فجع الوسط
السينمائي في لبنان والعالم العربي برحيلها المبكّر، بعد صراع مرير مع
المرض. ثلاثة عقود مرّت منذ تحقيق فيلمها الأوّل، حافظت رندا الشهّال
خلالها على مسافة مثيرة مع الواقع ومع السينما، وظلّت مستعصية على التصنيف،
في تعدد أساليبها ومحاولاتها، وتنوّع مشاريعها
حين وصل
الخبر، مساء الاثنين، كنّا في صالة أمبير صوفيل في بيروت، حيث يقام مهرجان
«نما في بيروت». وكان الفيلم الذي يعرض على الشاشة هو «تلك الرائحة التي
للجنس»، للمخرجة الشابة دانيال عربيد. رندا الشهّال «المشكلجيّة» يمكنها أن
تغمض عينيها وتمضي بسلام، مطمئنّة إلى مصير السينما اللبنانيّة الجديدة
التي وضعت لبناتها الأولى عشيّة الحرب، مع أبناء ذلك الجيل الفريد: الراحل
مارون بغدادي، برهان علويّة، جوسلين صعب...
إن نساء
الجيل اللاحق يضاهينها جرأة وقدرة على استفزاز الجمهور. إنهنّ من الطينة
نفسها، ولو بحساسيّات وأساليب أخرى، «باحثات» في المكبوت الجماعي، والمسكوت
عنه، عن مفاتيح الراهن، واحتمالات مستقبل مختلف. أليس هذا باختصار رهان
رندا الشهّال، على اختلاف مراحل تجربتها السينمائيّة؟، تلك التجربة التي
انتهت عنوة أوّل من أمس في باريس، بعدما قال المرض الخبيث الذي تصارعه منذ
أربع سنوات، كلمته الأخيرة.
رندا
الشهّال الصبّاغ (طرابلس/ ١٩٥٣ ــــ باريس/ ٢٠٠٨)، حالة خاصة في السينما
اللبنانيّة والعربيّة. غرفت مواضيعها من الراهن المتوتّر كأنها دائماً تلهث
خلفه، ولا تتمكّن من اللحاق به كما ترغب، وكما ينبغي. الحرب الأهليّة،
أوّلاً وأخيراً، الطفرة النفطيّة في مدن الرمل، التطرف الديني، الاحتلال
الإسرائيلي، الحبّ الممنوع أداةً للعصيان، المثليّة الجنسية، البذاءة
كوسيلة أخيرة للمقاومة والبقاء لدى الأفراد المسحوقين في أسفل الهرم،
التمرّد الذي يأتي دائماً من النساء. لميا المراهقة التي ترتاد أرض المحظور
في «طيّارة من ورق»... إنّها رندا تحديداً، وإن شاءت لها الحياة أن تسلك
دروباً أكثر استقراراً وترفاً وطمأنينة.
أفلامها
غاليري من الوجوه والأسماء والحالات. الشيخ إمام وزياد الرحباني وطلال حيدر
وماريا شنايدر أيضاً. سهى بشارة. أمّها، تلك الشخصيّة الاستثنائيّة التي
رحلت عام ٢٠٠٣، الشيوعيّة العراقيّة المسيحيّة، المتزوّجة طبيباً ليبرالياً
سنّياً من طرابلس، تتألّق في أنضج أفلامها على الإطلاق. كان ذلك بعد فيلم
روائي أوّل إشكالي، عادت إلى حضن تلك العائلة ــــ الرحم، أعطت الكلمة
لأفرادها، غاصت في ذاكرتها الخاصة التي تتقاطع مع المشهد السياسي العام،
لبنانيّاً وعربياً، فكان فيلم «حروبنا الطائشة» (١٩٩٥).
بقيت رندا
على مسافة (أرستقراطيّة) من الواقع ومن السينما، وظلّت مستعصية على
التصنيف، في تعدد أساليبها ومحاولاتها، وتنوّع مشاريعها، وذلك المذاق
الغامض لـ«غير المنجز» الذي بقي بالمرصاد. كان لا بدّ من انتظار «طيّارة من
ورق» آخر أفلامها، والحلقة الأخيرة من ثلاثيتها الروائيّة الطويلة، كي
تقترب المخرجة الشابة أخيراً من طموحاتها ومشاغلها، وكي تتصالح مع نفسها
ومع الجمهور. إنّه فيلم التكريس (إنتاج الراحل أومبير بلزان)، الذي ختمت به
مسيرة متعرّجة ومتقطّعة لا تشبه إلا نفسها.
في عام
١٩٧٣ ذهبت إلى جامعة «فانسان» (باريس الثامنة) بؤرة الثورة الطلابية، لتدرس
السينما، قبل أن تواصل إعدادها في «معهد لوي لوميير». كانت الحرب الأهليّة
قد نشبت حين عادت، فتركت بصماتها على «خطوة خطوة» (١٩٧٨) شريطها الوثائقيّ
الأوّل، من «إنتاج مؤسسة السينما الفلسطينيّة»، مع مدير التصوير الراحل
روبي بريدي. التجربة الثانيّة ستكون مختلفة تماماً، مشغولة بالبعد الجمالي
والحنين. على هامش معرض للبطاقات البريديّة نظّمه جورج الزعنّي، صوّرت رندا
حنينها إلى «لبنان أيّام زمان» (١٩٨٠) في زمن الحرب، على وقع صوت الشاعر
طلال حيدر.
بعد
الاجتياح الإسرائيلي، مضت رندا إلى باريس، مع رفيق دربها الكاتب والمهندس
إيلي ــــ بيار صبّاغ. وفي كواليس «مسرح الأماندييه» كانت الشاهدة على لحظة
تاريخيّة نادرة في ذاكرة اليسار العربي: خروج الثنائي أحمد فؤاد نجم/ الشيخ
إمام من السجن الكبير، لإحياء أمسيتين استثنائيّتين في عاصمة الأنوار. رندا
لمست تلك الأسطورة التي عاشت معها في بيتها وبيئتها الأولى، في ظلّ أختها
الأكبر نهلا، المناضلة الشيوعيّة التي لم تفقدها السنوات (والهزائم) من
صفائها الثوري. هكذا أنجزت «الشيخ إمام» (١٩٨٤)، الشريط الوثيقة الذي لم
ينل بعد نصيبه الحقيقي من العرض!
وذات يوم
في باريس، حسمت المخرجة الشابة أمرها، ورأت أن الوقت قد حان لتحقيق فيلمها
الروائيّ الأوّل. الفكرة الأولى كانت اقتباس رواية حنان الشيخ «مسك
الغزال»، لكنّ خلافاً مع الكاتبة جعلها تخوض المغامرة بشكل آخر. صار «شاشات
الرمل» (١٩٩١) ملكها، من خلاله تحكي تلك العلاقة الملتبسة من زمن النفط، في
مدينة تنبت كالفطر وسط لامكان، بين سارة المطلّقة الثريّة التي تشعر بأن كل
شيء بمتناولها ومريم الآتية من الحرب اللبنانيّة. امرأتان وسط عالم من
الترف والحجب والممنوعات والرغبات الدفينة. بدا الفيلم مفكّكاً في بعض
الأماكن، لكنّ الشهّال نبشت لدور سارة ممثّلة مشهورة غارقة في غياهب
النسيان. إنّها ماريا شنايدر التي تختزن ربّما علاقتها بالسينما. هي التي
أحبّت الفنّ السابع مراهقة بعد اكتشاف ميكلانجلو أنطونيوني، ها هي تعيد
الصلة بطوطم من عالمه، بطلة فيلمه الأشهر «المهنة مخبر».
في عام
١٩٩٧ ستخوض تجربة مع التلفزيون (arte)
من خلال فيلم «كفّار» الذي يذهب بالمشاهدين إلى المياه الآسنة للأصوليّة
الإسلاميّة والإرهاب. تدور أحداث القصّة في القاهرة، حيث قرّر فريد،
الإسلامي ــــ عن ترف لا عن عوز ـــــ أن يسلّم الفرنسيين أسراراً خطيرة
تعلّق بشبكة إرهابيّة في فرنسا مقابل إطلاق سراح رفيقه. لكن العلاقة مع
شارل الملحق الثقافي في القاهرة، ستنقلب إلى غواية وانجذاب جسدي بين
الاثنين.
في العام
التالي حقّقت رندا الشهّال فيلمها الروائي الطويل الثاني «متحضرات» (١٩٩٨)
الذي سيحظى بالشهرة... إنما عن طريق الفضيحة. يعود الفيلم (تمثيل جليلة
بكّار، كارمن لبّس، مريم معكرون، رينيه ديك، تميم الشهّال، سوتيغي
كوياتي...)، إلى الحرب الأهليّة بعد «نهايتها» المفترضة، وذلك من خلال أهل
الحضيض، من خدم وفقراء اضطروا إلى البقاء في أسرى المدينة وأتونها المشتعل.
جنس وعلاقات مثليّة وبؤس وعنف وفقر وقنّاصة، وخادمات يختزنّ على طريقتهنّ
ذاكرة الحرب. أثار العمل حفيظة الرقابة لفجاجة لغته، وشتائمه، وفظاظة
أحداثه وعلاقاته، وتحريكه جراحاً كان الخطاب الرسمي قد «قرّر» التئامها.
وإذا برندا بطلة ثوريّة، كما نتصوّرها دائماً، تواجه الذهنيّة المتحجّرة
وتصعّد في مواجهتها... أما النقاش حول نضج الفيلم وتماسكه الدرامي، ومقدرته
على الإقناع... فأجهض إلى غير رجعة.
بعد وقفة
تسجيليّة مع المناضلة سهى بشارة، تزامنت مع خروجها من المعتقل الإسرائيلي
وتحرير الجنوب اللبناني (٢٠٠٠)... توقّفت الشهّال لتستعيد أنفاسها،
استعداداً لتحقيق فيلمها الأخير. عملها الروائي الثالث الذي صفق له نقّاد
العالم في «مهرجان البندقيّة/ فينيسيا» حيث فاز بالأسد الفضّي. إنّه «طيارة
من ورق» (٢٠٠٣)، فيه تحاول أن تضع اليد على إحدى مفارقات الاحتلال
الإسرائيلي، من خلال حياة قرية في الجولان نصفها محتلّ، ترزح تحت عبء
التقاليد التي تصادر حريّة المرأة.
ولعلّه
الفيلم الأكثر اكتمالاً فنياً وتقنياً، بسبب تماسكه الدرامي، وقوّة مونتاجه،
وطرافة موضوعه، وأداء ممثلاته (فلافيا بشارة، رينيه ديك، جوليا قصّار، رندا
الأسمر، و... زياد الرحباني) وغنى شريطه الصوتي (موسيقى زياد الرحباني).
عند الحدود مراهقة تلاعب الرياح بطائرتها الورقيّة. تلك الحدود ستجتازها
أوّل مرّة بملابس العرس لملاقاة زوج لا تعرفه على الضفّة الأخرى. ثم
تجتازها كفعل تمرّد، تعبر حقول الألغام إلى الجندي الإسرائيلي الذي أحبّته
عند ذلك الشرخ بين عالمين وحقيقتين وحريّة مستحيلة. تختار المخرجة لفيلمها
نهاية غرائبيّة... كأنها تريد للوطن أن ينتصر على الاحتلال، وللحبّ أن
يتحرر من وطأة العشيرة.
لا يمكننا
أن نتخيّلها إلا في صورة تلك الصبيّة النضرة، المشاكسة، ذات الطبع الصعب،
والشخصيّة الصداميّة التي تلتقي عندها نرجسيّة الفنّان براديكاليّة ابنة
العائلة اليساريّة العريقة، حيث تختلط الأصول والأديان والخيارات الوطنيّة
والاجتماعيّة والقوميّة، لتخلق بؤرة خصبة فكريّاً وإبداعيّاً
(وسياسيّاً)... كأنّها بطلة لأحد أفلام غودار، بين عفويّة وسذاجة وتمرّد.
ولعلّها عاشت حياتها شريطاً سينمائيّاً هو الأنجح في مسيرتها، من دون أن
تدري.
رحلت رندا الشهّال، من دون أن تحقّق «لسوء حظّهم» مشروعها الروائي مع
هيفا وهبي وفيكتوريا ابريل وفال كيلمر. المشروع الذي صرفت النظر عنه
لأسباب ماليّة وصحيّة، كان سيشارك في إنتاجه إيلي سماحة من هوليوود...
وآخر ما حقّقته فيديو كليب لأغنية زياد الرحباني «أمّنلي بيت» مع لطيفة
التونسيّة.
الأخبار اللبنانية في 27
أغسطس 2008
|