تعرف على صاحب "سينماتك"  وعلى كل ما كتبه في السينما

Our Logo

  حول الموقعخارطة الموقعجديد الموقعما كـتـبـتـهسينما الدنيااشتعال الحوارأرشيف الموقعسجل الزوار 

حالة ( بانجامـِن باتـُـن ) المثيرة

هادي ياسين

بانتظار بَتّ القضاء الإيطالي في الدعوى المرفوعة من قبل كاتبة إيطالية مغمورة ، تدّعي أن فكرة فيلم (حالة بانجامِن باتُن المثيرة ) مسروقة من قصة كانت هي قد كتبتها العام 1994 ، و أودعتها لدى الجهات المعنية بحقوق التأليف ، فأن المعروف هو أن الفيلم مأخوذ من قصة كان قد كتبها الكاتب الأمريكي المشهور ( ف . سكوت فيتزجيرالد ) ، و نشرها في مجلة ( كولييرز ) العام 1921 ، و تدور حول شخص وُلِد و هو على هيئة رجل عجوز في الثمانين من العمر ، ينمو بعكس الزمن ، أي أنه مع تقدم السنوات رقمياً فإنه يتراجع في مراحل حياته: من الشيخوخة الى الكهولة ، فالشباب ، فالصبا ، فالطفولة حتى مرحلة الرضاعة .. حيث يموت . موضوع عجيب و غريب حقاً ، ربما كان فيتزجيرالد قد التقطه من سلفه ، و مـــواطنه ، الكاتب الشـــــهير ( مارك توين ) ، الذي قال ساخراً ذات مرة : ( أعتقد أن الحياة ستكون أسعد لو أننا وُلدنا و نحن في سن الثمانين .. لنتراجع رويداً رويداً الى سن الثامنة عشرة ) . قصة فيتزجيرالد ، هذه ، إشتغل على صياغتها سينمائياً كل من ( روبين سوايكورد ) و ( أريك روث ) الذي تولى كتابة سيناريو الفيلم ، و هو السيناريست القدير كاتب سيناريو أفلام جيدة ، من مثل فيلم (فورست جامب ) .

يبدأ الفيلم بلقطة عريضة لوجه دايزي ( كات بلانتشيت ) و هي ممدة على السرير في أحد مستشفيات نيو أورليانز ، و برفقتها أبنتها كارولاين ( جوليا آرموند ) التي تقول لها و هي تحتضنها : سأفتقدك يا أمي .. ثم تسألها بحنان مؤثر : هل أنتِ خائفة ؟ فتجيبها : أنا متأكدة ممـا هو قادم . و تعني الموت . و الموت هو أحد الركائز الأساسية التي شُيدت عليها فلسفة القصة ، و من ثم السيناريو . و إذا كانت الأم قد فاجأت ابنتها بالحديث عن حكاية ساعاتي ضرير صنع ساعة جدارية لمحطة قطار نيو أورليانز في العام 1918 ، فأن ذلك لم يأت اعتباطاً . فالحكاية لهــا دلالتها حين تـعـمـّـد الساعــــاتي غاتو ( إلياس كوتياس ) أن يجعل عقرب الثواني يدور الى الوراء ، وحين يستغرب حضور حفل الإفتتاح من ذلك ، يوضح لهم أن فيه تعبيراً عن أمنيته في أن يعود الزمن الى الوراء .. فيعود أبنه و وحيده ـ الذي قُتل في الحرب العالمية الأولى ـ إلى الحياة . فيرفع الحاضرون قبعاتهم تجاوباً مع هذه الأمنية العظيمة ، و كان أولهم الرئيس الأمريكي السابق روزفيلت . ثم يختفي غاتو من مسرح الحياة و لا أحد يعرف كيف . بعضهم يقول إنه مات كسير القلب ، و بعض آخر يقول إنه ذهب الى البحر و لم يعد . . و بعد أن تنهي دايزي حكاية الساعاتي بهذا الغياب ذي الـــدلالة الرمزية ، تشـير الى دفـــــــتر ( هو عــــبارة عن دفتر مذكرات يضم بين دفتيه ، أيضاً ، بطاقات و صوراً و قصاصات و تذاكر سفر ) و تطلب من ابنتها أن تأتي به و تقرأ فيه . . وبذلك تفشي لإبنتها سرّاً كتمته عنها طوال حياتها ، فالمذكرات تعود لبانجامِن باتُن الذي كان حبيب وزوج الأم ، و بالتالي فهو أبوها هي ( كارولاين ) .. من هنا يبدأ الفلم بسرد حكاية بانجامن ، ثم يمتزج صوت الإبنة ـ و هي تقرأ ـ مع صوت الأب الذي ينفرد بسرد الحكاية ، فيبدأ من ليلة أحتفال الناس في الشــوارع بنهاية الـــحرب العالمية الأولى ، حين يركض السيد توماس باتُن ( جاسون فيلمنغ ) ، متحاشياً الحشود ، نحو منزله .. حيث تلد زوجته مولودهما البكر ، و التي تطلب منه أن يحتفظ بالطفل ، ثم تلفظ بعد ذلك أنفاسها . و إذ يتحول الأب نحو الطفل يكتشف أنه متغضن الوجه بملامح و شعر و جلد رجل في الثمانين من عمره ، فيخطفه من سريره ـ غاضباً ـ ليدور به راكضاً في الشوارع بحثاً عن مكان يرميه فيه ، تخلصاً وانتقاماً منه ، حتى يقرر تركه عند مدخل دار للمسنين تديرها كويني ( تارا جي . بي . هانسون ) التي تتعثر و صديقها بالطفل ، فتقرر الإحتفاظ به ، ليعيش مع المسنين و كأنه واحد منهم ، و يبدأ رحلته العكسية مع الحياة ، إنطلاقاً من الشيخوخة و انحداراً إلى المراحل الأولى من حياته وصولاً إلى مرحلة الرضاعة حيث يموت ... توافقاً مع ساعة السيد غاتو .

فكرة القصة ، و من ثم السيناريو ، و بالتالي الفيلم ، تفتح الباب ـ في النهاية ـ على حقيقة أن كل الأفكار التي قد تبدو غير واقعية ، و فنطازية ، و خارج حدود المعقول ، إنما من الممكن معالجتها سينمائياً ، وتقديمها على يد أشخاص من مثل السيناريست ( أريك روث ) و المخرج ( دايفيد فينشر ) البارعَين ، كحقائق قابلة للتصديق .. و مقنعة تماماً . ولكن ، تبعاً للسياقات العامة في السينما ، فأن هذا الفيلم قد يبدو تقليدياً ، نوعاً ما ، غير أن ما هو خارج على التقليدية ، هنا ، هو السؤال غير التقليدي الذي إنبنى الفيلم عليه ، و قد أجاب عليه بدقة مذهلة ، و هو : هل يمكن أن نتعامل مع الزمن مقلوباً ، و كيف ؟ ..

وما كان فيلم (حالة بانجامن باتن .. ) يحتاج إلى أكثر من هذا ، ليثبت أنه فيلم فلسفي ؟ حتى و إن بدا ـ في الظاهر ـ إنه ليس كذلك ؟! .. فبقدْر ما ظهر واضحاً انه وضع المُشاهـِد العادي و مدركاته في الحسبان ، و تعامل معه باحترام عالٍ ، فمهّد له طريقاً سهلة للإستجابة ، بواسطة سيناريو سلس وإنسيابي الحركة ، و ترك له حرية التعاطي ، إلاّ أنه كان معنياً بالمُشاهد الآخر الذي يتعامل ، بدقة ، مع الفكرة التي ينطوي عليها الفيلم ـ أي فيلم ـ بالمعيار ذاته الذي يتعامل به مع جوانبه الفنية .... ففي لحظة ما ، يبدو الفيلم درامياً عادياً . ولكنه ـ في حقيقته ـ فيلم فكري ، بل هو ملحمة سينمائية تشغلنا و تشدنا على مدى ساعتين و خمسٍ و أربعين دقيقة ، بانعطافات و تداعيات مختلفة ، عبر زمنين متعاكسين : زمن صاعد طبيعي تكبر معه الناس و تشيخ ، و زمن نازل يصغر معه ( بانجامن باتن ) لوحده ، بمراحل عمرية عكسية . ولكن ثمة عقدة واحدة تربط الزمنين و تشكل النتيجة الحتمية لهما و هي : الموت .. و الموت وحده . فكان وجود دايزي على سرير الموت ، في أول لقطة ، هي الإشارة الأولى إليه . و على مدى رحلة بانجامن يغيّب الموت الكثيرين ، أولهم والدته التي أودعته الحياة فماتت . و الغريب أنه ــ باستثناء البحار مايك كلارك ( جاريد هاريس ) الذي يموت في معركة بحرية في الحرب العالمية الثانية ــ فأن جميعهم يموتون مسترخين في الأسرّة أو على الكراسي : فالسيدة العجوز ، التي عقدت معه صداقة و كانت تقص له شعره و راحت تعلمه العزف على البيانو ، وجدها ذات يوم قد فارقت الحياة وهي مسترخية في كرسيها . و تخبره السيدة التي تعرّف عليها في فندق في ( الإتحاد السوفييتي ) أن والدها مات في الثمانين من عمره و هو مسترخ ٍ في كرسيه المتحرك . و عندما يعود من رحلته الطويلة يسأل كويني عن زوجها ( و هو نفسه الذي قد تعثر ببانجامن معها عند مدخل دار المسنين ) فتخبره أنها وجدته ذات يوم ميتاً بهدوء , و هو نائم في سريره . و يعرف أيضاً أن عدداً من سكنة الدار قد غادر الحياة بهدوء . و الواضح أن السيناريو قد كُتب بعناية و خُطط له بعمق , لكي لا تكون الصدفة هي التي تجعل الأب الغاضب الحانق يترك طفله في أي مكان اعتباطاً . كان يجب على السيناريو أن يقود الأب الى دار المسنين ليترك الطفل المغضوب عليه عند العتبة ، فتعثر عليه كويني ، لتحتضنه و تطلق عليه إسم بانجامن و ليعيش و ينمو بين هؤلاء المرشحين للغياب .

إن تعاكس إتجاه بانجامن مع اتجاه سكنة الدار ، شكلاً و مضموناً ، إنما ينطوي على فكرة التهرب من الموت التقليدي لدى البشر و لدى جميع الكائنات . و لنتصور الفكرة على النحو التالي : شجرةٌ مزروعة بصورة مقلوبة ، جذورها في الفضاء فوق الأرض فيما أغصانها في الأسفل داخل التراب .. و مع ذلك فهي تنمو . إنه نوع من تجريب العيش خلاف تقليدية المكان و عكس مسار الزمن . و بانجامن يدرك تماماً حقيقة وضعه الذي أحاله إليه قدَرُه ، فعندما يعود بعد سنوات و يلتقي دايزي مصادفة ً , تقول له : ( أنك عدت أكثر شباباً ) ، فيجيبها : ( من الخارج فقط ) . هذا الجواب يعكس عمق معاناته من قدَره الإستثنائي مثلما يعكس وضوح إدراكه لحقيقة أن تعاكس مساره مع مسار الآخرين لا يعني أنهم ذاهبون الى الموت فيما هو ذاهب الى الخلود . نهاية رحلته هي ذات نهاية رحلتهم . المختلف هو لون البطاقة و الإتجاه غير التقليدي لقطاره . لذلك فهو لا يردد عبارات كالتي كانت ترددها دايزي و هي على فراش الموت ، من مثل : ( السنوات تمضي ، سنة ً , فسنة ً , فسنة ) أو ( الموت زائـــرنا ... الـبشر يأتـون و يمضون ) أو ( بالطريقــة التي جئنا إلى الحياة ســوف نمضي ) . لأن السنوات ـ بالنسبة إليه ـ ( تأتي ) و لا ( تمضي ) سنة ً ، فسنة . و الطريقة التي جاء بها وضعته على مسار غير مسبوق ، مختلف ، و يسير باتجاه معاكس لزمن الآخرين .

صحيح أن السيناريو المدروس كان عماد هذا الفيلم ، ولكن بعد تنفيذه تجلّت رفعة وجمالية فن السينما من خلال العناصر الأساسية الأخرى التي تضافرت لتقديم هذه التحفة السينمائية الباهرة . فلم يكن اعتباطاً ترشيح هذا الفيلم لثلاث عشرة جائزة أوسكار لهذا العام 2009 ، نال منها ثلاثاً فقط في : الماكياج ، و المؤثرات الصورية ، و الإخراج الفني . و لقد كان الماكياج أحد الأبطال غير الرسميين ، بامتياز ، في هذا الفيلم . و من المؤكد لو أن الجائزة لم تذهب إليه لأثار ذلك امتعاضاً لدى الجميع ، بما فيهم المنافسون . فلقد حقق فريق الماكياج انتقالة نوعية حقاً لهذا الفن في تاريخ السينما . الأمر الذي دفع عدداً من شركات الإنتاج الى التعاقد معه . الإضاءة في هذا الفيلم قدمت بطولة صامته و أضفت على لغة الفيلم حواراً هادئاً ، عميقاً و مختلفاً . و أذ أبدعت ( كات بلانتشيت ) في أدائها منذ اللقطات الأولى ، كعادتها في تمثيلها الراقي دائماً ، فأن بانجامن باتن سيفرض على ( براد بيت ) أن لا يمثل ، مستقبلاً ، بأقل مما أبدع في هذا الفيلم و الذي ترشح على أساسه لجائزة أوسكار كأفضل ممثل ، ولكنها ذهبت الى ( شـون بين ) . ترشـــحت أيضاً ( تارا جي . بي . هانســون ) كأفضل ممثلة ثانــوية عن دور ( كويني ) ، و كانت ( جوليا آرموند ) التي مثلت دور ( كارولاين ) تستحق الترشيح لهذه الجائزة أيضاً , لأدائها التلقائي الجميل . . ولكن لا أحد يعرف الضوابط و لا ما يدور في كواليس الأوسكار ، فذهبت الجائزة الى الأسبانية ( بينلوب كروز ) .

أدب وفن في

23/07/2009

 

وقــائــع هــروب.. فيلم أرجنتيني.. كما لو كان عراقياً

هادي ياسين 

هذا الفيلم من الأرجنتين ، مخرجُهُ ( إسرائيل ادريان كيتانو ) المولود في الأورغواي . وممثــلوه أرجنتينيون : شباب ولدوا أبان أو بعد فترةِ ما سُـــــمّيت بـ ( الحرب القذرة ) في الأرجنتين، أو قبلها بقليل. أي أنهم ينتمون الى جيل ولد و هو لم يكن لـيَعيَ ما حدث في بلاده خلال تلك الفترة التي ابتدأت بقيام جــنرالات الجيش الأرجنـتيني بالإنقلاب الذي قاده الجنرال ( فيديلا) في الرابع و العشرين من آذار (مارس) عام 1976، والذي ابتدأ عــهداً دموياً لا يزال ثلاثون ألفاً من ضحاياه مجهولي المصير ، وآلافٌ أخرى اُعدمت علناً ، وآلافٌ قضت في الســجون : قتلا عمداً ، أو إهمالا عمداً ، وآلافٌ ـ لا تُعد ـ تفنن الإنقلابيون العســـكر في ابتكار الطرق والوسائل لإفنائهم و التخلص منهم .. كان إحداها : إلقاؤهم في عرض البحر. وعندما انتهى عهد هذه الطغمة عام 1983 ، بدأت جراح الناس بالأنين ، حتى تسلم الحكم في البلاد الرئـــيسُ المنتخب ( راؤول الفونس ) في العام 1985 ، بدعم شـــعبي كبير ، فأصر على تشكيل محكمة للقصاص من أولئك السفلة ، المجرمين بحق مواطنيهم و بحق الإنسانية . وقاد حملة البحث عن حقائق ما جرى : الكاتبُ ـ الروائيُ الأرجنتيني المعروف ( أرنستو ساباتو ) الذي وصف نتائج ما توصل اليه من تحقيقات و متابعات و استــنتاجات بأنها : ( أشبه بدخول الجحيم ) . . . جزء من هذا الجحـيم هو ما يسلط هذا الفيلم : ( و قائع هروب ) الضوءَ عليه .

*********

آخر مشاركات الفيلم كانت في مهرجان ( كان ) السينمائي الفرنسي لهذا العام 2009 ،
طارحاً موضوعاً لا يزال يؤرق الأرجنتينيين ، ويبعث الحيرة لدى سواهم . والفيلم لا يجيب على السؤال: (لماذا فعلت) الطغمة العسكرية الأرجنتينية كل ذلك بالمواطنين ، بل يحكي لنا ( كيف فعلت)، ويقدم صورة عن تلك ( الأفعال ) ، وهي صورة تكررت في دول كثيرة من العالم الثالث التي ابتلت بأنظمة جاءت من ثكنات الجيــش أو تلك التي جاءت بشــــعارات ( ثورية ) ، والتي ما أن استولت على السلطة حتى كشفت عن وحشيتها ، ربما بأشد من العسكر . فالوحوش هم أنفسم في كل مكان وزمان ، سوى اختلاف الهوية . عليه فأن هذا الفيلم إذا ما عُرض في بلد عانى من قسوة و وحشية السلطة كالتي كانت في العراق ابان عهد البعثيين ، و تحديداً عهد نظام صدام حسين ، فإنه سيلقى إقبالاً منقطع النظير ، نظراً لتشابه عذابات ومصائر الضحايا على أيدي جلاوزة يتشابهون حتى في الشكل واللباس ، الى درجة لو أنه تمت ( دبلجة ) الفيلم باللهجة العراقية ، لصعُبَ التمييز في ما إذا كان فيلماً عراقياً أم ارجنتينياً حقاً. صحيح أن أوضاعاً مشابهة قامت ــ وما زالت قائمة ــ في معظم بلدان العالم الثالث ، وفي مقدمتها بلدان عربية ، غير أنه لا يستطيع مواطنو أي من هذه البلدان الزعمَ بتفوق أنظمتها الدكتاتورية على نظام صدام حسين في قســـوته، لدرجة نـستطيع فيها القول أن من كُتبت له الحياة من ضحايا النظام واُتيحت له فرصة مشاهدة فيلم ( وقائع هروب )، ســـيرى أن ما يعرضه الفــــيلم من أحداث و تفـنن في القسوة ، لا يساوي شــيئاً أمام ما حصل أبان العهد المخيف الذي ولّى ، والذي سيجد المخرجون العراقيون مادة خصبة وذاكرات مليئة بالآلام والعذابات لو أنهم فكروا بانتاج أفلام روائية توثقه .

تبدأ قصة الفيلم في 23 تشرين الثاني ( نوفمبر ) العام 1977 ، وهو يوم ممطر، تتوقف فيه سيارة أمام منزل في العاصمة الأرجنتينية ( بويـْـنـِس آيرس ). ويظهر رجل أمن داخـــل السيارة يمســك برأس شـاب مرعـوب ، ويسـأله : أهذا هو البيــت ؟ يجيب الشــاب بـ ( نعم ) ، فيعيد رجل الأمن العصابة إلى عينيه و يُنزل رأسه الى أسفل مع لكمات متتالية. والبيت المقصود هو بيت الشاب ( كلوديو ) الذي يلعب كحارس مرمى في فريق لكرة القدم، يداهمه رجال الأمن فيما بعد ، فتخضع الأم بغياب إبنها إلى استجواب قاس مرفق بالضرب و الإهانة لإنتزاع اعتراف منها حول نشاط ابنها السياسي المعارض للسلطة ، و الذي لا تعرف شيئاً عنه ، لأنه ليس لديه أي نشاط من هذا القبيل . وعندما تعود ابنتها الى البيت تتعرض للإستجواب ذاته ، حتى وإن ْ لم يظهر مشهدٌ لذلك. ويشكل هذا الظهور القصير للأم والبنت ظهوراً أخيراً ونهائياً للعنصر النسائي في الفلم باستثناء لقطة أو لقطتين فقط لنساء عابرات .

ومع عودة الإبن المسالم الطيب الذي يتخلى عن مقعده في الباص لسيدة حامل ، يكون
جلاوزة الأمن بانتظاره ليتم القاء القبض عليه فوراً و لـيُحشر في سيارة تنقله الى قصر يقع وسط مزرعة. تم اتخاذه معتقلاً لغرض التحقيق والتعذيب ( سيذكّر العراقيين بقصر النهاية، الشهير ). فيجد المكان مزدحماً بشبان آخرين يبدو انه تم اقتيادهم بذات الطريقة . هناك يبدأ مسلسل التعذيب الوحشي إياه لإنتزاع الإعتراف ، فلم يعترف بشئ .. لأنه ليس لديه ما يعترف به حقاً ، و لا يدري كيف و لماذا تم الاشتباه به . ولكنه يدرك فيما بعد أن ( كَالليكَو ) الذي دلّ الجلاوزة على منزله هو الذي أورد اسمه ولفق عليه تهمة البحث عن آلة طباعة , وبالطبع فأن رجال الأمن يفسرون الأمر ، في هذه الحالة ، على أن هدفه هو طبع المنشورات المعادية للسلطة ، ولا يوجد أي تفسير آخر ، وهذا يكفي وحده لأن يكون مبرراً للإعتقال . ويكتشف في الأيام اللاحقة أيضاً أن هذا هو الديدن الذي يتّبعه رجال الأمن هؤلاء ، أي : اغراء المتهم بالكشف عن أسماء حتى وإن ْ كانت بريئة ، كي يتم اطلاق سراحه لاحقاً . وهذه هي اللعبة التي انطلت على ( كَالليكَو ) فورّطه . وعليه فأن كل هؤلاء الشبان الأبرياء قد تم اعتقالهم لهذا السبب .

ومع الأيام ، ومن خلال طرائق التعامل ووسائل وأساليب الإستجواب والتعذيب القاسي وتناقص أعدادهم ، يدرك من تبقى منهم أن الموت سيكون مصيرهم الحتمي وقد بات يدنو منهم ، فيقرر (كَويللرمو) وضع خطة سريعة للهروب ، لتــُنفذ في ليلة غزيرة المطر ، فيوافــق علـيها ( كلوديو) حالا ً ، ليؤيده ( فاســكو ) . أما الوحـيد الذي يتردد و يتخاذل فــهو ( كَالليكَو ) الواشي .. لكنه يوافق في اللحظات الأخيرة بعد أن أدرك أنه سيبقى وحيداً . و يبدو أن هذا الشاب قد تربى على الخوف والتردد وعدم التعاون . بدليل أن أباه الذي يصل الى مكان اختبائه يرفض أن يقلّ بسيارته الأثنين الآخَرين من رفاق ابنه ، واللذين هرّباه معهما ، حتى يخبره الإبن بهذه الحقيقة ، فيوافق الأب في اللحظة الأخيرة .. أيضاً ، فيحشرهما في صندوق الســــــيارة . كـذلك فأن ( كَالـليكَو ) هو الوحـــيد الذي تغـــيب عن الإدلاء بشــــهادتــه أمــام المحكمة عـــــام 1985 كــــما فــــــعل رفــــــاقـــــــــه.. في ليلة الهروب تلك ، كان السجانون قد جردوا الشبان الأربعة من ملابسهم تماماً ، وتركوهم عراةً ، إمعاناً في إذلالهم و تحوطاً من فكرة هروبٍ قد تراودهم ، وقد كُبّلت أيديهم بالجامعات و قـُـيدوا الى أسرّتهم ..... (كَويللرمو ) هو الوحيد الذي قـُـدّر له أن يُفلت يديه وأن يفك ، بالتالي ، الحبال التي قيدت رفاقه الى الأسرّة ، ليسرعوا بربط البطانيات الى بعضها ، ومن ثـم الـــنزول بواســطتها من النافذة التي فتـحها ، و كان قد انتزع من ســريره ( برغــياً )
لهذا الغرض .. و هكذا يتم الهروب : عراةً تحت وقع مطر غزير ، وحيدين في شوارع شبه معتمة و فارغة في تلك الساعة المتأخرة من الليل ، و لم يصادفهم إلا رجل متأنق ترجّل من سيارته للتو ، فأرتاب منهم ، ولكن يبدو أنه ليس من مناصري السلطة ، فيدرك بحدسه إنهم ضحايا ، وقد يكون مصيره مثل مصيرهم يوماً ما ، فأومأ إليهم بمواصلة الهرب .

سينمائياً ، تبدو طريقة الهروب تقليدية جداً ، ولكن بما أن الواقعة قد حصلت ، فعلاً ،
و تحديداً بتاريخ 31 آذار ( مارس ) 1978 ، فأن المخرج لم يشأ الإنحياز لسيناريو السينما على حساب سيناريو الواقع ، و ذلك لهدف واضح و مقبول , و هو توثيق حقيقة ما جرى تاريخياً . فلو كان يفضل سيناريو السينما لكان قد اقتنص الحالة التي حصلت ذات ليلة و انعطف منعطفاً آخر بالسـيناريو . فـفي تلك الليلة ، كان إثنان من الحراس قد اصطحبا كلا ً من ( كلوديو ) و ( كَالليكَو ) الى المطبخ ليعدّا لهما الطعام ، لرغبتهما في متابعة مباراة كرة قدم دولية للأرجنتين ، الذي هو بلد مهووس بهذه اللعبة مثل البرازيل . و في المطبخ ، أوْلى الحارسان كل اهتمامهما للــتلفاز ، تاركــَـيْن خلفهما الشابين طليقين في المطبخ ، مثلما تركا السلاح و مفاتيح السيارة على الطاولة خلفهما أيضاً ، و هي في متناول (كلوديو) الذي كان يرى السيارة ، من النافذة ، و هي مركونة في الحديقة .. قلّب الشاب المقلاة الثقيلة في يده ، و أمامه رأسا الحارسين المنشغلين تماماً بالمباراة .. و عيناه تتنقلان بينهما و بين السلاح والسيارة و مفاتيحها ، فيما راح ( كَالليكَو ) ـ الذي كان يتناول الطعام بنهم ـ يومئ اليه برأسه و عينيه أن يبتعد عن الفكرة غير مضمونة النتائج التي دارت في رأسه . أثناء ذلك سجل الفريق الأرجنتيني هدفاً في المباراة جعل الحارسين يقفزان فرحاً في المطبخ .. فانتهت الفكرة .

لو أن المخرج قد اعتمد هذه الفكرة منطلقاً للهروب ، لكان السيناريو قد نحى بالأحداث منحى آخر لا يتطابق ، بطبيعة الحال ، مع ما جرى في الواقع ــ فعلاً ــ ليلة الهروب ، الأمر الذي يعني ابتعاداً عن غاية الفيلم في توثيق الحقيقة التاريخية . و لا بد من الإشارة الى أن المخرج كان حريصاً جداً ـ في سياق تلك الغاية ـ على أدق التفاصيل .. فلم ينسَ ـ مثلاً ـ أن يرينا قذارة أصابع المعتقلين ، والأوساخ التي قد ترسخت في محيط الأظافر، و الألوان المتقادمة لجدران المعتقل .. أما على مستوى السلوك ، فهناك التقاطات قد تكون عابرة ولكنها ذات دلالة .. فمثلا عندما تعود شقيقة ( كلوديو ) ، يراقبها الجيران لمعرفة رد فعلها و هي لا تدري أنّ منزلها مُداهـَم ، ولكنها تلحظ بصورة مفاجئة أن ثمة رجالا يصادرون جهاز التلفزيزن من المنزل ، و عندما يعود الشقيق و يلقي الجلاوزة القبض عليه ـ باطحين إياه أرضاً ـ ينتزع أحدهم محفظته من جيبه لتفحص أوراقه ، غير أن ما يقوم به هو أخذ ما فيها من نقود . هذان تفصيلان بقدر ما يبدوان عابرين عند البعض إلا إنهما يحملان دلالات عميقة ، فسلوك كهذا إنما يترجم غياب القانون و حضور القوة ، و يعكس حقيقة أن السلطة محمية بقوة أزلام يتطابقون معها ، بعد أن تدربوا على التجرد من شعور المواطنة و من أي شعور إنساني ، و بالتالي فإن السلطة و جلاوزتها يتقاسمان الغنيمة من دون إعلان و لا جلبة . فيما يكون المواطن الأعزل مسلوب الإرادة منهوب الكيان . ولكن و على الرغم من كل التفاصيل التي اشتغل عليها المخرج في فيلمه ببراعة ، لا أدري كيف فاته أن نمو لحية ( كلوديو ) لم يكن متناسباً مع فترة اعتقاله ، خلافاً للنمو الطبيعي للـُـحى رفاقه .... فليس من المعقول أن تبدو لحية شاب كث الشعر ، في العشرينات من عمره ، كما لو كان قد مضى على نموها اسبوعان لا أكثر ، في حين أنه قد قضى أربعة أشهر حتى من دون تحمم . ينتمي فيـــــلم ( وقائع هروب ) الى سينما ( الواقعية ) . و هو ما ينبغي أن يكون عليه ، كي يتوافق مع الهدف في التوثيق ، و بالتالي إدانة ما أقدمت عليه تلك الطغمة سيئة الصيت . و من هنا جاء نمو الأحداث تلقائياً وفق تسلسل زمني تراتبي مقبول و متناغم مع إيقاع الفيلم غير السريع ، ولكن المشحون ، عززه تصوير اللقطات القريبة ، وأحياناً القريبة جداً ، و التي كادت أن تكون سمة التصوير العامة في الفيلم . . و من المعروف أن لقطات ــ كهذه ــ إنما تشكل اختباراً لإمكانيات الممثل التعبيرية . و في فيلم ( وقائع هروب ) هذا ، نجح جميع الممثلين على الإطلاق في الإختبار ، سواء من مثلوا أدوار الضحايا أو الذين مثلوا أدوار الجلادين ، فالتنافس كان حامياً حقاً ، ولكنهم ـ جميعاً ـ كانوا بارعين في الأداء و التعبير . و على الرغم من أنه تم نوع من التركيز على شخصية ( كلوديو ) ، ربما بسبب انطلاق أحداث الفيلم من منزله ، إلا أن البطولة آلت ــ مع تنامي الأحداث ــ الى الجماعية .

من الممكن الإشارة الى أن عنوان الفيلم ( وقائع هروب ) قد يشي بنهايته ، التي تحتمل نجاح عملية هروب اولئك الشبان الأربعة الأبرياء ، ولكن قد يكون من المحتمل أيضاً أن الفيلم يعرض (وقائع) العملية ، فقط ، دون نتائجها . و هذا ما أتركه للقراء كي يقفوا عليه بأنفسهم . ولكـني أنقل إليهم هنا الوقائعَ التاريخية التي حصلت ـ فعلاً ــ للأشخاص الحقيقيين :

كَـويللرمـو : هاجر الى فرنسا . و في العام 1984 التقى كلوديو في إيطاليا .. و في العام نفســــــه التقى كَالليكَو في اســـــبانيا . وفي العام الـتالي 1985 أدلى بشـــهادته أمام المحكمة .

فاسكو : تم خطفة من قبل جلاوزة الأمن للمرة الثانية ، ولكن أفرج عنه في العام 1983 . و أدلى بشهادته أمام المحكمة العام 1985 أيضاً .

كَـالـليكَو : غادر الأرجنتين بمساعدة أهله ، و تشير المعلومات الى إنه استقر في اسبانيا . كلوديو : ذهب الى السويد ، و أصبح باحثاً فلسفياً جامعياً . وفي العام 1985 مثــُـل أمام المحكمة و أدلى بشهادته .

و بعد محاولة الهروب تلك ، تم نقل المعتقلين الى سجون اعتيادية ، أما ( قصر النهاية ) الأرجنتيني فقد تم إحراقه ، فيما اُحيل جميع قضاة التحقيق إلى المساءلة و الإستجواب .

*******

أود أن أنوه إلى خطأ غير مقصود ورد في تقرير للناقد السينمائي القدير الأستاذ سمير فريد ، من مهرجان ( كان ) لهذا العام ، حسب ما ظهر في موقع (الجمهورية أونلاين ) بتاريخ 3 أيار ( مايو ) 2009 ، حين كتب ما جاء فيه ــ نصاً ــ : ( أعلنت إدارة مهرجان كان عن انتقال الفيلم الأرجنتيني ( وقائع هروب ) للإسرائيلي أدريان كيتانو .. الى مسابقة الأفلام الطويلة ) . و الحقيقة أن المخرج ليس إسرائيلياً .. إسمه ( إسرائيل ) فقط و أصله من الأورغواي و يعيش في الأرجنتين . و لا علاقة له بدولة إسرائيل ، حتى و إن ْ كان ( يهودياً ) ، تبعاً لإسمه الذي قد يوحي بذلك .

و يعتبر المخرج كاتيانو من مخرجي الخط الأول في الأرجنتين اليوم . يمتلك رصيدا متميزاً من الأفلام و الجوائز ، و شارك بحضور متميز في مهرجانات سينمائية عالمية كبيرة مــثل : مهــرجان ( كان ) . مــهرجان ( سـان سبيستيان ) . مهرجان ( هــافانا ) . مـــهرجان ( روتردام ) . مهرجان ( لندن ) ..... و سواها .

ولد المخــرج في ( مونتيــفــيديو ) بالأورغـــواي ، العام 1969 . و قد نزحت عائلته الى الأرجنتين عندما كان في السادسة من عمره ، و ذلك بسبب بروز ظاهرة ( إطلاق النار على كبار السن ) في الأورغواي .. و لا أدري إذا ما كان الكاتب ( كومارك مكارثي ) قد استقى موضوع روايته ( لا وطن للمســـنين ) من هناك ، و من هذه الظاهرة ، أم لا .. و هي الرواية التي تحولت الى فيلم بالعنوان ذاته ، من إخراج الأخوين ( كوين ) و حصد أربعاً من جوائز الأوسكار ، العام 2008 ، منها جائزة أفضل فيلم ، و جائزة أفضل ممثل ثانوي .. خطفها الممثل الإسباني البارع : خافيير بارديم .

أدب وفن في

09/07/2009

 

جميع الحقوق محفوظة لموقع سينماتك
  (2004 - 2009)