اضغط للتعرف على صاحب "سينماتك" والإطلاع على كتبه في السينما وكل ما كتبه في الصحافة Our Logo
 

    حول الموقعجديد الموقعما كـتـبـتـهسينما الدنيااشتعال الحوارأرشيف الموقعسجل الزوار   

دراما رمضان ـ 2008

 

رمضان 2008

 

خاص

بـ"سينماتك"

كتبوا في السينما

أخبار ومحطات

سينماتك

ملتيميديا

إبحث

في سينماتك

إحصائيات

استخدام الموقع

 

رمضان في الشام (2 ـ 2)

ذكريات الدراما الإذاعية والتلفزيونية تعبق في الوجدان!

محمد منصور

 
     
  

ارتبط شهر رمضان بالدراما، وأصبحت ذكريات الناس الفنية مع المسلسلات جزءا من ذكريات الشهر الكريم وحضوره في وجدانهم! وفي دمشق كانت الدراما الإذاعية ثم التلفزيونية صاحبة حضور رمضاني بارز منذ أكثر من نصف قرن... أولا بسبب نهضة وقوة إذاعة دمشق وريادتها في الخمسينيات... وثانياً لأن البيئة الدمشقية الشعبية بلهجتها وشخوصها ونمط بناء حارتها، كانت مادة وموضوعاً للكثير من الأعمال الفنية الخالدة التي بثت أو عرضت في رمضان... والتي حققت اكتساحاً جماهيرياً كبيراً كان (باب الحارة) آخر نماذجه المعبرة عن تلك الحالة! هنا وقفة مع رمضان في الشام من خلال صدى الأعمال الفنية الدمشقية التي عرضت وشكلت إرثاً فنياً لأجيال عدة! دراما حكمت محسن الإذاعية! دخل التلفزيون والمذياع من قبله حياة الناس... فحل محل الحكواتي والكركوزاتي في ليالي رمضان العامرة بالسهر والحكايا.

وبالتوازي مع حضور الحكواتي، كانت إذاعة دمشق في خمسينيات وستينيات القرن العشرين بطلة الأمسيات الرمضانية... وكانت تمثيليات القاص الشعبي حكمت محسن، التي أخرجها الفنان القدير تيسير السعدي، بطل الساحة بلا منازع في تلك الفترة وخصوصا أنها كانت تحمل نكهة البيئة الشعبية الدمشقية بشخوصها النمطية المميزة: (أبو رشدي- أم كامل أبو فهمي- أبو شاكر- أبو صياح) فضلا عن أنها كانت تتناول خصوصية الحياة اليومية في ظل الشهر الكريم، فتتحدث عن الأشخاص الذين يفطرون خلسة؛ بأسلوب انتقادي طريف وذكي ومليء بالفهم العميق لنسيج الحياة الشعبية.

ويذكر الفنان تيسير السعدي أن الناس كانوا يوّقتون زياراتهم في رمضان قبل أو بعد التمثيلية الإذاعية. فقد سمّر حكمت محسن ببساطته وعفويته قلوب الناس، واستبد بأسماعهم... نقل تفاصيل حياتهم الواقعية برهافة وذكاء فأشجاهم، وترك فيهم حنيناً لا يزول لأعماله الخالدة... وقصصه الآسرة... لطبق الطعام الذي دار كل بيوت الحارة عند الإفطار ثم عاد لصاحبه، لأن كل بيت كان يرسله إلى جاره أملا في أن يسد حاجة أو يضفي على المائدة الفقيرة بهجة... لنوادر المسحراتي وحكاياه في آخر الليل عن الصوم والناس والبيوت المغلقة على همومها بكبرياء وتعفف! لقد غدت تمثيليات حكمت محسن علامة رمضانية فارقة، صنعت حضور الدراما الإذاعية في تلك الفترة، وشكلت تراثاً لا ينضب من القصص والحكايا! ومع انتشار التلفزيون واشتداد عوده درامياً، تراجع الفن الإذاعي شيئاَ فشيئاً وصارت المنافسة بالصوت والصورة... الجميع عاشوا ذكريات عرض الكثير من الأعمال التلفزيونية الرمضانية التي شكلت في الوجدان الصورة الفنية الملأى بالبهجة لحضور الشهر الكريم! (مساكين) التلفزيون السوري! يذكر متابعو بدايات التلفزيون السوري أن أول مسلسل أنتج خصيصاً للعرض الرمضاني كان مسلسل (البخلاء) الذي أخرجه هاني الروماني وغسان جبري عام 1967 وأعده ياسر المالح عن كتاب البخلاء للجاحظ! ومن الأعمال المميزة والهامة في ذاكرة رمضان الدمشقي الفنية... مسلسل (مساكين) الذي أنتجه التلفزيون السوري عام 1969 والذي أتى بفكرته الفنان عمر حجو، وشاركت في كتابة الأفكار كما قامت بكتابة السيناريو والحوار السيدة رويدة الجراح... وكان من الأعمال المبكرة التي أنتجت بهدف العرض الرمضاني، ليس من الناحية التجارية كما هو الآن... بل من الناحية الموضوعية لأن فكرته كانت تنطلق من مقولة (إطعام مسكين) في رمضان...! تناوب على إخراج (مساكين) بحلقاته الخمس عشرة ثلاثة مخرجين: دريد لحام، علاء الدين كوكش، سليم صبري، لكن هذه الفكرة الشعبية البسيطة أخذت منحى نقدياً، حين كان يجري البحث في مجريات الأحداث عن هذا المسكين الذي يستحق الصدقة، فإذا بالعمل يشرّح الواقع الاجتماعي بروح انتقادية جريئة بدءا من دور العجزة وانتهاء بواقع مرشحي البرلمان! (صح النوم) المسلسل.. الحدث! ارتبط رمضان على العموم بالحاجة إلى العمل الكوميدي... ولعل أقدم حضور لمسلسل كوميدي رمضاني في ذاكرة السوريين، تعود إلى مطلع السبعينيات حيث قدم دريد لحام مع رفيق دربه الفنان الكبير نهاد قلعي والمخرج خلدون المالح.. المسلسل الناجح (صح النوم) الذي كتبه نهاد قلعي والذي ضمنه شيئا من أجواء رمضان وخصوصاً في جزئه الثاني.

كان مسلسل (صح النوم) أول عمل رمضاني سوري يحقق حالة منع تجول في الشارع السوري... وقد وزع عربياً على نطاق واسع، حاملا في ثناياه... اللهجة الدمشقية ونموذج الحارة الدمشقية، بخفة ظل خلقت نجوما وكاركترات عاشت طويلا في أذهان السوريين... كبارا وصغارا! لقد قدم (صح النوم) قصة حب بين غوار الطوشة ومعلمته صاحبة فندق (صح النوم) فطوم حيص بيص... لم يكن الناس يحبذون متابعة قصص غرامية في شهر الصوم... لكن الكوميديا الشعبية الآسرة التي غلفت بها قصة الحب تلك... والمسحة الشرقية الملتزمة التي حولت العواطف الى مادة فكاهية جعلت من مسلسل (صح النوم) عملا اجتماعياً يضج بالحياة والمفارقات والرغبة في نقد بعض مفاهيم الحارة الدمشقية التقليدية بحب عبر حارة: (كل مين إيدو إله) التي اتخذها المسلسل نموذجا له! وقد توالت أعمال الفنان دريد لحام التي كانت تعرض في رمضان وترتبط به في ذاكرة الناس: (وين الغلط- وادي المسك ) مع محمد الماغوط مؤلفا وخلدون المالح مخرجا.. ثم في تسعينيات القرن العشرين: (الدغري) الذي أخرجه هيثم حقي و(أحلام أبو الهنا) و(عائلتي وأنا) وكلاهما من تأليف الكاتب حكم البابا وقد أخرج الأول هشام شربجي والثاني حاتم علي، ثم (عودة غوار) الذي أخرجه دريد لحام بنفسه. وإلى جانب دريد لحام برز منذ منتصف ثمانينيات القرن العشرين الفنان ياسر العظمة ليقدم في مواسم رمضان المتتالية سلسلته الكوميدية التلفزيونية الشهيرة (مرايا) التي كانت تقدم رؤى اجتماعية وكوميدية ناقدة استقطبت كذلك اهتمام الشارع السوري فباتت محطة رمضانية لها الكثير من الألق.. قبل أن يعتريها الهرم وتصاب بداء الثرثرة وأمراض الاستفاضة والاستطراد والخطابية غير الفنية في السنوات الأخيرة! مسلسلات البيئة الشامية! مع انتعاش الإنتاج الدرامي السوري في تسعينيات القرن العشرين مسلسلات طبعت مواسم رمضان بطابعها فكنا أمام مسلسلات (هجرة القلوب إلى القلوب) للكاتب عبد النبي حجازي والمخرج هيثم حقي، و(أبو كامل) بجزأيه للكاتب د. فؤاد شربجي والمخرج علاء الدين كوكش، و(نهاية رجل شجاع) و(أخوة التراب) للكاتب حسن.م.يوسف والمخرج نجدت أنزور.. ثم (الجوارح) للكاتب هاني السعدي والمخرج نجدت أنزور و(أيام شامية) للكاتب أكرم شريم والمخرج بسام الملا.. و(خان الحرير) بجزأيه للكاتب نهاد سيريس والمخرج هيثم حقي.. وكلها مسلسلات عرضت في رمضان عبر التلفزيون السوري ومحطات فضائية أخرى وحققت نجاحا شعبيا متميزاً.. جعلها حدثا فنيا طبع المواسم الرمضانية التي عرضت فيها، ونالت من الاهتمام النقدي في الصحافة العربية ما يوازي حجم المشاهدة التي حظيت به.. لكن بقيت دمشق ببيئتها ونماذجها هي النموذج الرمضاني المفضل... ولهذا نجد أن أكثر الأعمال التي أصابت نجاحا كبيراً في شهر رمضان وبقيت في ذاكرة وأذهان الناس... كانت أعمال بيئة دمشقية، بدءا من (أبو كامل) ومروراً بالنجاح اللافت لمسلسل (أيام شامية) الذي كان علامة مميزة من علامات ذاكرة دمشق الرمضانية... وانتهاء بما حدث في (باب الحارة) بأجزائه التي تحولت إلى ظاهرة غير مسبوقة في المتابعة الرمضانية على الصعيد العربي هذه المرة... وليس الدمشقي أو السوري فقط! وإذا أردنا أن نبحث عن تفسير مقنع لازدهار ظاهرة مسلسلات البيئة الشامية وارتباطها بالعرض الرمضاني... لأمكن لنا أن نلاحظ أن الصبغة المحافظة التي تطبع العلاقات الاجتماعية في تلك الأعمال، والتي تتميز بالحشمة والمرجعية الدينية، والتحفظ اللفظي... والاندفاع نحو التكافل الاجتماعي وفعل الخير لدرجة تبدو أحياناً مثالية... كل هذه الأشياء أسهمت في جعل هذه الأعمال مناسبة لشهر رمضان تماماً بالنسبة للمشاهد العربي... ولخصوصية الشهر بطابعه الديني. أما بالنسبة للمشاهد الدمشقي... فهو يستعيد دمشق أكثر ما يستعيد في شهر رمضان... حيث تبرز بقوة الطقوس والعادات والتقاليد... وتطغى نكهة الحياة والعلاقات الشعبية على كل ما عداها... ولذلك ما إن يرى تلك الصورة تنعكس على الشاشة أيضا... حتى يتعلق بها ويتفاعل معها، مهما تكررت أحداثها، أو تشابهت شخصياتها، أو عفا الزمان على قيمها وأفكارها!

ناقد فني من سورية

القدس العربي في 3 سبتمبر 2008

 

رمضان في الشام (1 ـ 2)

أسواق يثقلها الغلاء... وأكلات شعبية مطورة!

محمد منصور  

تبدلت صورة رمضان مثلما تبدلت صورة دمشق... هذه حقيقة تؤكدها معطيات التغيير العاصف الذي حل بالمدينة خلال العقود الثلاثة الماضية، التي بدأ معول الهدم يفتت نسيج الحياة الشعبية والمكان الشعبي فيها... موقناً أنه عندما يزول المكان تضمحل تلك العلاقات! لكن أهمية صورة رمضان اليوم، أنها تمثل تلك الرغبة الدفينة بالتشبث بكل جماليات دمشق التي كانت... ففي هذا الشهر تزدهر قيم وروابط العلاقات، وتنتعش الذاكرة وتصحو مظاهر الحياة الشعبية الحميمية من سبات... وتعود الأسواق الشعبية لتحتل مكانتها الأثيرة في النفوس، منتصرة على حداثة (المولات) ومغريات المراكز التجارية الكبرى! ومما لا شك فيه أن هذا الحنين، والرغبة في استعادة الجذور، له علاقة بروحانية طقس الصيام، الذي يجعل النفوس أقرب إلى الله... وأقرب إلى بعضها بعضاَ... وإلى ذاتها أيضاً... مثلما له علاقة بالذكرى المتوارثة والمختزنة عن هذا الطقس السنوي الذي يطبع حياة المدينة بطابع خاص، مختلف وجديد... إذ ما إن يعلن التقويم حلول الشهر الكريم، حتى يتبدل شيء ما في إيقاع المدينة وفي نفوس الناس.... تهرع المدينة إلى مآذنها وقبابها... إلى طيورها وسماواتها... تهرع دمشق إلى ذاتها... إلى شامها الشريف... المكتظ بالمواقع القدسية التي نشرت أوابدها وعلامات توهجها في الزمان والمكان! زينة كهربائية على واجهات البيوت! لرمضان في دمشق طقوس ومظاهر قديمة... بعضها انقرض، وبعدما تحول إلى فولكلور، وبعضها مازال مستمرا بقوة... وثمة أيضاً طقوس حديثة، ومظاهر استجدت في السنوات الأخيرة، بعضها ارتبط بتطور الحياة... كطقوس العرض التلفزيوني الذي حل محل الحكواتي والمذياع، وبعضها استمد من حالة تنافس مع مظاهر الاعتداد بالتقاليد الدينية لدى طوائف وأديان أخرى... كما هو الحال بالنسبة لمظاهر الزينة الخارجية على واجهات وبلكونات البيوت والدور السكنية... والتي بدأت بالانتشار بقوة في السنوات الخمس الأخيرة... من خلال تعليق الأضواء الكهربائية التي رسمت هلال رمضان ونجوم سمائه... وكتبت عبارة (رمضان كريم) للاحتفاء بقدوم الشهر... وهو تقليد مستمد من احتفال الطوائف المسيحية بأعياد الميلاد والفصح... حيث تتحول الأحياء السكنية المسيحية في دمشق في تلك الأعياد إلى شعلة أضواء تتصدر واجهات بيوتها أضواء الزينة التي ترسم أجراساً وشجيرات ميلاد وأيقونات شهيرة! والواقع أن هذا الطقس المستحدث يعكس نوعاً من التنافس الثقافي في الاحتفاء بأعياد وطقوس كل دين على حدة... ليس من منطق الحساسيات الطائفية، فهذا أمر غائب تماما عن نسيج دمشق التاريخي... بل من منطق الاعتزاز بالهوية الدينية والثقافية مع تأكيد الاحترام لهوية الآخر! تكريزة رمضان! عندما يأتي شهر رمضان في الصيف كما هو الآن... يستعيد الدمشقيون طقساً قديماً من طقوس التحضير لاستقبال هذا الشهر، وهو (تكريزة رمضان) والتكريزة عبارة عن سيران أو نزهة عائلية يقوم بها الدمشقيون قبل قدوم رمضان بأيام، ليودعوا فيها حياة النزهات استعداداً لاستقبال شهر العبادة والصيام، حيث يلتزم الصائمون بيوتهم وموائدهم... وتغدو مائدة الإفطار الرمضانية محصورة في أجواء تلك البيوت العامرة بالألفة، أو متبادلة بين الأقارب في الولائم والمباركات المتبادلة! والواقع أن هذا التقليد... وإن كان الكثيرون يجهلون اسمه الشعبي القديم، فإنه مازال متبعاً حتى اليوم... وقد أحصينا في آخر يوم جمعة سبق حلول رمضان، كثافة عالية في النزهات العائلية في غوطة دمشق وربوتها ومنتزهاتها وعلى جانبي طريق مطار دمشق الدولي ... ولعل كثير من أولئك المتنزهين، كانوا يودعون أيام العطل والنزهات، ليكونوا على موعد مع صيام شاق في نهارات الصيف الطويلة والحارة! أسواق يثقلها الغلاء! تدب في الأسواق حركة فوضوية نشطة، حيث تمتلئ الأسواق الشعبية بالبضائع والمواد الغذائية وبائعي الخضار والفواكه، وحتى الباعة الجوالين الذين يكثرون في هذا الشهر، وقد اتخذوا زاوية أو ركنا بحثا عن فسحة للبيع والشراء... لا تلاحقهم فيها دوريات شرطة المحافظة، التي تتساهل قليلا في رمضان، بالقياس إلى سلوكها الفظ والقاسي الذي تعتمده في باقي أيام السنة! كانت عبارة (رمضان كريم) التي تتردد في أرجاء السوق وكأنها مفتاح للبيع والشراء... كانت هذه العبارة حتى سنوات قليلة خلت، تعبيراً عن الخير الكثير والرخاء الاقتصادي الذي ينشر أجنحته على الجميع في رمضان، حيث لا يجوع صائم، ولا يحرم فقير، ولا ُتعجز مائدة إفطار معوز من محدودي الدخل... لكن رمضان هذا العام يأتي على الدمشقيين، مثقلا بأعباء ارتفاع الأسعار، التي ارتفعت في الأسواق السورية بمعدل 32.39 حسب الرقم القياسي لأسعار المستهلك الذي أصدره المكتب المركزي للإحصاء.

وقد ذكرت صحيفة (تشرين) الحكومية أن أسعار الأغذية ارتفعت بمعدل 46.65 عن عام 2005 وهي سنة الأساس التي يحسب المكتب ارتفاع الأسعار على أساسها... وقد بلغت أعلى نسبة ارتفاع في الفواكه التي زادت بمعدل 80 تلاها الخبز والحبوب التي ارتفعت بنسبة 69 فالبيض والأجبان والألبان التي ارتفعت بنسبة 66 أما الحلويات التي تشهد إقبالا كثيفاً في شهر رمضان، فقد ارتفعت في الآونة الأخيرة، وقبل اقتراب الشهر الكريم بنسبة 43 لكن يبقى ما يميز أسواق شهر رمضان عن باقي العام، ورغم هذا الغلاء الفاحش الذي لم تعرف له دمشق مثيلاً... هو أن الأسواق تبقى ممتلئة، ومستويات البضائع من حيث الأصناف والجودة والتنوع، تسعى للنظر في حاجة أصحاب الدخل المحدود... أما هذا الازدحام الذي يملأ جنبات الأسواق، ويشيع فيها نوعا من الاكتظاظ المزعج أحياناً... فهو لا يفسد للود قضية... فللموائد موعد واحد... وللصائمين كذلك هدف روحي واحد! مأكولات شعبية مطورة! تنتشر في أسواق دمشق أطعمة ومأكولات خاصة في شهر رمضان... وتتربع المرطبات الرمضانية على رأس قائمة احتياجات أي متسوق كالعرقسوس والتمر هندي وشراب قمر الدين المصنوع من أجود أنواع المشمش الحموي والشامي... وقد كانت النساء الدمشقيات فيما مضى يصنعن هذه المشروبات في بيوتهن بعد شراء المادة الأولية من عند العطار... إلا أن كثيرات من ربات البيوت اليوم، يفضلن شراءها جاهزة في أكياس نايلون... للتفرغ لأعباء الطبخات الرئيسية أو أصناف المقبلات التي تكثر على الموائد في شهر رمضان، أو أصناف الحلويات الأخرى التي باتت تستقي وصفات تحضيرها من برامج الطبخ التي تملأ شاشات المحطات في شهر رمضان! ورغم ذلك فإنه لا غنى عن الحلويات أو المأكولات الشعبية الخفيفة التي تجد طريقها إلى واجهات المخازن التجارية وإلى عربات الباعة الجوالين، حيث الطقوس الرمضانية تطال مناحي الحياة اليومية كافة. ومن أشهر المأكولات الشعبية التي تنتشر في رمضان (الجرادق) وهي عبارة عن أطباق رقيقة وكبيرة من العجين المقلي بالزيت، والمزين بخيوط الدبس المغلي، يطوف بها الباعة الجوالون في أقفاص كبيرة ومغطاة وينادون عليها بعبارات مسجوعة ملتبسة المعاني... تقول: (يللي الهوى رماك يا ناعم... رماك وكسّر عضامك ياناعم... كل سنة والحبايب سالمة يا ناعم) وفيما بعد نسي الناس الاسم الأصلي لهذه الأكلة الشعبية، وباتت تعرف اختصاراً باسم (ناعم) ربما لهشاشة الطبق الذي سرعان ما يتكسر من هبوب نسمة الهواء كما تقول نداءات الباعة! ومن الحلويات الرمضانية الشهيرة في دمشق (النهش) وتصنع من رقائق العجين الممزوج بالبيض، والتي تأخذ أشكالا بيضاوية أو دائرية بأحجام تكبر أو تصغر، وغالباً ما تزين بالفستق الحلبي أو القشطة. ومنها كذلك (المعروك) وهو نوع من الحلويات التي تشبه الخبز إلا أنه أكثر سماكة، ويضاف إليه كمية أكبر من السكر ويتم تحمير وجهه بالفرن، حتى يصبح مائلا إلى البني ثم يدهن بالسمن حتى يلمع، ويزين بحبات السمسم وقليل من السكر الناعم... فيغدو شهي المنظر والرائحة! وقد ظهرت في الأسواق الدمشقية مؤخراً أشكالا جديدة ومطورة من (المعروك) تختلف عن تلك التقليدية القديمة والمتقشفة... فمنها ما صار يحشى بالتمر أو بجوز الهند والزبيب... ومنها ما صار يملأ بكريمة الشوكولا! إلى ذلك يقبل الناس على الحلويات التقليدية المعروفة في دمشق، والتي تحول حي الميدان الدمشقي في السنوات العشر الأخيرة... إلى مركز جديد من مراكزها وتجمع محلاتها، ومن هذه الحلويات: المبرومة، و(كول واشكور) ومعناها: ُكلْ واشكر الله! والبلورية والبرازق والغريْبة، التي ظهرت منها أنواع مطورة وكبيرة الحجم تحشى بالقشطة... والكنافة بأنواعها المختلفة، وسوى ذلك من الحلويات التي تمتلئ بها محلات (البغجاتية) وهذه هي التسمية الدمشقية القديمة لبائعي الحلويات، الذين تزدهر أسواقهم في رمضان أكثر من أي وقت آخر! فول وفتات شامية! ولا تكتمل مائدة رمضان دون طبق من الفول والحمص... وعادة لا تخلو حارة شعبية من وجود (حمصاني) فيها... فضلا عن المحلات المنتشرة بكثرة في الأسواق... وعن الباعة الجوالين الذين كانوا يبيعون ما يسمى (فول القدرة) نسبة إلى اسم الوعاء النحاسي الذين يضعون فيه الفول على عرباتهم! وفي شهر رمضان تحديداً يؤمن الحمصاني أطباق الحمص والفول لبيوت الحارة قبيل موعد الإفطار بوقت قصير، ولذلك فإن أبناء الحارة يذهبون إليه وهم يحملون أوانيهم المنزلية بخلاف أولئك الذين يشترون الفول من السوق، والذي يوضع في أكياس النايلون التي لا يحبذ الكثيرون استخدامها وخصوصاً للمواد الغذائية الساخنة! وأياً يكن الأمر... فإن الغالبية العظمى لا يخرجون من الأسواق دون أن يمروا على (الحمصاني) وغالباً ما يكون طبق الفول أو الحمص وكذا الفتات الشامية التي تصنع منه، أول ما يتناوله الصائم بعد الماء والعرقسوس أو التمر هندي وطبق الحساء اليومي... فهو نوع من المقبلات الرمضانية التي لا غنى عنها حتى ولو كانت فائضة عن حاجة المعدة أحياناً! إمساكية رمضان! يبدأ يوم الصوم كما هو معروف- بلحظة الإمساك عن الطعام قبل الفجر... ولذلك فإن التقاويم التي تطبع من أجل التذكير بأوقات الصلوات الخمس والإفطار وآذان الإمساك تسمى في دمشق (إمساكية) وغالباً ما نرى الناس في الأيام الأولى أو تلك التي تسبق حلول رمضان... يحملون مع ما يشترونه لفافات ورقية صقيلة هي (إمساكية رمضان) التي تعلق في البيوت والمحلات التجارية طيلة الشهر الكريم! ولم تعد هذه الإمساكية تقتصر على بعض الجهات العامة التي كانت تتبارى في طبعها وتوزيعها مجاناً على الناس... ولوجه الله كما يقول البعض... بل أصبحت اليوم وسيلة للدعاية. فالمؤسسات والمصانع والمكتبات والشركات وتجار دمشق يتبارون اليوم في توزيع الإمساكيات التي تروج لمنتجاتهم وتجارتهم، ويتصدر هذه الإمساكيات آيات قرآنية أو صور فوتوغرافية للمسجد الأموي الذي يعتز الدمشقيون به، أو لسواه من معالم دمشق التاريخية التي لها مكانة خاصة في نفوس أبنائها! ساعة الإفطار! تمضي ساعات النهار الأخيرة في زحمة التسوق الغذائي واللهاث في الأسواق! ورغم الحركة الخاصة التي تدب في المدينة خلال شهر رمضان وطيلة النهار تقريباً، فإن الحركة التي نراها في الشوارع في الساعة الأخيرة التي تسبق الإفطار وآذان المغرب، تبدو أكثر خصوصية وطرافة... هذا المشهد يستلفت انتباه المحامي والباحث الراحل الأستاذ نجاة قصاب حسن، فيصفه في كتابه الشهير (حديث دمشقي) على النحو الآتي: (الناس يتراكضون... والسيارات العامة الكبيرة والصغيرة، وهي الآن عشرات الألوف، تثير وراءها موجات من الهواء الساخن المعطر بالبنزين والمازوت، والدراجات تسلل بين مارة مستعجلين، وكل واحد يحمل معه شيئاً ولاسيما من مآكل السوق وحلوياته، التي يكون قد أوصى عليها. وفي الحارات يصعد الكثيرون إلى السطوح تسلية لجوعهم، وارتقاباً للمدفع أو لضوء المئذنة وصوت المؤذن... والآن تفتح الإذاعات على امتلاء صوتها بتلاوة الآيات، وتكبرها مكبرات الصوت من أعلى المآذن! والتلفزيون يعرض صورة المقرئ يقرأ القرآن... وكل ذلك في ارتقاب اللحظة الحاسمة، وفي البيوت تنهمك السيدات في المطابخ بالسكب وترتيب الموائد، ويعاون في ذلك الرجال والأطفال. وفجأة يعلن المذيعون والمذيعات بأصوات غير جائعة ولا كهفية، ولا تصدر عن بطون خاوية: 'حان الآن سيداتي وسادتي موعد آذان الإفطار...' وينطلق المدفع والآذان... ولو أن أصوات الملاعق التي تصطدم بالصحون لتأخذ اللقمة الأولى، جمعت في صوت واحد لطبّق صليله الآفاق... ويبدأ الأكل والشرب بنهم... أما المدخنون فيبدؤون بالسيجارة!) آذان الأموي... والشام الله حاميها! ويضرب المدفع طلقاته، وينطلق الآذان من جميع المساجد والجوامع، لكن يبقى لآذان المغرب في الجامع الأموي الكبير في دمشق نكهته الخاصة... حيث تضاء مآذن الجامع المهيب بالمصابيح الكهربائية المشعة (سابقاً بالشموع ثم قناديل الزيت) وينطلق الآذان على شكل فرقة من المنشدين من أصحاب الأصوات القوية والعذبة التي يتناوبون في الترديد الجماعي، خلف المؤذن بطريقة فريدة وجميلة يسمعها ويستمتع بها جميع الأحياء السكنية القديمة المحيطة بالجامع الكبير فتمس شغاف وحنايا القلوب. وعند انتشار الإذاعة كان بالإمكان لصوت الراديو أن ينقل الآذان الأموي الشجي إلى مختلف البقاع... أما التلفزيون السوري فقد أهمل في فترة الإفطار لسنوات طويلة مكانة الأموي في نقل لحظة الإفطار... فكان يستعيض بآذان مسجل، ومن أي جامع وبأي صورة أرشيفية... حتى عاد في السنوات الأخيرة إلى نقل آذان الإفطار من الجامع الأموي... مع اشتداد الضغوط الأخيرة على سورية بعد صدور تقرير القاضي الألماني ديتلف ميليس في قضية اغتيال الحريري... وإثارة الشبهات حول سورية، وقد قابل الإعلام السوري هذه الضغوط برفع شعار: (سورية الله حاميها) وبالاهتمام بالكثير من المظاهر الدينية التي تجد صدى لدى عامة الناس... وكان أبرزها إعادة الاهتمام بفترة الإفطار... عبر نقلها من المسجد الأموي على الهواء مباشرة... وفتح موائد على نفقة المحسنين لإفطار رواد المسجد من الصائمين! مسحّر رمضان: الصوت الشبح! ولنا محطة أخيرة في هذا الاستعراض ليوميات رمضان الدمشقي مع (المسحر) وهو شخص يقوم بمهمة إيقاظ الناس على السحور قبيل آذان الفجر، وقد كان (المسحراتي) كما يسمى باللهجة الدمشقية مهنة لها تقاليدها بل وعائلاتها التي عرفت بتناقلها وتوارثها من الآباء إلى الأبناء... ويذكر منير كيال في كتابه (رمضان وتقاليده الدمشقية) أن دمشق كانت تحتوي أكثر من (75) مسحّراً، يتوزعون على ثلاث مناطق، وثلاث مجموعات... وكل مجموعة يجتمع مسحرّوها في مقهى الحي حتى السحور... يتسامرون ويحتسون الشاي، ويستعرضون دخلهم في المساء ما بعد الإفطار، ومن ثم ينطلق كل منهم إلى مطافه ليباشر عمله. ينطلقون حاملين الطبلة والسلة والفانوس، أو القنديل، ينطلقون عبر الليل والهدوء الشجي، والحارات الملتوية المظلمة، يمرون بالأبواب يقرعونها بعصيهم الصغيرة، أو يدقون (السقاطات) التي كانت تعلو الأبواب الخشبية... ويرددون بأصواتهم التي تتفاوت بين الطلاوة والخشونة وبين الارتفاع والخفوت عبارات رمضان التي أصبحت جزءا من شخصياتهم: (اصحَ يا نايم... وحد الدايم... سبح بحمد الله) أو: (قوموا على سحوركم... إجا رمضان يزوركم) ولئن أصبح المسحراتي اليوم جزءا من فولكلور الماضي، في ظل وسائل الإيقاظ الشخصية والحديثة، وفي ظل ليالي السهر الطويل على محطات لا تنام ولا تشبع مسلسلات، ولئن تلاشى صوت هذا المسحراتي في عتمة ليل آخر من زمن آخر فإن الطبلة لا تزال باقية، وعصاها لازالت تدق الباب... أما سلة المسحراتي التي ستمتلئ بالطعام، فكم اختلط فيها الحابل بالنابل... وكم أضاء فانوسه ليل رمضان في ذاكرة الطفولة الفضولية، وهي تغالب النوم على الشرفات، بانتظار أن ترى بالعين المجردة صاحب الصوت- الشبح!

كاتب من سورية

القدس العربي في 2 سبتمبر 2008

 
     
 
 

جميع الحقوق محفوظة لموقع سينماتك
  (2004 - 2008)