حول الموقعخارطة الموقعجديد الموقعما كـتـبـتـهسينما الدنيااشتعال الحوارأرشيف الموقع 

مهرجان الخليج السينمائي الثالث ـ 2010

حوار

بلده كردستان العراق، منفاه ايران ومرجعيته الواقعية الايطالية 

كوركي يعتنق الأمل غصباً عن النهايات المكلومة

هوفيك حبشيان/ دبي...

في 81 دقيقة سينمائية، يقحمنا "ضربة البداية" لشوكت أمين كوركي (1973) في بيئة، بيئة كاملة متكاملة، هي بيئة كردية متجذرة في مدينة كركوك، تغرّب عنها كوركي لنحو 25 سنة من حياته قبل أن يعود اليها حاملاً معه موهبة صارخة سمحت له بالتقاط المساحة واللحظة والايقاع الحياتي وشخصيات تجسدت أمامنا بروعة وواقعية تترجحان بين حرفة ايرانية وتيار "الواقعية الايطالية الجديدة" التي لا ينكر كوركي خروجه من تحت معطفها، لا بل يشكل هذا عنده مادة اعتزاز وتوظيف، كما لدى الكثير من السينمائيين من قبله. لا شك ان المسافة النقدية التي تشكلت عنده تجاه الواقع الكردي في كركوك، بحكم وعيه وتركيبته الثقافية ونبذه للسياسة، واقامته في ايران لسنوات، هي بعض من عناصر أهّلته لمثل هذه السينما التي تتكون من لقاء مثير بين المناخ والتشكيل والمعنى. انها سينما ذات "كاراكتير"، كما يقال. فمن خلال تصويره ملعب كرة قدم مدمر حيث تعيش 300 عائلة من اللاجئين، شيدوا على ترابه بلدة صغيرة من بيوت الصفيح، يقدم كوركي استعارة تصل الى أهدافها النبيلة، سالكاً دربي التراجيديا والكوميديا، من دون أن يستنزف اياً منهما، ومن دون أن تأكل الواحدة حصة الأخرى. أما شخصياته، فهي "أكبر من الحياة" ("بيغر ذان لايف"، كما في التعبير الانكليزي الشهير). يحمل كوركي هذه الهموم كلها ويذهب الى نهايات مكلومة ومصائر محتمة، عليها أن تمر بالحزن وبلعبة الأقدار لبلوغ الأمل!

في "مهرجان الخليج السينمائي" عُرض "ضربة البداية"، وهو ثاني أفلام كوركي بعد "العبور من الغبار"، ضمن مسابقة الأفلام الطويلة، ونال الجائزة الأولى. كانت تلك مناسبة لقائه واكتشاف مخرج في مخيلته كمّ من الحكايات...

·         ما هي الظروف التي أتاحت لك تصوير "ضربة البداية"؟

- هي الظروف نفسها التي جعلتني أصوّر فيلمي السابق. اي انني تأثرت بالأشياء التي كانت من حولي. في المرّة الأولى رأيت ملعب الكرة في التلفزيون وأثناء زيارة لكركوك اكتشفت هذا الملعب بالعين المجردة وصوّرت بكاميراتي. قلت لنفسي: "هذا الملعب وُجد كي يكون مكاناً للعب، ليس من المعقول ان يؤوي ناساً في مثل هذه الظروف المعيشية الرديئة". هكذا انطلقت الفكرة. فكرت في ان يكون هناك شباب يحاولون منح هذا المكان دوره الحقيقي بجعله مسرحاً للعب والفرح والمسابقة الرياضية. الفيلم يري كيفية استرجاع الأمل في مكان مثل كركوك خصوصاً، وفي العراق عموماً. من المهم جداً ان تتغير الحالة المأسوية للانسان العراقي. هذا الأمل مهم جداً عندي. أريد للمأساة ان تتحول حالة أمل بغية التطلع الى مستقبل جديد. ولأنني أعيش داخل هذه البيئة منذ عشر سنين، وأشعر بهذه المعاناة وأعرف اعماقها، كان من المهم عندي ان اطرح هذه المسألة في فيلم. على رغم طغيان الصورة القاتمة والسيئة والكئيبة والعتمة، حاولت ان يكون داخل الفيلم لحظات بهية ولا سيما مع وجود الشخصية الكوميدية. أردت للحوادث ان تكون داخل فضاء من البهجة والفرح والتشويق. هذه كانت مساهمة مني لاكتشاف الفضاء بهذه الطريقة، مع ان النهاية هي حزينة جداً.

·     أنت تعيش في إيران منذ سنوات طويلة. كيف تكون اعادة احياء واقع "من بُعد"؟ وهل خانتك الذاكرة عند عملية استنباط حقيقة يومية معيشة؟ هل أجريت ابحاثاً وتوثيقاً لهذا الغرض؟

- صحيح أني عشت في إيران معظم سنوات حياتي، لكني عدت الى كردستان العراق منذ ما يناهز العشر سنين، وهو في رأيي زمن طويل جداً لأفهم مجتمعي وبيئتي واستوعب ما يجري في هذا المكان. اما بالنسبة الى الأبحاث، فأنا أجريت تحقيقات عن الظروف المعيشية لسكان كركوك...

·     لكن على رغم هذا، لا نستطيع ان ننكر ان علاقتك بالمكان مختلفة عن آخر يقطن فعلاً في تلك البقعة الجغرافية. والفيلم نتاج هذا الاختلاف...

- ليس من الضروري ان تعيش في مكان لكي تنتج عنه فيلماً، هذه ليست قاعدة او قانوناً. في العالم بأسره، هناك مثلاً سينمائيون يعيشون في فرنسا ويذهبون الى اليابان لإنجاز فيلم، او يكون المخرج بريطانياً ويصنع فيلماً هندياً. مع ذلك فأنا عشت في كردستان وأعرف البيئة جيداً، مع التذكير بأنني كنت أسكن اصلاً في كردستان ايران، اي انني لم اكن بعيداً من مشكلات بلادي. لم أكن مثلاً في أميركا، انما في منطقة قريبة من الحوادث التي كانت تجري في كردستان العراق.

·     لم يكن سؤالي يضمر اتهاماً. فقط كنت أريد القول ان تميز الفيلم يأتي من هذا المحل: الغربة النسبية عن المكان التي تسمح للمخرج بإلقاء نظرة نقدية على محيطه! آمل ان تكون قد فهمت قصدي...

- نعم، توخيت ما تقصده. كل شيء على ما يرام، ليس هناك سوء فهم (ابتسامة).

·     أكثر ما لفتني في الفيلم التقاط البيئة ونبضها. للصوت والضجيج المستمر فضل كبير في حسن التقاط هذه البيئة. صراخ الأولاد، صوت المروحية التي تقتحم الأجواء، والضجيج المتأتي من خارج الملعب... سؤالي: هل كنت مدركاً لأهمية الشريط الصوتي منذ بدء عملك على الفيلم؟

- هذا سؤال مهم جداً. عندما ذهبت الى الملعب، أدركت ان مسألة الصوت لا يمكن التغاضي عنها. الملعب كان شكله دائرياً. والناس كلهم يعيشون في تلك الدائرة، وإذا ما تحدث أحدهم في هذه النقطة يذهب الصوت بسهولة الى النقطة المقابلة. حالة الصوت هي حالة دائرية، تدور داخل الملعب، من هنا الى هناك، والعكس. الى تلك الأصوات للناس داخل الملعب، أضف الى ذلك ضجيج المروحية وضجيج السيارات المتأتي من خارج الملعب كما لو كنا في وكر دبابير. لذلك سارعت الى التحدث مع مهندس الصوت لنرى كيف يمكننا ان نوظف تلك الاصوات في الفيلم. هذا الأمر ولّد مشكلة حقيقية عندنا. كنا نريد التقاط الصوت بتقنية الـ surround، لكننا اضطررنا في الأخير الى التقاط كل صوت من الأصوات التي نريدها على حدة. عندما ذهبنا الى الاستوديو لدمج الاصوات المسجلة، كانت لنا رغبة واحدة هي تجسيد حالة يشعر المتلقي من خلالها انه داخل الملعب. كنا نريد للصوت حضوراً طاغياً. أنا أشعر بسعادة كبيرة كونك لاحظت هذا الشيء لأنني مدرك لها الى أقصى درجات الإدراك!

·     ذكية أيضاً معالجتك للصورة التي أزلت منها الألوان الزاهية والفاقعة الى حدّ تبدو انها أسود وأبيض على رغم انها ليست كذلك. هذه الصورة تبدو متناغمة مع الواقع المعيش، بقتامته وعنفه.

- كلامك صحيح جداً. ما إن وقع نظري على الملعب حتى بدا لي أن اللونين الابيض والاسود هما الاكثر ملاءمة للفيلم، لكن عندما ذهبنا الى التصوير اكتشفنا أن هذا الخيار ليس صائباً، فأعطينا قليلاً من اللون الذي رأيته. مسألة انعدام الألوان نابعة من كون حياة الناس في هذه البقعة لا تتضمن الا لوناً واحداً ولا توجد ألوان متعددة، والمعنى واضح على ما أعتقد. إضافة الى ان الملعب فيه ألوان قليلة...

·         كيف عملت على السيناريو؟ هل كان هناك نص محدد أم أنك خلقت كل شيء في موقع التصوير؟

- كان لي سيناريو أساسي عندما ذهبت الى الملعب. لكني كنت أعرف ان مفاجآت مفيدة تحدث على رغم حيازتي سيناريواً شبه مكتمل. لذلك كنت ليّنا مع هذه المسألة وكان عندي دائما باب مفتوح على المستجد والمثير. في الفيلم ثمة فضاء وثائقي، اما الممثلون فغالبيتهم ليسوا محترفين، لذا جهزت نفسي لأستقطب لحظات غنائية غير مظنونة. كنت دائم الاستعداد لهذه الحالة. أستطيع ان أقول ان السيناريو الحقيقي تغير بنسبة 20 في المئة بين لحظة كتابته ولحظة تصويره.

·         كيف اكتشفت الممثلين؟

- اخترتهم بعد اخضاعهم لعملية كاستينغ او تجربة. الغريب ان البعض من الممثلين الهواة كان قريباً جداً من ملامح شخصياته بحسب ما كانت مرسومة في السيناريو. الى الآن، لا أعرف من كتب الآخر، هل الممثلون كتبوا الشخصيات أم العكس! العجوز مثلاً نخاله أحيانا صاحب الكلام الذي يقوله، علما أن هذا الكلام من تأليفي.

·         تكلمت عن الواقعية الايطالية الجديدة كملهمة لك. واضح اعجابك بها. أي فيلم تحديداً؟ وهل هذا التيار مرجعية بالنسبة اليك؟

- انا متأثر بالكثير من المدارس السينمائية، لكن للواقعية الايطالية الجديدة مكانة خاصة في قلبي، ذلك أنني أرى نفسي في هذا التيار وأتوحد معه. يجب الا ننسى أن الواقعيين الجدد هم نتاج ما بعد الحرب العالمية الثانية. لا أستطيع أن أذكر فيلماً معيناً، بل هم مجموعة مخرجين من امثال فيلليني وفيسكونتي وروسيلليني ودوسيكا.

·     لا يتبدى الانقسام بين الاكراد والعرب والتركمان الا من خلال اللغة. هذا الانقسام في حاجة الى لعبة كرة قدم كي يظهر الى العلن...

- ربما يوجد شيء لا يوضحه الفيلم تماماً، وهو أن الفرق التي تأتي من خارج الملعب، العرب والأشوريين والتركمان، لا تعيش داخله. أما الملعب حيث يجري معظم الحوادث فسكانه من الاكراد.

·     كيف تفاديت فخ الوقوع في التأويل السياسي لدى تناولك موضوعاً بهذه الحساسية؟ أنا أعرف أنك تريد لفيلمك صوتاً انسانياً فريداً بعيداً من صراع الهويات...

- أنا فرح جداً لهذه القراءة الانسانية للفيلم. كان هدفي ايصال محنة وليس رسالة سياسية. كان هدفي ان أروي الى المتلقي كل ما شعرته، وبالصدق نفسه الذي شعرت به للمرة الاولى.

·         سمعت انك لم تجد دور سينما في العراق لعرض الفيلم!

- عندما قابلوني على محطة "سي أن أن"، سألوني لماذا لم يعرض فيلمي السابق على رغم نيله الكثير من الجوائز، فكان جوابي "لا توجد عندنا صالات". شكل هذا مصدر اندهاش بالنسبة اليهم. سألوني: كيف تنتجون الافلام وليس لديكم صالات عرض؟ هذه مشكلة متواصلة عندنا، ولم ينطلق التفكير في فتح صالات الا حديثاً. كل همّي واملي ان يرى جمهوري الأفلام التي اعرضها للآخرين في المهرجانات.

·     لفتني أيضاً استعمال الموسيقى؛ الكثير من الأفلام يضرها الاستخدام المفرط للموسيقى، لكن فيلمك متيقظ حيال هذا الشيء...

- موسيقى هذا الفيلم (وأيضاً فيلمي السابق) ألّفها موسيقي ايراني بارع، عمل للعديد من السينمائيين الكبار. عندما ذهبت اليه وتحدثت عن الموسيقى في هذا الفيلم، كنت متمسكاً برأي مفاده ان الاقتصاد في الموسيقى امر جيد، وهو جاء ليؤكد ما كنت اتطلع اليه، وقال انه قلما كانت الموسيقى قليلة أصبح الفيلم اشد قوة.

·         هناك ايضاً بصمة ايرانية في فيلمك!

- هذا طبيعي. عشت 25 سنة في ايران. هناك تعلمت السينما وانجزت الأفلام القصيرة. تأثرت بالواقعية الجديدة الايطالية لكن للسينمائيين الايرانيين حضوراً طاغياً في وجداني. على كل حال، في اي مكان من العالم ارى فيلماً جيدا، اتعلم منه!

·     السينما الكردية جيدة اليوم. هل نظام صدام حسين هو اكثر ما كان يمنع وجود سينما كردية، وهل ترى ان الأبواب شُرِّعت فجأة امام سينما كردية جديدة؟

- لم اكن في كردستان العراق خلال النظام السابق، لكن صدام حسين احتل كل الحياة الثقافية وكل شيء، فكان سبباً واضحاً في تخلف السينما الكردية، لكن بعد تحرير كردستان وسقوط النظام في 2003 انطلقت السينما الكردية. اليوم توجد عندنا طاقات جيدة وحيوية شابة. تبقى مشكلة عدم وجود آلية تدعم المخرج والعمل الجيدين...

 (hauvick.habechian@annahar.com.lb)

النهار اللبنانية في

22/04/2010

جميع الحقوق محفوظة لموقع سينماتك
  (2004 - 2010)