حول الموقعخارطة الموقعجديد الموقعما كـتـبـتـهسينما الدنيااشتعال الحوارأرشيف الموقع 

مهرجان فينيسيا السينمائي الدولي التاسع والستون

هيام عباس بعد عرض فيلمها الأول في البندقية:

تركتُ فلسطين قبل أكثر من 25 عاماً ولا أزال مسلوخة عن محيطي

هوفيك حبشيان - البندقية

بعدما لمع اسمها كممثلة "بوهيمية" اخترقت ميدان الكبار، باحثة عن موطئ قدم في سينمات العالم، من جوليان شنايبل الى باتريس شيرو فجيم جارموش وآخرين كثر، صارت هيام عباس تريد شيئاً آخر، لا بل أشياء أخرى، تعزز مكانة المرأة الفلسطينية الفنانة المسلوخة عن محيطها والمحكومة ببث الأمل من حولها. كأن التمثيل لم يعد يتسع لطموحات هذه السيدة التي رحلت عن بلادها قبل أكثر من ربع قرن لتستقر في الشاشة: ذلك المكان الافتراضي. رأيناها قبل أيام متأبطة "تراث ــ ميراث".

فيلمها الروائي الطويل الأول الذي عُرض في مهرجان البندقية، قسم "أيام فينيسيا". شريط يتناول صعوبة أن يكون المرء فرداً في مجتمع يعاني من تسلط العائلة واستبداد الاقارب وانعدام شبه كلي للخيارات الشخصية. المرأة المقهورة، الأب الذي يحتضر، الفتاة التي تبحث عن ذاتها، الشباب الضائع، المحامي والزوج الأول، هذا كله يشكل عند هيام عباس مسوغات سينمائية لتفجير البيئة الفلسطينية من الداخل، من دون أي شعور بالحيرة أو النكران. رؤيتها ليست ناضجة بعد، احكامها لا تخدم هدفها دائماً، لكنها البداية...

·        ¶ لستِ مَن بادرتِ في اطلاق المشروع، أليس كذلك؟

- انجز السيناريو من طريق علاء حليحل وهو كاتب "من عندنا"، أي من الداخل الفلسطيني. عندما قرأتُ النص في المرة الاولى، شعرتُ بارتباط قوي بيني وبين الحكاية والعائلة التي تدور حولها الاحداث. كون العائلة "من عنا"، من الشمال، فقد أحسستُ بأنني اعرفها واعرف تقاليدها وعاداتها. بيد انه لم يرق لي الاتجاه الذي كانت تذهب اليه كل شخصية، فاقترحتُ على علاء أن أجري بعض التعديلات على النص، وأن آخذ مجمل السيناريو الى مكان آخر (...). فبدأتُ أعمل مع نادين نعوس، وهي مخرجة لبنانية فلسطينية، ثم انضم الينا مخرج اميركي من أصل فلسطيني، كان سبق أن أنجز فيلمين طويلين، وهو صاحب روح كوميدية. فشعرتُ انه يمكن ان يجلب الى الفيلم القليل من الخفة، للحدّ عن الجانب الدرامي.

·        ¶ اخترتِ الايقاع السريع في تعاقب الحوادث...

- (مقاطعة). "زي حياتنا في فلسطين، ايش أعمل؟". صحيح، كثر قالوا لي هذا الشيء. قصدت هذا النمط في العمل. أحياناً نشعر أننا لا نمكث في مكان واحد. ولكن اذا اخضعت هذا النمط الى منطق الاستعارة، يمكن القول انه يشبه كثيراً الذكريات التي بقيت لي عن فلسطين التي تركتها قبل 25 عاماً. فشعرتُ أن الايقاع يقول جيداً مَن أنا وماذا أنا، ويشبه ايقاع الحياة التي اعيشها، أي التنقلات المستمرة، وأخيراً يشبه ايقاع الحياة الفلسطينية، بحيث انك تستيقظ من النوم ولا تعلم ماذا يحل بك وتنام من دون أن تعرف على ماذا تنهض! هذا الفيلم شبيه بما بقي في ذاكرتي، وخصوصاً أولئك الناس الصامدين فيها.

·     ¶ الفيلم عما تتذكرينه عن فلسطين، لكن هناك معطيات حديثة العهد، كالحرب التي في الخلفية بين لبنان واسرائيل...

- نعم، ليس هناك عناصر آنية، مع ان الحكاية موقعها اليوم. ولكن حتى الحرب هي شيء خيالي في نهاية المطاف، هي ما علق في دماغي اثناء طفولتي...

·     ¶ اختيارك ابقاء الحرب خارج الاطار أزعجني شخصياً: الحرب حاضرة بقوة في الشريط الصوتي، لكنها ليست ملموسة البتة...

- انتم في لبنان عشتم الحرب والدمّ، لكن نحن فلسطينيي الداخل ظلت الحرب "زي الميتافور" (استعارة) بالنسبة إلينا. كانت الطائرات تمر فوق رؤوسنا، ونعيش حياتنا اليومية وكأن كل شيء بخير. ذلك لأن هذه الحرب لم تكن حربنا مباشرة. طبعاً، نحن نتبعها روحياً، لأن قلبنا يجرّنا الى عروبتنا. عندما انطلقت أولى الحروب في عام 1967 بين اسرائيل والدول العربية، لا نستطيع أن ننسى ان منابعها فلسطينيو لبنان. كان هناك سؤال كبير في دماغي طوال الوقت، مرتبط بهذا الشيء. كطفلة لم أكن اعرف اين انا، فقط كنتُ اعرف ماذا تعني آلة حربية وماذا يعني أن يتقاتل شعبان. نتيجة ذلك، تتربى انت كفلسطيني، ولكن في الحين نفسه تشعر ان احساسك الوطني هو مع خالك واولاد عمك الذين تهجروا في الـ48. تقول: هؤلاء عائلتي، وهم يتقاتلون مع الناس الذين صرت مجبراً على معايشتهم. أين هويتي، الى مَن اتبع؟ يومياتك مع الاسرائيليين، وقلبك مع مَن يعيش في الخارج. ظلت الحرب في دماغ الطفلة التي كنتها بلا جواب الى وقت طويل. ظلت خيالية لأنني لم ار منها شيئاً، لا دماً ولا ضرباً. اتذكر ان الهمّ سيطر عليّ مدى يومين، في المرة الاولى التي اتيت فيها الى لبنان. كانت تلك المرة الاولى ارى فيها أثار الحرب. شعرت بنوع من انفصام في شخصيتي.

·     ¶ ماذا عن العنف في العلاقات بين الناس؟ من أين يأتي هذا العنف الذي يتحكم بمصائر شخصياتك؟

- ليس الكلّ عنيفاً. الأب ليس عنيفاً، ابن العمّ، علي، ليس عنيفاً. والدكتور ليس عنيفاً في تعامله مع زوجته...

·     ¶ لكن، هؤلاء لن يتذكرهم المُشاهد، وليسوا مركز الثقل في الفيلم، بالاضافة الى ان الشخصية الايجابية لا تعلق في الذاكرة...

- لماذا؟ هذا خطأ! على كل حال، لم أقصد ذلك (...). لم أحكم على أيٍّ من الشخصيات التي اريها في الفيلم. الانسان مركب، وانا كمتفرجة لا أحبّ ان اشاهد شخصية جيدة وشخصية سيئة، على طريقة السينما الهوليوودية. الطريق التي سلكتها كل شخصية من الشخصيات تفضي بها الى مكان معين. أحياناً، تأخذها الظروف الى طريق اللاعودة. كنتُ اريد أن اجسد هذه الأشياء الصغيرة التي تمثل مجتمعنا اليوم، سواء بتركيبته الفردية أو الجماعية.

·        ¶ لماذا اخترتِ هذه الممثلة الفاتنة لدور هاجر [أشير الى حفصية حرزي الجالسة بالقرب منا]؟

- لأنها فاتنة (ضحك)... حفصية كان لديها هذه القدرة على ان تفرض فوراً على المُشاهد شيئاً يتيح المجال لتبيان الاختلاف بينها وبين افراد العائلة التي تنتمي اليها. لو لم أخترها، لكان يجب عليّ أن "أتقاتل" مع ممثلة أخرى لتأتيني بأداء وحضور كهذين الأداء والحضور، بينما هي جاهزة لهما. من خلال حياتها وشكلها والأدوار التي اضطلعت بها، راكمت مثل هذه الجهوزية. أعرفها جيداً لأننا عملنا معاً على ثلاثة افلام: "فجر العالم" لعباس فاضل، "نبع النساء" لرادو ميهايلانو وفيلم لمخرجة مغربية بلجيكية اسمها خديجة لوكلير.

·     ¶ ما رأيكِ بعدم وجود احتمال لعرض الفيلم في الدول العربية ومهرجاناتها كونه ممولاً، في جزء منه، اسرائيلياً؟

- لماذا لن يُعرض؟ سبق لمهرجان قطر أن عرض فيلم سامح الزعبي. للمناسبة، هذا موضوع يجب مناقشته. فلسطينيو الداخل يحتكّون بالاسرائيليين يومياً ويدفعون الضرائب لهم. انت تعيش في دولة، وإن لم تشعر بانتمائك اليها من ناحية الاحساس الوطني، ولكن أنت مقيم فيها. ككل عربي يعيش في أوروبا. في فرنسا عندما تدفع الضرائب المتوجبة عليك كمواطن، يُسمَح لك بأن تطلب المال من المركز الوطني للسينما لتمويل مشروعك. في لحظة معينة، أشعر انه يجب فصل الفنّ عن السياسة، لاستدراجه الى واقعنا اليومي والحياتي. "يا أخي، ما المشكلة اذا اخذنا المال، فهنّي آخذين مني ومن أهلي كل يوم؟". ارى الأمور من هذا المنظار. للتوضيح فقط: الانتاج الاسرائيلي لم يكن بخياري. علاء حليحل كونه يعيش في الداخل طوّر مشروعه مع منتجين اسرائيليين، هما من اقطاب اليسار. ثم دخلت فرنسا على الخط، ولم يُقترح الفيلم كفيلم اسرائيلي بل كإنتاج مشترك مع اسرائيل. على كل حال، بالنسبة الى العالم العربي، لا مشكلة عند الطرف الاسرائيلي اذا محيت مشاركته في الفيلم من الجنريك. وهذا كلام رسمي. في النهاية، أنا عربية ويهمّني ان يرى العرب شغلي. مَن عرفني كممثلة، اريده ان يراني ايضاً كمخرجة. هذا الفيلم انجزته بالمفاهيم التي هي مفاهيمي اليوم. كوني مقيمة في فرنسا منذ 25 سنة، فأشعر بأنني مسلوخة عن محيطي. لي ارتباطاتي الروحية والنفسية والسياسية والعائلية، لكنني مسلوخة عن الحياة اليومية التي تصنع الانسان وماهيته. انا غائبة عنها.

·        ¶ ألم تعوّض السينما عن نقصك العاطفي طوال كل هذه السنوات؟

ـــ بلى. اليوم، اذا كنتُ أنجزت هذا الفيلم بهذه الرؤية الفنية، فذلك لأن هذه هي طبيعة تعاملي مع السينما. هذه هي السينما التي احب ان اشاهدها. السينما التي لا تحدد الممثل ولا تحدد رؤيتك الفنية. لا أحبّ الممنوعات، ولا أحبّ ان انجز عملاً، ما ارضاء للآخر. هذا الفيلم هو أنا.

·        ¶ يكفي أن نلقي نظرة عابرة على فيلموغرافيتك، كي نكتشف كم أنت بوهيمية متشردة...

- لنقل "متجولة" (ضحك). امضي في طريقي من دون تفكير. عندي شعور بأنني على ارتباط بكل الأفلام التي انجزتها، سواء عبر النصّ أم الحكاية أم اللقاء بالمخرج (...). لا أحبّ ان افرّق بين فيلم وآخر، كل شيء أنجزته في حياتي جزء من تجربتي وجزء من تعلمي للمهنة. "ساتان أحمر" كان تحولاً في مساري، إذ أُلقيَ على عاتقي دورٌ كامل. هذا أول فيلم اردتُ ان افعل فيه ما كنتُ احس ان على الممثلة أن تفعل، من دون أن تحسب حساب هذا او ذاك.

·        ¶ الا يجب أن تتجنبي قليلاً أدوار المرأة القوية أو المناضلة، خشية أن يلتصق بك هذا الاتيكيت؟

- "انطبع وخلص". لا اعرف كيف ادافع عن هذه النقطة. في فرنسا، يحب الناس أن يضعوا بعضهم بعضاً في كوادر. اذا انتقلتُ للاضطلاع بدور كوميدي اسمع من حولي اصواتاً تقول: "لماذا هيام عباس في كوميديا؟".

·        ¶ الاخراج مهنة ذكورية تقوم ايضاً وكثيراً على العمل الجسدي...

- صحيح، "مش ناقصني هيدا الشي" (ضحك).

فيلم جماعي عن الماء بعيون الأعداء

التعاون الاسرائيلي ـــ الفلسطيني في مجال السينما لا يقتصر على باكورة الممثلة الفلسطينية هيام عباس. كان هناك في البندقية هذه السنة، وضمن تظاهرة "اسبوع النقاد" (طبعة 27)، فيلم اسمه "ماء"، جاء ثمرة الانتاج المشترك. الملصق الترويجي للفيلم يعلن بوضوح أن ما سنشاهده هو "عمل اسرائيلي فلسطيني مشترك". بيد ان الانتاج المشترك توزع بين اموال اسرائيلية وفرنسية في غياب الجهات الفلسطينية المنتجة.

الا اذا كان القائمون على المشروع يقصدون منح رصيد معنوي للسينمائيين الفلسطينيين الشباب الذين شاركوا فيه عبر اعطائهم الشعور بالانتماء. "ماء" فيلم جماعي في 120 دقيقة ناطق بثلاث لغات (عربية وعبرية وانكليزية)، يتألف من سبعة فصول. الفكرة مطابقة لمعظم الأفلام الجماعية التي راجت في الآونة الأخيرة. وكان آخر هذه الأعمال فيلم جماعي عن اسطنبول وآخر عن هافانا، شارك في احد فصوله المخرج الفلسطيني ايليا سليمان. الشريط من انتاج قسم التلفزيون والسينما في جامعة تل أبيب. "فريق صغير من السينمائيين الفلسطينيين والاسرائيليين انجز فيلماً طويلاً بحرية فنية مطلقة"، كتب منسّق المشروع يائيل برلوف في الملف الصحافي، مُقراً بأن الموضوع شاعري جداً، لكن لا يخلو من السياسة في طبيعة الحال، خصوصاً في السياق العنيف الذي يجتازه الصراع العربي ــ الاسرائيلي. يعتقد برلوف ان السينمائيين نجحوا في تجاوز الخلافات السياسية عبر ايجاد منبر للتعاون ومناقشة الأفكار.

اعتمد المشروع على توزيع متساوٍ للحصص: ثلاثة أفلام من توقيع فلسطينيين وثلاثة لإسرائيليين، أما الفيلم السابع فتشاركت اخراجه مخرجتان اثنتان، واحدة فلسطينية واخرى اسرائيلية. معظم هؤلاء مبتدئون يحملون الكاميرا للمرة الاولى، خلافاً لمحمد بكري (59 عاماً) الذي يشارك في المشروع بفيلمه "قطرة". بكري، وابناه صالح وزياد، يعيشون في شقة صغيرة في تل ابيب. جارتهما سارة، التي نجت من المحارق النازية، تطلب منهم ان يساعدوها في وضع قطرة الدواء في عينيها.

من هنا، تبدأ بين الطرفين علاقة غامضة ومختلفة. يروي المخرج الذي ولد في الجليل، أن الحكاية هذه حصلت قبل 11 عاماً، لكن كان ينتظر شيئا ما يدفعه الى العمل عليها. لا يخفي ايضاً رغبته في عرض الشريط في رام الله، مُقراً بأنه لا يعرف ماذا تكون طبيعة الاستقبال التي سيحظى بها فيلم يتطرق الى ناجية من المعتقلات. "اقول الشيء نفسه هنا وهناك، عندي فقط صوتٌ واحد، اقول لأولادي ما أقوله للغرباء"، يعلن الفنان الفلسطيني الذي ادعت عليه محكمة اسرائيلية، بعدما فضح ما فعلته جرافاتها في "جنين جنين" (2002).

69 دورة دينية!

هـ. ح.

في البندقية هذه السنة، كان هناك ضيفٌ لم أنتبه لوجوده الا بعد حين: راهبٌ مخيف، أطل علينا كذلك الشبح الأسود الذي يزور موزار ليلاً في منزله ليوصيه بكتابة لحن القداس الجنائزي. هذا الراهب حشر انفه في عدد كبير من أفلام الدورة 69. فصارت الأعمال تتلون بإيمانه وإيديولوجيته وأفكاره التي زرعها هنا وهنا، لنأتي نحن لاحقاً، ونحصدها. ألبرتو باربيرا جمّع لنا عدداً لا يُحصى من المحطات الروحية والدينية في طبعة واحدة، بدءاً من الفيلم الفائز "رحمة". فيلم كيم كي دوك الذي استحق "الأسد الذهب" يشير عنوانه الى ايقونة السيدة العذراء التي تحمل ابنها المسيح بعد نزوله عن الصليب. الفيلم معقود على هذه الفكرة، لكن لا يمكن قبضها حرفياً، بل فقط من باب المحاكاة، كونه يروي مأساة جابٍ ستضعه الأمومة على درب الخلاص. أما موضوع الخلاص ودرب الجلجلة فليس طارئاً على فيلموغرافيا المخرج الكوري، اذ سبق أن عالجه في "اريرانغ". في حفل توزيع الجوائز، السبت الماضي، أنشد كيم كي دوك "كيرياليسون"، مما يؤكد ان الدين جزء من وجوده وتكوين هذا الفنان الذي شبّ وتربّى في دير.

شخصية "دينية" ثانية غزت الليدو: لانكاستر دود في فيلم "المعلم" لبول توماس اندرسون (الاسد الفضة) الذي حمل ملامح فيليب سايمور هوفمان (أفضل ممثل مناصفةً مع يواكين فينيكس)، المبشر بديانة جديدة ليست الا تلك التي ستتحول لاحقاً الى السيانتولوجيا وتقنع بعض نجوم هوليوود بضرورة اعتناقها. لنتذكر ايضاً ان هوفمان اضطلع بدور الراهب، الذي يُتهم بالتحرش الجنسي في "شكّ" (2008)، الى جانب ميريل ستريب. الفيلم الثالث في لائحة الجوائز، "جنة: ايمان" (جائزة لجنة التحكيم الخاصة) حكاية ايمان على طريقة أولريش سيدل الاستفزازية: سيدة نمسوية عندها من الايمان ما يسمح لها بأن تهز الجبال، لكنها تبالغ في عشقها للمسيح، ولا يفعل مخرجنا الكبير الا تصوير هذا الحبّ. تفادياً لأي موقف محرج، اصرّ سيدل على ان يوضح بأنه ليس زنديقاً. في مطلع هذه السنة، كنا نشرنا في "النهار" حواراً معه بعنوان "افلام اولريش سيدل قداديس كاثوليكية وهو راهبها المخرب". الايمان الأعمى، قابله التعصب الارثوذكسي في فيلم الاسرائيلية راما بورشتاين (قيل انها لا تسلم باليد) "أملأ الفراغ"، الذي نالت عنه هاداس يارون جائزة أفضل ممثلة. وبينما كنتُ لا أزال تحت تأثير هلوسات تيرينس ماليك الدينية والروحانية والميتافيزيقية، الذي لم يتوان عن اسناد دور الراهب الى خافيير بارديم في جديده "الى الروعة"، خرج مناهضو الموت الرحيم الى الشارع ينددون بفيلم "الجميلة النائمة" لماركو بيللوكيو الذى قرر هذه المرة ان يوصل سهامه الى الفاتيكان. اندره مالرو كتب مرة ان "القرن الحادي والعشرين سيكون دينياً او لن يكون". هذا ما نستطيع قوله ايضاً عن مهرجان البندقية في دورته التي انتهت قبل أيام...

النهار اللبنانية في

13/09/2012

 

 

فيلم «جائزة الأسد الذهبي» في الـ«موسترا» السينمائي الـ69

الـكـوريّ الـجـنـوبـيّ «بـيـتـا».. الـبـاغـي والـهـوس بـبـلائـه

زياد الخزاعي (البندقية)

 سار كل شيء على ما يرام في «موسترا» البندقية السينمائي الـ69 (29 آب ـ 8 أيلول 2012). أفلام بالجملة. أمن مُتَشدِّد. صَرَامة في مواقيت العروض. ثلّة من مهووسي السينما المسلّحين بحواسيبهم النقّالة، والهارعين بين الصالات، قبل أن تضمّهم قاعة الصحافة، المكان الوحيد النافع للحصول على «إنترنت» فاعل وقوي ومجاني. للوَهَلة الأولى، يبدو أن المهرجان السينمائي الأعرق عالمياً لا يعاني خَلَلاً جسيماً. بيد أن الزائر الدائم لجزيرة الـ«ليدو»، مكان تنظيمه، يشعر بأن هناك خبواً في الحماسات التي كانت مشاهدة في دورات نهايات القرن الماضي. اليوم، أُصيب هذا اللسان البحري، الذي يحرس المدينة العائمة، بطاعون استشراء الطمع والجشع والسرقة. غلاء الاسعار أمرٌ لا يُطاق، وهو عجَّل في هروب أعداد غفيرة من الصحافيين، وأشاع أخلاقاً جديدة من اللا اكتراث، بدءاً من النظافة الناقصة لمحيط قصر السينما، وانتهاءً بالنوعية الرديئة للطعام في المطاعم والمقاصف التي تريد من الزبون أن يدفع بسرعة، لا أن يشكو.

هذه الصورة انطبعت، إلى حدّ ما، على خيارات المدير الفني العائد إلى كرسيّ القرار الصعب ألبيرتو باربيرا، حيث أوقع الجميع في ورطة إدراجه أفلاماً عجزت عن تحقيق الانقلاب السينمائي المرجو، كما هي حال منافسه الفرنسي في «كانّ». دفع زوّار الـ«ليدو» مبلغ ستين يورو ثمناً للبطاقة الصحافية، فأصبحوا زبائن بالغفلة، كما هي حال روّاد الـ«ليوني بار» المحاذي للقصر، ممن يتفاخرون بدفع جِزْية الصحن الشحيح في هذا المقصف الذائع الصيت. واجه أولئك الروّاد خيبات متعاقبة، أوّلها من صاحب «هانا ـ بي» («ألعاب نارية»، 1997) الياباني تاكيشي كيتانو، الذي عانى جديده «بعد الغضب» من فقر دراميّ وتكرار مشهديّ فاضح. مثله الأميركي تيرينس ماليك في «إلى السحر»، الذي صدم الجميع بـ«خدعة التوليف التراكمي»، فسَبَق الضَّجَر حكايته المَلُولة والتائهة. أما مواطنه براين دي بالما، فأشاع التندّر بين الصحافيين الذين علت ضحكات استهجانهم أثناء عرض جديده «رغبة»، بسبب الافتعال الصارخ لسرديّته، وخَبْو الجَذْوة السينمائية لمخرج النصوص الأثيرة مثل «كاري» (1976) و«سكار فيس» («الوجه المشطوب»، 1983، من بين أخريات. هناك إدراج آخر غير مُبَرَّر لفيلم لا طائِل من إنجازه، هو العمل الهَجِين للأميركي هارموني كورين «سبرينغ بريكرز»، الذي غطى على عجز حكايته حول شابات يسرقن للتمتع بعطلتهن الربيعية في فلوريدا، بكَمّ مُعتَبر من مشاهد عُرْي أجساد بطلاته الفتيات.

انتظر روّاد الـ«موسترا» سبعة أيام كي يُجمعوا على الفيلم الأفضل: جديد الكوريّ الجنوبيّ كيم كي ـ دوك، الذي استعار عنوان العمل الخالد للفنان الإيطالي مايكل آنجلو «بيتا» (1498 ـ 1499)، حيث يسوع في حضن أمه مريم العذراء بُعيد إنزاله من صلبه، بمثابة بشارة سينمائية خالصة حسمت الرهانات، وقبلها التخمينات. إنه فيلم جائزة «الأسد الذهبيّ» من دون منازع. فمنذ الجملة الافتتاحية «هذا هو الفيلم الثامن عشر للمخرج...»، نتبيّن أن نصّاً مشاكساً ينتظر الجميع. قبل هذا، لم يفطن الكثيرون إلى ملصق الفيلم الذي صَوَّر الوضعية الشهيرة، وأظهر الممثلة جو مين ـ سو كرمز شبقيّ ساحر، بينما ينام في حضنها الشاب جانغ ـ دو (لي جونغ ـ جين) مرتدياً «تي شيرت». هذه المماهاة الدينية أشبه بفَخّ صُوَريّ، أُريد عبره الإشارة إلى أن لا مكان للغفران، بدلاً من الأسى الذي غَمَر مايكل آنجلو وجه مريمه.

ليس في عمل كي ـ دوك غمزات دينية، بل هو بلاغ سينمائي فصيح عن الباغِي الجائِر، الذي يسدّد ظُلْمه على عبيد نظام الاستدانة المالية الشائع في البلدان الآسيوية. مهمّته تحصيل مبالغ الرهونات، فإن عجزوا عن الدفع، عاقبهم ببتر يدٍ، أو كسر ظهر، إو إعاقة ساق. الشاب جانغ ـ دو مجرم قصّاص. لا عاطفة تليّن وحشيّته، ولا ضمير يردع جَوْرَه. في قلب حيّ بائس وسط سيوول، نرى البطل يدلف دكاكين مليئة بالماكينات وعدّة الخراطة. ضحاياه بلا كفالة، ولا خيار لهم حينما يزفّ أوان الدفع. يعرض مخرج «أريرانغ» (2011) عقوباته التي تجري بعد استجارات فاشلة، باعتبارها أقدار لا فكاك منها. أحدهم يشهد اغتصاب زوجته، وآخر يدخل يده في ماكينة قطع، وثالث يرمي بنفسه من سطح بناية عالية. إنها جِزْية الحاجة الشخصية.

تنقلب حياة المأمور الصموت، حينما تعترض طريقه سيدة غريبة، وتعترف أنها والدته التي تخلّت عنه. تقول من بين دموعها: «اغفر لي خطيئتي»، لنعبر معهما مئة وثلاث دقائق من غُلُو الدم ورعب التعذيب واللا شَفَاعات. يُحوّل اعتراف البطلة مي ـ سونغ كيان الباغي، ويُطوّعه الى أُلْفَتها، لكن، بعد مَشَاهد صاعقة، من ضمنها اغتصابها. كَمَن ذكاء المخرج كي ـ دوك في قراره الكشف عن هوية المرأة المتأسية بعد مقاطع قصيرة. ذلك أن دراميته لا تتحمّل التشويق الزائف. فما فعله هذا الكائن العنفي لا مقابل له سوى الثأر. يكشف المخرج الموهوب أنها أم تسعى إلى المطالبة من قاتل ابنها ردّ هدر دمه. ما ستفعله لاحقاً «إتمام قَوَدها» الذي لم تعهده السينما من قبل. لا قرين لـ«بيتا» سوى الخط الواهن مع نصّ مواطنه بارك تشان ـ ووك «السيدة انتقام» (2005)، لكنه لن يضاهيه بتاتاً. الأول، صُنعة مؤلّف ذي بصيرة سينمائية، يرى أن العالم من حوله يعجّ ببغاة وظالمين وضالين ومفسدين. لن يردّ دينهم سوى سفك دم مقابل، وهذا ما تحقّقه الأم المكلومة بوليدها المغدور.

السفير اللبنانية في

13/09/2012

جميع الحقوق محفوظة لموقع سينماتك
  (2004 - 2011)