تعرف على صاحب "سينماتك"  وعلى كل ما كتبه في السينما

Our Logo

  حول الموقعخارطة الموقعجديد الموقعما كـتـبـتـهسينما الدنيااشتعال الحوارأرشيف الموقعسجل الزوار 

أنطونيو بانديراس يتحدث الى "النهار" عن نظرته الى هوليوود وطموحاته الضائعة بين قارتين:

تغمرني السعادة حين أعطي غيري ما كنت في حاجة اليه في شبابي ولم أملكه

مشكلة الأميركيين أنهم يصنّفونني مع ذلك تحررت من صورة العشيق اللاتيني

جمهورية تشيكيا ـــ من هوفيك حبشيان

يُعتبر الاسباني انطونيو بانديراس (ملقة، 1960) احد نجوم السينما الهوليوودية المنتشرة بوفرة، والتي تنهش الأخضر واليابس في ارجاء المعمورة. مع ذلك، فهناك في عقل هذا الممثل اللاتيني، رمز الاغراء والذكورية اللاتينية، طموح يتخطى التربع العابر على عرش شبّاك التذاكر. فأوروبيته الصارخة والكاملة، كانت لا بد ان تسود على هويته المكتسبة، عاجلاً أو آجلاً، وسط هذا الكمّ من النجوم الاميركيين الذين يمضون اعمارهم امام الكاميرا من دون أن يفكروا، ولو لمرة، ان يمروا خلفها. لكن عند هذه الطينة من الممثلين كثيراً ما يغلب الطبع على التطبع. لذا، كان طبيعياً أن تظهر عنده رغبة متنامية، منذ سنوات، لإنجاز سينما تعبّر عن هواجسه بعيداً من خدمة مصنع "الانترتنمنت" الذي ذاع صيته من خلاله. واذا بدا نجاحه نسبياً في باكورته "كرايزي في الاباما" (1999)، فالافاق تتوسع امامه مع محاولته الاخراجية الثانية، "طريق الانكليز"، الذي يعود به الى أيام الصبا في الاندلس زمن فرنكو.

القول إن هذه النجومية كلها نشأت مع دور صغير عند بيدرو المودوفار. كان ذلك قبل 27 عاماً في فيلم "متاهات الشغف". لكن "فيتيشية" المخرج الاسباني وتعلقه المعروف بممثليه، اضافة الى موهبة الشاب أنطونيو، جعلت التعاون يمتد على خمسة أفلام، ويتبلور تصاعدياً حتى البطولة المطلقة في أفلام مثل "ماتادور" و"اربطني" و"نساء على حافة الانهيار العصبي". واذا كان تأثير المودوفار فيه مهنياً وانسانياً، في اعوام البدايات تلك، فآخرون ايضاً ساهموا في خروج بانديراس الى الضوء، بعدما كان يحلم ان يكون لاعب كرة قدم، ومنهم كارلوس ساورا وخوسيه لويس غارثيا سانشيز.

في منتصف الثمانينات، انهالت العروض على بانديراس. وبين عامي 1986 و1990 أفلام اسبانية كثيرة له معظمها لم يصنع ليبقى. أما تبني السينما الأميركية له فجاء من طريق المصادفة، خلال حملة دعائية في أميركا لأحد أفلام ألمودوفار في أواخر الثمانينات. وبدأت حكايته معها، من خلال "مامبو كينغز" لأرنولد غليمشر (1991) ثم كرت سبحة مجموعة اعمال، فيها الطالح والصالح. في تلك المرحلة لم يكن يتكلم الانكليزية بعد، فتعلم نصوصه سمعياً، وصار ينتقل من فيلم أوروبي الى أميركي فأسباني. منذ البداية، صنّفته هوليوود "عشيقاً لاتينياً" امتداداً لتراث قديم يعود الفضل في تأسيسه الى الراحل الكبير رودولف فالانتينو، منذ عهد السينما الصامتة. في البداية وظّف هذا الاتيكيت لمصلحته من اجل الشهرة، ثم استطاع ان يعطّل هذا التنميط نسبياً مذ تعاون مع سينمائيين اكثر جدية أمثال جوناثان ديمي، نايل جوردان وبيل أوغست. وفي حين اطلقه "ديسبيرادو" لرفيقه روبرتو رودريغيز  و"مجرمون" لريتشارد دونر، الى جمهور اوسع وأقل تطلباً، كان نصيبه ان يتعرف الى ابنة الممثلة تيبي هادرين، أي ميلاني غريفيث، في موقع تصوير احد الأفلام، فتزوجا، الأمر الذي حتّم عليه البقاء في "وطنه" الجديد، تحديداً في لوس أنجلس، حيث تُبرَم العقود وتناقَش السينما في تجلياتها كلها.

نتيجة هذا الاغتراب، بات انتاجه محصوراً في الأفلام الهوليوودية الضخمة، فبلغ الذروة مع ميوزيكال ألان باركر "افيتا" وفيلم محض تجاري لمارتن كامبل، "قناع زورو". عملان وضعاه على عرش اكثر الرجال اثارة جنسية في العالم. لكن مع بلوغه الأربعين بدأ قلب بانديراس يهتف لشيء آخر هو الاخراج، فكان "كرايزي في الاباما"، حيث أدار زوجته ميلاني غريفيث في واحد من اهم ادوارها.

في الألفية الجديدة، غرق بانديراس في معمعة الأفلام التجارية، مع بعض القفزات النادرة الى المسرح ("تسعة" على خشبة برودواي) الذي صنعه في بداياته ممثلاً جاداً. طبعاً لم يبق هو النجم الذي كانه في اواسط التسعينات، بعدما اكلته هوليوود لحماً ورمته عظاماً، ولأن العمر، هو الآخر، لم يعد يسعفه لأدوار الـ"جون برومييه". واليوم، "طريق الانكليز" محاولة للملمة الأشياء الخاصة، بعدما أدرك صاحبه ان الشهرة لا تدوم، وخصوصاً في هوليوود حيث كل شيء قابل للتصنيف، للبيع والشراء. في مهرجان كارلوفي فاري، الذي اختتمت قبل ايام دورته الـ44، أتيحت لـ"النهار" الفرصة لمقابلة بانديراس، في توقيت حاسم من مساره؛ زمن التغيير والنضج والعودة الى الينبوع...      

 ليست هذه المرة الاولى تزور فيها كارلوفي فاري، أليس كذلك؟

ـــ نعم، سبق ان كنت هنا. لا احد يتذكر ذلك (ضحك). كان ذلك عام 1992. كنا نصوّر مسلسلاً تلفزيونياً من انتاج ايطالي والماني مع مشاركة لإحدى القنوات الاسبانية. كان المسلسل يروي فصولاً من حياة موسوليني شاباً. ما كان يهمّني فيه أن موسوليني كان اشتراكياً قبل أن يكون فاشياً. لم أكن اعرف ذلك، واعتقد ان كثيرين مثلي لا يعرفونه ايضاً. لذا كان الفيلم يضيء على هذا الجانب. آنذاك بقيت في جمهورية تشيكيا فترة غير قليلة: امضيت نحو سبعة اشهر في براغ، واسبوعين هنا، وكنا ايضاً في امكنة مجاورة، منها تيوسن، بهدف التصوير. كانت تجربة غنية، احببتها كثيراً. آنذاك ذكّرتني البلاد، في طريقة ما، بما عشته قبل سنوات في اسبانيا، أي في عام 1975، عندما مات فرنكو، وسلكت بلادنا درب التغيير. شاهدت حالة مشابهة لحالتنا في منتصف السبعينات. كان مرّ على سقوط الجدار ثلاث سنوات، حين جئت الى هنا، ولكن رأيت هذه الديناميكية غير المسبوقة، وهي كانت شيئا ألفناه نحن الاسبان. الآن اشعر برضا كبير لعودتي الى هنا بعد 17 عاماً واعادة اكتشاف البلاد ومعرفة أن أحلاما كثيرة من التي كان التشيكيون يداعبونها قد حققت. تبقى أشياء كثيرة للتغيير، وهذه حال العالم أجمع، لكن على الاقل هناك حراك، وتوجه نحو الأفضل.

 لكن أنت تعرف جيداً هذه المنطقة (اوروبا الوسطى)، لقد صوّرت فيها قبل سنوات "لا تتكلم أبداً مع الغرباء" (بيتر هال - 1995)، أليس كذلك؟

ـــ لا، بل صوّر هذا الفيلم في تورونتو. أي في مكان بعيد جداً عن بودابست (ضحك). صدّقني كان هناك! لكن سبق أن ذهبت الى بودابست، واتذكر انني قلت لزوجتي إنها شبيهة ببراغ لكن حجمها أكبر. كنا نشعر ان ثمة ثقافة تنهض عليها المدينتان. هي لا شك ثقافة أوروبا الوسطى التي نتلمسها في هذه البلدان. شعرت بها ايضاً عندما كنت العام الماضي في صوفيا (بلغاريا)،  للمشاركة في فيلم جديد مع مورغان فريمان ("الرمز"، من إخراج ميمي ليدر). لديّ صديق منتج، كان سبق أن عمل على انتاج "افيتا"، اليوم ترك هوليوود للاستقرار في بودابست حيث ينتج أفلاما من السلسلة باء (درجة ثانية).

 ما دمنا نتحدث عن "افيتا"، ما رأيك بشخصية تشي غيفارا التي لعبها بينيتشيو ديل تورو في فيلم ستيفن سادربرغ، كونك جسدتها انت ايضاً في فيلم باركر؟

ـــ على النحو الذي انجز فيه "افيتا"، كان من الطبيعي أن تعتبر الشخصية التي ألعبها مستلهمة من تشي غيفارا. لكني اتذكر الحديث الاول الذي دار بيني وبين باركر قبل البدء بالتصوير، اذ قال لي: "إنسَ امر تشي غيفارا. انت فقط تشي". كان يريدني ان اتخيله ممثلاً في المسرح الروماني يوجه الحضور الى حيث يريد من دون ان يمنحهم المفاتيح. وقال لي ايضاً: "انت تجسد الناس". كان يريدني أن أكون "وجهة النظر النقدية" في الفيلم. وعندما تغنّي افيتا "أرجنتينا، لا تبكي من أجلي"، نراه يوزع المحارم على الناس قائلاً لهم: "لا تبالغوا في البكاء، فلا حاجة الى ذلك، وسأريكم وجهاً آخر عنها لا تعرفونه". لكن الجانب المناضل من تشي وضعناه على حدة. اتذكر عندما حضرت الى الاستوديو في لندن في اول يوم تصوير، كنت وضعت لحية اصطناعية (ضحك). اقترحت عليهم أن اضع قبعة (بيريه) وأكون كما يكون الممثلون على خشبة المسرح. قال لي باركر: "اياك أن تفعل ذلك. فلا يتناسب مع رؤيتي. المسرح شيء والسينما شيء آخر. انهما نوعان مختلفان من الفنون. وما يصلح للخشبة لا يصلح للكاميرا. في السينما نحاول ان نكون أكثر واقعية. لكن، مما لا شك فيه ان شخصية غيفارا سينمائية بامتياز. وهو آخر الابطال في مجتمعاتنا الحديثة. كعمل تمثيلي، احدث بينيتشيو، وهو صديقي، انجازاً رائعاً. لكن لم ترضني الحبكة. كما انه كان مبالغاً في طوله وفي الاعجاب الذي يكنّه لشخصية غيفارا. ارى ان هناك لحظات مفقودة. لو كنت مخرجاً لكنت ركّزت على الوقائع.

 في إخراجك الجديد، "طريق الانكليز"، تعود الى الجذور الاسبانية من خلال مجموعة شبان اسبان في سبعينات القرن الفائت، علماً انك من ملقة والقصة التي تحكيها تدور حوادثها في الاندلس. ما مدى اهمية ان تعود الى هذا النطاق الضيق (والواسع ايضاً لم لا؟) بالنسبة الى فنان حقق ما حققه خلف الاطلسي؟

ـــ اهميته نسبية. ربما لا تكون هذه العودة مهمة بالنسبة الى غيري لكنها مهمة لي. انجزت الفيلم بهذه العقلية. انه عمل شبه تجريبي. قلت لنفسي: "أوكي، عليك يا انطونيو أن تجد شخصيتك ونفسك كمخرج". من اجل أن ابلغ تلك الغاية، كان عليَّ أن احطم بعض القواعد، واخطو خطوة الى منطقة مجهولة. لذا، وقع اختياري على هذه الرواية التي كتبها صديق مقرّب لي، تشاركت وإياه هذه الفترة من حياتنا، وهي حافلة ومملوءة بالعنف والمعارك والحزن، ولا تزال في ذاكرتينا نحن الاثنين، هذا ما يجب أن يكون عليه كل فيلم. في النهاية، انه فيلم عن الذكريات. تلك التي صنعتني وصنعت الكاتب وصنعت كثيرين. انطلق فيه من الاحاسيس، وليس من معطيات موثوق بها ونهائية. كل ما اريه قد يكون محل جدال أو أخذ وردّ. لا انطلق من قاعدة "هذا ما حصل"، الى حدّ انك تستطيع اعتباره فيلماً "مفتوحاً" او غير منتهٍ. لا ادّعي ذلك، وليست تلك السينما التي اريدها. فهذا الحديث الذي أجريه معك الآن هنا، قد اتذكره بعد فترة طويلة، لكن لن أتذكر ما قلته، ولن اتذكر ان هناك هذه الكأس، أو كيف كانت خامة صوتك. لذا حاولت العودة الى مكان حيث المادة ملتبسة. عملي كمخرج هو الدخول في تلك المعمعة والخروج منها بأسئلة سوية. انا، كسينمائي، حاولت البحث عن أجوبة تماماً مثلما الشخصيات تبحث عنها، ولكن ايضاً بالطريقة نفسها التي تبحث بها عنها. اذاً، كان فيلمي هذا بمنزلة امتحان. وهو شيء ما كان في امكاني انجازه في هوليوود (يقولها بحسرة). ولو اقترحتُ عليهم مثل هذا المشروع التجريبي، لكانوا رموني من نافذة مكتب احد المنتجين، بعد أن أكون تلقيت ركلة على مؤخرتي (ضحك). حالياً، الكثير من السينمائيين يأتون من الفيديو كليب. افلامهم سريعة التقطيع وعدوانية. أما أنا فأردت أن تكون لفيلمي نغمة. استطيع أن اقول اني بحثت من خلاله عن ذاتي مخرجاً. وأيضاً عن لغتي السينمائية التي تتضمن بحثاً عن العدسات والألوان وكل ما يشبه ذلك. آمل ان اصل الى تطوير هذه التجربة، علماً ان الفيلم المقبل سيكون أكثر "انفتاحاً" على الجمهور ولن يكون على هذا القدر من القسوة.

 ما الذي افتقدته من السينما الأسبانية خلال وجودك في الولايات المتحدة؟

ـــ لا افتقد شيئاً (...). مرّت فترة في حياتي اعتُبرت فيها ممثلاً مستقلاً. لكن مهنتنا تخدم وظائف عدة. الانغلاق خطأ. يمكنك التمرد على القيود المفروضة عليك، لكن ليس في وسعك أن تفعل ذلك الاّ لفترة وجيزة. مع المودوفار، كنا ننجز أفلاماً تنتمي الى سينما الاندرغراوند ونحرص على عدم مراعاة الأصول. كنا نشارك في المهرجانات ونصبح مادة للمناقشة. منهم من يؤيد ومنهم من يعارض. ترى الناس ينقسمون حول فيلم. هذا يقول عنه جيد، وآخر يرى العكس، وتدور المناقشة والجدال. ثم قفزت الى اميركا ودخلت المصنع الكبير وعالم الانترتنمنت الذي أقل ما نستطيع القول فيه انه مختلف. المشكلة هناك انهم يصنّفونك. هذا هو النمط الاميركي في التعامل مع الاشياء. اذا صنّفوك في خانة ما، فعليك ان تكون ما صنّفوك به. قال لي انني "عشيق لاتيني". وهذا ما  يعوق تحرك الممثل والقفز من نوع الى آخر. فكيف يمكنك أن تكون بطلاً في فيلم اكشن وانت من المفترض ان تكون عاشقاً رومنطيقياً. فما بالك اذا اردت ان تكون ممثلاً  تنمّ خياراته عن ثقافة ما. الكثير من الممثلين يعانون ازمات جراء هذه المسألة. لكن لحسن الحظ، استطعت على رغم ذلك أن أكسر الأغلال وانوّع خياراتي: لي أفلام رعب وحركة وميوزيكال وسياسة او اجتماع مثل "فيلاديلفيا". خضت كذلك مجال التحريك واخرجت فيلمي الاول ثم الثاني، وهذا لم يمنعني من أداء دور مسرحي في برودواي! الى هذا كله، أسست شركة انتاج في جنوب اسبانيا نمول من خلالها افلام تحريك وندعم سينمائيين جدداً في تجاربهم الاولى. هذا نشاط يسرّني فعلاً، اذ تغمرني السعادة حين اعطي غيري ما كنت في حاجة اليه في شبابي ولم املكه. في الوقت نفسه اسعى الى انجاز افلامي الخاصة. لكنه مشروع على مدى طويل وصعب، وخصوصاً الآن مع ظهور هذه الازمة الاقتصادية التي جاءتنا على حين غرة، ولا نعرف الى أين تقودنا. اليوم، بات من المستحيل أن تحصل على فلس واحد من مصرف. حتى لو ذهبت اليهم حاملاً ورقة من وزارة الثقافة تدعمك بـ250 ألف أورو، فالجواب قاطع: "لا نأبه. لن نعطيك المال". لذا، نستطيع وصف وضعنا بالمزري الآن. على رغم ذلك، نبدأ في تشرين الثاني تصوير فيلم لمخرج جديد تدور حوادثه في بلدان عربية، وهذا الفيلم يجب انجازه مع العرب. ذهبت الى قطر والسعودية والامارات وطرقت باب الملكة نور. فأنا أحتاج الى كل من يستطيع مساندتي في هذا المشروع عربياً. أملي كبير.

 نمطك التمثيلي ليس اوروبياً وليس "اكتورز استوديو". لديك طريقة ما في التعبير عن الشخصية. لكن هل يمكن القول انك وجدت اسلوبك الخاص؟

ـــ في الواقع، تابعت دروس معهد الفن التمثيلي الوطني في ملقة. ثم تمرست بالعمل التطبيقي في افلام كثيرة. اليوم، لا اعتقد ان من الممكن البقاء على منهجية واحدة. لسبب بسيط ان عليك العمل مع انواع مختلفة من المخرجين، وكلٌّ منهم يأخذك في اتجاه خاص برؤياه وتطلعه. الامر يتعلق ايضاً بالممثلين الذين تتشارك واياهم الفيلم. أحياناً تحاول ان تمشي على خطى المعلمين من الـ"أكتورز استوديو"، ولكن سرعان ما تجد ان المسألة لا تلائمك وعليك في أسرع طريقة العودة الى الرؤية الخاصة بك، قبل ان تتحول المسألة الى مضيعة للوقت. لذا، عليك ان تتأقلم مع الوسط المهني بطريقة او بأخرى، وأيضاً ان تستجيب ما يُطلب منك. احياناً ترى انك اضطلعت بدور ما جيداً، لأنك كنت تملك متسعا من الوقت ولأن التعامل بينك وبين المخرج كان ايجابياً. لذا، تحاول أن تجعل الامور تتلاقى لا أن تتصادم. في مرحلة سابقة من حياتي، واكلمك عن زمن بعيد، كان عليّ أن استعين بهذه الالاعيب كافة، واستعين بمدارس تمثيلية مختلفة. ثم قفزت الى عالم مختلف تماماً له قواعده. اليوم، اشعر ان عليَّ الذهاب في اتجاه آخر، وما قمت به في "طريق الانكليز" هو ترجمة لهذه الرغبة. ما اريده الآن هو ايجاد جسر بين عالمين: اوروبا واميركا. ويجب الا نخطئ في التقويم: فهناك ما يُصنع في هوليوود وما يُصنع على هامش هوليوود. كل واحد مختلف عن الآخر. هناك سينما مستقلة جديرة بالاحترام، وتخاطب تقريباً ما نخاطبه نحن الاوروبيين في سينمانا، لكن مع فرق واحد، ان هذه الافلام لا تستعين بأموال عامة. أموال السينما الاميركية المستقلة مصادرها مختلفة وعالمية. قد تأتي من اسرائيل مثلما قد تأتي من اليابان. هذا كله يأتي الى هوليوود، لأنها اشبه بماركة. ولا يهم من اين يأتي، طالما انه يأتي. فالفيلم الذي تشاركت بطولته مع مورغان فريمان هو من تمويل اسرائيلي. الشركة هي "ميلينيوم" وصاحبها المعروف جداً أفي لرنر تترجح انتاجاته بين المستقل وافلام الـ"مايجرز". اعمل ايضاً على فيلم تمويله محض اسباني لكن فريق العمل انتقل من أجله الى هوليوود. اذاً، هوليوود تنام على شبكة احتمالات تمويلية تبدأ ولا تنتهي. أما العمل في نظام الاستوديوات، فهذه حكاية أخرى. هؤلاء لهم بنيتهم الخاصة. "زورو" و"افيتا" وكل الافلام التي مثلت فيها هي افلام استوديوات، ولها اطر خاصة لا تزيح عنها، كما عندها الكثير من المال لإنفاقه يميناً وشمالاً، بحيث ان نصف موازنته، نحو 50 مليون دولار، تنفق أحياناً على الحملة الدعائية. اليوم، اسمع الكثير من الممثلين يقولون انهم يريدون ان يكونوا اكثر عالمية. في الامس قابلت جون مالكوفيتش الذي، بحسب ما قال لي، لا يعرف اذا كان من الممكن اعتباره ممثلاً أميركياً. وقال: اعيش في باريس، واعمل في ايطاليا أحياناً واذهب الى اسبانيا واصعد على خشبة المسرح  في المكسيك. وازور انحاء العالم. فهذه هي العولمة في السينما (ضحك).

 بين كل هذه القبعات التي تضعها على رأسك، أي واحدة منها تليق اكثر بتطلعاتك؟

ـــ المكان الذي ارى نفسي فيه هو المكان حيث أجد مادة تثيرني. قد تكون مادة للاخراج او للتمثيل او للانتاج. وقد تكون هذه المادة المسرح. لكن لا استطيع ان اقول لك شيئاً محدداً. لو سألتني "أين تفضل الاقامة؟"، أو "أين تحب أن تنوجد جسدياً؟"، فسأقول لك "أسبانيا". لكن هذه ليست القضية. ربما الافضل ان أجيبك قائلاً ان المكان الافضل لي هو حيث أُمنَح امكان أن افعل ما يلائم ذوقي وحاجتي الفنية. أيضاً؛ لا مانع عندي أن ارد على سؤالك قائلاً: "المكان الأكثر راحة لي أن اقبض راتباً قدره عشرة ملايين دولار للتمثيل في فيلم استوديو، وارى صوري على ملصقات موزعة في كل انحاء العالم. لا مانع عندي ان اقول لك مثل هذا الكلام، لأن من الممكن أن يكون هذا المكان مكاني أيضاً. لأكن صريحاً معك: فيلم مثل "زورو" مثلاً، لا يمكنك الاّ ان تقدمه كفيلم ينتمي الى السلسلة باء. انه فيلم مغامرات مشغول على نحو جيد ويليق بكل افراد العائلة، خلف المشروع شخص اسمه ستيفن سبيلبرغ، وايضاً تتلقى عليه ردود افعال جيدة، لكن الامر ينتهي عند هذا الحدّ. في المقابل، يكون هناك فيلم لألمودوفار، وأنا احب الاثنين. ولي مكان مريح في كليهما. لذا، التخصص والبقاء في حالة جامدة ليس ممكناً. في النهاية، هذه هي فلسفة مهنتنا: التغيير والتحول والذهاب من نقطة الى أخرى. وأنا اريد ان أبقى في منتصف هذا الطريق.

 ماذا عن تعاونك الجديد مع المودوفار الذي سيجمعك مع بينيلوبي كروز للمرة الاولى في فيلم عن طبيب جراح ينتقم من مغتصب ابنته بخطفه وتحويله امرأة؟ 

ـــ لا اعرف. أود ذلك. لن ارفع السماعة وأقول لأيّ كان "أريد ان أكون في هذا الفيلم". اذا ارادني يجدني. ما استطيع قوله إن علاقتي به جيدة جداً، وفي السنة الماضية تسلمت جائزة تكريمية من يده في مهرجان سان سيباستيان. هو اصر على اعطائي الجائزة بنفسه. نحن نعرف أحدنا الآخر منذ سنوات طويلة، منذ بداية الثمانينات، مسارنا التقى ثم افترق. تحدثنا قليلاً حين التقينا، وكنا متحمسين، لكن ينبغي ان يكون في حوزته مادة يعتبرها تليق بي. حينذاك نرى.

  كيف تأثرتم اليوم بالأزمة العالمية الحاصلة؟

ـــ في الحقيقة، الطبقة الكادحة هي التي تأثرت. تذهب الى الميسورين الذين يعيشون في شقق فخمة في مانهاتن او سانترال بارك، فتجد انهم لا يشعرون بفرق كبير. كان لأحدهم 50 مليون دولار، اليوم لديه 25 مليونا. حسناً! (ضحك). أما الاستوديوات الكبيرة، فنعم، هي في معاناة وقلق، لكن ذلك نسبي ومعقول مقارنة بالمشكلة التي تواجه السينما الأوروبية. هنا المشكلة كبيرة. اولاً لأننا لا نملك سوقا واحدة؛ من موسكو الى مدريد نحن نتكلم 16 لغة مختلفة. نحن في أوروبا نشكل 300 مليون مشاهد، أي عدد سكان الولايات المتحدة، لكن متفرقين، لذا لا نستطيع منافستهم. تخيل أن عدد الذين يتكلمون اللغة الاسبانية في العالم 450 مليون مواطن. اذاً، هناك سوق محتملة لهم. لكن لا أحد استثمرها بعد على ما يبدو. لدينا الكثير لنتعلمه من نظام الاستوديوات في اميركا، واذا كان نظامهم هو الحل الامثل لسينما يمكن ان تخاطب هذا الكم ّمن الناطقين بالاسبانية، فليكن! وليكن مكان استوديوهاتنا في هوليوود. مصدره هوليوود لكن الهوية اسبانية. لا اقول ان المسألة سهلة. عليك أولاً ان تجمع كل التلفزيونات الناطقة بالاسبانية، ولكن سرعان ما ستقع في مشكلة العثور على موزعين، وكما تعلم فهؤلاء كلهم متعاقدون مع الاستوديوات الهوليوودية الكبرى. الا اذا أسسنا شركات توزيع خاصة بنا. طبعاً هذا مشروع كبير وعلى قدر كبير من المجازفة. لكن حتى الآن لم أجد مغامراً يقول: "هيا بنا، وَلْنَرَ اين نصل". اذا تبنى احدهم المشروع فأنا أضمن انه سيكون ناجحاً (ضحك).

 (  hauvick.habechian@annahar.com.lb)

 

خارج الكادر

"أنا فنان،

لست سياسياً"

بين إيران والسينما قصة حبّ، شد حبال وعلاقة ملتبسة قائمة على الاعجاب المتبادل حيناً والاستغلال المعنوي حيناً آخر. فالجمهورية الاسلامية تريد سينما. لكن على طريقتها. سينما تمشي مع الحائط، خجولة وغير مضرة بالمصلحة العامة. وإيران، خلافاً لدول جارة لها، فهمت جيداً هذا المتنفس؛ وأدركت متى تقمعه ومتى تفتح امامه المجال. هذه التقنية تناسب "مخرجي النظام". أما البقية فلديهم خيار من ثلاثة: إما ان يسكتوا ويقبلوا بالواقع، وإما أن يبتكروا لغة رمزية يعصى على الرقابة فهمها، وإما أن يرحلوا الى الخارج ليتلقفهم الغرب ويتحولوا رأس حربة. في كلٍّ من الخيارات الثلاثة، هناك خسائر وتنازلات. فالحل الأمثل لهؤلاء هو الا يكون ثمة خيارات اصلاً. وكي لا يوضعوا أمام خيارات، يجب الا يكون ثمة مشكلة. وعليه، فالتجربة الايرانية تشير الى ان خير الأمور الوسط. أي أن يُكتَب الفيلم على نحو لا يفهمه "أغبياء الرقابة"، كما كان ينعتهم يوسف شاهين. مع ذلك، وعلى رغم القمع الذي هم عرضة له بين فترة وفترة، فالسينمائيون الايرانيون ابدعوا في مهرجانات كثيرة، وما ينجزونه في مجال الفيلم الروائي الطويل، يفوق، لغة وتقنية وافكاراً، كمّاً وكيفاً، ما تنجزه سينما البلدان العربية مجتمعة. ليس هذا المكان المثالي لدراسة هذه الظاهرة المعقدة، حيث يتداخل الفن وعلم الاجتماع والسياسة. لكن ثمة سؤالاً لا نجد عنه جواباً واضحاً: كيف تنجز ايران في ظلّ نظام متشدد سينما تناقَش في الخارج، فيما 22 بلدا عربيا لا تقدر على ذلك. ولا سيما اننا نتكلم عن ارضيات متشابهة وثقافات اسلامية متقاربة.

مع وصول أحمدي نجاد الى الحكم، بقي وضع السينما في ايران على حاله. مع فرق واحد ان الرجل صدامي ويستفز، مما دعا بعض السينمائيين الى انتقاد مواقفه، وإن في المجالس الخاصة. لكن النقد لم يبلغ يوماً الحد الذي بلغه مع المخرج الايراني محسن مخملباف، الناشط في الحوادث الإيرانية الاخيرة، اذ قال عن نجاد إنه ارهابي، تماماً كبن لادن. مثل هذا الكلام الكبير ما كان مخملباف ليقوله لو لم يكن مقيماً في كابول. مخملباف هو من السينمائيين الذين مروا من مرحلة الى اخرى، من خيار الى آخر، من كونه مخرجاً يخاطب الناس من خلال الاستعارة الى كونه مخرجاً مغترباً. لكن هذه المرة لم يحفظ خط الرجعة، وتصرف بمنطق "عليَّ وعلى اعدائي". من جملة ما قاله ان نجاد لا يمثل الشعب الايراني، لأن الناس يكرهونه، داعياً المجتمع الدولي الى عدم الاعتراف به رئيساً، وهو يستعد للذهاب الآن الى البرلمان الأوروبي لتفسير الوضع الايراني امام الرأي العام العالمي. وأردف قائلا: "نريد السلام، لكن نجاد يقتل الابرياء في لبنان وفلسطين وافغانستان والعراق. والضحايا هم عرب". اعتبر مخملباف أن نجاد لا يحب العرب، انما يستعملهم لأغراضه السياسية. لكن الأغرب من هذا كله قوله: "انا فنان، لست سياسياً"، بعدما سئل "كيف تنظر الى اسرائيل وشعبها؟". ويبقى مخملباف مثالاً آخر على الفنان الذي تمنعه نرجسيته من أن يغيّب ذاته ويهمشها في مثل هذه الحوادث الكبرى، ويوفر رأيه لسينماه لا للصحف، لأنه يعلم في باطنه ان الفن لا يأتي من كوكب والسياسة من كوكب آخر، ولأنه يعلم ايضاً أن الكلام المباشر أسرع من الصورة الرمزية. والعالم اليوم فاقد الصبر.

قد لا تكسر الوقائع الايرانية الاخيرة الجليد بين السياسة والفن مثلما حصل في بلدان اوروبية اثناء المعارك التي خاضتها ضد ايديولوجيات معينة. لأن الارضية غير مهيأة. لكن بدأنا نلمس شيئاً مختلفاً في الفترة الأخيرة. نقلة نوعية. صوت جديد يأتي من بعيد. انه صوت عازفي الموسيقى الشبابية في "لا احد يعرف شيئاً عن القطط الفارسية" لبهمان قبادي. انه صوت الطفل الغريق الذي لا يسمعه أحد في فيلم "في خصوص ايلي" لأصغر فرهادي. انه صوت صاحب المقهى الطهراني في "عشرون" لعبد الرضا قهاني. الصوت موجود. كذلك الاشخاص الملائمون الذين يحدثون الفرق. لا يبقى امام هؤلاء الا ان يمعنوا في بعض الحرية. واذا كانت الحرية خاتمة لمشكلات الأفراد، فهل هي الآمر الناهي بالنسبة الى السينما الايرانية ونهضتها الثانية؟  

هـ. ح.

النهار اللبنانية في

16/07/2009

 

جميع الحقوق محفوظة لموقع سينماتك
  (2004 - 2009)