قيمة ابداعية واستطاعت ان تجرني وتجر غيري من الكتاب للمساهمة فيها.

لا أحد من الكتاب كان يرغب في أن يهجر الرواية ولو بشكل موقت لكتابة «المسلسل المحلي» كما كان يطلق على الدراما وقتها، ولكن اسم اسامة أنور عكاشة جعل دخول الكاتب لهذا المضمار ارتقاءً ومثابرة.

لقد جعل المرحوم عكاشة للدراما التلفزيونية مكانة عالية. مكانة ثقافية وفكرية تواكب مكانة الرواية والمسرح والموسيقى الجادة.

لا أريد أن أشغل هذا الحيز بتعداد أعمال أسامة فهي معروفة جيداً، ولكن لديّ رغبة شديدة في أن أؤكد ميل هذا العملاق إلى الرواية في أعماله التلفزيونية. كان يسمّيها وهو محق «رواية تلفزيونية».

تعلمت منه، وتعلم الجميع أيضاً أن الدراما التلفزيونية ليست مجرد مسلسل محلي.

خيـري شلبـي:  فنـان الفكـر والفرجـة

لمع أسامة أنور عكاشة في حياتنا في وقت حرج كان الأدب يمر فيه بمنعطف حاد، حيث أصبح التلفزيون هو الواجهة الأولى التي جذبت الجماهير، وأكلت جمهور الأدب، وكان من يتمسكون بكتابة الأدب قلة قليلة، لا تملك القدرة على كتابة أي لون كتابي آخر، وجاء أسامة في هذه اللحظة الحرجة لينشئ ما اصطلحنا على تسميته بالأدب التلفزيوني، وكان ذكيا جدا، فاستطاع أن ينقذ مستقبله من ضياع محقق في كتب لا تقرأها إلا نسبة قليلة من القراء، فبدأ يكتب للتلفزيون على استحياء مسلسلات قصيرة ثم طويلة، ثم أبدع مسلسلاته الرائعة الشهيرة التي شكلت وجدان جمهور التلفزيون، وخلقت نوعية من الجمهور الواعي المحترم، استطيع القول إن أسامة أنور عكاشة، ومعه محفوظ عبد الرحمن، ومحسن زايد، ووحيد حامد، ويمكن إضافة عاطف بشاي إليهم، هذه الأسماء هي التي سترت وجه التلفزيون والدراما المصرية طوال ربع القرن الأخير أو حتى الـ40 سنة الأخيرة. وأسامة أنور عكاشة هو الفارس الأكبر بين هذه الكوكبة، لأنه يتميز بأنه صاحب مشروع أنجز 99% منه. آخر حلقات هذا المشروع كان مسلسل «المصراوية» الذي حاول أن يسجل فيه نشأة الروح المصرية في السياسة، حيث انسلخت واستقلت مصر عن الحكم العثماني، ثم تحررت من الاحتلال البريطاني، وفي هذه اللحظة كانت لا تزال عائمة الهوية، لكن ثورة عرابي ثم ثورة 1919 كان لهما الفضل الأكبر في استكشاف الروح المصرية والهوية المصرية من خلال العائلات الكبيرة، عائلات الطبقة المتوسطة الزراعية على وجه التحديد التي سيطرت على القاهرة وحمتها من الكرنفال الأجنبي الذي يعيش فيها.

حاول عكاشة في المصراوية، أن يسجل هذا الصعود ليرينا كيف أصبح هناك شيء كبير اسمه مصر في السياسة العالمية، وكيف أصبح هناك ثقافة مصرية، وهذا في حد ذاته شيء مهم يجب أن نحترم عكاشة عليه. هو رجل استطاع أن يحقق الفكر والفرجة معاً. «فنان الفكر والفرجة» هذا اللقب استخدمه الناقد الراحل علي الراعي لوصف توفيق الحكيم، وأنا أستعيره هنا لوصف أسامة أنور عكاشة على مستوى الدراما، لأنه يمتعنا أولا بعرض درامي متكامل العناصر الفنية، ثم يضيف إلينا قيمة فكرية مهمة، هو كاتب درامي أولا، ثم مفكر ثانيا، ثم هو مثقف عام له وجهة نظر في الحياة والأمور السياسية والثقافية، وكان لا يتوقف عن التعبير عن نفسه في المقالات الصحفية والحوارات الصحفية التي تجرى معه. كان صوتا قويا، وكان لا يهدأ حتى وهو يعاني من المرض في فترته الأخيرة، ولم يكن يترك أي نقد خارج عن الموضوعية دون أن يرد عليه فورا وبقوة، وبهذا استطاع أن يقيم لنفسه حرما يحميه من السوقة.

كان عكاشة يكتب القصة القصيرة، ثم حينما حقق الذيوع الكبير ككاتب سيناريو هجر الكتابة الإبداعية.

وفي السنوات الأخيرة جرفه الحنين للقصة والرواية فكتب بروح المحب الذي هجر حبيبه ثم عاد إليه يقدم فروض الولاء والطاعة، لكنه لم يكن بنفس القدر من القوة كما في أعماله الدرامية.

لكن قصصه ورواياته ومقالاته، حتى لو كان لنا عليها ملاحظات، فإنها تعتبر من الظلال المهمة التي توضح التجربة الإنسانية والإبداعية لأسامة أنور عكاشة.

أنطـوان غنـدور:  مدرسـة فنيـة

كان بحد ذاته مدرسة، فقد استطاع أن ينقل بصدق ويفبرك بعفوية الحياة المصرية، التي غاص كثيراً فيها، وفي تقاليدها وعاداتها. هو نجم في مصر وعلى المستوى العربي. لم يكن بمستوى نجيب محفوظ، لكن كان عنده شيء منه. أعجبني في المسرح مثل التلفزيون. «ليالي الحلمية» كانت مسلسلاً مهماً، نحن لم نتجاوب معها بالقدر الذي تجاوب به المصريون أنفسهم. كان عملاً ضخماً.

من أسامة أنور عكاشة استمد العديد من كتاب الدراما المصريين، وبه تأثروا، والبعض قلده، حتى أن بعض اللبنانيين استفاد من أسلوبه الدرامي المميز. أنا أحترم كثيراً ما كتبه عكاشة عن بيئته وبلده.

شكـري أنيـس فاخـوري:  واسـع الثقافـة

تابعته من خلال «ليالي الحلمية». كان له مركزه وقيمته. وفاته خسارة. تميز بأسلوبه الخاص في واقعيته، وكان ذا نظرة مثقفة في المسلسلات التي كتبها. غاص في المجتمع المصري من وجهة نظر تاريخية، فكان واسع الاطلاع ومتعمقاً في المواضيع التي كتبها. فهو من أهم كتاب الدراما المصريين.

نبيـل عبـد الفتـاح:  مـن الشعاراتيـة إلـى الهمـس الشعـاري

قام أسامة أنور عكاشة بنقل الدراما المصرية من مرحلة الستينيات حيث الاعتماد على توظيف الشعار السياسي الذي كان سائدا، إلى مرحلة الكتابة الدرامية الفنية، قام بذلك بوصفه كاتبا موهوبا وذا تكوين سوسيولوجي باعتباره دارسا لعلم الاجتماع. نقل الدراما من المرحلة الشعاراتية إلى الاتصال بحجم التحولات الاجتماعية والتغيرات الطبقية كما حدث في «ليالي الحلمية» وأعتقد أن جزءا من هذا ارتبط بمحاولة تحويل العلاقات والحكايات الكبرى على النمط المحفوظي إلى جزء من الدراما التلفزيونية. هو ساهم أيضا في تحويل الحوار ونقله من الشعارات الزاعقة إلى نوع من الهمس الشعاري. لغته الشعاراتية كانت مهموسة باستثناء بعض الحلقات في «ليالي الحلمية».

باختصار نقل عكاشة الدراما التلفزيونية في الوطن العربي نقلة نوعية في تاريخها بحيث نستطيع القول أن هناك مرحلة ما قبل أسامة أنور عكاشة ومرحلة ما بعده.

كما استطاع أن يعيد الهيبة لكاتب الدراما، حيث استطاع أن يكون قائد الأوركسترا، وفرض هيمنة الكاتب وتحواه لمدير العمل التلفازي في أغلب تفاصيله. دراما عكاشة لا يمكن أن تختزل ولا يمكن أن تقارن الدراما السورية ولا الدراما التركية المعربة بها.

لقد خفت حضور عكاشة في السنوات الأخيرة بسبب التنافس الإقليمي ما بين الدراما المصرية والدراما السورية وغيرها. الدراما أصبحت، مثلها مثل الجيش وهراوة الجندي، وسيلة لاظهار مكانة الدولة، وهذا يتضح من دعم السعوديين والخليجيين لدرامات محلية وللدراما السورية وتفضيلها على الدراما المصرية، وهي محاولة لممارسة الضغوط على القوة الناعمة التي كانت تلعبها مصر في الإقليم عبر الفن والشعر والقصة والرواية. هنا حدثت محاولات عمدية لاستبعاد الدراما المصرية وبالتالي لاستبعاد عكاشة في محاولة لعقابه على انتقاده للسلطات الرقابية في عدد من دول الخليج.

فاضـل كواكبـي:  حالـة استثنائيـة

لم يحضر الراحل الكبير أسامة أنور عكاشة في الحراك الثقافي للسنوات الأخيرة سوى كمتحوّل عن مواقفه العروبية السابقة. ساجل وسوجل، ولم تكن سجالات الطرفين ذات سوية معرفية عالية، فبغض النظر عن اشكالية وجوهرية الأسئلة التي طرحها حول وجه مصر الحضاري وامتداداتها وعمقها، فإن النقاش كان يعيد إنتاج البراني، فالجواني الحقيقي أجاب عنه السياق الحضاري لمصر المعاصرة والحديثة، مؤكداً انتماءها الجوهري الحضاري لفكرة النهضة العربية المشتبكة عضوياً بنهضة مصر، والمتدهورة مع تدهورها وموات دورها العروبي (كما هو حادث اليوم).

وما أنجزه عكاشة في سياق عمله الدرامي كان جزءاً لا يتجزأ من محاولات استعادة ذلك الدور العربي والعروبي بامتياز. كان عكاشة ابن الستينيات الشرعي بكل مزاجها النهضوي المتضمّن عناصر متعددة شعبوية واشتراكية وقومية وحداثية بل وليبرالية. ومنجزه الأهم في الدراما التلفزيونية مسلسل «ليالي الحلمية» جاء ليعلن عن زمن حاولت فيه الثقافة المصرية أن تستعيد بقوة مواقع طليعية خسرتها في عهد السبعينيات.

كذلك هو الأمر مع أعماله الدرامية الكبيرة السابقة واللاحقة «الراية البيضا» و«رحلة أبو العلا البشري» و«أرابيسك» وغيرها. تحدّث عكاشة كثيراً عن مفهوم الرواية التلفزيونية وتم تبني هذا المفهوم من قبل بعض كتاب السيناريو التلفزيوني الآخرين، ولكن تجربته، رغم أنها كانت بنتاً للروائي المقموع في داخله، ورغم استعارتها لأشكال السرد الروائي، إلا أنها كانت تجربة زمنية مؤقتة لم يكن بالإمكان تطويرها وتعميقها، فتلك التجربة لم تكن فقط وليدة الاستعارة من البنية الروائية، بل كانت أيضاً وليدة الأيام الأخيرة للدراما التلفزيونية المصرية المتكئة على سرد بصري مسرحي إذاعي الهوى لا يقيم اعتباراً كبيراً للصورة، كما أسسه واشتغل عليه مخرجون كبار كنور الدمرداش، يحيى العلمي، محمد فاضل، اسماعيل عبد الحافظ، وقد كان الأخير هو المخرج الأكثر قرباً من عكاشة وقدم أداءً تنفيذياً بارعاً وفجاً في آن لأعمال الراحل، ولكن نتاجه البصري وصل إلى أفق مسدود تماماً على المستوى الجمالي والحرفي، ومنها أحد آخر أعمال عكاشة «عفاريت السيالة». مثلما لا يدرك من يتوهّمون أن الدراما التلفزيونية هي شكل من أشكال السرد السينمائي خطل موقفهم كذلك من وقعوا في وهم نظرية الرواية التلفزيونية، لقد كان عكاشة حالة استثنائية ليس لفرادتها الإبداعية وحسب، ولكن لأنها انتمت إلى سياق نظري ملفق درامياً، لا يمكن الحفر فيه جمالياً وثقافياً.

أما عكاشة السيناريست السينمائي فرغم اشتغاله مع أحد أبرز سينمائيي الثمانينيات وأكثرهم ناصرية عاطف الطيب، إلا أن الأفلام التي أنجزاها معاً كانت من أضعف أفلام الطيب ولم تضف إلى مسيرة عكاشة الإبداعية الشيء الكثير، وأشهرها «دماء الإسفلت» و«كتيبة الإعدام» اتسمت، إلى نبرتها الأيديولوجية العالية ببنية درامية فجة واستطرادية فاضت على بينة الفيلم السينمائي وإمكانات مخرجه في الضبط والتشكيل.

رحيل عكاشة هو مرة أخرى رحيل لأحد ممثلي ثقافة الستينيات، الذين حاولوا استعادة بعض ألقها، ثم سقطوا في مطب اليأس المتجدد النابع من التمرد غير المعرفي على الأسئلة الحقيقية نحو أسئلة التبسيط ورد الفعل.

مـروان نجـار:  فتـح فـي الدرامـا العربيـة

لم تكن لي علاقة شخصية به، ولم أكن على تواصل معه، لكنني تابعت وشاهدت أعماله. أستطيع أن أقول إن رحيله خسارة لنا كقطاع دراما عربية وكأمة عربية. خسرنا صاحب علامات فارقة في مسيرة الدراما، لأنه استطاع أن يختصر ضمير الجماعة، ويمثّل وجع البيت والشارع تحت وطأة التاريخ السياسي.

ما حققه عكاشة من استصراخ للصوت المصري، زمن الحرب القاسية وما تبعها، يعتبر فتحاً جديداً لفئة من الدراما العربية لم تكن قائمة قبل ذلك، وما كانت لتقوم لولا عبور هذا الأديب.

ليست الخسارة في انتصار المرض على الجسد المنهك، إنما كانت بافتقادنا عطاءات هذا القلم.

كان عندما يتناول الأمور ذات الطابع الجماعي يتجلى، فهو كان نسيج ذاته، لكن عندما يتناول الموضوعات الفردية الاجتماعية (فاتن حمامة مديرة المدرسة) كنا نفتقد الطاقة الجدلية التي عرفناه بها في الأعمال ذات الحضور الاجتماعي الجماعي. كانت قراءته للأفراد والحياة الدرامية بمعناها الشخصي عبر قراءاته للسوسيوبسيكولوجيا. باختصار كان أكثر تمكناً في مجال فهم المجتمع منه في مجال الفرد.

حسـن م. يوسـف:  العروبـي المنكسـر

اعترف بأنني كنت، على مدى سنوات طويلة، من أشد المعجبين بفكر وجرأة الكاتب الراحل أسامة أنور عكاشة، وقد أبلغته هذا عندما التقينا قبل سنوات في ندوة أجريت على هامش مهرجان المحبة في اللاذقية. لكن زمن الانكسارات جعل أسامة أنور عكاشة يتغير مما جعل إعجابي به يقتصر في المرحلة الأخيرة، على جرأته من دون فكره، خاصة بعد أن تأثر بطروحات المفكر المصري سيد القمني الذي يقول إن عروبة مصر «عبودية لاحتلال طال أمده أكثر مما ينبغى». فبعد أن كان أسامة أنور عكاشة «من دراويش القومية العربية» على حد قوله، طلع علينا، قبل سنوات باكتشاف غريب مفاده أن «أحلام الوحدة العربية مجرد وهم أدخله في عقولنا شخص يدعى لورانس، حيث استطاع إقناع الشريف حسين بتلك الاوهام». إلا أن القــشة التي قـصمت ظهر البعير هي قوله إنه لم يعد مهتماً بقضايا القومية العربية وزعمه أنها (أثقلت كاهل مصر).

لا شك أن ابداعات أسامة أنور عكاشة قد ساهمت في صياغة وجدان ملايين المشاهدين والقراء العرب في مصر وخارجها، ما يجعل غيابه خسارة كبرى. إلا أن الرحيل لا يلغي الخلافات الفكرية، لقد سبق أن أعلنت عدم اتفاقي مع المبدع الكبير أسامــة أنور عكــاشة في موقفه المغلوط من العروبة، فالعــروبة رغم كل تحفظاتنا على ممارسات من رفعوا شـعاراتها، تبقى الإطار الوحيد الذي يمكن أن يجمع العرب داخله، وأنا أومن في قـرارة نفسي أن الـعرب يستطيــعون الخروج من التــاريخ كل بمفرده، لكنهم لن يدخلوا التاريخ إلا مجتمعين!

السفير اللبنانية في

29/05/2010

جميع الحقوق محفوظة لموقع سينماتك
  (2004 - 2010)