البندقية | «لبنان عندو مرض نفسي، بيأثر على صحيح النفس».
هذه هي رسالة تليجي لوزير الداخلية. هو يريد أن يكون وزيراً للسعادة.
وتليجي هو أحد المساجين المحكومين بالمؤبّد في سجن رومية. مجرمٌ يعاني
اضطراباً نفسياً، لم يُحاكَم كما يحاكم أقرانه في لبنان، ولم يوضع في
المبنى المخصّص لهم.
مبنى السجناء الذين يعانون من الاضطرابات النفسية/ العقلية
في سجن رومية يسمّى «المبنى/ البيت الأزرق»، يفصل فيه هؤلاء عن السجناء
«الأصحاء» ويمنعون من التواصل معهم.
في لبنان، يُحاكم مرتكب الجرائم الذي يعاني من خلل نفسي وفق
قانون عقوبات صادر عام 1943، ينصّ على أنّ هؤلاء المساجين «المجانين»،
«الممسوسين»، «المعاتيه» كما يسميهم، يتم حجزهم في مأوى احترازي لحين ثبوت
شفائهم.
فيلم زينة دكاش الجديد «السجناء الزرق» الذي يُعرض ضمن
مسابقة
Final Cut
في «مهرجان البندقية السينمائي الدولي»، يغوص في قصص هؤلاء المحكومين في
«البيت الأزرق». ينقل حصص التدريب التي قام بها السجناء «العاديون» لينقلوا
ويتلبّسوا الشخصيات الحقيقية للسجناء الزرق (بعض السجناء يعرفون شخصياً
هؤلاء الذين يسكنون في «البيت الأزرق») في مسرحية «جوهر في مهب الريح» التي
عُرضت في «سجن رومية» عام 2016. إنّه الوثائقي الثالث لدكاش عن السجون
اللبنانية بعد عملَيها «12 لبناني غاضب» و«يوميات شهرزاد».
حميمية هي كاميرا زينة، قريبة جداً من وجوه المساجين
وأياديهم، تكاد تمسّهم لكنها لا تخترق خصوصيتهم. هذه هي لعبة الكاميرا التي
تخترق الحاجز بيننا وبينهم، لكنهم يبقون هناك في رومية... مساجين لا يمكن
أبداً أن نصل إليهم. يحمل الوثائقي إلينا أفكارهم، تنقل زينة صوت من يتعذّر
سماعهم. أفكارٌ خام، تخرج بدون «فلتر»، أفكارٌ حقيقية وصادقة. هم بشر لا
شيء لديهم ليخسروه. «مجرمون» تنجح زينة في تقريبهم منّا، جملهم البسيطة
تضعهم على حافة قلوبنا.
هم يريدون أن يخبروا قصصهم التي لم يرد أحدٌ يوماً سماعها.
سيبقون سجناء لحين ثبوت شفائهم! لكن لا أحد يعبأ بتتبّع أحوالهم، لا القضاة
الذين مثلوا أمامهم، ولا الأطباء الذين مرّوا عليهم. حتى الشفاء هنا كلمة
كاذبة. لا يمكن لأحد أن يشفى. حالهم تستقرّ فقط، هذا هو الشفاء بالنسبة
إليهم، وهذا ليس كافياً ليستعيدوا حريتهم. هم محكومون إذن بالسجن المؤبد،
ولو قيل عكس ذلك. على أحد جدران السجن الأزرق، كُتبت جملة «العدالة
الاجتماعية حلم الأنبياء»، وهذا تماماً ما يعانون منه. يقول طأطأ إنّه لا
يحب أن يتكلم كثيراً، لأنه تعوّد منذ الطفولة ألا يتكلم، يتمنى اليوم لو
أنه يقول أكثر. يبوح: «أنا وصغير، أهلي ما غنّجوني». يخبرنا قصة
«البيسكليت»، ويغازل زينة برقيّ: «الجنس اللطيف بيطلعش منن كلام بشع». في
مشهد ثانٍ، نراه على الشباك يراقب مدينته من أعلى، ثم يقول: «بيروت مدينة
عالفاضي». في مشهد آخر، يخبرنا بأنه يجب أن تُخفض مدة عقوبتهم: «لبنان ظالم
شوي، مبارح بالليل طفت على أميركا، نزلولي المدة أربع سنين».
زينة لا تمهّد. تدخلنا منذ المشهد الأول في روح الفيلم.
تبدأ بمعادلة رياضية (معظمنا لا يعرف جوابها)، لكن عيتاني الذي كان أستاذ
رياضيات ولغة عربية يسكت قليلاً، يفكر، يفرك رأسه. الكاميرا على عينيه...
يخبرنا بالجواب الصحيح. هو الذي يقول إنّه يستطيع أن يتزوج الآن لأنّ لديه
المال: «معي أربعة آلاف ليرة». البداية مثالية لفيلم تتضح معالمه ورؤيته
برويّة وهدوء.
تنتقل الكاميرا بعدها إلى سجين ثان. هو هنا منذ 85 سنة،
واليوم عمره: «شي 130 أو 140 سنة»، هذه حسبته!
ننتقل إلى طفيلي الراقي والمؤدّب. يقول إنّ مشكلته الفصام.
يخبرنا قصة «القمبز». هو يحب فرقة «بينك فلويد» وجو داسّان. يهدي والده
أغنية فيروز «نطرونا كتير ع موقف دارينا» على «صوت لبنان»، «بلعب زهر كل
يوم، امرار بربح انا امرار حالي» يقول أحدهم.
قد يضحكنا ما يقولونه، وبالفعل ضحكنا، لكن فجأة بعد الضحك،
تهزّنا الفكرة الأكبر. «الدنيا صورة وغرفة وحدة، بس يلي بيمشي عالعمى
بفكرها دنيا كبيرة وواسعة». هذا كلام خرج من فم هؤلاء الذين يقول عنهم
القانون إنّهم «ممسوسون ومعاتيه». لعل ما يصف الحالة الكبيرة هي مقولة
المخرج الياباني أكيرا كوروساوا المكتوبة في الغرفة التي يتدرب فيها
السجناء «العاقلون» على مسرحيتهم «في عالم مجنون، فقط المجنون هو العاقل».
تُجلسنا زينة بكاميراتها الثابتة مع المساجين، نستمع إليهم،
تكاد تطاولنا رائحة سجائرهم المشتعلة معظم الوقت. نعيش معهم، نعود بالزمن
إلى طفولتهم، ثم قصص التحول المؤثرة على مجرى حياتهم، ننتقل إلى شبابهم.
هنا لا تفاصيل كثيرة ولا أسرار كبيرة، بل بوح وأفكار ممزوجة بحميمية فقط.
يغمرنا الفيلم بمشاهدة وصورة، وننتظر القصة التالية، ننتقل إلى داخل الفيلم
وزمنه. زينة تكسر الحواجز وتنقلنا إلى عالم غريب لا نعرفه. تجربة جريئة تم
تنفيذها بإتقان. اكتشفنا الشخصيات واللحظات التي غيّرت مصيرها.
فيلم تمتزج فيه زينة مع المساجين في خلفيتها كمعالجة نفسية
من خلال الدراما، لتذيقنا الطعم الحلو والمر والدافئ لمشاهدها الثابتة. لا
مفرّ من العالم الذي تُدخلنا فيه زينة. عالم يبثّ الروح ويضفي الكثير من
الإنسانية. نلمس الغلاف، ثم نقلب الصفحات برويّة لنشاهد صورة تلو أخرى
وندخل فصلاً تلو آخر. الصورة تتحدث عن نفسها، بلغتها الخاصة ورمزيتها
الفائقة، فنلمس هالة إلهيّة وصوفية، وخاصة في مشاهد المسرحية ومشاهد
التدريب والرقص. وجوه المساجين غامضة. نهاراً تضيء الشمس الوجوه ونبصر
سخطها ولا مبالاتها في وجه ما يحدث لها.
لا تبخل علينا زينة، توازن فيلمها، لا تدعنا نبكي، لا
تستغلّهم. نضحك معهم تارة، وطوراً تنهمر الدمعة، ولكن سرعان ما تمسحها زينة
بمشهد من التدريب والمسرحية. مشاهد التدريب، نرى فيها شغف المساجين
«العاديين» بنقل قصص رفاقهم الذين لا يعرفون عنهم الكثير إلا من خلال
فيديوهات عرّفتهم زينة عبرها إليهم، ليلبسوا شخصياتهم.
يخبرنا السجناء في مبنى المحكومين بقصة «المبنى الأزرق».
يخيّل إليهم أنّهم مكان أقرانهم المرضى، محكومون بالشفاء. يخبروننا قصة
زوادة، الجالس بينهم، والذي حين يسأل عمن يتحدثون ويجيبونه باسمه، يهزّ
رأسه بعبثية. عبثية تشبه عبثية الحياة والسجن ووهم الحرية وأكذوبة الجنون.
أعطت زينة الحرية للمساجين، من داخل الزنازين كانوا طلقاء.
قرّبتهم منّا بطريقة غريبة، وددنا لو نعرفهم أكثر، أحببنا زيارتهم والسؤال
عن أحوالهم. الصورة لا تكتمل من دون الصوت، لكنّ المجال السمعي الأكبر ليس
للموسيقى الأصلية المستخدمة في الفيلم، بل للأصوات المحيطة والبيئة
الطبيعية، وصولاً إلى صوت المياه والأحاديث الجانبية وضجة السجن. تمرّ ساعة
من الفيلم ونحن نبتسم ونضحك ونشارك الجميع قصصهم، ثم في آخر 15 دقيقة
تصفعنا زينة بالحقيقة، بـ»طقّة» إصبع تعيدنا إلى الواقع. واقعهم الحزين، هم
سيبقون هناك إلى الأبد ربما، وسيخبروننا تباعاً بمآسيهم. نغوص في تعقيدات
العقل البشري، نكتشف الموازي في أنفسنا ونحاول فهم ما في أنفسهم. نتركهم
خلفنا ونتمنى أن لا نفعل. نريد المزيد من قصصهم، نريد معرفة المذنبين فيهم.
نتركهم مع كلمات على الشاشة، ومشاهد لمن خرج منهم إلى الحرية.
لعل الفيلم عند عرضه في لبنان قد يُغيّر القانون السيّئ.
فعلتها زينة قبلاً، وهدفها في فيلمها الجديد أن تفعلها مرة ثانية، وأن
تعالجهم بالفن والدراما. نترك الفيلم مع ابتسامة طأطأ ومشاعر حاسمة وفهم
مؤكد، ولكن دوماً مع دفعة صغيرة للتأمل والتفكير. |