اضغط للتعرف على صاحب "سينماتك" والإطلاع على كتبه في السينما وكل ما كتبه في الصحافة Our Logo
 

    حول الموقعجديد الموقعما كـتـبـتـهسينما الدنيااشتعال الحوارأرشيف الموقعسجل الزوار   

رندا الشهال.. مفاجأة الرحيل

 

وداعاً رندا

 

خاص

بـ"سينماتك"

كتبوا في السينما

أخبار ومحطات

سينماتك

ملتيميديا

إبحث

في سينماتك

إحصائيات

استخدام الموقع

 

رحيل السينمائية اللبنانية رندة الشهال عن 55 عاماً

مشاكسة ومتمردة.. عاشت حياتها على خط النار

ريما المسمار

 
     
  

رحلت رنده الشهال على حين غفلة من الجميع. الناس العاديون الذين عرفوها شخصية عامة من دون أن يعرفوا تفاصيل معاناتها الطويلة مع المرض منذ العام 2005. والصحافيون الذين حسبوا ألف حساب لشخصيتها المشاكسة والرعنة أحياناً من دون أن يدركوا قسوة المرض وحدة صراعها معه. والأصدقاء الذين خبروا فيها الانسانة الملتزمة بعمق معنى الصداقة والمسؤولية والمواقف الصعبة فتخيلوا ان المرض ليس سوى معركة أخرى من معاركها الكثيرة التي لم ترتضِ الا أن تكون الطرف المنتصر فيها وإن بمنطقها الخاص. رحلت على غفلة حتى من نفسها حمالة المآسي بصلابة نادرة وعاشقة الحياة على الرغم من كل شيء. لا أتصورها في قرارة نفسها استسلمت للمرض الذي لولا خبثه لما تمكن منها أبداً. ولكنني أتصورها الآن في غفوة تعيد حساباتها، تهادن نفسها لا المرض وتستعد لجولة ثانية لن تكون هذه المرة في هذه الحياة التي نعرفها وانما في حياة أخرى ستجمعها بمن لا يقلون صلابة وعنفواناً بداية بوالدها الذي ترك فيها أعمق اثر حتى بعد موته في العام 1988وزرع فيها حب الحياة ووالدتها التي علمتها معنى الالتزام بالقضايا الانسانية قبل أن ترحل هي الأخرى في العام 2003 وبينهما مارون بغدادي الذي ربطتها به علاقة صداقة ندية وتوفي في العام 1993 ومروراً بروبي بريدي المصور السينمائي وصديقها ورفيق اولى تجاربها السينمائية في فيلمها الاول الوثائقي "خطوة خطوة" سنة 1979 ووصولاً الى أمبير بلزان المنتج الفرنسي ذي الهوى الشرقي الذي رافقها وغيرها من السينمائيين العرب في رحلات مخاضهم السينمائي قبل ان يستسلم لرغبته القاتلة بوضع حد لحياته في شباط 2005 وذلك بعد ان أنتج لها فيلماً وحيداً هو "طيارة من ورق" (2003). على نفس الدرب سارت أمس رنده الشهال انطلاقاً من محل إقامتها الفرنسي منذ اوائل الثمانينات في رحلة ستمر حتماً فوق بحر بيروت الذي ظل رابطها الأقوى بالمدينة تستعيد طعم ملوحته في كل زيارة وستنتهي في طرابلس مسقط رأسها ومرقد والدها والكثيرين من أصدقاء النضال. في تلك الجبانة التي ستضم رفاتها خلال ايام، تجولنا معها بهدف تصوير وثائقي قصير عن حياتها قبل أقل من عام. هناك استعادت ذكرى الذين رحلوا وبكت أمبير بلزان للمرة الأولى وحكت عن علاقتها بالمرض والحياة فأزالت بصلابتها أية فرصة كان يمكنها ان تحيل المشهد ميلودراما او مرثاة مبكرة. كانت مذهلة في قوتها وفي قدرتها على تجسيد الموت بوجه تستطيع ان تنازله وأن تهزأ منه من دون أن تنكر تأثيره. لم يكن المشهد مفتعلاً او تمثيلياً بل كان تكراراً لروتين أدمنته وهو المرور بقير والدها في كل مرة تحط فيها في لبنان. وهي لم تبخل بتشريع ذلك الموقف الحميم أمام ثلة غريبة عنها وكاميرا استدارت عدستها على غير عادة لتصورها لا لتتلقى أوامرها. جلست على الحافة المواجهة للمدفن المسيج تناجي بصمت ذلك الانسان الذي علمها الكثير وغرس فيها حب الحياة. لا أتخيل تأثيرها في من حولها كان أقل من ذلك من أولادها الثلاثة الذين كانوا نقطة ضعفها أو أصدقائها الذين لم يتبدلوا على الرغم من تقلبات الحياة والتجربة وتباعد المسافات أو حتى جمهور أفلامها الذي لم يكن ليشاهد أعمالها من دون أن تصيبه بشيء من الصدمة أو الدهشة. في معنى آخر، لم تكن رنده الشهال شخصية عادية عابرة سواء لمحبيها او لمنتقديها. كانت شخصية جدلية بامتياز. صدامية ومقاتلة متمردة في كافة مراحل حياتها. في سن الخامسة عشرة، أدركت انها تريد ان "تصنع افلاماً". السينما بالنسية اليها كانت تلك القدرة العجيبة على تحويل القصة حقيقة وعلى ادارة الشخصيات في ادوار لا تشبهها. في سن الخامسة عشرة، أدركت رنده الشهال انها تريد ان "تعمل افلاماً". قبلها، كانت تأتي بأفراد عائلتها وتوزع عليهم الأدوار وتجعلهم يمثلون. السينما بالنسية اليها كانت تلك القدرة العجيبة على تحويل القصة حقيقة وعلى ادارة الممثلين. في الخامسة عشرة ايضاً، شاهدت شريط انتونيوني Blow Up فكانت الصدمة. تسبب الفيلم للمراهقة بصدمة فعلية، فامتنعت عن الطعام لبعض الوقت. كان عالم انتونيوني الحسي والمجرد في آن والغامض والحر شيئاً صادماً لفتاة قادمة من بيئة شمالية محافظة على الرغم من انفتاح عائلتها السياسي والثقافي. ربما نجد لهذا التفتح على عالم جديد صادم اثراً في افلامها، إن من خلال المراهقة في "متحضرات" التي تُغرم بالشاب المسلح وتدخل عالمه الغريب بكل مفرداته وشخوصه او من خلال المراهقة الاخرى في "طيارة من ورق" التي يشكل زواجها وانتقالها الى بيئة مختلفة نقطة تحول في حياتها. مهد لها المناخ العائلي المنفتح الدخول في السياسة مبكراً والالتزام بخط يساري شهد ذروته في ستينات وسبعينات القرن الماضي، فشاركت في التظاهرات الطلابية و اعتنقت القضية في بداياتها السينمائية وصورت الحرب الأهلية على أمتار من الخام قبل أن تقرر الدخول في المواضيع الشائكة. على مر السنوات لم تتبدل مواقفها كثيراً وانما تغيرت مفاهيمها لليسار والسينما.

وُلدت رنده الشهال في طرابلس في العام 1953 ونشأت في بيت سياسي لأم مسيحية عراقية كانت من اولى النساء الشيوعيات في العالم العربي الى كونها كاتبة ومذيعة أخبار وأب طبيب وسياسي ومثقف. السياسة كانت قدراً بالنسبة اليها. على حيطان المنزل كُتبت شعارات من نوع "يا عمال العالم اتحدوا" وشعرت العائلة بمسؤوليتها تجاه كل حالة ظلم في العالم. "حرب فييتنام عشناها في بيتنا" كما تقول.. حتى الببغاء الذي اقتنته العائلة كان يردد "لينين لينين".

ظلت العائلة بالنسبة الى الشهال السند الانساني والفكري والسياسي حتى اذا قررت ابنة التسعة عشر ربيعاً السفر الى فرنسا لدراسة السينما في العام 1972 وجدت الدعم الكامل من والدها خصوصاً. لم يكن مفاجئاً بهذا المعنى أن تشغل عائلة الشهال الاستثنائية كما تصفها الخمس عشرة سنة المقبلة من حياتها اذ شكلت محور أكثر أفلامها خصوصية وذاتية "حروبنا الطائشة". خرج "حروبنا الطائشة" فيلماً وثائقياً ذاتياً قائماً على محاوراتها مع والدتها فيكتوريا وأختها نهلة وشقيقها تميم وغارقاً في مشاهد الحرب التي أرشفتها على مدى سنوات طويلة. شريط يوثق لمرحلة كاملة من الحرب الأهلية ويعيد المخرجة من منفاها الفرنسي لتواجه الماضي من مسافات زمنية عدة ومن موقع المساءلة والادانة. انه رحلة تنطوي على محاولة لفهم هويتها وهوية لبنان الممزقة ابان الحرب.

شكلت الحرب الاهلية بالنسبة الى جيل رنده الشهال مفصلاً تاريخياً. في شكلها الاول والبدائي، كانت الحرب تطبيقاً للتنظير السياسي اليساري قبل أن تتحول امتحاناً صعباً لكل الافكار اليسارية والقضايا العادلة التي آمنت المخرجة وأقرانها بها. وعلى المستوى الشخصي، كانت الحرب الهاجس الجديد لابنة البيت السياسي والهم الداخلي الموازي للقضايا الخارجية الكبرى. فانتقلت خلالها من عادة كتابة السناريوات الى تصوير اليومي والمعيش.

كمعظم ابناء جيلها من السينمائيين، وجدت الشهال ان شغفها برواية قصة في السينما امر غير ممكن مع اندلاع الحرب. فنسمعها تقول "بسبب اسرائيل والحروب، أصبح عالمنا العربي كناية عن مجتمعات وليس أفرادا"، وتتذكر كيف انها لم تتمكن من سماع الموسيقى اثناء الحرب لأنها كانت في حالة تيقظ دائمة. لقد أجبرت الحرب السينمائيين على إخبار قصتها فقط على حساب هواجسهم الخاصة والفردية. هكذا وجدت نفسها في العام 1976 تصور اول لقطة سينمائية لشاب مسلح على مدخل مبنى أحد الاحزاب السياسية اللبنانية.

تراكمت صور الحرب اليومية في أرشيف المخرجة فخرج منها في العام 1979 فيلمها الاول الوثائقي "خطوة خطوة" الذي يصور تناحر التيارات السياسية على أرض لبنان. لم يكن "خطوة خطوة" فيلماً فنياً بقدر ما كان فيلماً سياسياً حزبياً يعبر عن موقف نضالي ملتزم أنتجته مؤسسة السينما الفلسطينية.

المحطة التالية الحاسمة في مسيرة الشهال الحياتية والسينمائية كانت الاجتياح الاسرائيلي في العام 1982. فعلى الرغم من سنوات الحرب العشر التي سبقت الاجتياح، لم تفقد الامل بإمكانية التغيير. الا ان خبر اجتياح اسرائيل لجنوب لبنان كان بمثابة انكسار لما تبقى من الحلم والبراءة ومشروع التغيير.

ابتداء من العام 1982، دخلت رنده الشهال مرحلة جديدة تتسم بالغموض. ابتعدت من الحياة والسينما كأنها كانت تعيد ترتيب حياتها وأفكارها. توقفت عن توثيق الحرب ربما مستسلمة لشغفها بالسينما الروائية التي ستكون سمة المرحلة المقبلة. بدت وكأنها تنهي حكايتها مع الوثائقي الذي أُجبرت على صنعه في ظل سنوات الحرب وتعد العدة للمرحلة التالية وعنوانها المواجهة. ولكن مهما يكن من تحليلات، لم تبرح ذاكرة الحرب أفلامها المقبلة التي تحفل بتفاصيل تتكرر كأنها تستقر في ولاعيها كما هو مشهد الفتاة الراكضة في فيلمي "متحضرات" و"طيارة من ورق" .

استقرت رنده الشهال في فرنسا منذ اوائل الثمانينات من دون أن تنقطع عن زيارة لبنان إما لتصوير أفلامها أو لرؤية الاهل والاصدقاء. في فرنسا، عثرت على تمويل أفلامها ولكنها ظلت الشخصية المشاكسة التي تصنع أفلاماً مثيرة للجدل ويشبهها كثيرون بشرطي السير المتيقظ للرد على كل موقف يطال العرب.

بعد فترة انقطاع دامت نحو خمس سنوات، شرعت رنده الشهال بكتابة فيلمها الروائي الاول "شاشات الرمل" في العام 1986. خرج الشريط سنة 1991. كان بعيداً من الحرب التي طبعت أفلامها الاولى وأقرب الى تسجيل التحولات الداخلية للشهال المرأة التي عرفت معنى التحولات بدايةً بسقوط الحرب كمشروع تغييري ووصولاً الى انتقالها الى باريس المنفى الاختياري. جاء "شاشات الرمل" فيلماً عن ثلاث شخصيات في بلد صحراوي غير محدد، يصور علاقة امرأتين ورجل في ظل السلطتين الدينية والسياسية.

لم يجد فيلم الشهال التالي "الكفار" عام 1997 مساحة للعرض او للنقاش. كان فيلماً يلامس المحرمات بحسب العقلية السائدة ويعالج موضوعاً شائكاً هو التطرف الديني. ليس بعيداً من لبنان غرست المخرجة شخصيات فيلمها: فريد الاسلامي المتطرف الذي قرر البوح بمعلومات عن متطرفين في فرنسا مقابل اطلاق سراح صديقه المسجون هناك وتشارلز الدبلوماسي الفرنسي. ولكن الصفقة تتعقد عندما ينجذب الرجلان واحدهما الى الآخر.

الى الحرب الأهلية عادت رنده الشهال من جديد في فيلمها الروائي الثالث "متحضرات" عام 1999 كما هي حال سينمائيين كثر آثروا أخذ مسافة من الحدث ليتمكنوا من قراءته بروية. عادت الى الثمانينات لتروي فصلاً هامشياً أبطاله الخدم الذين تركهم مستخدموهم في البيوت قبل أن يفروا الى جهة آمنة. كأن المخرجة كانت قد انتهت من تصوير الحرب بعناوينها العريضة فقررت الغوص على التفاصيل الموجعة وأولها المشهد الافتتاحي العنيف لمسلحين يفجرون القطط طلباً للتسلية والمتعة. كان "متحضرات" فيلماً عن الحرب بلغة الحرب. الشتائم كانت اساس الحوارات والعنف الجسدي واللفظي محور المشاهد. فيلم يدين الجميع ويعلن مسؤولية كل اللبنانيين عن الحرب. أثار الشريط ردود فعل عارمة ومنعت الرقابة عرضه إلا بحذف نحو خمسين دقيقة منه. كانت المواجهة الأعنف التي خاضتها الشهال وكلفتها عدم عرض الفيلم على الجمهور اللبناني والعربي حتى اليوم.

بعد إعصار "متحضرات" ومشكلاته مع الرقابة، لاح مشروع وثائقي جديد في الأفق أعاد الشهال الى موقعها اليساري. "سهى" كان فيلمها التالي عام 2001 وان كانت تصر على انه جاء ليس من التزام وانما من افتتان بشخصية استثنائية هي سهى بشارة. ابنة العشرين ربيعاً تلك التي أطلقت رصاصتها في صدر أنطوان لحد قائد جيش لبنان الجنوبي المتعامل مع اسرائيل، شكلت بسجنها ومن ثم اطلاق سراحها بعد عشر سنوات مادة لفيلم وثائقي حواري يحاول التقرب من عقلية المقاتلة في سبيل قضية تؤمن بها.

حدث ما كان دائماً يستوقف رنده الشهال ويدفعها الى كتابة سيناريو حوله. هكذا خرج فيلمها الروائي الرابع "طيارة من ورق" العام 2003 من مشهد تلفزيوني لفتاة في الجولان المحتل تعبر بفستان زفافها الى الجانب الآخر الاسرائيلي لتتزوج من ابن عمها. بدا المشهد ملائماً للخوض في نقاش حول موضوعات الهوية والحدود والاحتلال. فكان "طيارة من ورق" فيلماً عن واقع جغرافي مجزأ وخيارات الفرد الضئيلة في مواجهة الاحتلال وانما اصراره على تخطي الحدود. تدور أحداث الفيلم حول المراهقة "لميا" التي يُعقد مصيرها على الزواج من ابن عمها المقيم في الجزء المحتل من القرية الحدودية. تعبر الفتاة الى عالم جديد ولكنها تتمرد على الزواج التقليدي المدبر وتقع في حب شاب عربي انما مجند في الجيش الاسرائيلي. نال "طيارة من ورق" جائزتي لجنة التحكيم الخاصة والاسد الفضة في مهرجان البندقية وحقق للشهال ما يشبه المصالحة مع الجمهور المحلي والصحافة والجهات الرسمية التي أدانت فيلمها السابق "متحضرات" بينما كرمتها بعيد فوز "طيارة من ورق".

خلال السنوات الخمس الأخيرة، عاشت الشهال تجربتين مريرتين: المرض وحرب تموز 2006 التي تصفها بالنكسة الثانية في حياتها بعد اجتياح 1982. على الرغم من ذلك، لم تتوقف عن العمل فكانت تحضر منذ العام 2005 لفيلم في عنوان "لسوء حظهم" مع المغنية هيفاء وهبي ولكن تعثر الحصول على تمويل له من جهة ودخولها في نفق المرض من جهة ثانية منعا انطلاق العمل عليه.

بين حياة الشهال وأفلامها صلة لا تنقطع. كأنها تستمد منها أدوات الحياة فتقاوم مثل "سهى" وتواجه مثل "لميا". هكذا عاشت سنواتها الأخيرة مع المرض ليس في صراع انما في تحدٍّ ومبارزة.

كل شيء سياسي في عرف رنده الشهال. المواقف والخيارات والافكار والوعي.. وهي ان لم تشأ التصاق صفة السياسية بها لم تستطع ان تنكر انها مقاومة ومشاكسة. المقاومة فعل حياة بالدرجة الاولى والمشاكسة أسلوب عيش وسلوك. تشابكت المراحل في حياتها. كل مرحلة كانت خاتمة وبداية في آنٍ معاً. فما كادت تحط الرحال حتى تبدأ التحضير لرحلة جديدة أومعركة جديدة. هي كما تقول جيدة في المواجهات وصعبة في المهادنات وقد واجهت حتى آخر قطرة حياة وذلك هو الانتصار.

المستقبل اللبنانية في 26 أغسطس 2008

 
     
 
 

جميع الحقوق محفوظة لموقع سينماتك
  (2004 - 2008)