لم يكن «دكان شحاته»
الفيلم الأول للمخرج المصري خالد يوسف
(مواليد قرية كفر شكر، 1965) الذي يعاني
مشكلة جوهرية، تتعلّق بكيفية صناعته، وبغياب المخيّلة الحيوية. فهو، منذ
«العاصفة»،
حمّل معظم إنتاجه، كمخرج ومؤلّف سينمائي، إيديولوجيا خطابية سياسية (تميل
إلى
الناصريّة بوضوح)، من دون أن يطوّعها لحساب الصورة السينمائية. وهو،
باشتغاله مع
الراحل يوسف شاهين، حافظ على التزامه النضاليّ من دون أن يجعل
الصورة السينمائية
الحاضن المطلوب والطبيعي لهذا الالتزام في صناعة الأفلام. أراد السياسة،
لكنه ظلّ
بعيداً عن السينما. اختار قضايا اجتماعية حسّاسة وراهنة ومهمّة، لكنه نسي
أن الفيلم
ليس، أبداً، خطاباً نضالياً أو تحليلاً سوسيولوجياً أو نفسياً
(لأنه يُفترض به أن
يكون فيلماً سينمائياً قبل أي شيء آخر)، مهما بلغت القضية الاجتماعية
والإنسانية
مرتبة عالية من الأهمية والتأثير. قرّر مواجهة الطغيان السياسي والاجتماعي،
ومحاربة
الفساد المعشّش في أجهزة الدولة ومؤسّسات المجتمع، لكنه بدا
غير منتبه إلى معنى
الصورة ولغتها ومتطلّباتها في إنجازه أفلاماً متنوّعة الهواجس الدرامية،
ومتشابهة
الأسلوب الإخراجيّ. وجد في بيئته المصرية المحلية معيناً لا ينضب من
المواضيع، لكنه
لم يحوّل تدريبه السينمائي على يديّ يوسف شاهين إلى أساس
إبداعي لأعماله، على الرغم
من ظهور حرفية ما، في بعض الأحيان، على مستوى الاشتغال البصري، درامياً
وجمالياً
على الأقلّ؛ علماً بأن المشكلة المزمنة في صناعة الغالبية الساحقة من
الأفلام
المصرية، ومنها أفلامه طبعاً، مرتبطة بسوء التسجيل الصوتي،
وبغياب الإدارة الفنية
للممثلين، وببهتان الصورة.
دعاوى قضائية
في مقابل هذا كلّه، بل في خطّ
مغاير له، تراكمت الدعاوى القضائية ضده، لأنه «تجرّأ» على المسّ بقضايا
إنسانية
واجتماعية مهمّة للغاية، ما جعله أكثر المخرجين المصريين قدرة على استفزاز
مؤسّسات
المجتمع والدين والسياسة والأجهزة البوليسية للدولة، لأنه
«فضح» مكوّنات سلبية
وسيئة للنظام الاجتماعي والسياسي والثقافي المتحكّم بشؤون الحياة المصرية
(تحديداً)
وشجونها: التمزّق العائلي الداخلي على
خلفية الحرب والذاكرة والتاريخ والناصرية
(العاصفة)؛
الحبّ خارج الزواج، معتمداً تحليلاً نفسياً مغايراً للمنطق الإنساني
وللمعطيات العلمية، ومشوّهاً تقنيات التحليل النفسي أصلاً، كما هي عادة
الغالبية
الساحقة من الأفلام المصرية (إنتَ عمري)؛ تعرية علاقة الصداقة
بين الشباب، وانتقادٌ
مبطّن للانغماس المجتمعي الواضح في الخُرافة والمعتقدات الغيبية
والماورائية (ويجا)؛ الجريمة داخل العائلة الواحدة على
خلفية الطمع والمال والجنس (خيانة
مشروعة)؛ العشوائيات وما تُفرزه من مشاكل يومية في شتّى المجالات (حين
ميسرة)؛
الصراع الأزليّ بين الله والشيطان، مغلّفاً إياه بعالم الكازينو والقمار
(«الريس
عمر حرب»، المستوحى من «محامي الشيطان» لتايلور هاكفورد)؛
القصّة التوراتية
والقرآنية المتعلّقة بيوسف وأشقائه، والمفتوحة على الآنيّ كانفتاحه على
الأزمنة
كلّها والتفسيرات السياسية والاجتماعية والحياتية (دكان شحاته). هناك أيضاً
الفساد
داخل المؤسّسة الأمنية، في «هي فوضى»، الذي يبقى النتاج السينمائي الأخير
للراحل
يوشف شاهين، على الرغم من كلام كثير سيق عشية إطلاق عروضه
التجارية وأثنائها، مفاده
أن خالد يوسف أنجزه كاملاً، في حين أن المعاينة البصرية للفيلم تؤكّد
ضلوعاً واضحاً
لشاهين في تحديد الملامح كلّها، تقريباً، لكيفية تنفيذ المشروع.
غير أن هذه
الدعاوى لم تقترب إطلاقاً من الجانب السينمائي، إما لغياب هذا الجانب عن
أفلام خالد يوسف (علماً أن أصحاب الدعاوى لا يفقهون
شيئاً من السينما وتقنياتها وفضائها
وطقوسها)، وإما لأن المتقدّمين بها منشغلون بحماية مزعومة للأخلاق الرفيعة
في
مجتمعات منهارة وممزّقة وفقيرة، ومنصرفون إلى ضرب الأعمال الفنية المتفرّقة
(خصوصاً
النتاج السينمائي)، سواء تناولت مشاكل البيئة الاجتماعية
والإنسانية أم لا، بدلاً
من النضال الحقيقي ضد أشكال الفساد والفوضى في المؤسّسات الرسمية والدينية
والاجتماعية والتربوية والإعلامية.
آخر هذه الدعاوى، نتجت بسبب أحد المشاهد
الجميلة (والقليلة جداً) في «دكان شحاته»، ظهرت فيه هيفاء وهبي تتأرجح على
مرجوحة
في مدينة الملاهي، على مرأى من ممارسي «مولد» صوفي (لماذا أقاموا المولد
بالقرب من
مدينة الملاهي؟)، فإذا بهم ينبهرون بجمالها بعد أن وقعت عيونهم
على فخذيها
المكشوفين، وينسون احتفالهم الصوفيّ هذا. فعلى الرغم من أن هيفاء وهبي
ممثلة فاشلة،
لم تُقدّم في الفيلم أكثر من حضور أنثوي يأسر البعض ويثير غرائز البعض
الآخر، من
دون ابتذال أو إغراء مسطّح، بل بعفوية اعتادت عليها، أحياناً،
في ظهورها الإعلامي
المرئي؛ لم يجد أصوليو الدين والمجتمع والإعلام في مصر ما يلتهون به إلاّ
هذا
الحضور الجميل والوحيد في فيلم، يحتاج إلى صوغ درامي وصناعة سينمائية
جديدين.
عناوين كثيرة
بعيداً عن هذا كلّه، ضجّ «دكان شحاته» بعناوين سياسية
واجتماعية وإنسانية متنوّعة، بدءاً من إسقاط، منقوص جمالياً ودرامياً،
لقصّة يوسف
وأشقائه على الآنيّ والراهن: التحوّل الاجتماعي الخطر لمصر، باتجاه مزيد من
الفقر
والبؤس والضياع؛ الطيبة الإنسانية الضائعة، والطيبون يُقتلون خطأ لتمسّكهم
العنيف
بطيبتهم؛ الانتقال من بروليتاريا الفقراء إلى الرأسمالية
المتوحشّة، التي لا تتردّد
عن القتل المعنوي والمادي معاً، بالإضافة إلى الصعود المدوّي، بأشكال
متفرّقة، لهذه
الرأسمالية نفسها؛ الحبّ المصطدم بشبق الآخرين وبالمصالح الضيّقة وبالنزعة
الهادئة
للعاشق الطيّب. والشريط المُقدَّم في بداية الفيلم، الذي تضمّن
عناوين محطّات
متنوّعة عاشتها مصر أساساً منذ اغتيال أنور السادات، بدا تلخيصاً للمضمون
الدرامي
لفيلم أراده صاحبه تحية وتكريماً ثنائي التوجّه: أولاً إلى مصر الطيّبة
التي انتهى
وجودها (هل تتذكّرون «بهية» يوسف شاهين؟)، وثانياً إلى يوسف
شاهين، بظهور نبأ رحيله
في الشريط المذكور أعلاه، وباختيار قصّة يوسف وأشقائه («المهاجر» لشاهين)،
وبمسعى
ملتبس إلى تلمّس خطى المعلّم في صناعة أفلام سياسية ونضالية، من دون
التنبّه إلى
حرفية شاهين في صناعة الفيلم، وإن فَقَد الفيلم الشاهيني،
أحياناً، جماله الدرامي
والثقافي والفكري. وهذا كلّه مشروعٌ، لأن للمخرج حرية مطلقة في الاختيار
والتعبير.
في حين أن المأزق كامنٌ في غياب السينما،
لحساب سيرة عائلة تشلّعت علاقاتها
الداخلية جرّاء اهتمام الأب بوليده الأخير على حساب الآخرين، ما أدّى إلى
تنامي
الغيرة القاتلة التي انتهت بتوريط الشقيق الصغير بقضية جرمية رمته في
السجن، بعد
حرمانه من الميراث، ونفيه إلى القرية، وسرقة أغراضه وعرضه
أيضاً (خطيبته)، وسط
مظاهر سلبية عدّة ضربت المجتمع المصري، في اقتصاده وبناه الاجتماعية
ومساراته
الحياتية.
ن. ج.
يعرض الفيلم، بدءاً من بعد ظهر اليوم، في صالات «سينما
سيتي» (الدوره) و«أمبير دون» (فردان) و«إسباس» (الذوق) و«أمبير سوديكو» (سوديكو
سكواير) و«غالاكسي» (بولفار كميل شمعون) و«سيتي كومبلاكس» (طرابلس).
السفير اللبنانية في
25/06/2009 |