حول الموقعخارطة الموقعجديد الموقعما كـتـبـتـهسينما الدنيااشتعال الحوارأرشيف الموقع 

مهرجان كان السينمائي الدولي الثالث والستون

مهرجان كانّ السينمائي في دورته الثالثة والستين

السياسة وتجاذباتها تحضران الى الكروازيت من خارج أفلام المسابقة

إيناريتو وبوفوا وكيارستمي ولي أفضل مخرجي الأيام الاولى

كانّ - من هوفيك حبشيان

السياسة في كانّ هذه السنة تُمارَس خارج التشكيلة الرسمية للمهرجان أكثر من داخلها. صحيح أن الأفلام تنبع من أفعال سياسية، لكن هذه الأفعال السياسية لا تثير نقاشاً حقيقياً من حولها بقدر ما تثيره تصريحات العابرين على السجادة الحمراء. فأحد اهتمامات الصحافة مثلاً في الأيام الأخيرة كان التصريح البليد لمايكل دوغلاس الذي أعلن انه لا يدعم قضية رومان بولانسكي، لأسباب نعرف جميعاً انها مرتبطة بانتماء هذا الممثل الى المؤسسة الهوليوودية القائمة على قيم محافظة وثابتة، خلافاً لمواطنه وودي آلن الذي قال انه يجب اقفال الملف المعيب هذا، كون المخرج الفرنكو بولوني أخطأ ودفع ثمن الخطأ. بين هذا وذاك، تصفق وسائل الاعلام، مقتنصة أصغر معلومة لخلق جدال في حدث سينمائي ليس فيه أي جدال الى الآن. هذه الملاحظة ليست محاكمة للمهرجان ولدورته المحيّرة التي تنتهي هذا الويك اند، بل تأكيد اضافي الى أن ثمة مواضيع لم يعد طرحها يزعج أحداً على الاطلاق، وخصوصاً اذا جرى التطرق اليها بنمط من الاعتدال. فانشغالات العالم يبدو أنها أكبر من أن تهتم بفضيحة سينمائية في كانّ ينتظرها منظّموه من دون جدوى، علماً ان الأفلام "الساخنة"، من كين لوتش الى رشيد بوشارب ودوغ ليمان، ستُعرض بدءاً من اليوم. يضاف الى هذا كله، قضية احتجاز الايراني جعفر بناهي في احد السجون الايرانية بسبب فيلم كان ينوي صنعه عن مرحلة الانتخابات الرئاسية الأخيرة التي أدّت الى فوز الرئيس أحمدي نجاد بولاية ثانية. كثر سجلوا مواقفهم ازاء هذه القضية، في مقدمهم أعضاء لجنة التحكيم في رئاسة تيم برتون فوزير الثقافة الفرنسي فريديريك ميتران الذي قرأ رسالة لبناهي، وأيضاً الممثلة الفرنسية جولييت بينوش التي يبدو انها تجتاز ما يمكن اعتباره "المرحلة الايرانية" من مسارها، كونها تشارك في المهرجان ايضاً من خلال الدور الذي اضطلعت به في "نسخة طبق الأصل" للايراني عباس كيارستمي، الذي يتسابق على "السعفة الذهب". لم تستطع أن تتمالك نفسها عندما قال احد الصحافيين في المؤتمر الصحافي للفيلم إن بناهي باشر اضراباً عن الطعام، فراحت دموعها تنهمر، معلنة ان الكلمات احياناً للتعبير عن موقف تكاد تكون معدومة.

هذه السياسة التي جيء بها من خارج اطار السينما، تتجلى ايضاً في الأزمة الاقتصادية التي يشكو منها المهرجان هذه السنة، أكثر من شكواه العام الماضي. عبثاً حاول أوليفر ستون في الجزء الثاني من "وول ستريت" تحريك الخنجر في الجرح، لكن الصحافة صرفت النظر عنه وصبّت اهتمامها على عودة مايكل دوغلاس الى دور كان نال عنه قبل 22 عاماً أوسكاراً لأفضل ممثل. فهوليوود، التي تتيح القدر الأكبر من البهرجة في كانّ، تراجع حضورها هذه السنة، وكذلك حضور شركات الانتاج والتوزيع التابعة لها التي تروّج عادةً لأحدث بضائعها، أما النجوم الذين يتولون الجانب الاستعراضي للمهرجان، فبعد اعتذار المخرج ريدلي سكوت لأسباب خارجة على ارادته، ها شون بن وشارون ستون يلغيان المشاركة في الدورة 63، ولكلٍّ ذريعته: بالنسبة الى الأول فإن هذا الغياب مرتبط باجتماع لمجلس الشورى الاميركي لمناقشة الوضع في هايتي. في حين أن الممثلة الحديدية التي جاءت الى كانّ مرات كثيرة، خافت من أن تعلق في الجانب الآخر من الاطلسي في حال تأزم الوضع مع البركان الايسلندي.

عوّدنا مهرجان كانّ دورةً بعد دورة، أن يجعلنا نستأنس بأفلام تمتلك قدراً من المسؤولية الابداعية والايديولوجية. لكن كانّ غير مسؤول عما يُصنَع في العالم. نشاطه ينحصر في الخيارات الجريئة وفي الافصاح عن الاتجاه الجديد الذي ستسلكه السينما في السنوات المقبلة. نقطة على السطر. المهرجان يساهم كذلك في وضع اعمدة الذائقة العامة، لكن لا يقول للسينمائيين أي فيلم عليهم انجازه، ومن هنا أهميته. هذه السنة تبدو الأمور مرتبكة بعض الشيء، فالخيارات، وخصوصاً في المسابقة، أثارت تململاً، حدّ انه كان ينبغي انتظار مطلع هذا الاسبوع، للقول ان المهرجان بدأ فعلاً.

حتى تاريخ كتابة هذه السطور، كانت هناك أربعة أفلام في المسابقة الرسمية تستحق أن تكون في هذا الموقع: "عام آخر" لمايك لي؛ "نسخة طبق الأصل" لعباس كيارستمي؛ "بيوتيفول" لاليخاندرو غونزاليث إيناريتو و"رجال وآلهة" لكزافييه بوفوا. تفاوتت درجة استقبال الصحافة لهذه الأفلام، وبدا الانقسام واضحاً في وجهات النظر بين النقاد الفرنسيين وزملائهم الأجانب. بدرجة أقل، كان لفيلم التشادي محمد هارون صالح "رجل يصرخ" ولفيلم تاكيشي كيتانو "انتهاك"، حضورٌ ما وسط الأفلام المتسابقة، والاثنان عملان مثيران لكن من دون أن يرتقيا الى الأفلام الأربعة المذكورة. أياً يكن، لا نزال في منتصف الطريق، والمهرجان قد يخفي لنا أكثر من مفاجأة.

•••

برشلونة من زاوية أخرى. هذا ما اراده أليخاندرو غونزاليث إيناريتو أن يظهره في فيلمه الجديد "بيوتيفول" (مسابقة)، فشكل احدى الصدمات الاولى للمهرجان الذي كان قد بدأ بهدوء. بعد ثلاثة أفلام عن الألم، يواصل المخرج المكسيكي تنقيبه في اعماق النفس البشرية متوصلاً الى استنتاجات مشابهة لما توصل اليه سابقاً. دائماً لديه هذه الرغبة في الارتفاع بالسينما الى عولمة ما، ومخاطبة كل الناس في الحين نفسه. لكن هذه المرة بدلاً من أن يتنقل بنا نص مفذلك من قرية في المغرب الى طوكيو كما فعلها في "بابل"، يأتي بمهاجرين من بلدان مختلفة الى برشلونة، أو بالاحرى الى قاع تلك المدينة، ولن يكون دليلنا الى هذا العالم السفلي سوى أوكزبال (خافيير بارديم، أحد أبرز المرشحين الى الآن للفوز بجائزة التمثيل)، المصاب بالسرطان والذي لا ينتظر الا ان تدق ساعة الموت. أوكزبال هذا، شخص معذب يحاول الصمود في قلب مدينة يصوّرها إيناريتو كمقبرته مع أشباح الموت الذي يحوم من حوله. من قصة بسيطة، نسمع مثيلاتها يومياً، يستقي صاحب "21 غراماً" فيلماً معقداً إن من حيث المعالجة أو المضمون. إيناريتو الذي ينجز هنا فيلمه الأول من دون التعاون الذي كان له سابقاً مع غييرمو أرياغا على السيناريو، يقدّم صورة غير سياحية لمدينة برشلونة، فيها تجار مخدرات وشرطة فاسدة واستغلال لعمال أجانب غير شرعيين ومآس كثيرة، شخصية وعامة. بكاميراته المحمولة عل الكتف، يلتقط احساس هذا المكان، ومن حالة متوترة الى اخرى، يولد انزعاجاً بديعاً لدى المشاهد، مع عودات مفاجئة الى لازمة موسيقية صارت العلامة الفارقة في سينماه. بتوليفته المتوترة والممسوكة بقبضة من حديد، يلملم المخرج الاحساس بالأشياء والشخوص عبر حس تفصيلي ممعن بواقعية ديناميكية. على رغم الخوف من هذا الغريب الذي في داخلنا، وهو الفكرة المهيمنة على العمل، يترك باباً مشرعاً على الأمل، من خلال دعوة البطل الى أن يقبل نفسه كما هو، في ختام تجربة وجودية ستشكل له مناسبة ليولد ثانياً.

•••

منذ أكثر من عقدين، يصنع المخرج الاميركي غريغ أراكي ذو الاصول الآسيوية، على هواه ومن دون ان يكترث للتيارات، سينما مهمّشة محمولة على الظهر، تقتفي خطى لاري كلارك وبول موريسي، لكن لها لونها ومذاقها وأصالتها الخاصة. سينما أميركية قد تكون أحياناً نقيض ما نراه في الافلام الهوليوودية (لا سيّما في ما يتعلق باهتمامات المراهقين)، التي تجتاح دور العرض التجارية. أراكي هذا صاحب فيلموغرافيا تكرّست من خلالها فكرة "ثقافة القمامة"، وهي تشكلّت من جملة تأثيرات أثقلت على هذا السينمائي، بدءاً من فنّ الـ"بورليسك" وصولاً الى النزعة البورنوغرافية الواضحة، فالمثلية الجنسية التي تطفو على سطح أعماله منذ فيلمه الاول "ثلاثة أشخاص في الليل" (1987) الذي صنعه بخمسة الآف دولار فقط لا غير، وتحوّل أحد أبرز العناوين في تاريخ السينما الاميركية المستقلّة، لا سيّما بعد نيله ثلاث جوائز في مهرجان لوكارنو. في فيلمه الجديد "كابوم" (خارج المسابقة) يحمل أراكي مرة جديدة راية جيل كامل من الشباب المنبوذين الذين يبحثون عن ذواتهم وسط مجتمع لا يلبّي رغباتهم، فلا يبقى أمامهم الاّ الموسيقى والجنس وأشياء أخرى يثبتون وجودهم من خلالها. إبن عقيدة سينمائية لا تؤمن بضرورة توافر إمكانات كبيرة لصنع شريط متكامل العناصر، لم تستطع اغراءات الاستديوهات الكبيرة أن "تفسد" أراكي الذي ظلّ "أراكياً" حتى العظام، فلم يقدّم التنازلات، لا بل تزايدت "أراكيته" من فيلم الى آخر. مخدرات، جنس، هلوسة، استيهامات، لواط، وازدواجية، هذه بعض مضامين "كابوم"، الذي لا يملك قدرة كبيرة على الاقناع كما كانت الحال في "بشرة غامضة"، ذلك لأنه يأتي بمعالجة فيها خفة وتساهم في انتزاع الجدية من الفيلم، من دون ان تمنحه في المقابل طابعاً كوميدياً مقصوداً. يروي المخرج انه خطر على باله انجاز هذا الفيلم بعدما عبّر له أحد أمراء الكيتش جون وايترز بأنه يرغب في مشاهدة فيلم لغريغ أراكي يكون مصنوعاً على الطريقة القديمة. فعلاً، هناك احساس طاغ بأن "كابوم" يأتي من مكان اختبره أراكي جيداً، عندما كان تلميذاً في ثانوية. هناك عودة الى الخلف، وسير على خطى المصدر الذي يشكل مرجعاً خالداً بالنسبة اليه: مسلسل "توين بيكس" لديفيد لينتش.

•••

"رجال وآلهة" (مسابقة) لكزافييه بوفوا كان مشروعاً خطراً. أفلمة قصة الرهبان الفرنسيين السبعة الذين قتلتهم الجماعات الاسلامية في الجزائر عام 1996 (علماً ان بعض المصادر تقول ان الجيش الجزائري تورط في قتلهم)، كانت تتضمن عدداً لا يستهان به من المطبات. منها الوقوع في الخطاب الذي يمضي في مقارنات بين المسيحية والاسلام. لا انحياز رخيصاً في "رجال وآلهة" ولا ادانة. نحن أمام عمل يملك مخرجه مسافة متوازنة جداً مع موضوعه. مخرج "الملازم الصغير" يعرف كيف يخطف انتباهنا من خلال تجربة الرهبان وايمانهم العميق بالرسالة (شيء نادر في أيامنا هذه عند رجال الدين) الانسانية التي جعلتهم يتركون بلدهم لمساعدة الجزائريين الذين يعانون انواع العسف والظلم، جراء التعاطي السيئ للجماعات المتطرفة معهم. يحاول بوفوا الخروج من الفيلم بأقل قدر من الاضرار النفسية والمعنوية والاخلاقية. على مدار ساعتين يقحمنا في دير، صحبة ثمانية رهبان يناقشون المعنى الحقيقي لرسالتهم، واضعين النقاط على الحروف. لا كلل ولا ملل جرّاء هذا الغوص في صلواتهم وكلامهم عن قيم الديانة المسيحية التي لا تأخذ البتة منحى تبشيرياً. ليس هناك تهافت في النظرة الى الآخر، فقط عرض وقائع يخرج باستنتاج كبير مفاده ان العدو هو عدو الأديان كلها والانسانية بأكملها وليس حكراً على عقيدة دينية. نحن أمام فيلم متسامح جداً في مقاربته للموضوع. لامبير ويلسون في دور الراهب كريستوف المسؤول عن الدير، يقدم أداء فعالاً مترجحاً بين دمعة وصرامة. لقاؤه مع الارهابي الجزائري الذي يقتحم الدير مع زمرته طالباً العون، يشكل قمة الفيلم، وفي هذا المشهد ينبغي التنقيب اذا اردنا معرفة المقاصد الحقيقية للفيلم الذي يحاول ايجاد ما يجمع الدينين بدلاً من النظر في ما يفرقهما. بديعٌ أيضاً مشهد العشاء عندما يضع احد الرهبان "بحيرة البجع" لتشايكوفسكي، فتركّز الكاميرا على وجوه الرهبان طوال فترة المعزوفة، لنرى ان هناك آلهاً اخر على الارض يمكن تمجيده هو الموسيقى، ذلك الصوت الرباني صنيعة الانسان، القادر على أكثر الأفعال خيرا وأكثرها شراً في الحين نفسه. هذه الموسيقى، اللغة الكونية العابرة للمعتقدات والقناعات، هي الفتحة الوحيدة في فيلم يعبق برائحة الصمت والصلاة والموت وكادرات ساحرة. من الأفكار التي تؤمّن للفيلم تفوقه، الفكرة القائمة على منح كل راهب حق إعلان موقفه من الرحيل أو البقاء في الدير، بعدما تزايدت عليهم الضغوط. في هذا المشهد الاساسي، الذي يكرره الفيلم مرتين، تخرج الى العلن الشخصيات الحقيقية للرهبان، فنرى تشبث بعضهم وخشية بعضم الآخر، لكن ما يجمعهم هو انعدام الخيارات التي يعيشونها والشكوك المزمنة التي ينتزعها الفيلم من أفواههم. في النهاية، نحن امام فيلم من خامة نادرة، يأتي بأسئلة ولا يملك اجابات شافية، وأهميته انه يبقى على حافة الأشياء، راصداً ومحللاً مفهوم التضحية، فاصلاً اياها عن حب تعذيب الذات.

 

غودار لا يريد الموت قبل أن يرى أوروبا سعيدة

مهرجان كانّ أرض لكل العجائب. العجائب تمتد على طول الساحل من القصر الى المرقص الليلي الشهير "في اي بي روم". ما يكتسب في أماكن أخرى طابع الفضيحة، يغدو هنا نكتة تمر من لسان الى لسان لتسقط في خاتمة الجولة في قعر التاريخ. مثلاً: من كان يقول ان امتناع جان لوك غودار عن المشاركة في هذه الدورة سيكون أكثر افادة له ولفيلمه على الصعيد الترويجي مما لو شارك. المخرج الثمانيني لا يزال معلّماً في فن التحكم من بُعد، اذ عرف كيف يروّج لعمله من دون أن يكلف نفسه عناء ان يحرك مؤخرته من رول، المدينة السويسرية القريبة من جنيف حيث يقيم، الى المدينة الواقعة في جنوب فرنسا. كي يبرر فعلته، اخترع حجة تناقلتها وسائل الاعلام وأضحكت كثيرين. قال انه "يعاني مشكلة من النوع اليوناني". لم يفهم أحد ماذا يعني بذلك. ظرفاء ربطوا العبارة بالأزمة الاقتصادية التي تضرب اليونان حالياً. "ربما لا يملك ثمن سيارة الأجرة لتأتي به من المطار الى قصر المهرجان"، كتب ظريف آخر في مقال له. آخرون مضوا في تحليلات وإسقاطات عرمرمية، رابطين كلامه هذا بمضمون فيلمه الذي يتناول فيه الاغريق وفلاسفة اليونان وكبار رموز تلك البلاد. أياً يكن، هذه تقنية جديدة بارعة في لفت الانتباه يضعها غودار قيد التنفيذ، وقد تلقَّن لاحقاً في معاهد تدرس اساليب التسويق.  

"فيلم اشتراكية"، العمل الأول لغودار يشارك في كانّ منذ 2004، وهو المهرجان الذي زاره تسع مرات طوال حياته.  في الفاكس الذي ارسله الى تييري فريمو، قال:"أنا مستعد للذهاب الى الموت من أجل المهرجان، لكن لن أذهب أبعد من ذلك خطوة واحدة". اذا كان الامتناع عن الحضور سببه توجيه رسالة "نكاية" الى الطرق المؤسساتية التقليدية في الترويج لعمل يفلت من كل محاولة للتصنيف، فهناك رأي قائل ان مشكلة المعلّم ليست مع المهرجان بقدر ما هي مع الأفلام المعروضة فيه، والتي لا تليق بذائقته! لذلك أقدم غودار على وضع خطة أخرى تتيح مشاهدة فيلمه، وذلك من خلال تحميله على شبكة الانترنت مقابل سبعة أورو.  

بعد أكثر من نصف قرن على انطلاقته في السينما، لا يزال غودار يملك سر توليد الجدال. فهناك انصار غودار الذي يصطفّون الى جانبه ويشدّون على يده في الحلو والمر، وهناك من يصابون بانهيار عصبي ما ان يسمعوا باسمه. لا أحد من الطرفين قادراً على اقناع الثاني. انصاره يعتبرونه المخرج الذي خلق السينما مراراً وتكراراً، وكل فيلم جديد له ساهم في عدم موت السينما. في كل حال، النصّ الغوداري يعرف كيف يدافع عن نفسه! جرياً على عادته، يقفز غودار في جديده من موضوع الى آخر، مكثراً من الأقوال الشهيرة والأقل شهرة من مكتبته الضخمة، غير مكترث بالانسجام بين الصورة وخليفتها. هنا مقاربة جديدة قديمة للتاريخ. غودار لا يسائل التاريخ بقدر ما يحاكمه واضعاً اياه على اريكة المحلل النفسي. فرائد الموجة الجديدة، صاحب النظريات الغريبة العجيبة، عانق ثمانية عقود من التاريخ الآدمي، ولا يمكن أمام حذقه وتماديه في الهجوم على الفكر المعلب بوقاحة غير مسبوقة، الا ان يشعر المرء بأنه كتلميذ أمام معلم.

هذا الانتقال المونتاجي من مكان الى آخر ومن زمان الى آخر، يجعل الفيلم يبدو كالزابينغ التلفزيوني. فحيناً نجد نفسنا أمام مشاهد من مصر الفراعنة ثم ننتقل الى نابولي فبرشلونة ليحط بنا الرحال في حيفا. مع عودة دائمة ومتكررة لسفينة تبحر متحدية الامواج وعليها شخصيات تجتاز البحر الابيض المتوسط. ينظر غودار من ثقب الباب، باب التاريخ الانساني، فيشرعه على عالم من الألوان والأشكال، فيه فن وحضارات وأديان وحروب ونهايات مكلومة. كل شيء يرتدي تالياً طابعاً اقتصادياً، فتصبح الحروب والصراعات الدامية ضرورة بشرية. وتحتل أوديسا وادراجها الشهيرة التي خلّدها فيلم "البارجة بوتمكن" لأيزنشتاين، موقعاً بارزاً. على رغم استحالة وصول الفكر الخاص بغودار الى مشاهدين لا يملكون حداً ادنى من الفضول السينمائي، يبقى الفيلم ذا تأثير بهي، بسبب المونتاج الفظيع الذي يحول الشريط قصيدة سينمائية.  

مغنية الروك باتي سميث والفيلسوف آلان باديو والمؤرخ الياس صنبر من جملة الضيوف الذين يسافرون على متن الفيلم. كنا نعلم انه، في اعماله، غطى السكون الحوار. ولم يبقَ هو الا سيداً قديماً، متنبهاً لهذا العصر الذي يبتعد مع مرور الوقت، فما عاد يشغل باله الا الحرب والسلم. برعت أفلامه الأخيرة  في ابراز مشكلة الحرب والسلم من دون ان يشوّه أي حلّ. فعندما يموت مناضل، يولد فنان. لقد بلغ غودار ذروة فنه، اذ جعل المشاهد يرى ما ظن الانسان انه رآه. من جمال عبقريته يشع النور. بالنسبة الى غودار، العالم مظلم لكنه تحول الى نور في غرفة معتمة. فما يبحث عنه الآن، هو هذه العلاقة العضوية بين الفعل ورد الفعل اللذين يحكمان الكون، منذ سحيق العهود. أمام حالة من الغموض وجلد الذات، يجد غودار امتدادات بين مأساة فلسطين وانحطاط أوروبا. "الافكار تبعد الواحد عن الآخر، والأحلام تقربهما".

الفيلم، الذي بدأ عرضه امس في الصالات الفرنسية، ذو نفَس ملحمي، اذ نسافر معه الى أزمنة متعددة، من حقبة زمن الميثولوجيا الاغريقية الى هوليوود مع العودة الدائمة الى حضن الألمان والنازية وعلاقة هذه المسائل بما يدور في فلسطين المحتلة. هذا كله بقدر عال من الاستفزاز، من دون أن يخشى الاتهام الجاهز بالمعاداة للسامية، وهي تهمة ليست غريبة عنه.

يختلط الروائي والارشيفي، الحرب والسلم، الصورة النقية والرديئة، على وقع موسيقى الأرغن الربانية الملهمة. موزاييك من الصور ينهش الشاشة، يرافقها كمّ من الكلمات المتقاطعة والمخادعة. شيئاً فشيئاً يتوضح لماذ عنون غودار عمله بـ"فيلم اشتراكية". كرهه للفائدة المادية يتجلى في العبارة الآتية: "جرى اختراع المال، كي يخاطب الناس بعضهم بعضاً من دون ان ينظر الواحد في عين الآخر". تأملات فلسفية يلفّ حولها غودار منذ سنوات، لكن هذه المرة تنبع منها جدية جراء العمر والزمن الضائع وفقدان السعادة. غودار يقولها من دون احراج انه لا يريد أن يموت قبل أن يرى أوروبا سعيدة، وقبل أن يرى كلمتي "روسيا" و"سعادة" مقترنتين من جديد!

هـ. ح

 

"نسخة طبق الأصل" لعباس كيارستمي

طــــــعــــــم الــســـــــــيـــنـــمــــا

لا يمكن الحديث عن الدورة 63 من دون التأخر عند عباس كيارستمي. فالمهرجان يحتفي به هذه السنة ولو من دون أن يعلن ذلك. أولاً، من خلال وضع ممثلة فيلمه الجديد جولييت بينوش على ملصق الدورة الحالية، ثانياً من خلال اعادته الى المسابقة وهو الذي كان وعد بأن لا يشارك في المهرجانات الا خارج المسابقة. وثالثاً من خلال تفعيل قضية جعفر بناهي الذي تتلمذ على يد المعلم.

"نسخة طبق الاصل" (مسابقة) يعيد كيارستمي الى السينما الكبيرة التي كان غادرها طوال العقد الماضي لمصلحة تجارب صغيرة اعادت اليه الشباب ونصّبته واحداً من معلمي الصورة. ربما من الصعب فهم كل المقاصد الفكرية والغمزات السينمائية لهذا الفيلم من خلال مشاهدة واحدة ووحيدة له. فالشريط يتضمن قدراً هائلاً من الثراء ويقوم على طبقات عدة من القراءة.

لصناعة "نسخة طبق الأصل"، انتاج ماران كارميتز، كان ينبغي لكيارستمي ان يذهب الى ايطاليا. لم يكن ممكناً صنعه في ايران لأسباب جوهرية تتعلق بالديكور واللغة وجوهر المادة المصورة. أن يذهب مخرج مثله الى توسكانا للتصوير، لا يعني نفياً ولا بحثاً عن وطن جديد، وخصوصاً عندما نتذكر ان كيارستمي يسكن السينما، وطنه وأمه، أكثر مما يسكن جمهورية اسلامية تدعى ايران.

هذه المرة الأولى يستعين كيارستمي بنجمة سينمائية. لكن جولييت بينوش بدت منذ الأول جزءاً أساسياً من المشروع، لأنها لا تقوم في الفيلم الا بلعب دور جولييت بينوش، الممثلة التي لعبت في ادارة مخرجين من جنسيات مختلفة وبلغات مختلفة. من المعلوم انه كان لكيارستمي مشروع مماثل منذ فترة طويلة طرحه بدءاً على شكل فيلم تدور حوادثه في بيروت ويكون من تمثيل ايزابيل أدجاني وينطق بلغات ثلاث. لكن مع نضوج الفكرة في رأسه، انتقل المشروع من بيروت الى توسكانا حيث صوّر هذا العمل الكبير الناطق بالانكليزية والفرنسية والايطالية، وهو ليس الا لقاء بين رجل وامرأة لا نعرف اسميهما، يتيح كيارستمي لهما مناسبة للكلام والبوح، مع المحافظة على طريقته في التأطير والمونتاج وروحانياته الايرانية. هذه المرأة تقيم على ارض غريبة، وهي تشكو من قلة اهتمام زوجها الغائب دائماً. لعبة كليشيهات ودال ومدلول وتزوير وحقيقة ومظاهر خادعة... هذه كلها يتجول فيها كيارستمي مركزاً على فكرة سوء الفهم المستمر بين الجنسين. فهذان الشخصان اللذان نراهما في بداية الفيلم، نعتقد انهما يعيشان ويفكران خارج الاطر الاجتماعية التقليدية، لكن يبديان في ما بعد ميلاً الى الأفكار الجاهزة المتعلقة بالحرب بين الجنسين. يصوغ كيارستمي فيلمه على شكل حكاية نخرج منها بخلاصات، نوع من اريك رومير تائه في بلاد لا يفهم لغتها.

العلاقة، ثم يتطور الحوار القائم على ردّ الصاع صاعين بين الاثنين بشكل مبهم، ليعرّج على منطق آخر. فجأة يأخذ الفيلم منعطفاً فيدخلنا كيارستمي في تأملات فلسفية عن الفحوى والظاهر، مع اصراره الدائم على التذكير بأننا في صالة مظلمة وأمام شاشة، ولا يمكن هذه الشاشة أن تقول كل الحقيقة عن شخصيات تتمرد على كاتبها. في حين أن كاتبها كيارستمي هو اللاعب الاقوى لأنه يستغل طاقات الشخصيات ليصل الى اقرب منطقة ممكنة من الحقيقة، عاملاً بمنطق جان كوكتو "السينما كذبة تقول الحقيقة".

(   hauvick.habechian@annahar.com.lb)

النهار اللبنانية في

20/05/2010

جميع الحقوق محفوظة لموقع سينماتك
  (2004 - 2010)