حول الموقعخارطة الموقعجديد الموقعما كـتـبـتـهسينما الدنيااشتعال الحوارأرشيف الموقع 

مهرجان الخليج السينمائي الثالث ـ 2010

فرانسوا فوجيل، وأفلامه المُثيرة للدهشة

دعونا نستمتعُ بهذه الصور الجميلة

صلاح سرميني ـ باريس

مابينَ روح شرائط الفيديو المُوسيقيّة، تقنيات أفلام التحريك، جماليات الأفلام الإيقاعيّة/البنائيّة، وعبث الشخصيات المُثقلة بهمومها الإبداعية، يلجأ السينمائيّ الفرنسيّ التجريبيّ "فرانسوا فوجيل" إلى أسلوبٍ يُعيدُ معمارية الواقع، ويُحوّله إلى أشكالٍ مُمتدّة في الزمان، والمكان، حيث يختلُّ توازن الأشياء، وترتخيّ في فضاءٍ يخلو من الجاذبية، مُنجزاً هذياناً بصرياً مُتعقلاً، أعمالاً إبداعية مُفرطةً في الجمال، ومثيرةً للخيال، والدهشة.

مع كاميرا/ت لا تهدأ، عدساتٍ واسعة جداً، منظوماتٍ مصنوعة يدوياً، وألعابَ أطفالٍ، وكبار، يتخطى "فرانسوا فوجيل" مفهوم التجريب إلى التجديد، والاكتشاف، مُستفيداً من أشرطة الأخوين لوميّير، وخدع جورج ميلييس، مُروراً بالحركات الدادائية، المُستقبليّة، والسُورياليّة،..، ولا يتوقف عند آخر المُستحدثات التقنية الرقمية.

في أفلامه، يتجسّد مفهوم "اللعبة"، و"اللعب"، حيث يستلهمُ أفكاره من التأثيرات البصرية للعدسات، المراجيح الكبيرة المُدوّخة، والهائجة حول محورها في اتجاهاتٍ مختلفة، الألعاب البصرية التي سبقت اختراع "السينماتوغراف" ـ الـ "Kaléidoscope" على سبيل المثال ـ، وأحدث التقنيات الصوتية، والبصرية المُتوفرة حالياً.

بدورها، تتحوّل الكاميرا/ت إلى لعبةٍ، ويتسامى هذا اللعب الطفوليّ إلى مُنجزاتٍ إبداعية، وفيها تتعايشُ الصور في "كولاجٍ سينمائيّ"، وتتباعدُ الشخصيات، وتتقاربُ بطريقةٍ آلية في أزمنةٍ، وأمكنةٍ مُركبة، ومُصطنعة.

وعن طريقها، يخلقُ "فرانسوا فوجيل" عوالمَ مُقعرّة، وهمية، أو مُتوّهمّة، يُفتتُ عناصر الصورة، ويُدّمر المفاهيم التقليدية للمشهد، واللقطة، وأحجامها، مُبدعاً صوراً مُتناضدة، ومُتداخلة، تتزحلقُ فوق الصورة الأصلية الأكبر، تتناسخُ فيما بينها أحياناً، تتكوّرُ في حالاتٍ أخرى، وتمتدُّ إلى ما لانهايةٍ في تأثيراتٍ "كليودوسكوبية".

"فرانسوا فوجيل"، يغرفُ من جماليات السينما التجريبية، ويُثريها بمُفرداتٍ جديدة، يتلاعبُ بالصورة كما الصوت، تماماً مثلما يفعلُ الكبار، والصغار مع تلك الألعاب الفرنسية المُعتمدة على التشابهات اللفظيّة بين الأشكال، والرسومات، والتداخلات الحرفية، والتشكيلية مابين الكلمات.

قبل مُشاهدة أفلامه، دعونا نتناسى طوعياً واقعاً رتيباً، ونتخلى عن أثقالنا كي نستمتعَ بصورٍ مُبتهجة حتى الانتشاء .

في (خشخشة الخنافس/ Le Bruit de la vrillette/ The Sound of the Woodwormـ 10 د ـ 1992)، يتجسّدُ بناءٌ حكائيّ، يزدادُ تعقيد الحدث، وشخصياته، ولكن، لا تتجاوز أهميته الجماليات السينمائية المُستخدمة.

هنا، بالإضافة لشريط صوت مُشوهاً ما أُمكن، يبدو بأنّ الصورة تُعرض في اسطوانةٍ، بئرٍ، أو نفق، نصف دائرتيّن مُلتصقتيّن يمنحان هذا التأثير البصري، في الأولى أعلى الشاشة، رجلٌ يتحرك عكس حركة آخر في نصف الدائرة الثانية أسفل الشاشة.

من الأفضل، بأن لا ينشغل المُتفرج بحكايات "فرانسوا فوجيل" البسيطة جداً، وأسرار إنجازها، ولكن، بالأحرى، يستغرقُ بمشاغله، وهمومه الجمالية، لأنه ـ ماعدا المُتخصصين جداً ـ لن يصل إلى نتيجة.

وحده يعرفُ خبايا صنعته، والطريقة التي يجعل صوره سائلةً، وكأنها تُعرض فوق سطح الماء، وتتشوّه بفعلِ موجاته.

في كلّ فيلمٍ يقدم "فرانسوا فوجيل" فكرةً جماليةً مختلفة، يُحوّل المألوف، الاعتياديّ، واليوميّ إلى حدثٍ مبهر، في (قطاف/ Cueillette/ The Picking ـ 2 د ـ 1995)، بداية حكاية، ملامح فراقٍ أكثر منه لقاءً مبتسراَ في ركن حديقة، حيث شابٌ مُدخنٌ، وحالمٌ، وفتاةٌ تعطلت دراجتها الهوائية.

في (طبيعة ضاحكة/ Riante contree/ Cheerful Country ـ 3 دقائق، و45 ثانية ـ 1996)، هناك، رُبما، شبكةٌ في فضاءٍ أخضر يتعلقُ فيها شخصيتان، واحدةٌ أنثوية، والأخرى ذكرية، هكذا يبدو للمُتفرج، من تشكيلاتهما الخطية الهندسية البسيطة، فيلمٌ إيقاعيّ يمزجُ مابين تقنيات الرسوم المُتحركة، الكولاج، والإنشاءات السمعية /البصرية، يمكن أن يُزين شاشة عرضٍ تقليدية، أو قاعةً في متحف للفنون المُعاصرة.

في (شارع فرانسيس/ Rue Francis ـ 4 د ـ 1997) يستخدم "فرانسوا فوجيل"، ولأول مرةٍ، مادةً تسجيلية يُحوّرها على مذاقه الخاصّ في الاقتحام، والتراجع، تشويه الصورة، تقعيرها، واستنساخها.

إنه ببساطة، وأفلامه كلها بسيطة، يُسجلُّ صوراً لبعض المُمارسات العارضة في المباني المُواجهة لنافذة غرفته، وما يحدثُ في الشارع أسفل البناية، يُغير من رتابتها المألوفة، ويجعلها تتدفق بإيقاعٍ آليّ.

في (دجاجة جيرار/ La Poule Gerard/ The Gerard Chickenـ 4 د ـ 1997)، يعود "فرانسوا فوجيل" إلى الحكاية، ولكنه، كالمُعتاد، يقدمها بشكلٍ مُغاير، "جيرار" شخصية مُتوَهمّة على الأرجح، يحكي من خارج إطار الصورة حكايته عن وجبة الدجاج التي يُتقنها من خلال صياغة سينمائية تمزج بين التعليق الصوتي، الصور الفوتوغرافية، وتقنيات التحريك، ويمنح الإحساس الجماليّ بصورةٍ من مقاس سوبر 8، استهلكها الدوران في جهاز العرض، وحرارة مصباحه المُتوّهج، والأوساخ، والخدوش، تضيف إلى شريط الصوت خشخشةً لا يمكن تفاديها.

(سقفٌ اصطناعيّ/ Faux plafond/ Construction Ceilingـ 6 د ـ 1999) يتضمّن بناءً حكائيّاً ـ سوف يضمحلّ فيلماً بعد فيلم ـ زوجان يُعانيان من تعطلّ مصباح الغرفة، الموسيقى قرقعة رتيبة، ومتوالية، الشخصيات محبوسة في مربعاتٍ، مستطيلاتٍ، ودوائر تبدو مُقحمة عمداً على الديكور، مُقتطعة من صورٍ أخرى، ومُلتصقة في الصورة التي نشاهدها على الشاشة.

ترتكزُ الصياغة السينمائية على التحريك، تبدو الشخصيتان مرسومتان، يُحركهما "فرانسوا فوجيل" فوق الشاشة، ويصورهما صورةً، صورة كي يحصل على حركةٍ متقطعة، وآلية.

في (Live@the End/حياة@النهاية ـ 4 د ـ 2002، يحاولُ الارتكاز على حدثٍ عاديّ، مُمارساتٍ يومية مألوفة في بهوّ مبنى يجتمعُ فيه عنوةً مجموعة من الشخصيات، وكلب أحدهم، أفقدهم "فرانسوا فوجيل" توازنهم.

يتجزأ المكان الواحد إلى أمكنةٍ صغيرة، ويتفككّ الزمن إلى أزمنةٍ مُتعددة، ومُتراكبة، وتتناسخُ الشخصيات.

فيلمٌ إيقاعي، موسيقيّ، وفيه يجتزئُ مساحةً صغيرة من الصورة الأصلية التي تملاً مساحة الشاشة، ويضعها فوق كلّ شخصية كي تتحرك معها يميناً، أو شمالاً، نحو الأعلى، أو الأسفل، يجعلها بالأحرى تتزحلق، أو تتراقص مع موسيقى مُتكررة "Musique Techno".كولاجٌ سينمائيّ، ولعبة مرايا كلّ واحدةٍ تعكس صورة الأخرى، وشخصياتٍ فقدت قدرتها على الحركة المُنتظمة.

(السلطعونات/ Les Crabes/ The Crabs ـ 6 دقيقة ـ  2002)، أكثر الأفلام بناءً في حكايته، قبيلتان/مجموعتان من البشر المُتوَهمّين تتحاربان فيما بينهما، يرتدي أفراد الأولى ملابس حمراء، والثانية زرقاء، لغتهم همهمة، صراخٌ، وكلمات غير مفهومة، الشخصيات مُستنسخة، ومحبوسة داخل إطاراتٍ شفافة، تضيق، وتتسّع وُفق حركاتهم الهائجة، وعندما ينكسرُ الإطار الذي يحيط بشخصيةٍ ما، أو يحميها، تختفي، تبتلعها مخابئ السلطعونات بالقرب من الشاطئ، في نهاية القتال لم يتبقَ من المجموعتين غير اثنين، واحدٌ فقدَ الإطار الذي يحميه، والآخر ما يزال يتمسك بقطعةٍ صغيرة، يقتربُ من الآخر، ويلمسه، فيتشكل إطارٌ يجمعهما معاً، يحبس الاثنان فيه، ويصبحا غير قادرين على التحارب، هل حلّ السلام بينهما؟

وكما يهزّ "فرانسوا فوجيل" إدراكنا البصريّ، فإنه في (لعبة ثلاث قطط صغيرة/ Trois petits chats/ Three Blind Mice" ـ 6 د ـ 2003)  ُيخلخلُ شريط الصوت بين شخصياتٍ تتبادلُ آلياً حواراً يرتكزُ على لعبةٍ لغوية.

ينقسمُ الفيلم إلى أربع أجزاءٍ تتدرجُ عكسياً من الرقم 3 إلى الصفر، المُتفرج الذي لا يُتقن كثيراً اللغة الفرنسية، أو نسخة الفيلم الإنكليزية، سوف يجد صعوبةً في فهم تلك اللعبة اللغوية الجماعية، ولكن، يكفيه الاستغراق في الصور للاستمتاع بفيلمٍ يستعيرُ من التصوير الفوتوغرافي، وتقنيات التحريك، مُقدماً نموذجاً أصيلاً لسينما لا تستمدُّ مرجعيّاتها من الأفلام الحكائية.

في(دوار/ Tournis/ Dizzyـ7 د ـ 2006)، يكشفُ "فرانسوا فوجيل" عن بعض منظوماته التقنية، لنكتشف بأنّ الصورة، والصوت في بعض أفلامه، ورُبما معظمها، يتخلقان لحظياً أثناء التصوير.

في الفيلم، وكلّ أفلامه، يتجسّد مفهوم "اللعب"، لقد تحوّلت الكاميرا إلى "لعبةٍ"، ويستخدم "فرانسوا" ألعاباً تمّ تجهيزها يدوياً لإنتاج تأثيراتٍ بصرية، وصوتية .

هنا، أكثر من كاميرا، وصوراً مُلتصقة فوق الصورة الأساسية، تتزحلقُ، تتوالدُ، تتعانقُ، تتراقصُ،.. كولاجٌ من الصور.

فنّ "الكولاج السينمائي" واحدٌ من مُمارسات السينمائيين التجريبييّن أيضاً، رُبما السينمائية الفرنسية التجريبية "فريديريك دوفو" أكثرهم استخداماً لهذه الطريقة على الشرائط الحسّاسة نفسها بعيداً عن النسخ، القصّ، واللصق المُستخدمة في التقنيات الرقميّة.

تتجلى في الصورة لعبة الفيلم، وقرينه، الفيلم/الأفلام داخل الفيلم/الأفلام، يشاهد المُتفرج في كلّ صورة صغيرة ما تقوم الكاميرا الأخرى بتصويره، بدورهم، فريق العمل يتراكضون، يتحركون من كاميرا إلى أخرى، ويلعبون.

يستوحي "فرانسوا فوجيل" أفكاره من تقنيات الألعاب المُدوّخة الهائجة في الهواء حول محورها في اتجاهاتٍ مختلفة، والتي تزدحمُ بها مدن الملاهي، حيث تعلو صرخات الإثارة، والخوف التي سعى الزبائن من أجلها.

المنظومات المُعدّة سلفاً، تنتج شريط الصوت مباشرة، ورُبما يعمدُ "فرانسوا فوجيل" لاحقاً إلى تشذيبها، وصياغتها من جديد، وإثرائها بإضافاتٍ طفيفة، هنا أيضاً، كما معظم أفلامه، مكانٌ واحد، ساحة أمام مبنى، لا يهمّ أين، ومتى؟ لا يوجد زمانٌ، ومكانٌ محددين، كلّ الأمكنة، والأزمنة قابلة للتصوير.

يستطيع "فرانسوا فوجيل" انتزاع أيّ مكانٍ من صورته الواقعية المألوفة للعين، ومنحه صورة أخرى أكثر إثارة، وديناميكية، أماكنَ هائجة، مائلة، مُعلقة، ممطوطة، مُرتخيّة، مُتراخيّة، مُترنحة، ثملة، مُنتشية،..

تتحركُ في كلّ الاتجاهات، يمكن أن تميل، وتسقط، ولكن "فرانسوا" يقبضُ عليها بعدسته، ويُعيدها في أيّ لحظة يشاء إلى صورتها الأصلية.

يُعتبرُ هذا الفيلم امتداداً، وتطويراً لجماليات الشاشات المُتعددة التي تحدث عنها السينمائيّ التجريبي الفرنسيّ "يان بوفيه"، وأنجزها بعرض أكثر من فيلمٍ عن طريق أجهزة متعددة، بينما يستخدم "فرانسوا فوجيل" جهاز عرضٍ رقميّ يعرضُ فيلماً واحداً.

في (مطبخ/ Cuisine/ Kitchen ـ 4 د ـ 2007)، الكاميرا، عدستها، والأنظمة التقنية المُبتكرة، تخلقُ المُؤثرات لحظة التصوير نفسها.

يستعينُ "فرانسوا" بعدسةٍ واسعة جداً، ولعبة مرايا تُسمّى "Kaléidoscope" التي تمطّ الصورة إلى مالا نهاية، مكانٌ واحدٌ لا حدود له، ممتدٌ في الزمان، والمكان .

في فيلم (بعد المطر/ After the Rainـ 4 د ـ 2008)، يمزجُ جماليات أشرطة الفيديو كليب الفنية، وأفلام التحريك، هنا، في غابة كرتونية مُصطنعة، يفتتُ وجوه شخصياته البائسة، والمحبوسة في أكواخٍ صغيرة لا تتسّع لأكثر من عينٍ، أو شفتيّن، تتعلقُ أجزاء الوجه بالصورة الأساسية الكبيرة التي تملاً مساحة الشاشة.

إنه فيلمٌ يتشكلُ من لقطاتٍ مُركبة، ومُتناضدة، الصغيرة الرمادية ملتصقة فوق أخرى أكبر منها احتفظت بألوانها المُتألقة، وأحياناً تتزحلق فوق حلزونات، أو تطير بأجنحةٍ كرتونية، هنا لم يعدّ لمفهوم اللقطة معنى، يُدمر"فرانسوا فوجيل" المفهوم التقليديّ لأحجامها (عامّة، متوسطة، قريبة،...)، فقد تداخلت مع بعضها، وهي إحدى جماليات السينما التجريبية التي يغرفُ منها، ويُثريها بمُفرداتٍ جديدة.

يُشير العنوان (Rebus 5 د ـ 2008) إلى لعبةٍ فرنسية تعتمدُ على الكلمات، والرسوم، يُجسّدها "فرانسوا فوجيل" بصريّاً على طريقته، المكان عنده محدودٌ تماماَ، مطبخٌ، وحديقة البيت،  كلماتٌ، وبعض المُؤثرات، مشوّهة بدورها، أسلوبّ بنائيّ، تقعير الصورة، ومن ثم تناسخها في لحظةٍ ما، وتحوّلها إلى لوحةٍ سينمائية مُزدهرة بالألوان، ومُبتهجة.

في (Stretching ـ 4 دقائق، و30 ثانية ـ 2009)ـ وتعني حركات التسخين، والتهيئة الجسدية التي يُؤديها الرياضيّون قبل الإقدام على مباراةٍ ما ـ ، يستعير مرجعياته من الجماليات الإبداعية للفيديو كليب الفنيّ بالتحديد، شريط الصوت يقرّبه أكثر من هذا الجانب، وخاصةً صياغته الإيقاعية.

في الفيلم، شخصيةٌ وحيدةٌ مُثقلة بالهموم التشكيليّة، تمارسُ طقساً رياضياً راقصاً مع عناصر المكان (شوارع مدينة مانهاتن، جسورها، وأبنيتها)، يُعيدُ "فرانسوا فوجيل" تشكيل بُنى معمارية، يخلقُ فضاءً يخلو من الجاذبية، ترتخي الأبنية حتى الأكثر ثقلاً، ورسوخاً في أساساتها، ويختلّ توازنها.

إنه عملٌ جسديٌّ، تجسيديّ، الكاميرا فيه لا تهدأ عن طقوسها الاقتحامية، والتراجعية، وعدسةٌ واسعة جداً "عين السمكة" مُصابةٌ بشرهٍ إبداعيّ/ جماليّ، تُوشك على ابتلاع أمكنةٍ هانئة بصورها الواقعية، ولكن، حالما تتبينُ بأنها في مواجهة مخلوقاتٍ جامدة، وعسيرة الهضم، تتقيأها، بدون الكفّ عن محاولاتٍ جديدة، تُعاندُ في اضطراباتها الهضمية بُتحويلها إلى أشكالٍ تجريدية/هندسية لفترةٍ مؤقتة قبل أن تلتهمها من جديد، وتلفظها مُشوّهة المعالم.

إنه فيلمٌ مُختبريّ ـ إن صحّ التعبيرـ ، هذيانٌ بصريّ مُتعقلٌ بما يكفي، وفيه تفقدُ الأبنية الجامدة الثقيلة صلابتها، وتقبلُ راضيةً، أو مرغمةً بحالتها المطاطية، اللزجة.

يبتكرُ "فرانسوا فوجيل" حركاتٍ جديدة للكاميرا تخلقها منظوماتٍ مُجهزة منزلياً، وتجعلها تتأرجحُ في الهواء، تقتحمُ، وتتراجع.

تبتعدُ الصورة "تماماً" عن حالتها المألوفة في واقعٍ رتيبٍ، أو أقرب إلى الرتابة، وتُدمرّ "تماماً" الفكرة الشائعة عن السينما بأنّها "مرآةٌ للواقع، وانعكاساً له"، في هذا الفيلم، كما غيرَه، السينما ليست مرآة، ولا تعكس واقعاً.

إنها، بالأحرى، تُجسّدُ خيالاً سينمائياُ يستوحي، ويستمدُّ مادته من الواقع، والخيال معاً، يمزجهما مُبدعاً عالماً ينحصرُ جغرافياً فوق شاشة، ولا يدوم أكثر من دقائق، أو ساعاتٍ وُفق المدة الزمنية لأيّ فيلم.

بالمُقابل، كاميرا "فرانسوا فوجيل" لا تجعل صورة الواقع بشعة كحال تلك المرايا المُنتشرة في مدن الملاهي، والتي تُشوّه صورنا إلى حدّ الفزع .

ولكنّ الصورة المُلتقطة بعدستها الواسعة، والتي يتمّ تسجيلها فوق الشريط الحساس، أو الإلكترونيّ، مُختلفة، مُثيرة للدهشة، وتستدرج المتفرج إلى عوالم معمارية خيالية، ومُصطنعة، كما الحال في أفلام التحريك المُرتكزة على خيالات مُستقبلية.

كما أنها لا تُجسّد أحلاماً ليلية، أو نهارية، إنها، بالأحرى، كاميرا تمتلكُ عيناً تمتدُّ إلى الصورة المُواجهة، تلفُّ حولها، تُؤرجحها يميناً، وشمالاً، أو تدفعها إلى الأمام، والخلف، وفي حالاتها المُبتهجة، تُمازحُ عناصر الصورة مزاحاً لطيفاً، ومألوفاً لصديقيّن، "فرانسوا فوجيل"، والكاميرا.

الجزيرة الوثائقية في

08/04/2010

جميع الحقوق محفوظة لموقع سينماتك
  (2004 - 2010)