كان قلبها
ينبض بالقضايا العربية. لبنان، فلسطين، العراق. وقضيتها الأخيرة كانت هذا
المرض السرطاني الذي هزمها أمس في أحد مستشفيات العاصمة الفرنسية. كانت
تبلغ من العمر 55 عاماً، أمضت الجزء الكبير منه وهي تحاول ألا تكون في موقع
الضحية. وأن تقاوم الاحتلال للانسان، جسداً وعقلاً، أياً يكن شكله. اتسمت
أفلام المخرجة الطرابلسية رندة الشهال صباغ بالذاتية والحميمية وكان شغلها
الشاغل العبث بالمسلمات، نتيجة خوضها ما يسمى "سينما المؤلف"، على طريقتها
الخاصة جداً. وأكثر ما كان يغضبها ويثير حفيظتها في علاقتها بالأوروبيين،
تلك النظرة المنمطة الى العرب، ولكن كانت تعترف بأننا نحن المسؤولون عن
ذلك، لأننا لا نفعل شيئاً لتحسين صورتنا. لا نفعل شيئاً للتخلص من
الاستعمار الاسرائيلي للمنطقة. لا نفعل شيئاً كي نكون أقوى، فكراً وسلطة.
كانت
الشهال يسارية مناضلة من النوع الذي بقي على موقفه ثابتاً حتى بعد انهيار
كل الايديولوجيات. أحلامها النضالية والتغييرية التي جاءت بها من ستينات
القرن الماضي، في زمن مراهقتها، تكسرت شيئاً فشيئاً على أبواب الرقابات
والاخفاقات والعلاقات المكلومة بينها وبين الجمهور، من جهة، والكرّ والفرّ
بينها وبين النقاد والصحافة من جهة أخرى. والشهال لم تقصر في ردود أفعالها.
بل كانت استفزازية في طباعها. مشاكسة، متعنتة في اقتناعاتها، عنيدة وطموحة،
ولا ترحم عندما تدعو الحاجة الى ذلك. لا تتوانى عن الرد على مقالة عنها
نشرت في صحيفة ولا يعجبها مضمونها. ولا تخاف اعتماد مبدأ العين بالعين
والسن بالسن مع الرقابة اللبنانية التي منعت فيلمها "متحضرات" بعدما أرادت
حذف أكثر من نصفه، في اطار قضية شغلت الرأي العام اللبناني طوال عام 1999.
في المقابل، كان يسهل انتقادها على بعض الخيارات التي قامت بها، كمثل
قبولها وسام الأرز الوطني من السلطة اللبنانية في مناسبة نيل فيلمها "طيارة
من ورق" الأسد الفضي في مهرجان البندقية، بعدما كانت مرغت في الوحل سابقاً
على يد السلطة نفسها!
"في اليوم
الذي سأقوم فيه برقابة ذاتية سأعتبر انه قُضي عليّ"، كانت تقول، وفي نبرة
صوتها شيء من التحدي والتوكيد. ومع ذلك، كانت تجد أن لديها رقابة فكرية
وايديولوجية، كونها تعيد النظر باستمرار في ما تكتبه وتصوره. هذا لم يمنعها
من أن تطرح على نفسها التساؤلات من غير ان تضع حدوداً لخيالها. وكانت
الشهال ترفض تحويل المناقشة في شأن "متحضرات" جدلاً حول بعض الشتائم التي
وردت فيه. ان الخلاف على الفيلم، في رأيها، كان يتعلق بالنظرة الى الحرب
الاهلية اللبنانية. في حين أنها، هي، كانت ترغب في تناول بشاعة الحرب
سبيلاً لتجاوزها ومنع تكرارها، كانت الرقابة تعتمد سياسة النعامة.
بعد صفعة
"متحضرات"، بدا "طيارة من ورق" مزحة. كان الشريط قائماً على لقطات شاعرية
تنتمي الى الفن السابع في خصائصه الاستطاطيقية. صورته الشهّال في قرى هانئة
ضمن التنوع الجغرافي للطبيعة اللبنانية. لكن الشريط جاء حافلاً بالمغالطات،
وبالنزق اللفظي والشخصيات التي ظلت ملامحها منقوصة. حاولت المخرجة اقتحام
بيئة (الموحدين الدروز) لها حرمتها الشديدة وخصوصياتها الفريدة، لكنها بقيت
سجينة في متاهات الخفة وشح المخيلة. وبدا الفيلم نتيجة تمرد صبياني على
العادات والتقاليد.
والشهال،
كنا اعتدناها تقول كلمتها وتمشي. وتلوم من العرب مَن لا يحرك ساكناً لتحرير
القدس. وعلى رغم ذلك، لم تكن تكترث كثيراً لإمرار فكرة ما في أفلامها، على
نحو خبيث أو مضمر أو رمزي. وهذا ما جعلها تبدو مباشرة في معالجتها لمسائل
شائكة. كمخرجة كانت تشكو دائماً من كون همومها تنتمي الى الجماعة أكثر من
انتمائها الى الفرد. شيوعية الى أعمق مكان في وجدانها، كانت تقول إن أميركا
نجحت في تعميم ثقافة الفراغ من حولنا.
مثل
غالبية السينمائيين اللبنانيين، ظلت تجربة الشهال منقوصة. أواخر عام 2005
كان قد عقد لها مؤتمر صحافي أعلنت فيه أمام حفنة من الصحافيين عن بدء
استعدادها لتصوير عمل عنوانه "لسوء حظهم". توقع منتجه ايلي سماحة مشاركة كل
من الاسبانية فيكتوريا ابريل والفرنسية فاهينا جيوكانتي فيه، لكن العمل لم
ينجز لأسباب غير واضحة. ربما بدء اكتشافها المرض حال دون ذلك. والفيلم، لو
أنجز، كان سيكون الرابع في سجل المخرجة بعد "شاشات الرمل" و"متحضرات"
و"طيارة من ورق" الذي عرض في الصالات العالمية بعد تكريمه في البندقية، في
الدورة الأولى التي تسلم ادارتها ماركو موللر الذي كان يقدرها، اذ عاد
ومنحها عضوية لجنة التحكيم في أحد أقسام المهرجان الشهير العام الماضي. في
المدينة العائمة كانت لنا محطة معها. ولم نكن ندرك أنها ستكون الأخيرة.
في الفترة
الأخيرة، كانت للشهال رغبة في العبور الى خارج الحدود التي عملت ضمنها
سنوات طويلة، وخارج المناخ الثقافي الذي كانت فيه، وبعيداً من الجمهور
النخبوي. كانت لديها رغبة حقيقية في التواصل مع جمهور حجمه أكبر. بالنسبة
اليها، كانت تلك خطوة اساسية مكملة لمسيرتها التي بدأت خلال الحرب الأهلية
بأفلام وثائقية ومن ثم أعمال روائية في مناخ مشابه. وكان بديهياً ان تفكر
في التوسع متفادية التكرار. هذا القرار اتخذته الشهال، بعدما تعرضت افلامها
السابقة لسيل من الانتقادات وسوء الفهم والتحليل من صحافة متسرعة ولا ترى
جيداً، بحيث بدأت تسأل نفسها: "الى من أتوجه بأفلامي وأين موقعي؟"، معترفةً
بأنها تعبت من الجمهور النخبوي وهو على الأرجح تعب منها.
كانت ترى
أن أصعب ما في الدنيا هو العمل باسلوب خفيف. لذلك، تغيرت نظرتها الى
السينما عبر الزمن، وليس دائماً في اتجاه ما هو أنضج. لكنها تغيرت. تكفي
المقارنة بين "متحضرات" و"طيارة من ورق". سمعناها تقول: "اغير النهج الذي
اعتمده عند انتقالي من فيلم الى آخر. والاّ سأشعر بالملل اذا قمت بالشيء
ذاته في كل الأفلام. لكل عمل خصوصيته، وتالياً يفرض عليّ الاستجابة لمنطق
معين. ولكن، اذا شاهدت كل أفلامي بتمعن تكتشف ان فيها قاسماً مشتركاً.
مثلاً، انا اصور وأحرك الكاميرا من اليمين الى اليسار وليس العكس، تماماً
مثل الكتابة العربية. في أفلامي تجد دائما احداً يجتاز مساحة معينة وهي
مساحة ممنوعة".
شبكة السينما العربية في 26
أغسطس 2008
|