تعرف على صاحب "سينماتك"  وعلى كل ما كتبه في السينما

Our Logo

  حول الموقعخارطة الموقعجديد الموقعما كـتـبـتـهسينما الدنيااشتعال الحوارأرشيف الموقعسجل الزوار 

الدراما التلفزيونية في خدمة السياسة:

المسلسلات التركية نموذجا

عبد الحميد صيام

لا خلاف على مدى تعلق المشاهدين العرب بمتابعة المسلسلات عامة والمسلسلات التركية خاصة والتي اكتسبت شعبـية واسعة في السنتين الأخيرتين وجذبت الملايين من المشاهدين العرب لمتابعتها بشوق وحرص شديدين تذكرنا بأيام الزمن الجميل عندما كان العرب ينتظرون حفلة أول خميس من كل شهر من شهور الصيف لسيدة الغناء العربي أم كلثوم والتي كانت تذاع مباشرة من إذاعة القاهرة. كان العالم العربي من محيطه إلى خليجه ينتظر كوكب الشرق ليهرب قليلا من شظف الحياة ومصاعبها ملتجئا إلى الصوت العذب واللحن الشجي والكلمات الرقيقة وخاصة عندما كانت الأغنية تجمع الثلاثة العظام: أحمد رامي شعرا ورياض السنباطي لحنا وأم كلثوم غناء.

إن انتشار المسلسلات التركية بهذا الشكل الطاغي وبهذه السرعة الضوئية لا يمكن أن يكون نابعا من نوايا بريئة بهدف 'الإمتاع والمؤانسة' فحسب على رأي أبي حيان التوحيدي.

قبل المسلسلات التركية كانت بعض المحطات العربية تعرض مسلسلات مكسيكية بلغة عربية فصحى بعيدة عن لغة التخاطب اليومي، أسماء أبطالها أجنبية وأماكن تصويرها غريبة والمواضيع التي تعالجها لا علاقة لها بالمخزون الثقافي والذاكرة الجماعية للمشاهدين، ولذلك لم يكتب لها النجاح وبقي حجم متابعيها هامشيا إلى أن جاءتها الضربة القاضية بتقديم المسلسلات التركية.

لقد ظلت المسلسلات المصرية مسيطرة على المشهد التلفزيوني في العالم العربي لأكثر من خمسين عاما، وكانت المواضيع الطاغية فيها المسائل الاجتماعية من حب وزواج وطلاق وفقر وفساد وأخلاقيات الطبقات الغنية وأصحاب النفوذ والتمييز ضد المرأة والغلابى والمحرومين. ولا عجب عندما يكون الموضوع الوطني مادة المسلسل يلقى نجاحا أكبر كما هو الحال في مسلسل 'رأفت الهجان'. هذا التسيـّد للدراما المصرية تم تحديه بظهور الدراما السورية في العقدين الماضيين حيث امتازت بقربها من الشارع العربي ومن قضاياه الوطنية والتاريخية والتي هي أقرب إلى قلب المشاهد فأنجزت مجموعة من المسلسلات الرائعة كالتغريبة الفلسطينية، وصلاح الدين والمتنبي وإخوة التراب وملوك الطوائف والظاهر بيبرس وصولا إلى باب الحارة الذي كسب شعبـية كبـيرة حتى قيل إن إسرائيل كانت سعيدة بعرض المسلسل لأن الشوارع الفلسطينية تكاد تكون شبه خالية.

لقد نجحت المسلسلات السورية بسرعة قياسية واستطاعت أن تستقطب مواهب عربية من الأردن ودول الخليج وشمال أفريقيا، بل وتمكن السوريون مؤخرا أن يغزوا السوق المصرية بممثلين بارعين مثل جمال سليمان (حدائق الشيطان) وتيم حسن (الملك فاروق) ومخرجين متميزين مثل حاتم علي (الملك فاروق) وباسل الخطيب ( ناصر) وغيرهم.

نور وسنوات الضياع

لكن التحدي للمسلسلات المصرية والسورية معا جاء قبل سنتين تقريبا عندما قامت قناة الـ'ام بي سي' بعرض مسلسلين تركيين في نفس الوقت: سنوات الضياع ونور. لقد حطم المسلسلان الأرقام القياسية في عدد المشاهدين العرب لأي مسلسل آخر. وكانت القناة تعرض كل حلقة ثلاث مرات في اليوم، وتقوم يوم السبت بعرض متواصل لحلقات كل الأسبوع المنتهي كي تتأكد أن أحدا لم تفته أية حلقة. لقد أصبح مهند من مسلسل 'نور' ويحيى من مسلسل 'سنوات الضياع' حلم كل فتاة في هذا الوطن الكبير حتى لقد وقعت حالات من الطلاق بين أزواج منهمكين في متابعة لميس وحركاتها أو زوجات مهووسات في وسامة مهند أو يحيى. ونقلت صحيفة عربية عن مصدر سعودي خبرا مفاده أن 700 طفل في السعودية سمّوا 'مهند'. كما أصبح اسمي لميس ونور من أكثر الأسماء انتشارا بين المولودات الإناث، بل وأصبحت صور ممثلي وممثلات ذينك المسلسلين تباع في شوارع عمان ورام الله وبيروت، وانتشرت الأغاني التي تقتبس ألحانا من أحد المسلسلين مثل ذلك المغني العراقي الذي ناح وجاح بصوته الحزين:

طفاك القدر ياشمعتي

خلاني أدوب بحسرتي

وتحمس مغن شعبي فلسطيني فاطلق حدائيته:

نستـْـنا نور التركية

باب الحارة في سورية

بعد هذا النجاح غير المسبوق، استمر عرض المسلسلات التركية بمعدل مسلسلين على الأقل في نفس الوقت على محطة الـ (ام بي سي) ثم دخل على الخط محطات أخرى كدبي وأبو ظبي. مسلسلات متواصلة ليل نهار الغث منها أكثر من السمين، حيث يلحظ الناقد بسهولة ضعف المعالجة الدرامية وركاكة الموضوع ولا معقولية النهاية، لكن الحماس لمتابعتها لم يفتر ولم ينحسر رغم عدد الحلقات التي تتجاوز أحيانا المئة.

ما هو السر في نجاح المسلسلات التركية؟

لماذا ينجذب المشاهد العربي إلى المسلسلات التركية؟

عدد من المقالات في هذه الصحيفة وغيرها تعرض للموضوع من قبل. ومن وجهة نظري المتواضعة فإن الجواب يكمن في نظرية تدرس في علم النفس اسمها التقمص. هذه النظرية تعني أن الشخص المحروم من شيء قد يتقمص شخصية إنسان آخر ويعيشها في خياله ويرى نفسه من خلالها ويرى فيها تحقيقا لأمنيات مقموعة في داخله لا يستطيع أن يعبر عنها بحرية. ينجذب إلى تلك الشخصية وكأنها شخصيته ويعيش أحلامه ورغباته من خلالها، مثل الأب الأميّ الذي يعيش حياة ابنه في المدرسة والجامعة بكل تفاصيلها تعويضا عن حرمانه هو من نعمة التعليم.

حالة الفصام بين البيت والشارع والتناقض بين ما يتعلمه العربي في البيت أو المدرسة وما يشاهده في الحياة اليومية ينعكس في انتشار مرض إزدواجية الشخصية عند العربي، فالشاب يطارد ويعاكس الفتاة في الشارع لكنه يحتد ويثور لو عاكس أحد أخته أو ابنته، يريد أن يتزوج بعد قصة حب لكن يحرم ابنته أو أخته من نفس الحق، يتعلق بالفتاة الجريئة الذكية الشجاعة ويقمع الفتيات من حوله ويحرمهن حق التعبير والانطلاق والاستقلالية. بسبب هذه الازدواجية يجد الشاب العربي في شخصيات المسلسل التركي الفتاة المثالية التي يتمناها وتجد الفتاة العربية نسخة عن فتى أحلامها، فيتابع الإثنان المسلسل بكل جوارحهما لأنهما يريان في ذلك البطل أو البطلة تجسيدا للشخصية التي تحقق أحلامهما. فالعربي ينجذب ليس لجمال التركيات فحسب، فقد يتفوق جمال العربيات عليهن بكثير، بل لتلك الشخصية المميزة للمرأة الواعية المثقفة المنطلقة على سجيتها تقرر شؤونها بنفسها وترفض أن تكون سلعة تباع وتشترى، وترفض أن تتزوج إلا إذا أحبت فعلا فتى أحلامها الجدير بحبها. وكذلك المرأة تـنجذب إلى شخصية الرجل المهذب الحضاري المخلص الذي يحترم زوجته أو خطيبته ويبدى كل المودة الصادقة لها ويقدم لها الهدايا والورود ويبدي كل استعداد للتضحية بكل شيء من أجلها. المرأة العربية إذن تعيش الحياة التي تتمناها وانحرمت منها مع فتى أحلامها من خلال هذا المسلسل والرجل يعيش مع فتاة من صنع الخيال تشبه هذه الممثلة أو تلك ليس في جمالها فحسب بل في شخصيتها. وهذا هو السر الذي أعتقد أنه جذب المشاهدين العرب إلى تلك المسلسلات، ناهيك عن قربها من الثقافة العربية الإسلامية وتقارب الأسماء والعادات والوجوه والأماكن بالإضافة إلى اللهجة السورية المحببة إلى النفس كزهور الياسمين الدمشقية.

المسلسلات والسياسة

إذا فرضنا أن مدة عرض كل مسلسل ساعة وأن هناك مسلسلين تركيين يعرضان في نفس الفترة ويعاد كل منهما ثلاث مرات في اليوم، بالإضافة إلى مسلسل مصري، وآخر سوري وآخر خليجي. النتيجة أن المحطة تعرض مسلسلات بمعدل ثماني عشرة ساعة في اليوم، أضف إليها شئيا من الرياضة والبرامج الترفيهية الأخرى فماذا بقي لنشرة الأخبار إلا نصف ساعة يتيمة كما هو الحال في الـ 'ام بي سي'؟ إذن تحاول المحطة أن تطوق كافة المشاهدين العرب ولا تسمح لأية مجموعة بالإفلات إلا بعد أن تـتسمر لساعات لمشاهدة المسلسلات والبرامج الترفيهية. فماذا بقي للناس العاديين من وقت لمشاهدة الأخبار ومتابعة الأحداث والتطورات؟ هل يبقى وقت للتفكير في حصار غزة وتفجيرات بغداد ومأساة دارفور واضطرابات اليمن؟ هل يبقى وقت لمتابعة البرامج الحوارية الجادة التي تعرضها قناة 'الجزيرة' وغيرها من المحطات؟ هل يبقى وقت للتفكير في فساد الحكام وعجزهم وانحراف أجنداتهم؟ هل يبقى وقت لحضور الندوات والنشاطات والمشاركة في الأعمال الوطنية والقومية؟ ألا تقتل هذه المسلسلات الروح الوطنية والإحساس بالمسؤولية والتضامن العربي وحمل الهم العام والتفكير الجاد المنتج وتنمية روح الجماعة؟ هل تترك هذه المسلسلات فرصة للقراءة ومطالعة الصحف؟ أليس الإعراض عن عرض مسلسلي الاجتياح وناصر يؤكد هذه المقولة؟ لماذا يعرض مسلسل الملك فاروق مرارا وتكرارا الهادف إلى إعادة تأهيل الملكية في مصر بينما يتم تجاهل مسلسلات في غاية الأهمية مثل الاجتياح الحائز على جائزة أيمي الدولية؟ ألا تحبس هذه المسلسلات ملايين النساء في بيوتهن يتحسرن على ما مضى أو يحلمن بمستقبل رومانسي قد لا يأتي؟ ألا تنمي هذه المسلسلات النزعة الفردية والأنانية والبحث عن السعادة الفردية لدى الشباب؟

أو بعد هذا، ألا تعتقدون معي أن هناك نيّة غير سليمة ومخططا مقصودا تموله آبار النفط لإلهاء الأمة عن واجباتها القومية والوطنية والإنسانية وإشغالها في وسامة مهند ورقة لميس ومؤامرات عابدين و'زناخة' تيم بهدف إطالة أعمار تلك الأنظمة البالية؟

أستاذ جامعي وكاتب سياسي مقيم في نيويورك

القدس العربي في

13/07/2009

 

جميع الحقوق محفوظة لموقع سينماتك
  (2004 - 2009)