اضغط للتعرف على صاحب "سينماتك" والإطلاع على كتبه في السينما وكل ما كتبه في الصحافة Our Logo
 

    حول الموقعجديد الموقعما كـتـبـتـهسينما الدنيااشتعال الحوارأرشيف الموقعسجل الزوار   

رندا الشهال.. مفاجأة الرحيل

 

وداعاً رندا

 

خاص

بـ"سينماتك"

كتبوا في السينما

أخبار ومحطات

سينماتك

ملتيميديا

إبحث

في سينماتك

إحصائيات

استخدام الموقع

 

محطـات فـي السينمـا البديلـة

نديم جرجوره

 
     
  

منذ بدايات مسارها المهني، سعت رندة الشهّال صبّاغ إلى طرح أسئلة الهوية والانتماء والنزاعات الداخلية في الذات الإنسانية، في إطار سينمائي توزّع بين الوثائقي والروائي، وإن التزم النوعان همّاً إنسانياً صافياً، لعلّها اكتسبته بفضل انخراط عائلتها في النضال السياسي والإيديولوجي، من الوالدين (العراقية فيكتوريا نعمان واللبناني قصدي الشهّال) إلى الشقيق تميم والشقيقة نهلة. وعلى الرغم من إقامتها الأساسية في باريس، إلاّ أن أفلامها ظلّت على تماس حقيقي بالواقع الإنساني العربي، أكان ذلك على مستوى الفرد، أم من خلال الجماعة.

في منتصف سبعينيات القرن المنصرم، انتسبت رندة الشهّال صبّاغ إلى جامعة باريس الثامنة، وانتقلت منها إلى المدرسة الوطنية لوي لوميير لدراسة السينما. لكنها، في حوار صحافي نشره »الملحق« الأسبوعي الصادر عن الزميلة »النهار«، قالت إنها عملت في البداية بنصيحة والدها: »إكراماً له، درست الصيدلة، ثم حاولت دراسة الفلسفة. في الصيدلة، لم تستمر دراستي أكثر من ستة أشهر. وفي الفلسفة، منيت بفشل فظيع (...). تمكّنت من أن تكون لي مهنة أخرى إلى جانب السينما، التي قصدت باريس لدراستها. هناك، التحقت بادئ الأمر بمعهد »فانسان«، وسرعان ما انتقلت إلى »فوجيرار«. كان نظام التخرّج في هذا المعهد قائماً على حيازة الطالب ستة دبلومات. أنا لم أنتظر نهاية السنة الأخيرة من دراستي. تركت المعهد وجئت بيروت« (٥ كانون الأول ١٩٩٢).

كاميرا الحرب

حين عادت إلى لبنان، كانت بيروت خاضعة لأتون الحرب اللبنانية، التي مزّقت النسيج الاجتماعي والعمراني والثقافي، بعد أعوام عدّة شهدت العاصمة اللبنانية في خلالها ذروة الغليان الفكري والنضالي العربي. في الحوار نفسه، الذي أجراه معها الناقد اللبناني محمد سويد، قالت الشهّال إنها تركت المعهد »حين سمعتُ باندلاع الحرب في لبنان، في العام .١٩٧٥ ولما كان المعهد معروفاً بتخريج طلاّب مُتمكّنين بوصفهم تقنيين وميّالين عموماً إلى أن يكونوا مُصوّرين، قررت العودة إلى بيروت، وتصويرها في الحرب«. سرعان ما حملت رندة الشهّال آلة الكاميرا، وذهبت إلى الناس، وصوّرت ما يجري، تماماً كما فعل زملاء لها، التقوا جميعهم قبيل العام ،١٩٧٥ وأسّسوا، بشكل غير مباشر، ما عُرِف باسم »السينما البديلة«، التي ارتكزت على مواجهة النتاج السينمائي السائد (أفلام حكايات رومانسية عادية، أو مغامرات تقليدية، بتأثير مباشر من السينما المصرية المهاجرة إلى لبنان في الستينيات، هرباً من قرارات التأميم الناصرية)، وعلى إعادة صوغ المشهد السينمائي الملتزم قضايا المجتمع والناس. وإذا كان بعض النقد يعيب على هؤلاء السينمائيين (برهان علوية وجوسلين صعب وهيني سرور وبهيج حجيج والراحل مارون بغدادي، ومعهم الشهّال أيضاً) إعلاء المضمون على حساب الشكل، فإن النتاج الذي وضعوه في تلك الفترة، لا يزال حاضراً في الذاكرة اللبنانية والعربية، كشهادات مُصوَّرة عن التحوّل الاجتماعي والإنساني والسياسي والحربي لبيروت الذاهبة إلى دمارها، ولناس بيروت المهشَّمين بالعنف والحقد والانكسار والخيبات.

في خلال أعوام الحرب اللبنانية كلّها، أنجزت رندة الشهّال أفلاماً وثائقية متنوّعة. وفي مطلع التسعينيات المنصرمة، حقّقت فيلمها الروائي الطويل الأول »شاشات الرمل« (١٩٩١)، عن النزاعات الإنسانية الذاتية في داخل المرأة، من خلال ثلاث شخصيات نسائية أدّت أدوارهنّ ماريا شنايدر ولور كيلينغ وساندرين دوما. بعده بأربع سنوات تقريباً، أنجزت »حروبنا الطائشة«، الفيلم الوثائقي الذي قرأت فيه التجربة النضالية لعائلتها، فحاورت والدتها وشقيقها وشقيقتها (كان والدها قد توفي قبل هذا الوقت بأعوام عدّة)، وهم يناقشون الذاكرة الفردية والجماعية، ويعيدون طرح أسئلة الحرب والنضال والفكر والسياسة والعلاقات الإنسانية. فيلمها الروائي الثاني، كان تلفزيونياً بعنوان »الكفّار« أو »الخائنون«، عن رجل أمن فرنسي يلتقي أصولياً مصرياً لمفاوضته على إطلاق سراح مسؤول دبلوماسي فرنسي مُعتقل لدى جماعة هذا الأصوليّ نفسه. وفي »متحضّرات«، فيلمها الروائي الطويل الثالث، أضاءت جوانب عدّة من يوميات الحرب اللبنانية القذرة، وهو الفيلم الذي منعته الرقابة اللبنانية ورفضت السماح بعرضه، بسبب »مضمونه« كما قالت الشهّال: »يقول الفيلم إن اللبنانيين جميعهم مسؤولون عن الحرب اللبنانية، وإنه لا يوجد لبناني بريء، من الولد الصغير إلى السيّدة البورجوازية الكبيرة« (»الأسبوع العربي«، ٧ أيار ٢٠٠١). وها هي، في فيلمها الروائي الرابع، »طيّارة من ورق«، تذهب أيضاً إلى الممنوع، وتخترق الحواجز، كي ترسم أفقاً ما للعلاقات الإنسانية المدمّرة، على الأسلاك الشائكة المرتفعة في داخل القرية العربية الواحدة، وفي الذات الفردية أيضاً.

في هذا كلّه، يمكن القول إن »شاشات الرمل« فيلم سياسي عن وضع المرأة العربية، وعن السلطتين السياسية والدينية. و»الكفّار« سياسي أيضاً، وإن اتّخذ منحى مختلفاً في قراءاته المتعدّدة عناوين فاقعة في بنية المجتمع العربي وعلاقاته بالغرب: واقع الحركة الأصولية الإسلامية/ العربية في صراعها مع الغرب ومع أنظمة سياسية محلية، البيئة المصرية التي تنبثق من الكاميرا مليئة بواقعيتها الموغلة في التباساتها وهواجسها، علاقة الدين بالجنس، المنفى الداخلي قبل الخارجي إلخ. ذلك أن هذه العناوين تقف بمحاذاة القصّة الجوهرية، التي توظّف مادتها من أجل البحث في مدلولاتها. لا تتردّد المخرجة في كسر الطوق التقليدي الذي يلتفّ حول البيئة العربية، لكنها في مقابل ذلك لا تقدّم للغرب ما يرغب هذا الغرب في رؤيته عن الشرق.

أما »متحضّرات«، فهو »أقلّ سياسية« من العملين السابقين، كما قالت الشهّال، مع أنه يروي فصولاً من سيرة الحرب اللبنانية، بالتداخل الكبير فيها بين السياسة والفكر الإيديولوجي والقراءة النقدية للمجتمع اللبناني. وتعتبر المخرجة أن »طيّارة من ورق« فيلمها السياسي الأول: »لأنني فكّرت ملياً ماذا يعني الاحتلال، وكيف يمكن طرح فكرة الاحتلال في فيلم« (»المستقبل«، ٢٤ تشرين الأول ٢٠٠٣). فالفيلم يصوّر قرية درزية في الجنوب اللبناني، احتلّ الإسرائيليون نصفها، فتشرذمت عائلات عدّة، عاش بعض أفرادها في الجانب المحتلّ، والبعض الآخر في الجانب المحرّر. هناك، في الجانب المحرّر، تمضي لميا (فلافيا بشارة) وقتها في اللعب بطائرة ورقية مع شقيقها ورفاقهما. تقع عليها عينا مجنّد إسرائيلي شاب، من خلال منظاره العسكري، فيغرم بها. لكن التقاليد المتّبعة بصرامة، أدّت إلى تزويجها من ابن عم لها مقيم في الجانب المحتلّ. العبور والحب الرومانسي الصامت واستحالة العيش مع زوج لا رابط بينهما إطلاقاً، عناوين فيلم أثار لغطاً، على مستوى المضمون الطائفي والأبعاد السياسية، لكنه قدّم صورة عن واقع إنساني متحرّر من خطابه السياسي النضالي المباشر، من خلال نصّ درامي مغلّف بشكل بصري بدا أنضج فنياً وتقنياً، على مستوى الصورة والتقاط بعض المشاهد، عما كانت عليه أفلامها الروائية السابقة، في حين أن المعالجة السينمائية للموضوع الشائك ظلّت، في أحيان كثيرة، منقوصة، إما لأن المخرجة لم ترغب في التوغّل كثيراً في داخل الخصوصية الثقافية والحياتية للطائفة الدرزية، وإما لأنها عجزت عن التعمّق في التفاصيل والحساسيات، وإما لأن المادة المختارة لم تكن أكثر من قراءة إنسانية شفّافة لحكاية يومية يعانيها أناس يعيشون القهر والذلّ، من دون أن يفقدوا تمسّكهم بحقّهم الطبيعي في العيش الحرّ، في محاولة جادة لطرح سؤال الآخر في الوعي العربي.

العبور

اختارت رندة الشهّال صبّاغ الطائفة الدرزية حيّزاً إنسانياً واجتماعياً، كي تروي فصلاً من فصول التمزّق والانكسار، الناتجين من الاحتلال الإسرائيلي، وكي تصوّر معنى الحياة والمواجهة والتحدّي اليومي في مقارعة هذا الاحتلال، الفارض عليها انفصالاً بشعاً في الأرض (أي في الجغرافيا)، من دون قدرته على تفعيل هذا الانفصال على مستوى الذاكرة والتاريخ والحياة. ففي قرية جنوبية لبنانية (بحسب الفيلم، إذ إن لا وجود لمثل هذه القرية الدرزية في الجغرافيا اللبنانية، بل في الجولان السوري)، احتلّت إسرائيل جزءاً منها، ممزّقة إياها إلى قسمين (محرَّر ومحتلّ)، وفاصلة العائلات بعضها عن البعض الآخر، دارت أحداث »طيّارة من ورق«، في بحث دؤوب عن معنى الحدود الجغرافية والروحية، وفي سؤال الحياة والموت، متّخذة من الفرد أساساً لمعاينة الواقع: بلغت لميا سن الزواج (١٥ سنة)، وبات عليها أن تعبر الحدود كي تذهب إلى الجانب المحتلّ، وتلتحق بابن عمها، الزوج المنذور لها منذ طفولتهما، والذي لا تعرفه. لكن العبور مثقل بألف همّ وخيبة، والزواج قسوة لم تحتملها الصبية المتفتّحة على الحياة والمراهقة الضائعة، ولعبة الذهاب والإياب عبر الأسلاك الشائكة في هذه القرية، تشبه أشكالاً متنوّعة من الحدود المرتفعة على تخوم المجتمع والفرد العربيين، وفي داخلهما أيضاً. في مقابل هذا كلّه، ظلّت لميا منجذبة إلى طفولة دائمة، والمجنّد الدرزي الإسرائيلي مغرم بها، بفضل المنظار العسكري الذي تحوّل بين يديه إلى عين تعكس هوى القلب والروح، وتفتح الباب أمام سؤال الآخر والعلاقة به. والعبور الذي قامت به لميا لم يكن فقط عبوراً بين منطقتين وحالتين، بل أيضا تجسيد لـ»رحلة نضوجها وتحوّلها إنساناً كاملاً، له همومه«، كما قالت الشهّالالمستقبل«، العدد نفسه)، مضيفةً أن »عبورها الثاني (العودة إلى أهلها) هو عبور اختياري، قرار ناضج بمواجهة الحدود، لكي لا تنتهي إلى مصير جميلة (قريبة لها حاصرتها الأسلاك الشائكة في البقعة المحرّرة، ففرضت عليها عزلة وانكساراً). هي (لميا) تمثّل إذاً الجيل الذي نتمنّى أن يكون أفضل«. وأشارت إلى أن العبور يعكس تحوّل الصبية إلى »امرأة خارج المعتقدات السائدة عن العذرية وارتباطها بالبراءة«.

لم تذهب المخرجة بعيداً في تفعيل البعد الدرامي للحكاية، ولم تصنع من عفوية المراهقة في الجانبين، صورة ما عن معنى التواصل الإنساني المطلوب لكسر الحصار وإلغاء الحدود، دربا إلى استعادة الذات من أسر الاحتلال، أكان عسكريا (إسرائيل) أم اجتماعيا (المجتمع العربي المحاصر بتقاليده وعاداته وعزلته)، ومن بشاعة واقع الانغلاق والتخلّف. مسألة الحدود هذه بدت، في أحيان عدّة، ملتبسة وضائعة بين قوة الموضوع وبساطة المعالجة الدرامية، وبين جمالية اللحظات الإنسانية والرومانسية والوجودية والعجز عن الغوص في متاهة هذه الذات المشحونة بالقلق والألم والتمزّق.

إحدى ميزات الفيلم: ابتعاده عن لغتي الخطاب السياسي والتنظير الإيديولوجي، إذ إن الشهّال ارتأت إفساح المجال واسعا أمام الفرد كي يحتلّ المساحة كلّها في المشهد السينمائي والإنساني، في وسط دائرة الانغلاق الاجتماعي والديني والثقافي العربي.

السفير اللبنانية في 27 أغسطس 2008

 
     
 
 

جميع الحقوق محفوظة لموقع سينماتك
  (2004 - 2008)