تعرف على صاحب "سينماتك"  وعلى كل ما كتبه في السينما

Our Logo

  حول الموقعخارطة الموقعجديد الموقعما كـتـبـتـهسينما الدنيااشتعال الحوارأرشيف الموقعسجل الزوار 

حسن ومرقص”:

بحثا عن المشترك الإنساني في ظلالهويات القاتلة

دمشق ـ ابراهيم حاج عبدي

يناقش الفيلم المصري “حسن ومرقص” لمخرجه الشاب رامي إمام واحدة من أكثر القضايا تعقيدا والتباسا في مصر والعالم العربي، فرغم الطابع الكوميدي للفيلم، الذي كتب قصته يوسف معاطي، إلا أنه يتصدى بجرأة لمسألة التطرف الديني من زاوية خاصة جدا. وخصوصية المقاربة نابعة من أن الفيلم لا يرفع شعارات فضفاضة، ولا يتبنى خطابات تحريضية مباشرة تدين التطرف الديني وسلبياته، وإنما يحاول الاقتراب بهدوء وحذر من هذه الموضوعة المحظورة، عبر تسليط الضوء على نموذجين يمثلان التطرف الديني في أدنى حالاته، أحدهما يمثله المسلم، والثاني يمثله المسيحي، وإذ يتخذ الفيلم من الواقع المصري مسرحا للأحداث، ويستوحي منه تفاصيله وملامحه، لكن دلالات الفيلم تتجاوز مصر، لتجد تجسيدا لها في أكثر من بلد عربي يعاني من الأصوليات المتطرفة، ومن الأفكار “الراديكالية” الهدامة، ومن ثقافة الإقصاء والإلغاء.

من هنا، يمكن القول بان الفيلم يعد سابقة لجهة موضوعه الجريء، إذ لم يسبق للسينما العربية أن جهرت بوجود الانقسام الديني بين الطوائف والمذاهب، ذلك الانقسام الذي يظل، بفعل الخطاب الرسمي المهيمن، غائبا عن دائرة الجدل والنقاش، ولم يسجل لأي مخرج سينمائي عربي الخوض في مقاربة مسألة المذاهب والأديان على هذا النحو من الوضوح، والصراحة، لاسيما في مصر التي أنكرت، على الدوام، وجود مثل هذا الانقسام بين المسلمين والأقباط  في الواقع المصري، إلى أن وقعت بعض الصدامات بين معتنقي الديانتين، وجاء هذا الفيلم ليقر بحقيقة وجود هذا التباين والاحتقان، ولعل هذا ما دفع أحد أبطال الفيلم، وهو عادل إمام، والد المخرج، إلى القول قبل البدء في التصوير: “سنسير على الأشواك في هذا الفيلم”، في إشارة إلى حساسية الموضوع، وثمة من قال بأن هذا الفيلم لم يكن ليرَ النور، ولم يكن لينجح في تجاوز قيود الرقابة لولا نفوذ “الزعيم عادل إمام” لدى السلطات المصرية. فما حكاية هذا الفيلم؟

يتحدث الفيلم، الذي أنتجته شركة (جود نيوز)، عن شخصيتين رئيسيتين تتقاسمان تفاصيل الحكاية، وترسمان الحبكة الجوهرية للسيناريو. الشخصية الأولى هي شخصية القبطي بولص (عادل إمام) وهو أستاذ علم اللاهوت المسيحي، وقد تم الاتفاق على أن يكون الرجل المسيحي أستاذا في اللاهوت بعد استشارة البابا شنودة؛ بابا الأقباط الذي اعترض على أن تكون شخصية بولص قسيسا لتجنب احتمال النيل من قداسة القس، ولأن القس لا يمكن له أن يخلع مسوح الكهنوتية كما يجري في الفيلم. الشخصية الثانية، هي شخصية المسلم محمود العطار (عمر الشريف) وهو رجل دين ورع، يمارس شعائر دينه، ويتقيد بها دون إبطاء. الاثنان، وإن اعتنقا عقيدتين مختلفتين، لكنهما يقعان ضحية للتعصب ذاته، إذ يواجهان جماعات متطرفة تدين بديانتيهما، ويضطران إلى الدفاع عن نفسيهما أمام ثقافة التطرف القابعة في أذهان تلك الجماعات. يصرِّح بولص في المؤتمر الواحد والخمسين للوحدة الوطنية (ثمة، إذا، خمسون مؤتمرا سابقا لم يفلح في جسر الهوة بين الفرقاء!) عن رفضه لأفكار الجماعات المسيحية المتطرفة، الأمر الذي يدفع إفرادا من تلك الجماعات إلى تفخيخ سيارته بغرض اغتياله. لكنه ينجو بعد اكتشافه القنبلة الموقوتة في الوقت المناسب. رجل الدين الإسلامي محمود العطار هو، بدوره، يتعرض للتهديد، فبعد مقتل أخيه أسامة (وهو أمير جماعة إسلامية متطرفة)، يطلب مناصروه من العطار، بناء على وصية أخيه الراحل، أن يكون أميرهم الجديد، لكنه يرفض، الأمر الذي يجعله عرضة للضغوط من قبل أولئك الأنصار الذين يحرقون محل العطارة الخاص به.

أمام هذه الضغوط التي تصل إلى حد التهديد بالقتل، يضطر الرجلان، بولص ومحمود، كلٌ على حده، اللجوء إلى الحكومة كي تتدخل لحمايتهما، طالما أن الحكومة في إعلامها وخطابها الرسمي تحارب المجموعات المتطرفة، وتدعو إلى التعايش الديني، والى الوحدة الوطنية. تقوم السلطات المعنية، متمثلة باللواء مختار سالم (عزت أبو عوف) بحلول جزئية بغرض حماية الرجلين المهددين، إذ يتقمص بولص شخصية رجل دين مسلم اسمه الشيخ حسن العطار، ويحصل، على الوثائق الرسمية التي تثبت ذلك، ويذهب، مع أفراد أسرته، ليعيش في قرية بعيدة في محافظة المنيا في صعيد مصر حيث يستقبله أحد الأعيان هناك وهو الشيخ بلال (حسن مصطفى). تحدث، آنذاك، سلسلة من المفارقات، والمواقف الكوميدية الطريفة، وهي كوميديا لا تنتمي إلى التهريج والمبالغة المجانية بل هي كوميديا سوداء نابعة من طرافة المشاهد، فالاسم الذي انتحله بولص، هو اسم لشيخ معروف في المنطقة، ودعاؤه مستجاب بحسب اعتقاد الأهالي الذين يستفتونه في أمور الدين الإسلامي، ويطلبون منه إمامتهم في الصلاة ويتبركون به. لكن هذه المواقف المحرجة، التي يتعرض لها أستاذ علم اللاهوت المسيحي، تجبره على العودة من جديد إلى القاهرة، ليسكن في عمارة يسكن فيها كذلك، الشيخ محمود العطار الذي يتخفى، بدوره، كقس مسيحي اسمه مرقص، وذلك خشية من انتقام الجماعة الإسلامية. تنشأ بين حسن (المسيحي!) ومرقص (المسلم!) صداقة وطيدة، ويعملان على افتتاح مخبز بالشراكة، دون أن يعلم كل واحد منهما بحقيقة ديانة الآخر. هنا، ينجح الفيلم في صوغ مشاهد مؤثرة تعبر عن القيم الإنسانية المشتركة بعيدا عن التصنيفات، و”الهويات القاتلة”، بتعبير أمين معلوف. الدين والمذهب والطائفة وغيرها من المفردات التمييزية؛ القسرية تتراجع أمام انتصار المشاعر الإنسانية، ولعل دعوة الفيلم إلى التركيز على ما يجمع لا ما يفرق، لا يعني، بالضرورة، تجرد الإنسان من ميراثه الديني، وخصوصيته الثقافية والوجدانية، ذلك أن هذا التعدد والتنوع يغنيان الموزاييك المجتمعي شريطة أن تتكامل هذه العناصر لأجل البناء والازدهار، لا أن تكون ذريعة للتناحر والصراع.

ومن أكثر المشاهد دلالة في هذا السياق، ذلك المشهد الذي يظهر رجلي الدين، المسيحي والمسلم، وهما يتوجهان إلى أمكنة العبادة لأداء الصلاة، وكي لا يكشف أحدهما أمر الآخر، يضطر المسيحي إلى دخول الجامع لأداء الصلاة، بينما يضطر المسلم إلى أداء صلاته في الكنيسة، وتتوج هذه المشاهد المؤثرة بعلاقة حب شفافة تربط بين جرجس (محمد إمام) ابن مرقص، وفاطمة (شيرين عادل) ابنة محمود. لكن الفيلم يعيدنا مرة أخرى إلى تلك الخانة الضيقة، لتطفو معضلة “الديانة” على السطح من جديد، فلدى اعتراف جرجس لفاطمة بأنه مسيحي ظناً منه أنها مسيحية، وبأنه لا توجد مشكلة لأنهما من دين واحد، تخبره فاطمة، بدورها، بأنها مسلمة، فلا تتأخر العائلتان، عندئذ، في التمترس خلف قناعاتهما الدينية، والبحث عما يفرق، فيصطدم ذلك الحب العفوي بصلابة العقول المتحجرة، وتحصل قطيعة بين العائلتين بسبب التعصب الديني الأعمى، وكأن دفاع حسن ومرقص عن الاعتدال والتسامح ما هو إلا قناع مخادع يخفي حقيقة نفاقهما الذي يعلن عن شيء، ويمارس شيئا مغايرا، وهذا ما يسعى الفيلم إلى تصويره عبر إدانة إزدواجية رجال الدين من الديانتين، فهم يتحدثون فيما بينهم بنبرة طائفية واضحة، بينما تتغير لهجتهم ويدعون إلى الوحدة الوطنية وضرورة حصول الطائفة المقابلة على حقوقها عند اعتلائهم المنابر العلنية.

لكن سيناريو الفيلم سرعان ما يعود إلى تأكيد المقولة الرئيسة، المتمثلة في أن النزعة الإنسانية المنزهة عن كل غرض، هي التي تسود، فعند وقوع أعمال شغب في المنطقة بين أفراد من الديانتين، وتتطور إلى عنف دام، نجد أن محمود يعتني بعائلة بولص، وهذا الأخير يحاول إنقاذ عائلة محمود من الحريق في إشارة إلى أن التعايش الإنساني الرافض للتمييز هو الحل الأمثل كما فعلت العائلتان حين تصدتا للعنف، بعدما تضررتا، بالمقدار نفسه، ذلك أن مثيري الشغب من المتعصبين لم يميزوا بين مسلم ومسيحي ما يؤكد أن ذهنية التطرف تسعى دائما إلى تفكيك أواصر المجتمع، وبث التفرقة بين أفراده.
تتجسد تفاصيل هذه الحكاية عبر لغة بصرية جذابة، ومن خلال أسلوب فني يمزج بين الحس النقدي الساخر، وبين عمق المضامين، وقد نجح المخرج الشاب رامي إمام في إيصال تلك المضامين إلى المُشاهد بأبسط المفردات يسرا، وأقلها استفزازا، ولعل هذا ما يفسر نجاح الفيلم، وتقبله من أقطاب كلا الديانتين، ورغم أن فيلموغرافيا هذا المخرج لا تشير إلى تجارب سينمائية مماثلة باستثناء فيلمه اللافت “أمير الظلام”، فإنه في هذا الفيلم قد تخطى الاستسهال الذي ظهر في أفلامه: “غبي منه وفيه”، “بوحة”، “دستة أشرار”، “كلاشينكوف”، ليؤكد بان السينما المصرية، رغم اتهام النقاد لها بالوقوع في فخ الكوميديا الرخيصة، والأفلام الشبابية المتواضعة، لا تفتقر إلى تلك المواهب التي تنجز مشاريعها الطموحة بين حين وآخر، وتثبت جدارة السينما المصرية في الوفاء لتاريخها السينمائي الحافل.
يجمع الفيلم، الذي أنتج العام 2008م، بين رمزين سينمائيين هما عادل إمام، وعمر الشريف في أول تجربة سينمائية مشتركة بينهما، ومن الطبيعي أن اجتماع نجمين بهذا المستوى الرفيع يضفي على الفيلم أهمية إضافية تضاف إلى جماليات الفيلم الأخرى، التي تظهر في الموسيقى والسيناريو والمونتاج، فمع تيترات الفيلم نسمع الموسيقى التصويرية المتناغمة لياسر عبد الرحمن، والتي يمتزج من خلالها صوت الابتهالات الدينية، وآذان الجوامع بأصوات القداس الكنيسي، والتهاليل الكنيسية في تناسق مدهش يعلن عن هوية الفيلم. المونتاج، بدوره، كان موفقا في تكريس تلك الهوية ذات الطابع الإنساني المحض، إذ تتوزع لقطات الفيلم بين بيوت الله، لتعانق الكاميرا، حينا، الجوامع، وحينا آخر، الكنائس، ولتخلق حوارا بصريا؛ مشحونا بالدلالة، بين الأديان، إذ لطالما شكل هذا الحوار حاجة ماسة في هذه  المرحلة الملتبسة. ويتجاوز المونتاج وظيفته، في بعض الأحيان، ليرسم لوحات تنطق بما عجز الكاتب يوسف معاطي عن كتابته، كذلك المشهد الذي يدمج بين لقطة قريبة ليدي جرجس وفاطمة وقد تماسكتا بود وحنان، مع لقطة لأبويهما وقد جمعت يديهما الأصفاد بعد أن ألقت الشرطة القبض عليهما بالخطأ، وهي إشارة رمزية إلى الأقدار والمصائر المشتركة، مهما اختلفت الأفكار والمرجعيات.

هذا التوزيع المدروس تظهره تلك اللقطات المتزامنة؛ المتقابلة والمشغولة بعناية إذ تنتقل الكاميرا بين الضفتين اللتين يجمعهما نهر الحياة الواحد، وتفلح في إتاحة فرص متساوية أمام الشخصيتين، وكأن الشكوى التي يكررها المسلمون تجاه الأقباط بأنهم يسيطرون على قطاع المصارف والبنوك ويملكون ثروات طائلة، والشكوى المقابلة التي يرددها الأقباط تجاه المسلمين في كونهم يستحوذون على المناصب الرسمية الرفيعة في بلد مثل مصر قد تلاشت أمام عدسة رامي إمام الذكية، فهو يقسم مشاهد الفيلم بإنصاف بين بطليه، في محاولة للوصول إلى هواجس الإنسان وهمومه وتطلعاته وآماله بمعزل عن الاصطفاف المصطنع، والحواجز الوهمية، وذلك تجسيدا للمقولة الفذة التي كان يكررها المفكر الفلسطيني الراحل إدوارد سعيد: “ليس لأحد أن يحتكر الحقيقة أو الجمال أو الذكاء، ففي موعد النصر ثمة متسع للجميع”!!.

الإتحاد العراقية في

19/07/2009

 

جميع الحقوق محفوظة لموقع سينماتك
  (2004 - 2009)