تعرف على صاحب "سينماتك"  وعلى كل ما كتبه في السينما

Our Logo

  حول الموقعخارطة الموقعجديد الموقعما كـتـبـتـهسينما الدنيااشتعال الحوارأرشيف الموقعسجل الزوار 

«وداعاً غاري» لعماوش و«همس مع الريح» لعليدي

أبـواب الملـل وشـهادة الأحجـار

نديم جرجورة

بعد ستة أسابيع على انتهاء الدورة الثانية والستين لمهرجان «كان» السينمائي، بدأت في بيروت تظاهرة برنامج «أسبوع النقد»، الذي تنظّمه «جمعية متروبوليس سينما» في صالة سينما «أمبير صوفيل» في الأشرفية، مساء أمس الأول الاثنين، بعرض فيلمين: الأول روائي قصير بعنوان «إنه مجاني للفتيات» للفرنسيتين كلير بورجي وماري آماشوكيلي، اللتين ألغتا زيارتهما إلى بيروت في اللحظات الأخيرة لأسباب خاصّة، و«وداعاً غاري» للفرنسي الجزائري الأصل نسيم عماوش، الذي شارك المشاهدين في حفلة الافتتاح، من دون أن يُقدّم فيلمه الروائي الطويل الأول هذا، «لأنكم ستشاهدونه الآن».

يُذكر أن «أسبوع النقد» (أو «الأسبوع الدولي للنقد»، كما في بعض الترجمات العربية) يُشكّل أحد البرامج الرئيسة الموازية للمسابقة الرسمية الخاصّة بالمهرجان المذكور أعلاه، إلى جانب «نصف شهر المخرجين» و«نظرة ما». وبدأت الجمعية تنظيم دورات لبنانية خاصّة بهذا الأسبوع منذ العام 2006.

تتناول هذه المقالة النقدية فيلمي «وداعاً غاري» لعماوش و«همس مع الريح» للمخرج الكردي الإيراني شهرام عليدي، الذي يُعرض عند الثامنة والنصف من مساء اليوم الأربعاء، بعد الفيلم الروائي القصير «النزهة» للكرواتي داليبور ماتانيك.

«وداعاً غاري»

«أشعر بالملل». بهذه الجملة المختصرة جداً، عبّر أحد الأولاد الصغار المقيمين في تلك القرية النائية عن مناخ إنساني عام، بإجابته المختزلة عن سؤال أحدهم عمّا به. والشعور بالملل حالة منفلشة في أزقّة القرية ومنازلها وبشرها الأخيرين، إذ بدا واضحاً أن نزوحاً ما منها بدأ يصنع فراغاً فيها، إثر إقفال المصانع أبوابها، وطرد عمّالها، وتحويل الجغرافيا المقيمة في اللامكان إلى فضاء منثور في الغياب والقلق والنزوع إلى صمت يُخفي غضباً وتوتراً وسلوكاً يومياً رتيباً. ولأن الصبيّ الصغير ابن هذا اللامكان، ولأنه هو نفسه من نطق بهذا القول المفتوح على الأسئلة والاحتمالات كلّها، بدت القرية النائية ذاهبة إلى حتفها المدمِّر، مع أن أناساً عديدين أمضوا يومياتهم فيها كأن شيئاً عصيباً لن يمرّ، وكأن بقاءهم فيها حتميّ للغاية. والملل، إذ أصدره صبيّ صغير، تحوّل إلى عنوان أخفى، في طياته، ارتباكات وتمزّقات وخللاً في العلاقات.

لا يمكن الدخول إلى عالم «وداعاً غاري» لنسيم عماوش إلاّ من باب الملل هذا. فالفراغ الساكن في الأزقّة والأرواح والتواصل بين الناس ناتجٌ من بؤس الحياة التي بلغها أولئك المرميون في أصقاع مسحوقة بالخيبة والضجر. والرتابة الناسجة نماذج متفرّقة من التصرّفات المتشابهة، رسمها المخرج بلقطات سينمائية رائعة، ولوّنها بتصوير جميل ومتقن أنجزه صمويل كولاّردي، وأضفى عليها ألقاً خفراً باختياره ألحاناً للأخوة جبران. لكن التشديد على مقولة الملل والفراغ الروحي والرتابة اليومية لا يعني سقوط الفيلم فيها، بل براعة واضحة في الإمساك باللعبة التقنية والدرامية، وجمالية لافتة للانتباه قادرة على أسر المُشاهد وإغراقه في العالم المشلَّع على أسئلة الوجود والبيئة والعلاقات، ومعاني الهوية والانتماء، وقلق التواصل مع الراهن والذاكرة، وألم الحيرة إزاء الاختيار بين البقاء والرحيل (علماً أن للبقاء والرحيل أسئلتهما المعقودة على السبب والهدف والتوجّه والإحساس بهما وبجودتهما أو عدمها). فـ«وداعاً غاري» أتقن مزج أنواع سينمائية في إطار متفرّد بسمة خاصّة، جعلته أساساً للشروع في اختراق العناوين الملتبسة للحياة والموت، ليس بصورتيهما المباشرتين على الأقلّ.

منذ الثواني الأولى، قدّم نسيم عماوش بداية أوهمت المُشاهد بغرائبية ما في سياق الحبكة وشكلها، إذ صوّر عودة سمير (ياسمين بلماضي) إلى قريته برفقة شقيقه إيشام (محمد أرزكي) في سيارة مرسيدس تسير على خطّي السكّة الحديدية. وفي مفارق متنوّعة في السياق الدرامي، تمكّنت الغرائبية نفسها من توطيد حضورها في المشهد، على الرغم من خروجها من رحم الواقع ومنعطفاته القاسية وصدماته العديدة. وعودة سمير فاتحة الحكاية، خصوصاً عندما أوقف شقيقه السيّارة في منتصف الطريق/ السكّة الحديدية للتبوّل، إذ سأله سمير عن مدّة غياب القطار عن سكّته الأصلية: «منذ شهر ربما». وسمير، العائد بعد غياب طويل، تحوّل سريعاً إلى شاهد حيّ على الانهيارات الجمّة، المعلنة وغير المعلنة معاً، التي أصابت القرية وناسها: هناك الأب فرنسيس (جان ـ بيار بكري)، التائه وسط مشاعر متناقضة جعلته عاجزاً عن الاختيار، مع أنه وجد نوعاً من أمان في حبّه الصامت لماريا (دومينيك ريمون)، التائهة، هي أيضاً، بين ابنها جوزيه (ألكسندر بونان) المعلّق بغاري كوبر والمنتظر عودته، معتقداً أنه أبوه، وغياب زوجها الهارب منها برفقة عشيقة شابّة، مع أنها اعتبرت الحبّ القائم بينها وبين فرنسيس ملاذاً. هناك أيضاً عبدل (هاب الدين سبيان)، المهرِّب والجالس طويلاً إلى جانب جوزيه منتظراً اللاشيء، ومشتغلاً في تسريب بضائع ممنوعة بصمت وهدوء شبيهين بصمت القرية وهدوئها الظاهرين، اللذين أخفيا توتراً داخلياً أنذر بانفجار كبير. هناك الصبيّة الجميلة نجمة (سابرينا أوازاني)، صاحبة الصوت البديع والجسد الآسر، والأحلام المحطّمة على أبواب الهجرة إلى باريس على حساب عشق مسحوق لسمير، غير المُدرِك طريقاً للخلاص.

شخصيات عدّة، وحالات تمزّق مختلفة، ومشاهد بديعة لهواء يخترق الشارع وأشجاره، أو لمطر ليلي يُكلّل «عودة»(!) غاري كوبر إلى جوزيه لإنهاء القطيعة الذاتية بين جوزيه ونفسه، أو لتكرار أكّد الرتابة المقيمة في الناس والقرية معاً (شاب يجلب البضائع الممنوعة لعبدل بالطريقة نفسها، مثلاً). ألوان جميلة، وتقطيع تَكَامل والتمزّق العام، وسياق محتاجٌ إلى حبكة درامية أقوى، مع أن تفسيراً آخر اعتبر النصّ كلّه انعكاساً لحالات إنسانية متخبّطة في آلامها وخيباتها.

«همس مع الريح»

لم يبتعد «همس مع الريح» لشهرام عليدي عن «وداعاً غاري» لنسيم عماوش في مسألتين اثنتين: الإيقاع الهادئ الذي حمل في ذاته توتراً عظيماً في استكشاف المعاني الإنسانية المثقلة بالهمّ والخيبة والألم، وقدرة الألوان على إيفاء المَشَاهد حقّها في التعبير عن ذاتها. في المقابل، ابتعد الفيلمان بعضهما عن بعض في مسألتي القصّة وطريقة المعالجة: فالقرية النائية في «وداعاً غاري»، بحكاياتها وناسها ومناخها وتحوّلاتها وصداماتها المبطّنة، لا علاقة لها بالقرى المفتوحة على الذاكرة الدموية والقهر والانسلاخ عن البيئة الأم، التي اختارها عليدي مساحة جغرافية وإنسانية مفتوحة على الجرح غير المندمل، الذي صنعته أحداث عنيفة وقديمة. وإدخال الموسيقى والألوان والتصوير في لعبة البحث في مفاصل القرية النائية ومنعطفات السير الذاتية لناسها، لا تشبه السرد المعطوف على تاريخ وجغرافيا حقيقيين، وعلى جماعات شوّهها العنف وقضى على أناس كثيرين منها.

بلغة سينمائية مزجت النَفَس السوريالي بالكتابة الشعرية والمفردات البصرية، قدّم الكردي الإيراني شهرام عليدي (مواليد كردستان الإيرانية، 1971) فيلمه الروائي الطويل الأول هذا، مستمداً مناخاته من وقائع القتل الجماعي المنفّذة ضد أناس عزّل في كردستان العراق. وذلك من خلال شخصية مام بالدار (عمر شاوشن)، ساعي البريد المتنقّل بين القرى الواقعة في جبال تلك المنطقة والمعروف باسم «العم ذو الأجنحة»، حاملاً معه رسائل متبادلة بين الناس، لكن بطريقة خارجة على المألوف، إذ إنه اعتاد تسجيل الأصوات والكلمات على أشرطة كاسيت، بدلاً من نقل الرسائل المكتوبة. بتجواله هذا، بات شاهداً على القبور المفتوحة على الموت والعفن والتمزّق، ومراقباً أهوال الدنيا ومنعرجاتها القاتلة، وملتقطاً نبضها الممتدّ على الخراب العظيم.

في تقديمه فيلمه هذا، كتب عليدي في الكرّاس الخاص بـ«همس مع الريح»، الموزّع أثناء انعقاد الدورة الثامنة والأربعين لـ«أسبوع النقد» في «كان» في أيار الفائت، ما يلي: «لا أزال أفكّر، وأنا أكتب هذه السطور، بهؤلاء جميعهم الذين لم يبقوا هنا، وبالمدى الذي بلغته نظرتي إلى العالم كراشد، التي ابتعدت ملايين السنين الضوئية عن النظرة البريئة للأولاد. مرّت خمسة أعوام منذ ولادة الفكرة الأولى للفيلم، كتبتُ أثناءها النص السينمائي، وتأمّلت غالباً بقِصَر (مدّة) الحياة البشرية، وبأقصى اللاعدالة المتمثّلة بواقع العيش سريعاً خلالها، خصوصاً بالنسبة إلى الأطفال». أضاف أنه «عندما وصل فريق العمل إلى حقل القبور الشاسع، في الصحراء التي دفن صدّام حسين ضحاياه فيها، فكّرت بالأحلام كلّها الخاصّة بهؤلاء الأطفال المدفونين تحت أقدامنا (...)، وتحت الشمس الحارقة للصحراء»، متسائلاً عمّا يُمكن أن يكتشفه الناس، فقط «لو أن الأحجار تستطيع أن تقدّم شهادة عن أفعال جنود العار هؤلاء، الذين ألقوا ضحاياهم الشباب الأبرياء في حفرة»، عندما ضربوهم بأعقاب بنادقهم بقوّة. وأشار إلى أن ملاحظاته هذه كمخرج «مهداة إلى هؤلاء الضحايا جميعهم، الذين دُفنت ضحكاتهم إلى الأبد»، ومستمداً خاتمة نصّه من كلمات للشاعر طاغور، جاء فيها أن «كل ولادة طفل رسالة تشهد أن الله لم يفقد الأمل بالإنسان بعد».

السفير اللبنانية في

08/07/2009

 

جميع الحقوق محفوظة لموقع سينماتك
  (2004 - 2009)