لا يصوّر جيمس غراي الاّ نهايات مكلومة أو
مأتماً أو سفراً الى مجهول بديع. نراه يفتح قوسين جامعتين ولا يغلقهما لأن
ليس في
جعبته أجوبة عن أسئلة كثيرة يطرحها في سينماه القاسية. لهذا النابغة الذي
لم يلقَ
الى الآن التقدير الدولي المستحق، الخلفية الثقافية والفنية
المغايرة لهوليوود على
رغم مكوثه المستديم على حافة "مصنع الأحلام" الشهير وتواطئه "الخبيث" واياه.
اياً
يكن، انه، بين اقرانه، الارفع تقديراً وشأناً والاجدر بالمتابعة في نظرنا،
مع آخرين
مثل ديفيد فينتشر وستيفن سادربرغ. من خلال اربعة أفلام صُنعت على مدار عقد
ونصف عقد
من الزمن، رسا غراي على نوعية منسية من السينما الروائية
خلّدتها في اربعينات القرن
الفائت وخمسيناته انامل كبار العاصمة السينمائية الأميركية. الى سينما
أسلافه
العظماء، يضيف غراي اليوم، البالغ الاربعين، بصمة خاصة متأتية من الخلفية
العائلية
التي تصنع له على الدوام الخصوصية التي لا مثيل لها في سينما المؤلف
الحالية.
قديماً، كان يقال ان السينمائيين الكبار (هيتشكوك، فورد، بونويل، برغمان)
هم الذين
يدورون دائماً في الفلك السينمائي عينه، وينجزون باستمرار فيلماً واحداً
بعناوين
مختلفة. غراي من هؤلاء، اذ لا تطوراً لافتاً على الصعيد
التيماتيكي بين "ليتل
أوديسّا" الصادر عام 1994 و"عاشقان" الذي يحلّ في بيروت اليوم بعد عرضه في
الدورة
ما قبل الأخيرة من مهرجان كانّ السينمائي. فالفنان الفذّ هذا، لا يزال
مخلصاً
لأشيائه الصغيرة التي تبدو خارج الموضة وعلى هامش التيارات
التي تعصف بالعالم. هذه
الاشياء لغرابتها، هي التي تنهض بسينما كبيرة شغلها الشاغل هو الانسان،
الذي
بمحليته يصبح مواطناً من كل مكان ومن كل زمان. أما القضية المحورية التي لا
رجوع
عنها لدى غراي فهي العائلة ودائماً العائلة التي تسحق الفرد
ووجوده واضعةً اياه
قبالة اصعب الامتحانات. هكذا كان في "ذي ياردز" و"الليل لنا"، وهكذا سيكون
في "عاشقان"،
وخصوصاً ان القاسم المشترك بين هذه الأفلام الثلاثة هو يواكين فينيكس،
الذي يمكن اعتباره "الانا الاخرى" للمخرج، تماماً مثلما كان جان بيار ليو،
في شخصية
أنطوان دوانيل، انعكاساً لما يضمره فرنسوا تروفو، في مرحلة بزوغ "الموجة
الجديدة"
التي يعشقها مخرجنا عشقاً لامتناهياً.
•••
اذاً، منذ فيلمه الاول، "ليتل اوديسّا"، وغراي
يضع شخصياته أمام امتحان العائلة الصعب ليراقب كيفية تصرف هؤلاء حيال مواقف
أقل ما
يمكن القول فيها انها معقدة. يصوّر الفيلم المذكور قائلا مأجوراً (تيم
روث)، يعود
بعد غياب قسري الى كنف العائلة في منطقة برايتون بيتش في مهمة
جديدة. هناك سيواجه
افراد عائلته، وخصوصاً الاب الشرس الذي ينكره، وستطارده المافيا الروسية
لقتله، قبل
أن تنتهي التراجيديا العائلية على مقربة من أحد المصانع، في حمام دمّ
"ابطاله"
الظرفيين أخوين لا تجمعهما الاّ رغبة الافلات من الواقع العادي من خلال
الجريمة.
حصد الفيلم، الذي يتضمن رؤية قاتمة لنيويورك ولياليها الحالكة، المخيفة
والباردة،
جائزة الاسد الفضي في مهرجان البندقية ورفعت هذا الاميركي الهادىء الى مصاف
المبدعين الذين يستحدثون قديمهم. لكن غراي سيقحم في صمت طويل
لن يخرج منه الا بعد
ست سنوات من الانعزال، مع "ذي ياردز"، شريط اسود بلون جهنم عن الفساد
المنتشر في
مؤسسة تحرص على المترو النيويوركي، والشريط هو العمل المؤسس لما ستكون عليه
اعماله
التالية: العائلة التي لا تنفك ان تتحول الى عدو الفرد وتصادر
حريته.
في رؤياه
السينمائية التشكيلية، يستهوي غراي المناخ الضبابي، الجوّ المعتم،
الديكورات
المتروكة، المنازل الخاوية، الطرق المبلولة بمطر خريفي ساخن.
وغالباً ما ينحاز الى
موضعة الحوادث في جهنمات جميلة، حيث متعة المخاطرة وبهجة الالتفاف الى
الوراء، خشية
وجود أقدام تلحق بأبطال يلهثون. وللمكان أهمية قصوى في عمله منذ "ليتل
اوديسّا"،
لكن تأثير المكان في الشخصيات متفاوت من فيلم الى آخر. ودائماً
الشخوص أسيرة الحدود
الجغرافية التي يسرح الكلّ في اطارها ويمرح من دون أن تشكّ في شيء؛ ولا
خلاص
محتملاً الاّ في المساحة المعطاة لها. المكان له كلمته وقراره ويضغط على كل
من
يحتلّه جاعلاً من المحتل ألعوبة!
•••
مخلصاً لوتيرته، فيلماً كل سبعة أعوام تقريباً،
عاد غراي مع "الليل لنا"، عام 2007، الى الصدارة بعد انقطاع تهيأ خلاله
لولادة
ثانية. لكن هذه الفترة كلها لم يمضها في النقاهة بل في غياب فرضه عليه
الفشل
الجماهيري المدوي لـ"ذي ياردز". وفيلمه الثالث هذا كرسه بشكل
نهائي أميراً جديداً
للبولار الاسود القاتم، وفيه مزيد من الغوص في عالمه الحالك، مختتماً ربما
ما يمكن
تسميته "ثلاثية الروابط العائلية" أو "ثلاثية الدم". في هذا الفيلم تأكد
ايضاً جانب
آخر من اهتمامه: تصوير الحدّ الفاصل بين عالمين، بين الذين ينتصرون للعدالة
والقانون، وأولئك الذين يتصدون لهما. بحسّ تركيبي عالي جداً،
بدا الفيلم أكثر قرباً
من "قصيدة بوليسية" منه الى بولار تقليدي، وفيه اظهر غراي زخماً في التعبئة
الدرامية والانفعالية، وهذا الزخم يعود يتصدر اليوم فيلمه الجديد "عاشقان"
(أو "عاشقتان"،
ولا يفرق العنوان الانكليزي بين المؤنث والمذكر)، بالاضافة الى هذه
العصبية في المعالجة، وهذا الخط السردي المتصاعد نحو المزيد من
التوتر والقلق
والريبة الذي كان يميز أفلامه الثلاثة السابقة.
للمناسبة، يشكّل سفك الدماء
والتضحية لدى غراي فرصة لتعزيز الروابط العائلية، ومن الواضح ان صلات الدم
هي أساس
كل علّة وانفراج عنده، والدم أيضاً وأيضاً هو الطريق الى الخلاص والمصالحة
والتوبة.
بيد أن "عاشقان" الذي يشكل منعطفاً في مساره، يتخلى للحظة عن الفيلم الاسود
القاتم،
لمصلحة كوميديا عاطفية، مع الحفاظ على موضوعاته الاثيرة التي لا مجال
للابتعاد عنها
مهما يحصل، وفي مقدمها، العائلة، انطلاقاً من سؤال: كيف نعيش فرديتنا في ظل
تربية
عائلية ضاغطة؟ فما بالك اذا كانت العائلة من اليهود المنغلقين
على تقاليد قديمة؟
•••
ويتابع "عاشقان" قصة شاب نيويوركي اسمه ليونارد
(يواكين
فينيكس في آخر دور له، وعلى أمل أن يكون قرار اعتزاله التمثيل ليس أكثر من
مزحة بغيضة)، لا يزال يعيش في منزل والديه على رغم بلوغه الثلاثين. تمارَس
عليه شتى
أنواع الضغوط النفسية والأخلاقية. هذا الغيتو الذي يعيش فيه يقيّد تحركاته
ويحدّ من
حريته، ويجعله عاجزاً عن الخيار بين فتاة لطيفة ومحافظة (فينيسا شو) وأخرى
طائشة
(غوينيث
بالترو). المفارقة انه سيضاجع أكثر الفتاتين حشمة وخجلاًً. أما الجماعة
فلديها مصالحها (هنا: قضية بيع وشراء مصبغة) التي لا تلتقي دائماً مع مصالح
العشاق،
لكن من يأبه! اذ على كل واحد ان يقلّع شوقه بأصابعه، ويقرر ايَّ حياة يريد؛
حياة
الغريزة أم حياة المنطق. غنيّ عن القول ان الفيلم برمته ذهاب
واياب بين خيارين
حياتيين، الى ان يستقر الحائر حيث تتاح له الظروف. عسى ألاّ تخدعنا مظاهر
الخفة
التي أدرج غراي حوادث الفيلم في اطارها، ذلك لأن السوداوية والقتامة هما
الطاغيتان،
مهما يكن الحرص على التسلية والمرح معززاً من جانب المخرج. اذاً، بقصة قد
تبدو
عادية للوهلة الاولى، ينسج غراي عملاًً كبيراً يقتصد في
الامكانات ليبلغ مرتبة
عالية من الخلق، وتختتم فصوله الهزلية والحزينة في مشهد سينمائي يعبق بسحر
السينيفيلية النهمة التي منها ولد غراي: الموجة الفرنسية الجديدة. نرى
البطل المضاد
الشاب يمشي ليلاً في اتجاه المحيط بعدما ادرك ان الحياة لن
تكون كما كان يخطط لها،
والاجدر به ان يعود الى قمقم العائلة، لأنها الاكثر اماناً وضماناً على ما
يبدو.
تأليفي، متمكن، قادر على الصمود في وجه الثغر والعيوب، ويقاوم الاغراءات
التي
تقدَّم اليه، كما يرفض الاستسلام لمنطق السهولة او الرضوخ
للحلول السيناريستية
المبسّطة. هذا هو الفيلم الرابع لجيمس غراي. خط سينمائي واضح المعالم، شامل
الرؤية،
يرسمه مخرج "الليل لنا"، من اول الشريط الى نهايته، وفي ذهنه همّ واحد: جمع
كل
العناصر، من تمثيل وقصة وشخصيات ثنائية، في مساحة خيالية يستطيع التحكم
بها، زمناً
ومكاناً. وهو في مهمته هذه، يبتكر اسلوبية شفافة يملك سرّها:
يتكلم عن الحبّ من دون
مسميات، وببضع قبلات لا نسمع رنينها، وببضع نوتات تخرج بالكاد من الآلة
الموسيقية.
أما العناية الشكلانية والاخراج البليغ،
فلا كلام يمكن ان ينصفهما.
ما كان لهذه
الميلودراما الوجودية لتصبح على هذا القدر من السلاسة العميقة والألق، لولا
اشتراك
فينيكس فيها، بشخصية قام عليها الفيلم، وتفاعل هذا الممثل
معها، فأخذ من لونها
وشكلها حتى اصبحا جسداً واحداً وروحاً واحدة. الحق اننا نادراً ما شاهدنا
فيلماً
يتوحد فيه الملموس وغير الملموس، على هذا النحو الجميل، ويذهبان في الاتجاه
نفسه.
مرة رابعة وجديدة، يضع غراي العائلة في مرصاده، لكنه يمتنع عن القنص.
فالاربعون غير
الثلاثين، ولا بد للحكمة أن تأتي يوماً. لكن هذا كله لا يجعله أقل تشاؤماً،
ما دام
لا يجد سبيلاً للافلات من الخط الذي
ترسمه لنا سلفاً العائلة والجماعة والبيئة.
طبعاً، سيكون ليونارد الضحية الأولى لهذه
الحكمة، حكمته وحكمة المخرج. وعندما يقصد
شاطئ المحيط ليتأمل ويفكر بتمعن في ما ستؤول اليه حالته اذا
تزوج بنت العائلة
اليهودية التي يحبها أقل مما يحب فتاة أخرى ليست يهودية، هنا، في هذا
المشهد، يعود
الفيلم، شأنه شأن ليونارد، خطواته الى الخلف، فينتهي الشريط بتأكيد متجدد
أن لا
بديل حياتياً آخر لمن لا يجرؤ على التخيل.
(•) Two Lovers
ـــ (يُعرض في پلانيت - أبراج، زوق).
((ملحوظة:
يمكن العثور على
أفلام جيمس غراي الثلاثة،
Little Odessa
،The
yards، وWe
own the night
على
اسطوانات "دي في دي"). )
خارج الكادر
مسخرة خالد!
اعتقد "الناصري"
المسكين خالد يوسف أنه لا ينقص هيفاء وهبي أي شيء لتصبح بيورك، ففعل مثلما
فعل لارس
فون ترير مع المغنية الايسلندية في "راقصة في الظلام" التي منذ
اول انتقال لها من
الغناء الى التمثيل اقتنصت جائزة أفضل ممثلة في احدى الدورات
السابقة من مهرجان
كانّ. كرمى لعيني بيورك وترير، أسند يوسف الى المغنية اللبنانية دوراً في
مسخرته
السينمائية الجديدة "دكان شحاتة" (يُعرض حالياً في سلسلة صالات "أمپير")
ورافقها
الى مدينة كانّ، خلال المهرجان، لا الى المهرجان، على سبيل التوضيح. هناك
قال
كلاماً كبيراً في شأنها واعتبرها "نجمة العرب الاولى" للسنوات
المقبلة. وفيما كنا
في طريقنا الى افلام المسابقة، التقينا بعض الزملاء العرب
العائدين من العرض
التمهيدي للفيلم. بعضهم كان يشتكي سوء التنظيم والبهدلة، وآخرون كانوا
يتذمرون من
انهم اضاعوا وقتاً كان يمكن استغلاله لشيء مفيد. لكن الجميع كان متفقاً على
أمر
واحد فحواه ان الصالة كانت مكتظة الى درجة انها لم تستوعب فريق
الفيلم، وحصل نتيجة
ذلك بعض الهرج والمرج والمعارك الصغيرة. وفي اليوم التالي، علمنا ان الصالة
كانت
تتسع لـ35 شخصاً... تقريباً.
قبل ايام قليلة وصلت نسخة من فيلم "دكان شحاتة" الى
بيروت مسبوقاً بصيت فضائحي. السبت الماضي كان موعدنا معه في
صالة "غالاكسي"، وكنا
شبه متأكدين ان الفيلم لن يتضمن اي شيء يثير الجدال، ولا يشتم اياً من
الديانات
السموية، كوننا اعتدنا هذا النوع من المناقشات الفارغة الدائرة في مصر،
البلد
"السينمائي" الوحيد في العالم حيث يتحدثون عن "تهمة" اسمها الاغراء!
كنت اتوقع ان
ارى هناك أمام الصالة ما يلقَّب بالصحافة الصفراء ومجلات الربع. "الكل كتب
عن
الفيلم، لم يعد يهمهم مشاهدته"، قال أحدهم.
بعد نصف ساعة تأخيراً، أمضيناها نناقش
أحوال دور العرض في زمن القرصنة والتحميل المجاني على الانترنت، انطلق
جنريك صاخب
جعلنا نعتقد ان انفجاراً ما قد وقع في مكان ما بالقرب من الشيفروليه.
وسرعان ما
انهالت علينا شلالات وفيضانات من قصاصات الصحف تستعرض حوادث
سياسية وتاريخية مهمة
مثل حذاء منتظر الزيدي و... رحيل يوسف شاهين، واللفتة الأخيرة تحية سمجة من
تلميذ
الى معلمه، كان يمكن الاستغناء عنها. ثم على مدار ساعتين ونيف: شخصيات
بهيمية وزعيق
وبلطجة وتطرف وعنف، انطلاقاً من نصّ ركيك لناصر عبد الرحمن. هذا كله مصوّر
على
طريقة أسوأ أفلام اميتاب باتشان، مع ما تتضمنه "التنصيبة" من
اخطاء تقنية موجعة
وهندسة صوت في ادنى مستوياتها وصورة وظيفية كي لا نقول شيئاً
آخر.
لا يحكي خالد يوسف قصة النبي يوسف وأخوته انما
يحاكيها، من خلال رواية بواب صعيدي (محمود حميدة)
في القاهرة يفضل ابناً له على آخرين، فيصبح عرضة للاضطهاد في مرحلة اولى،
ثم، بعد
موت الأب، يلصقون به تهمة ويزجون به في السجن ويسطون على حصته وخطيبته،
وتنهال عليه
كل مصائب الدنيا وصولاً الى الموت الذي يبدو أقلها وجعاً، له ولنا، لأنه
يتيح
للفيلم أن ينتهي. مع بداية فصول عذاب شحاتة، يبلغ الفيلم
"ذروته" اثر اقحام آنسة
وهبي لأداء دور بيسة وبكائها الملحمي التمساحي الذي هو مزيج من الدلع
الانثوي
الفيديوكليبي الآتي من خارج سياق الحكاية كلها. ولا يقل عنها إثارةً
للشفقة، شحاتة
الذي يجسده عمرو سعد، بشعره الحليق وبشاربيه، والذي يبدو
كغروشو ماركس مصعوقاً
بتيار كهربائي. أما "قومجية" المخرج المتزايدة فلا بد ان تترجم بشكل ما،
والطريقة
المثلى هي الضرب على الوتر الحساس، واسناد دور ما الى اسرائيل وسفارتها في
سياق
الحوادث. وعلى رغم ادعائه معرفة الكثير عن احوال المصريين والعرب، ليس
الفيلم الاّ
بالوناً بلاستيكياً يزداد خطر انفجاره كلما زاد الهواء (الهراء) فيه. نحن
ازاء فيلم
يستفز عندي سؤالاً واحداً وحيداً: كيف لتلميذ يوسف شاهين أن يكون على هذا
القدر من
التسطيح والشعاراتية؟
هـ. ح.
النهار اللبنانية في
25/06/2009 |