تعرف على صاحب "سينماتك"  وعلى كل ما كتبه في السينما

Our Logo

  حول الموقعخارطة الموقعجديد الموقعما كـتـبـتـهسينما الدنيااشتعال الحوارأرشيف الموقعسجل الزوار 

يسري نصر الله يتمرد في "جنينة الأسماك"

ساسية مسادي

"خدش الإيهام في القالب الكلاسيكي" إخراج/ يسري نصر الله، سيناريو/ ناصر عبد الرحمان، إنتاج/2008

عادة ما يختار الناقد الأفلام الجيدة، حتى يبحر فيها ويكتب عنها، وليس بالضرورة انتقادها، ولهذا يفضل أي ناقد عملا سينمائيا يستفزه، ويؤرقه لذلك تجده يستنجد بكل أدوات النقد وان تحتم عليه الابتكار، فانه لا يتواني عن ذلك حتى يصطاد كل أسرار ومعاني هذا الفيلم.

ولا يمكنني هنا أن أضع نفسي موضع الناقد الممتاز وأتقمص ذلك الدور، لكني ببساطة سأختار الفيلم المصري "جنينة الأسماك" لأنها خدشت فكري وتميزت عن بقية الأعمال السينمائية التي عرضت في مهرجان الفيلم العربي بوهران في صائفة 2008، نظرا لأسلوبه الفني الجديد.

أثار هذا الفيلم جدلا بين النقاد في مصر و خارجها، منهم من وصفه بالعمل الطلائعي وبعضهم الآخر وصفه بغير المفهوم و غير واضح المعالم، و هذا ما حفزني لأن أقدم قراءة نقدية للعمل ترتكز على مدى فهمي للأسلوب الفني الذي استخدمه مخرج الفيلم يسري نصر الله.

و ربما روح الإبداع و التجديد في العمل أيضا ، جعلت الكثير من النقاد و السينمائيين ينفرون منه، و لا يعطونه حقه من القراءة ، و هو ما حصل مع كل النخبة طلائعية في العالم و في السينما العربية على وجه الخصوص، و ليس بعيد عنا فيلم "باب الحديد" ليوسف شاهين الذي لم يُلتفت إليه إلا بعد مرور خمسة عشر سنة من إنتاجه، و كذلك الأمر بالنسبة إلى فيلم "حكاية الأصل و الصورة" لمذكور ثابت الذي لم يعترف به كأول فيلم تجريبي بمصر إلا بعد مرور ثلاثين عاما، و نفس الشيء بالنسبة للمخرج اللبناني برهان علوية، الذي وصفت أفلامه فيما بعد بـ "سينما تنبؤية" ...

صدور الفيلم في موسم 2008 في مصر الذي شهد موجة من أفلام العنف على غرار فيلم "الجزيرة" لشريف عرفة، و "حين ميسرة" لخالد يوسف، و " هي فوضى" ليوسف شاهين. ، قد ساهم بشكل أو بآخر في عدم تقبل الجمهور لهذا النوع من الأعمال السينمائية في تلك الفترة، أين أصبح شباك التذاكر المؤشر الوحيد لنجاح أو إخفاق الفيلم.

"جنينة الأسماك" للكاتب "ناصر عبد الرحمان"، ومخرجه يسري نصر الله، تطرق إلى موضوع العلاقات الاجتماعية بشكل عام، لنماذج مختلفة من الناس يجمع بينهم قاسم مشترك، الشعور بالخوف، الحيرة، والوحدة التي يعيشونها حتى مع أقرب الناس إليهم ولد لديهم الإحساس بالقهر و الضغط الخارجي مما أدى بهم إلى الانزواء داخل أحواض زجاجية. و هو ما يجمع بين موضوع الفيلم و عنوانه.

الفيلم من بطولة هند صبري في دور المذيعة "ليلى بكر"، التي ترسم جسرا من التواصل مع المستمعين عبر برنامجها الإذاعي، للحديث عن أسرارهم الخاصة بهم. أما "عمر واكد" فقد أدى دور طبيب التخدير "يوسف" الذي يضع قناع المبادئ و الأخلاق حتى يخفي مشاركته في عمليات إجهاض الفتيات ، وأوكل دور عاشق ليلى باسم أبو سمرة " زكي" بينما تقمص دور والد يوسف الفنان القدير" جميل راتب" الذي يصارع الموت ، و احمد الفيشاوي "رامي" المريض بالايدز الذي يخاف أن يصارح ابنة عمه بمرضه حتى لا يخسرها، ويفضل العيش وحيدا حتى يتمكن من كتابة رواياته.

يبدأ الفيلم بلقطة فوقية عامة لشوارع القاهرة، فتظهر أضواء المدينة في الليل، حيث يبدو المكان جميلا و هادئا ، يذكرنا بمشهد للفنان "عادل إمام" في فيلم " طيور الظلام" ، حين قال و هو يطل من على شرفته على شوارع المدينة ليلا: "هذه البلاد اللي يشوفها من فوق غير اللي يشوفها من تحت، و اللي يشوفها بالليل غير اللي يشوفها بالنهار".

تحرّك الكاميرا في هذا المشهد أشبه بنقل صورة من "كاميرا مراقبة"، تتفقد ما يجري في أماكن محددة، ثم تعود إلى الأماكن ذاتها، وعندما تقترب الكاميرا إلى شوارع القاهرة لتترصد من قريب الناس والسيارات و نوافذ العمارات و المطاعم.... يفاجئنا صوت موجات راديو، و كأن المخرج يهيئنا لاستقبال محطة إذاعية ما، لينطلق صوت الفنانة "هند صبري" ذات البحة المميزة يخترق ذلك الليل : ("في أسرار الليل" تقدر تتصالح مع نفسك، ممكن تسمع نفسك ، و تلاقي مين يسمعك، تعالوا معايا ندخل عالم أسرارنا.. أنا "ليلى بكر" على معادي معاكم في برنامجكم أسرار الليل") ، لنعرف أن الليل سيكون الزمن الذي تدور فيه معظم مشاهد الفيلم.

تستقبل ليلى بكر أول مكالمة من مواطن رفض أن يعرف بنفسه .. يقول أنه خائف، من كل الأشياء المخيفة، من الأمراض، أمريكا، إسرائيل، جماعة الإخوان و الحكومة المصرية..، و ندرك مباشرة أن موضوع الفيلم لن يخرج عن القالب الدرامي السيكولوجي لتحليل إحساس "الخوف"، عبر الأثير مع المذيعة التي أدركنا أنها بطلة الفيلم.

و نربط الفكرة مباشرة بجنينة الأسماك التي ظهرت في الجنريك، و نستخلص أن المخرج قد قارن بين البشر و السمك الذي يختبئ كلما شعر بالخوف، و لكنه لا يمكننه أن يغادر الجنينة خوفا من الموت ...
واختصر يسري نصر الله تقريبا موضوع فيلمه في مشهد البداية، الذي لم يستغرق سوى دقيقتين، لكنه كسر ذلك الاعتقاد باستهلاكية الموضوع حيث فاجأنا بطريقة مثيرة وبلقطة متميزة عندما عرض صورة آلاف الدجاج تجري في الطريق الصحراوي، تجسيدا لما ذكره المواطن المتصل بالمذيعة الخائف من أنفلونزا الطيور، في انتقال موفق بين الصورة السمعية إلى الصورة البصرية ، ثم ظهر مجددا على الشاشة العنوان "جنينة الأسماك"، فأدركنا أننا أمام عمل مختلف يقول في إرهاصاته الأولى أنه يشبه قبعة الساحر بجعبته الكثير من المفاجآت.

لم يعتمد يسري نصر الله على البناء الدرامي التقليدي القائم على البداية، وسط، و نهاية، ليحقق ما يسمى بـ "التسلسل المتصاعد في السرد"، أو"البناء الهرمي للفيلم "، فقدم شكلا مختلفا في البناء والعلاقات بين التفاصيل، فاعتمد على كسر الإيهام، الذي يقوم عليه "المنهج البريختي" في السينما والمسرح، من خلال تدخل الممثلين ليقدموا تصورهم للدور الذي يؤديه كل ممثل، ليكشف نقاط الضعف والقوة في الشخصية و ذلك في خطاب مباشر إلى الجمهور، لإحداث نوع من "التغريب" لدبه. وسيتفاعل على الرغم من ذلك مع كل دور، وبالتالي سيقع المتلقي في التناقض مع نفسه فمن جهة سيصدق أن ما يقدم هو فعلا "شغل سيما" مثل ما يقال بالمصرية، و لكنه، من جهة أخرى يضع نفسه مكان الشخصية التي تمثله و يرى نفسه فيها.

بل أن درجة التداخل هذه نسجلها على مستوى أداء الممثلين اللذين ينفصلون عن أدوارهم و يدخلون في اللعبة ليصدقوا أن أدوارهم في الفيلم هي فعلا مواقفهم من الحياة، و هو ما نلاحظه عندما يتحدث الممثل "زكي" عن شخصية "زكي" التي يؤديها، حيث يبدأ حديثه بالضمير الغائب " هو" و لكنه عندما يقدم اعترافه بحب "ليلى" يتكلم بضمير المتكلم "أنا"، كذلك الأمر لما تتحدث صاحبة البيت "مارغريت" المسيحية عن حياتها وسط حي من المسلمين.

و قد لا أوافق الرأي القائل أن هذا الأسلوب يندرج ضمن استحضار شخصية "الراوي" التي استعارها المجددون في السينما من المسرح ، و هذا لأن شخصية الراوي تروي الأحداث، و مواقف الأشخاص اتجاهها أو تروي قصة معينة، بينما اقتصر حديث الممثلين في الفيلم عن نفسية أدوارهم، و التعليق على الأدوار الأخرى دون التطرق إلى رواية الأحداث وسرد المصير و المآل لهذه الشخوص.

كما استعار يسري نصر الله تقنيات السينما الصامتة في مشهد "ليلى" و هي تقص على زميلها زكي حكاية الأميرة و العصفور، فيكسر القالب السردي و ينقلنا مباشرة إلى القصة التي كانت مجرد فكرة في ذهن البطلة، لتجسد على أرض الواقع، بشخوصها التي تؤديها ليلى و زكي، بطريقة السينما الصامتة حيث نفهم الموضوع من خلال لوحات مكتوبة توضح الصورة ، و توظيف هذا المشهد ليس اعتباطيا، لأنه لا يحق للسينما أن تميل إلى العفوي، و إنما هو مشهد "تبريد"، اعتمد عليه المخرج حتى يكسر التفاعل الذي كان باديا بينها و بين زميلها، و الذي يترك الإحساس بأن مشاعر ما قد تولدت بين الطرفين، ليأتي المشهد في وقته و ينتهي بطريقة هزلية لأن شعور الرفض الذي تظهره الأميرة اتجاه الأمير سينهي حبه لها، و سيتزوج من امرأة أخرى بعد أن أطالت عليه الأميرة في الرد.

و لكن الملفت للانتباه أن يسري نصر الله لم يوظف باقي تقنيات السينما في كسر الإيهام فمثلا كانت الإضاءة درامية تترجم ما تعانيه الشخصية و تعبر عن ما يدور عن عمقها من انفعالات و أفكار، و هو عكس ما يوظفه المنهج البريختي الذي ينادي بإضاءة حادة و واضحة، و بالتالي استعمال التعبيرات الضوئية في الفيلم خلق نوع من التفاعل و التعاطف مع المشهد .

الموسيقى هي الأخرى امتثلت للنموذج الكلاسيكي القائل بأن أرقى أنواع الموسيقى و أكثرها تأثيرا هي التي لا تعلن عن نفسها أي تلك الموسيقى التي تتأثر مع الحدث وتعمقه دون أن نشعر بأنها عنصر إضافي و دخيل، و لهذا لم يوظف "تامر كروان" موسيقى عبثية تصدم المتابع و لم يجعلها عنصرا استفزازيا، يربك الجمهور بل جعلها تتوازى مع أدوار الشخصيات.

بل إن الانسجام بين الموسيقى والموضوع يظهر أكثر في أغنية الفيلم "الحياة لو لعبة" التي أداها فريق "آربيان ناتيز"، و التي تقول في كلماتها" أنا لسه عايش يعني الخطر لسه موجود .. مكتوب على ورق محروق معلبات و مخلوقات محبوسة في حوض أسماك.. أنا مش خايف " وستعاد الأغنية في نهاية الفيلم، لتخرج الكاميرا بنفس الطريقة التي دخلت بها وستعود إلى أضواء المدينة من على شرفة "يوسف"، إلى صورة دجاج محجوز ثم تنتقل إلى حاجز امني لمتظاهرين يحملون لا فتات "كفاية فساد"، و الغرض من هذا المشهد هو تأكيد موضوع الفيلم القائم على احتجاز المجتمع للإنسان .

شريط الصوت المعد من قبل إبراهيم دسوقي في التسجيل، بوريس شابيل ، سيفريل ريشار في المونتاج، وكريستوف فانترينييه في المكساج ،غلب عليه الصوت الخافت و الهادئ، و جاء موازيا لهدوئهم في نقل انفعالاتهم في الليل و كذلك الأمر بالنسبة للديكور الذي صممه عادل المغربي، الذي لم يخرج هو الآخر عن ديكور درامي تقليدي.

الشخصيات مترابطة فيما بينها في المكان و الزمان و القدر نفسه، فهي على علاقة مع بعض و قد تتواجد في نفس المكان، وهي تجهل بعضها فتنقلنا هذه الصورة إلى الفيلم الأمريكي "ماغنوليا" للمخرج بول توماس أندرسون حيث أبدع هذا الأخير بالتلاعب بقدر شخصياته و جمعهم وفرقهم بطريقة محسوبة في المكان و الزمان.

إن كسر الإيهام الذي اعتمد عليه يسري نصر الله في فيلمه "جنينة الأسماك" لم يكن مطلقا، بل كان كسرا نسبيا أقرب إلى"خدش للإيهام" يوافق القالب الكلاسيكي الذي جعله الإطار العام للفيلم.

أدب وفن في

16/07/2009

 

جميع الحقوق محفوظة لموقع سينماتك
  (2004 - 2009)