تعرف على صاحب "سينماتك"  وعلى كل ما كتبه في السينما

Our Logo

  حول الموقعخارطة الموقعجديد الموقعما كـتـبـتـهسينما الدنيااشتعال الحوارأرشيف الموقعسجل الزوار 

رحيل المخرج الفلسطيني مصطفى أبو علي

مُقاتل بالصورة

نديم جرجورة

ميزته التي تظهر سريعاً عند لقاء أول به، هي التواضع. رجل بديع، وقامة كبيرة ساهمت في تأسيس حركة سينمائية منبثقة من الوجع والقهر والأمل بانتصار الحياة على الاحتلال والموت، وإبداع مزج لغة النضال السياسي والإيديولوجي بنسق سينمائي حوّل الصنيع البصري إلى شهادة لا تقف عند الخطاب، ولا تخرج من عباءة الصورة ومفرداتها. لم يسمح لعمر أن ينال منه، كأن الأجيال التي وُلدت بعده ازدادت شباباً بفضله، لأنه لم يسمح لتعب وعجز أن يقتاتا من روحه ونضارتها. ظلّ، في اقترابه من السبعين عاماً، أجمل من أن يجعل السنين تغييباً، لأنه أدرك كيفية تحويل الأعوام إلى حياة لا تنضب. نشأ في ظلّ الآثار المدمِّرة لنكبة ألمّت بشعب وبلد ومجتمع، لكنه عرف كيف يصنع من النكبة استمراراً للعيش، وكيف يترجم الألم إلى صُوَر فنية متحرّرة من سطوة المباشَرة، وجاعلة الفن أساسيا في معركة الوجود. ضربته النكبة في الصميم، عند بلوغه الثامنة من عمره فقط؛ لكنه حوّل الضربة إلى مقارعة حسّية وحيوية ويومية، بواجهة سينمائية ومضمون إنساني ونصّ نضالي مكتوب بمفردات الإبداع والجماليات الطالعة من عمق الجرح والدم والعنف. جرحته النكسة، لكنه خرج منها إلى المساحة الأوسع للقول والمواجهة الثابتة على مبادئ الحقّ والعدالة والكفاح.

ولأنه صنع إبداعاً سينمائياً من مزيج الراهن الإنساني بالضرورة البصرية في تأريخ اللحظة وكتابة فصل من فصول الصراع ضد الاحتلال الإسرائيلي، بات أحد أبرز صانعي اللغة السينمائية الفلسطينية، الطالعة في قلب المسافة الوسطى بين متطلّبات النضال وحاجات الإبداع البصري. ولأنه شاء أن تكون الصورة أنقى من بيان حزبي أو خطاب كفاحيّ، احتلّ تلك المكانة القائمة بين التأريخ البصري والأرشفة الإنسانية والقول الفني. إنه، بهذا كلّه، «تجريبيّ»، بالمعنى الثقافي الإبداعي السليم، الذي يبحث عن الجديد والمختلف في مقاربة شؤون الحياة وشجون الناس بلغة متحرّرة من الروتين النضالي المسطّح: «عندما أنجزتُ تلك الأفلام في الستينيات والسبعينيات، كنتُ أعبّر عن قناعاتي. بعد عودتي إلى فلسطين، شعرتُ أني استهلكت طاقتي في الفيلم التسجيلي. بل بدأت أشعر بذلك قبلها بكثير، ربما منذ العام 1978. عندها، قدّمت استقالتي من «مؤسّسة أفلام فلسطين». لم يقبلوها بالطبع. لكنهم سمحوا بنظام «الحَرَد». أي أن أحرد إلى ما أشاء. كنت محبطاً سينمائياً بالفعل، لأن الفيلم الوثائقي لم يستطع أن يُعبّر عني تماماً، فضلاً عن أن رعاية السينما كانت فقيرة جداً. لذلك كلّه، لم تكن لديّ رغبة في العودة إلى السينما الوثائقية، لكني وجدتني في المقابل مدفوعاً، من جديد، إلى الروائي» (جريدة «المستقبل»، 27 حزيران 2008). هذا، على الأقلّ، ما شاهدته في بعض أفلامه، ومنها «عدوان صهيوني» و«ليس لهم وجود»، اللذان عُرضا في إطار تظاهرة «سينما الفقدان» في بيروت، في حزيران 2008، بمناسبة الذكرى الستين للنكبة. ذلك أن مصطفى أبو علي، الذي توفّي قبل يومين إثر خضوعه لعملية جراحية لاستئصال ورم في المريء، شكّل حالة ثقافية متكاملة، ارتكزت على أولوية الكفاح النضالي ضد إسرائيل من خلال السينما، إلى درجة أن البعض اعتبره، عن حقّ، «أبا السينما النضالية الفلسطينية»، وهو وصف وضعه وأفلامه في إطار محدّد، على الرغم من أنه لم ينزعج منه أبداً: «ربما لأني لم أصنع أفلاماً خارج تلك الصيغة. لكني لا أمانع تلك التسمية ولا أشعر بأنها تسيء إليّ. إذا حقّقت مشروعي الجديد، فقد يختلف الأمر، لأنه سيكون خارج هذا الإطار».

عندما عُرض فيلماه الوثائقيان «عدوان صهيوني» و«ليس لهم وجود» في «مسرح بابل»، أثناء تظاهرة «سينما الفقدان»، وجدتُ فيهما ذاك الامتياز الجميل الخاصّ بكون الوثائقي، في مطلع السبعينيات الفائتة، مرآة شفّافة لواقع المعركة اليومية الممتدّة، جغرافياً، من لبنان إلى فلسطين، ولمعنى أن تكون الصورة الوثائقية أكبر من أن تسقط في فخّ التسجيل والتوثيق التلفزيونيين، في آن واحد. كان الفيلمان محطّة ضرورية لاكتشاف آلية تطويع النضال السياسي والثقافي والإيديولوجي لمصلحة الصورة، من دون أن تخرج الصورة، كلّياً، من إطار ما للتنظير. فالتجريب، بالنسبة إلى علاقة مصطفى أبو علي بالفيلم الوثائقي تحديداً، أتاح له فرصة الاشتغال البصري، في ذروة المعركة السياسية والثقافية والعسكرية ضد إسرائيل، على معنى أن يستوفي الفيلم شرطه الإبداعي، مهما تضمّنت مادته الدرامية من مواضيع نضالية وخطابية. ذلك أن الفيلمين المذكورين أعلاه، على الأقلّ، لم ينتميا إلى «الفئة النضالية البحتة»، لارتكازهما على لغة وثائقية مائلة إلى الفني، من دون أن تتخلّى عن نبرة سائدة حينها، وقادرة على مزج مناخ الحالة الإنسانية في ظلّ اعتداءات إسرائيلية وحشية يومية، بسلوك إبداعي استعان بالصمت في التقاط آثار العنف الإسرائيلي على المدنيين الفلسطينيين، جاعلاً الفيلم توثيقاً سينمائياً مهمّاً (عدوان صهيوني)، ومشتغلاً على الموسيقى والتوليف في قراءة المشهد العام من دون بكائيات فجّة أو خطابية جوفاء (ليس لهم وجود). بمعنى آخر، بدا مصطفى أبو علي، في فيلميه هذين، سينمائياً قبل أن يكون نضالياً: «احتفظ مصطفى أبو علي لنفسه بأنه كان مؤسِّساً لسينما فلسطينية خالصة، سينما الثورة التي كانت المجال الفلسطيني الوحيد، بعد أن تناثر السينمائيون الفلسطينيون في بلدان عربية عدّة»، كما قال الناقد السينمائي الفلسطيني بشّار إبراهيم، مشيراً إلى أن أبو علي، في هذا الإطار، «وجَّه جهوده للعمل في إطار السينما التي أدرك ضرورة أن تكون مرافقة لفعاليات الثورة الفلسطينية المسلّحة».

السفير اللبنانية في

01/08/2009

 

جميع الحقوق محفوظة لموقع سينماتك
  (2004 - 2009)