تعرف على صاحب "سينماتك"  وعلى كل ما كتبه في السينما

Our Logo

  حول الموقعخارطة الموقعجديد الموقعما كـتـبـتـهسينما الدنيااشتعال الحوارأرشيف الموقعسجل الزوار 

الأطفال الجنود أو الكلاب المسعورة

قيس قاسم

يولدون من رحم الحروب

قبل نزول فيلمه الى قاعات العرض، قال المخرج جان ستيفان سوفير: أريد فيلم لا يستطيع المشاهد، أبدا، التفكير بأكل حبات الذرة المشوية (بوب كورن) وهو يتابع مجرياته. والحقيقة ان سوفير لم يوفق، فقط، في منعنا من أكل الذرة، بل زاد من احساسنا بالقرف والنفور من الحروب الأهلية وافرازاتها، ونحن نتابع سلوك «جوني الكلب المسعور» ورفاقه الصغار، أو ما يطلق عليهم اسم «الأطفال الجنود» في الحرب الأهلية الدموية التي دارت في ليبيريا وسيراليون الافريقيتين.لقد اختار سوفير الأصعب من دون شك. فأن تصنع فيلما عن الحرب، أيا كان شكلها، فإنك تختار موضوعا يحتاج الى جهد اخراجي وانتاجي كبيرين، وأن تأخذ الحرب الأهلية وأحد أبشع افرازاتها، ونعني، الجنود الأطفال، وكيف يتحولون بفضلها من كائنات وديعة الى مسخ بشري، الى كلاب مسعورة تنهش لحوم البشر من دون رحمة، وتجسده سينمائيا، فهذا يتطلب صبرا وقدرة استثنائية. كيف كان ذلك ممكناً؟

رواية الكاتب الكونغولي إيمانويل دانغالاس «جوني الكلب المسعور»، عن الجنود الأطفال في الحرب الأهلية الليبيرية، أوحت للمخرج سوفير بفكرة تحويل موضوعها الى السينما. وقبل الشروع الفوري في التصوير، ومن خلال خبرته أدرك أهمية التعرف على هؤلاء الأطفال عن قرب، والتعرف الى الكيفية التي كانوا يفكرون بها، حين زجوا في الحرب المجنونة. الرواية تسجل حياة المراهق جوني، الذي لم يتجاوز عمره الخامسة عشرة، حين انضم الى صفوف المليشيات المسلحة المناهضة للحكومة في ليبيريا، وكيف ساهم مع أطفال في سنه في الدخول الى مركز البلد والسيطرة عليه بعدما ابادوا كل شيء وقف في طريقهم. قتلوا بدم بارد ونهبوا واغتصبوا وكأنهم كلاب مسعورة تجول في الطرقات بحثا عن مزيد من الضحايا ليمزقوها. ولأن موضوع الرواية مستند على وقائع حقيقية، قرر سوفير الذهاب الى ليبيريا في العام 2004، أي بعد عام على نهاية الحرب الأهلية، وأمضى فيها عاما كاملا، تعرف خلاله على بعض الأطفال الذين شاركوا فعليا في الحرب. لقد كسب، عبر معايشته اليومية لهم، ودهم وثقتهم، فاطمأنوا اليه وتحدثوا بصدق عن تجربتهم. وحين عرض عليهم فكرة المشاركة في فيلمه كممثلين وافقوا من دون تردد. إذن، نحن في هذا الشريط أمام ممثلين معظمهم من الهواة أو ممن شاركوا في الحرب. لقد تطلب من المخرج تحريكهم، بعدما اتفق مع أحد قادتهم السابقين على لعب دور القائد العسكري مجددا، وكأنهم ممثلون محترفون وكان له ما أراد. بعد إشارة البدء انطلق الممثلون وكأنهم يحاكون الواقع الذي عايشوه، لكن هذه المرة أمام الكاميرا، وجاء الشريط وكأنه توثيق سينمائي، وليس عملا دراميا مقتبساً من رواية، ومن هنا اكتسب مصداقيته.

وللحفاظ على طابعه الدرامي أسند المخرج دور جوني أو «الكلب المسعور» كما سمى نفسه، الى الممثل كريستوف ميني. وكي تتفاعل عناصره الدرامية في ما بينها، جعل من الفتاة لاوكولة (الممثلة دايسي فكتوريا فاندي) ندا لشخصيته الرئيسية. لقد ميز وسط كل الفوضى والغوغاء هاتين الشخصيتين بحدود رفيعة عمقت الاحساس الدرامي بالعمل، في حين ترك الحبل على الغارب للهواة ليتحركوا على سجيتهم. وما خرج منهم كان مذهلا. لقد جسدوا شخصياتهم وكأنهم جنود أطفال يعيشون اللحظة المصورة وكأنها نفسها التي عاشوها من قبل.

معظم مشاهد الفيلم صورت بكاميرا محمولة لتعطي صورة مهزوزة تعبر عن هيجان الجنود الأطفال وعنفهم. وسجلت الأصوات المنفرة والضجيج المناخ الذي تحرك فيه هؤلاء، فيما أعطت المشاهد القليلة الثابتة حالة السكون التي كانت تعم الأمكنة حين تتقدم الكلاب المسعورة نحوها. المشهد الأول يعطي مشاهد الفيلم صورة عما سيستمر على رؤيته خلال ساعة ونصف الساعة. الجنود الصغار يدخلون قرية صغيرة بائسة بحثا عن غنائم وجنود من مؤيدين قبيلة الرئيس «دوغو» ليقتلوهم. كل من ليس معهم هو بالضرورة من «الدوغو». وكل من ينتمي الى الدوغو لا بد أن يموت. لكن قبل هذا عليه ان يدفع كل ما يملك. فالجنود الصغار يعتاشون على ما يسرقونه ويعتبرونه حقا لهم. في المشهد يسحب الجنود الصغار رجال القرية تحت تهديد السلاح خارج أكواخهم، يستجوبونهم وإذا بدر منهم أي رفض أو تردد في اعطاء ما يطلبونه منهم، يطلق الجنود الصغار عليهم النار من دون تردد. في المشهد نفسه يسوقون رجلا الى الساحة ويأتون بابنه ويطلبون منه اطلاق النار على والده. يطلق النار على والده فيعتبرونه على الفور جنديا صغيرا مثلهم. هكذا يولد الجنود الصغار في أفريقيا من الضحايا ومن الفقراء وأبناء الشوارع، يستغلهم القادة العسكريون، ويوهمونهم بأوهام المجد والرتب العسكرية. يغسلون أدمغتهم بعداء لا يفقهون منه شيئا ويرفعون معنوياتهم بالشعوذة والمخدرات وما ينهبون. ببساطة يحول العسكر هؤلاء الأطفال الى أدوات للقتل لا تعرف الرحمة، قسوتهم تفوق قسوة الجنود المحترفين وتأنيب الضمير لا مكان له في دواخلهم. في المشهد ذاته وفيما الصغار يقتلون يدخل أحدهم الى بيت فيعثر على ثوب زفاف، يلبسه ويظل مستمرا في ارتدائه طيلة الحرب. هكذا هم، كل منهم يرتدي زيا تنكريا، فهم لا يريدون الظهور مثل بقية الجنود. انهم أطفال يحيون حفلات موت يومية تنكرية يختمونها برقصات نصر وصراخ هستيري بفعل المخدرات.

ومثل قطيع من كلاب مسعورة وسائبة يقطعون طريقهم نحو مركز القائد دوغو، مخلفين وراءهم الموت والدمار. من بين من سيقتل جوني الكلب المسعور أخ لاوكولة. ستظل هذه الفتاة تلاحقه في مسيرته نحو مركز مدينتها، متفرغة للانتقام منه بعدما فقدت شقيقها الصغير الثاني ووالدها المعوق. عند نهاية مسيرتهم ولحظة اسقاط سلطة الدوغو، ستحل لحظة الحقيقة القاتلة بالنسبة الى جوني، حين يخبره القائد العسكري ان المهمة قد انتهت وان عليهم الرحيل خاليي الوفاض، وأن السلطة العسكرية الجديدة ستأخذ بيدها مقاليد الأمور منذ تلك اللحظة. وفي هذا الوقت وهو في أوج احباطه النفسي تتقدم لاوكولة لتجره الى مكان معزول وتسقطه في فخ أعدته له. تضربه بعنف وتشهر سلاحها في وجهه، وقبل أن تضغط على الزناد ينهي سوفير فيلمه، معلنا عن نهاية مفتوحة موثقة بصور فوتوغرافية للجنود الصغار أخذت لهم أثناء معاركهم الأهلية المجنونة.

ما يميز «جوني الكلب المسعور» عن سواه، هو تفهم مخرجه جان ستيفان سوفير المشبع لحالة الجنود الصغار، ونظرته المتوازنة الى الواقع السياسي والعسكري الذين نشأوا فيه. فهو يجمع بين البحث الاجتماعي والنقد القاسي لسلوك الزمر العسكرية التي تصل الى السلطة في أفريقيا، وغيرها من المناطق، على حساب أطفال أبرياء يتحولون بتعمد وقصدية الى كلاب مسعورة ووحوش قاتلة.

الأسبوعية العراقة في

05/07/2009

 

جميع الحقوق محفوظة لموقع سينماتك
  (2004 - 2009)