في«إنها
رؤيا»، أول فيلم روائي له وكذلك أول ذريعة له للحضور في مهرجان سينمائي
عالمي سائراً على خطى أسلافه من المخرجين الإيرانيين البارزين، يكشف المخرج
الإيراني محمود غفاري خفايا مجتمعه ويسدد نظرة ناقدة على مجتمع لا يعطي
أفراده «الحق» في تحقيق رغباتهم. الشخصية الأساس في الفيلم هي رويا (رؤيا)
فتاة ممتلئة بالنشاط والحيوية، تشترك في جمعيات عدة يسدد أفرادها أقساطاً
شهرية لينال المبلغ من تقع عليه القرعة. لا تكتفي الشابة بهذا بل تدفعها
رغبتها الجامحة لجمع المال، بهدف ترك البلاد، إلى اللجوء إلى طرق مستترة
وغير شرعية للقروض ما يجعلها تقع في فخ الديون.
والواضح أن الفيلم يسعى من خلال هذا السرد لتسليط الضوء على هذا
النظام «المالي» المستشري في إيران والذي يلجأ إليه أصحاب الدخل المحدود
لصعوبة الحصول على قروض من المصارف. كما يكشف العلاقات الإنسانية المشبوهة
القائمة على المصالح، وشبكات الإجهاض السري وما يمكن أن تتعرض له شابة من
استغلال جنسي.
أنجز المخرج حتى الآن خمسة عشر فيلماً قصيراً ومسلسلين للتلفزيون
الإيراني وتعاون مع مخرجين إيرانيين معروفين مثل أصغر فرهادي ورضا مير
كريمي وبهمن قبادي. التقيناه في مدينة نانت بمناسبة عرض فيلمه في المسابقة
الرسمية لمهرجان القارات الثلاث خلال دورته الأخيرة.
·
من خلال أسلوب التصوير وحركة
الكاميرا السريعة، يبدو أن الفيلم أنجز من دون الحصول على تصريح!.
-
هذا صحيح، لم أطلب موافقة رسمية لتحقيق فيلمي. لقد صورته في
إيران. وفي إيران ليس التصوير في حد ذاته، بالأمر الصعب إنما ما بعد
التصوير! فصحيح أن ثمة قوانين صارمة ولكن مراقبة تطبيقها ليست صارمة، بمعنى
أن قسم «الرقابة» في الوزارة هو المسؤول عن القوانين الرقابية، أما ما يجري
في الشارع فهو تحت مسؤولية الشــرطة. إنهما قسمان إداريان مختلفان، وإلى
حين التواصل بينهما وإعلام أحدهما الآخر بما يحدث يكون التصوير قد انتهى!
لكن «الرقابة» تقوم الآن بإرسال شخص لمتابعة كل ما يدور في التصوير وبناء
عليه يكون في مقــدورهم إيقاف الفيلم في أية لحظة، وهذا ما فعلوه مؤخراً مع
المخرج بهرام بهرميان. أما ما قمت به أنا بالنسبة إلى فيلمي هذا، فهو أخذ
موافقة الشرطة للتصوير في الشــارع. وهــكذا، حــين يأتي أي شرطي ليضبطنا
في مكان التصوير، أبرز له بطاقة الموافقة فلا يسبب لي المضايقات فهؤلاء لا
يتدخلون بفكرة الفيلم.
الصعوبات للفيلم الروائي
·
ولكن كيف تجري الأمور؟ ألا يسأل
الشرطي عن تصريح الدولة؟
-
ما يتطلب التصريح من الدولة هو الفيلم الروائي فقط، فيما تكفي
موافقة الشرطة بالنسبة للفيلم القصير ولهذا يلجأ كثيرون إلى القول إنهم
يحضرون لفيلم قصير. وقد رفضت الرقابة في الآونة الأخيرة إعطاء تصريح بالعرض
لفيلم للمخرجة رخشان بني اعتماد لأنها اعتمدت هذه الطريقة. فقد اعتبروا
أنها خالفت تلك القوانين. أما فيلمي فكان السيناريو الذي فكرت بتقديمه هو
لفيلم قصير، لكنه تحوّل شيئاً فشيئاً إلى فيلم روائي طويل. لقد أعطيتهم
نسخة من الفيلم للحصول على إجازة بالعرض، فطلبوا مني أن أكتب بخط يدي كل
مراحل صنعه وأن آتي للنقاش معهم ولكنني رفضت.
·
ولم؟
-
قد يأخذون ما أكتبه كبراهين ضدي ويمنعونني من تحقيق فيلمي
التالي كذلك. كما أنني على ثقة بأنهم لن يمنحوني الموافقة. وقد أخبروني
بأنه ستتم معاقبتي ولن أعطى إجازة بعرض الفيلم لا في إيران ولا في خارجها،
وهكذا أتعلم، في رأيهم، أن اصنع فيلماً ينال قبولهم في المستقبل!
·
هل ستعود إلى إيران؟ كيف سيكون
وضعك حينها؟
-
صحيح أن لدي رأيي السياسي، لكن الفيلم ليس سياسياً من وجهة
نظري. قد يكون هكذا بنظرهم، وعلى أية حال في إيران كل شيء وكل عمل يمكن له
أن يكون سياسياً حتى البقالة وسواقة التاكسي و...
هنا تدخـــلت بطلة الفيلم إلهام كيردا (23 سنة) التي كانت تتابع
الحوار وقالت: «في البداية لم اكن أعرف أن الفيلم لم ينل تصريحاً، عرفت هنا
(في فرنسا) فقط، وتعلمين أنه في ما يخص الممثلين فالشـــخصية هي جل ما
يهمهم».
وأضاف غفاري: «أريد التأكيد على أن كل فريق الفيلم لم يكن يعلم بعدم
وجود تصريح ولا أريد لأحد منهم أن يتحمل نتيجة تصرفي».
·
نهاية الفيلم غامضة، فقد اختفت
البطلة ولكل تفسيره، فما قولك أنت؟ هل ثمة رسالة ما أردت إيصالها؟
-
النهاية ليست مشكلتي، فكل متفرج له أن يظن ما يشاء، وما أراه
أساسياً في الفيلم هو تبيان أن لدى كل الناس رغبات ولكن ليس لديهم الحق
بتحقيقها، كما أن كل شخص يريد تحقيق منفعته على حساب الآخر، فالزوجان
العاقران يريدان استغلال الشابة لإنجاب طفل لهما وهكذا...
أوضاع سيئة
·
كيف ترى وضع السينما الإيرانية
حالياً؟
-
سيء جداً! يعود هذا إلى أن صناعة الأفلام تعاني صعوبات جمة،
وأصحاب أسماء كبيرة مثل ناصر تقوايي ورخشان بني اعتماد وبهمن قبادي لا
يستطيعون تحقيق أفلامهم الآن. تعرفين أنه يتوجب مثلاً لصنع أي حساء توافر
مكونات من الخضار أو الحبوب أو... ولكن إن لم يتوافر سوى الماء فالنتيجة
حساء لا طعم له!
·
هل تعيد الأمر إلى الرقابة؟
-
قطعاً! آمل بعد الانتخابات القادمة التي ستجري خلال الأشهر
المقبلة بأن يتغير الوضع، قد تكون رغبة حمقاء! ولكننا مجبورون على التفكير
على هذا النحو فالناس تعيش بالأمل.
·
ولكن كيف تفسر تمكن مخرج مثل
أصغر فرهادي من تحقيق الأفلام؟
-
إنه عبقري! وفي الوقت نفسه فهو بنظري صاحب تدبير جيد ودراية،
إنه عاقل (الكلمة نفسها بالفارسية) يعرف حدوده ولا يذهب يميناً أو يساراً
ولديه القدرة حين يغضب على ضبط أعصابه والتحكم بردود أفعاله. البعض مثلاً
لا يستطيع اتباع السلوك نفسه ولا يتحكم بغضبه بل يعبر عنه. في الواقع لا
أدري أيهما على حق؟ قد يكون من المناسب أن تتواجد الحالتان!
الحياة اللندنية في
14/12/2012
أفلام سوداء وفنية عالية ... و«الذهبية» للبنان
مراكش – مبارك حسني
وفاء
للتقليد المرسخ في السنوات السابقة، عُقدت الدورة الثانية عشرة لمهرجان
مراكش السينمائي تحت شعار تأكيد أساسية حضور الفيلم واعتباره الحلقة الكبرى
والأساسية في كل احتفاء بالسينما. هكذا، تم اختيار خمسة عشر فيلماً في
المسابقة الرسمية تميّز جلّها بكونه عملاً أول أو ثانياً لمخرجيها، الشيء
الذي جعل المهرجانيّين والجمهور يقفون على اهتمامات المخرجين المعاصرين من
كل بلد مختار. ولقد لوحظ في شكل عام أن الأفلام، في غالبيتها، أعمال
يســـود فيها المنحى الضبابي الذي يرافق مواضيع قاسية يوجد فيها الإنسان في
مواجهة مصير فوق القدرة على التحمل نتيجة تربية، تاريخ سابق، ظروف حياة
مؤلمة، فقر، حرمان، بؤس عيش أو تسلط.
البحث عن معنى
ولعل خير مثال على هذا، الفيلم الألماني الجميل «ياولد» للشاب يان أول
جيرسر، المصور بالأبيض والأسود والذي يحكي قصة شاب حائر في مدينة برلين
العملاقة الحزينة، قطع علاقته مع العائلة والصديقة والعمل، وتاه في الفضاء
المديني بحثاً عن المعنى، الذي يجده عند كهل يحمل في ذاته ثقل التربية
النازية التي لا تزال تؤثر عميقاً بآثارها. إنه فيلم جارموشي - نسبة إلى
أسلوب المخرج الأميركي الطليعي جيم جارموش - يذكر بتيار الموجة الجديدة.
في المنحى ذاته يقدم الفيلم الإيراني «طابور» الحائز على جازة لجنة
التحكيم مناصفة وهو للشاب وحيد فاكيليفار، شخصاً تزداد حرارة جسمه بفعل
المؤثرات الكهرومغناطيسية الخارجية، فيقرّر ارتداء لباس من الألومينيوم،
ولا يخرج إلا ليلاً كي يمارس عمله المخصّص بقتل الصراصير في المباني
السكنية. ولا تخفى الرمزية القوية لهذا الشريط العجائبي والوجودي في الوقت
ذاته.
وهذا المعطى الأخير هو ما يميّز الفيلم التشيخي «براعم الزهور»، حيث
فضاء ثلج ناء يعرف صراعاً داخلياً من أجل إنقاذ الذات. أما الشريط الكندي
«الشاحنة» فهو رواية حادث سير تسبب في قتل شخص، ما جعل السائق يقرر التوقف
عن القيادة وإعادة النظر كلياً في حياته ومحاولة ترميم علاقاته مع عائلته
كسبيل للتكفير عن الذنب. هذه الثيمة نفسها يتطرق إليها شريط «رحلة صيد» حيث
يعيد رجل حياته في مكان قفر يؤبد الإحساس بالعزلة وأيضاً بالأمل.
بقية الأفلام المشاركة تضمّنت مواضيع أخرى لا تقل سواداً في منحاها
العام: الهندي «هوية» حيث الموت ينازع فضول المعرفة للمجهول المريح للضمير،
الإستوني «جمع الفطر» الذي حصلت بطلته الرئيسة إلينا رينولد على جائزة أحسن
دور نسائي، تدور أحداثه في ليلة طويلة يجد فيها ثلاثة أشخاص أنفسهم وسط
وضعيات غير متوقعة تشتمّ منها رائحة السخرية اللاذعة لنفاق العصر إعلامياً
واجتماعياً وسياسياً. أما الفيلم الدنماركي «اختطاف» فاختار سرد واقعة
اختطاف رجل أوروبي من طرف القراصنة الصوماليين ومن الواضح أن هذا الفيلم،
وبفضل العنف المصوّر بدقة وحميمية كان من نصيبه أن حاز على جائزتين، الأولى
لأحسن دور رجالي للبطل سورين مالين، والثانية جائزة لجنة التحكيم مناصفة.
تجديدات عربية
الأفلام العربية المشاركة يأتي على رأسها الفيلم اللبناني «الهجوم»
لزياد الدويري، والذي حاز باقتدار وبإجماع على الجائزة الكبرى أي النجمة
الذهبية للمهرجان. ويتميز هذا الفيلم بالجرأة في الطرح، والاقتصاد حدّ
ملامسة الدواخل بقوة وعنف. وهو ملأ العين بصور غير معهودة للصراع
الفلسطيني، العربي - الإسرائيلي. و «الهجوم» مأخوذ عن رواية بالعنوان ذاته
للكاتب الجزائري الشهير والمغضوب عليه ياسمينة خضرة (أو محمد مولسهول باسمه
الحقيقي).
تمكن الشريط من نقل معاناة عرب 48 في شخص علاقة حب زوجية بين طبيب
جراح ناجح وزوجته داخل إسرئيل، حيث تم اندماجهما وانخراطهما في المجتمع
هناك. غير أن ذلك «الاندماج» لم يمنع الزوجة من أن تقدم على تنفيذ عملية
انتحارية في باص يحمل أطفالاً. وكما يمكننا أن نتوقع فإن هذا الأمر، إذ
انكشف، كان لا بد له من أن يهز كيان الزوج وبالتالي منحنا الشريط فرصة
الرحلة في دواخل الخطوط الفاصلة ما بين المقاومة، والعيش الحر الكريم،
والحرب والسلام، والاختلافات بين الإسرائيليين والفلسطينيين على طرفي
الحدود.
الفيلمان المغربيان المشاركان كان أولهما، «يا خيل الله» لنبيل عيوش،
الذي يتناول حياة انتحاريي أحداث ماي 2003 التي هزت مدينة الدار البيضاء،
والتي راح ضحيتها أكثر من أربعين شخص. والفيلم مقتبس من عمل أدبي هو رواية
بالعنوان نفــسه لماحي بنبين، أما الموضوع فيعود إلى طفولة الانتحاريين في
حي قصديري لا تتوافر فيه مقومات العيش الكريم، ثم يُعرج على تجنيدهم من طرف
مجموعات متطرفة ترتدي الزي الأفغاني.
الجزء الأول من الشريط تميز بواقعية كبيرة ودقيقة متقنة، لكن الفيلم
حالما تناول فترة التجنيد النظري والاستعداد للعملية، سقط في روتينية
وملامسة طرح لم يخرج عن المعروف إعلامياً، الشيء الذي حدّ من ألقه.
الشريط المغربي الآخر هو «زيرو» لنور الدين الخماري ويعرض لأول مرة.
وهو شريط يروي قصة مفتش شرطة مغضوب عليه يحاول إنقاذ فتاة من براثن عصابة
دعارة يحرسها عميد شركة هو رئيسه المباشر. ومثل شريط الخماري السابق «كازانيكرا»
يعج هذا الفيلم الجديد بالكثير من عنف الكلام الشارعي والوقح كما هي عليه
حال الشوراع في مدينة - غول هي الدار البيضاء التي بدت هنا سوداء متسخة
ومأوى للجريمة والدعارة وصعوبة العيش. في اختصار من الجليّ أن هذا العمل
يشبه إلى حد كبير أفلاماً من النوع ذاته اعتدنا على مشاهدتها في السينما
الهوليوودية الشائعة.
وقد كانت لجنة التحكيم رزينة وموفقة في اختياراتها، يتزعهما المخرج
البريطاني المخضرم جون بورمان وعضوية ممثلين كبار ومخرجين من إيطاليا
وفرنسا وكوريا الجنوبية والهند. كما ترأس لجنة تحكيم أفلام المدارس القصيرة
المخرج الفرنسي المعروف بونوا جاكو.
وتبقى أبرز فقرات المهرجان هي التكريمات، وخصت هذا العام المخرج
الأميركي جوناثان ديمي صاحب الشريط الشــهير «صـــمت الحــملان» الذي اعتبر
مراكش «خشبة عرض السينما الجديدة في العالم»، والمخرج الصيني البارع
زهـــانغ إيـــمو الذي تسلــم نجمة المهرجان من يد المخرج البارع الآخر
إمير كوســـتوريكا، وقد أبديا سعادتهما بالوجود في مراكش ضمن كوكبة مهمة من
المبدعين والنجوم العالميين.
واحتفى المهرجان هذه السنة بالسينما الهندية التي تحتفل هذه السنة
بالذكرى المئوية لولادتها، وحضرت لهذا الغرض نخبة كبيرة من النجوم الهنود
إلى جانب مخرجين ومنتجين، وهو عدد لم يجتمع قط في بلد خارج الهند حتى
اليوم. ولقد تقدمهم النجم الشهير شاروخان والنجم أميتاب بتشان، وهذان لقيا
حفاوة كبيرة من لدن الجماهير الشبابية المحبة في المغرب للسينما الهندية،
ولا سيما خلال وجودهما في ساحة جامع لفنا الشهيرة، الأمر الذي أثار اهتمام
كثيرين.
الحياة اللندنية في
14/12/2012
نساء وحدود و «طيارة من ورق»
بيروت - محمد غندور
تختتم
«طيارة من ورق» مساء اليوم، المهرجان السينمائي الذي نظمته السفارة
الإسبانية في لبنان بالتعاون مع معهد ثربانتس في بيروت. الفيلم الذي أخرجته
اللبنانية رندة الشهال وكان آخر أعمالها الروائية قبل وفاتها عام 2008،
تدور أحداثه في قرية درزية في الجنوب اللبناني على الحدود مع إسرائيل، حيث
تعيش لميا وعائلتها. تغرم الفتاة بجندي عربي يخدم في الجيش الإسرائيلي
وكلاهما ينتمي إلى عائلة درزية، وتصبح رحلة الزواج رحلة ضد العادات
والتقاليد، وتمرداً على المجتمع وأفكاره. تقرر عائلة لميا تزويجها من شاب
في القرية المقابلة من دون موافقتها. فيتواصل أهل القريتين بواسطة مكبرات
صوت على مسافات بعيدة، حيث يتناقلون أخبار الزفاف والعروس. تعبر لميا
الشريط الشائك المزروع بالألغام والمراقب من الجنود الإسرائيليين مرات
عدّة، إلى أن تهرب في النهاية إلى الأراضي المحتلة وتختفي عن أهلها.
وقد يكون فيلم الختام هذا من أكثر الأفلام التي تعبّر عن عنوان
التظاهرة، التي تجمع أعمالاً لمخرجات يتشاركن قضايا عدّة، كالتحرر من
العادات والتقاليد، وعلاقة المرأة بالسينما والمجتمع والجسد والحدود
والانتماء والهوية والعنف الجسدي والمعنوي والاغتصاب والعادات والتقاليد،
وعلاقة المرأة بذاتها قبل محيطها.
وتتشابه في هذا الإطار الأفلام المختارة وهي «دنيا» (جوسلين صعب -
لبنان)، «أمنحك عيني» (إيثيار بويّاين - إسبانيا)، «أمينة» (خديجة السالمي
- اليمن)، «الحلمة المرتعبة» ( كلوديا يوسا - بيرو) في تناولها حكايات نساء
واجهن أزمات في محيطهن، وكيف تغلبن على هذه العقبات، أو كيف حاولن رفض
الأفكار المسبقة تجاههن في بعض الأمور. وتكمّل هذه التظاهرة السينمائية
ومواضيعها، ما تقدّمه المرأة في الثورات التي اجتاحت بعض البلدان العربية،
وكيف أثرت النساء في الحشود، خصوصاً في ميدان التحرير في القاهرة.
وتقول منسقة المشروع المخرجة جوسلين صعب والذي افتتح فيلمها «دنيا»
التظاهرة، أن «المهرجان يتزامن مع زمن الصراع والتحدي للمرأة العربية، وليس
صدفةً أننا أردنا إكمال العام 2012 بتأمّل بصري حول دور المرأة، خصوصاً أن
دورها كان ولا يزال بارزاً في مختلف الثورات».
وتضيف: «لا نملك شيئاً نضيفه إلى قيمة ووزن تلك النسوة المخرجات
اللواتي نقدمهن في المهرجان. لكننا نملك الكثير من التحليل والبحث والتفكير
في أعمالهن التي تبدو في أكثر الأحيان سِيَراً وبيانات شخصية حقيقية. هكذا،
اخترنا كل واحدٍ من الأفلام المعروضة ردّاً على شرطين، أن تكون مخرجة
الفيلم امرأة، وأن يحلّل في موضوعه دور المرأة».
وأشعل فيلم الافتتاح نقاشاً حاداً مع متلقيه حول مواضيع الحب والرغبة
والختان والرقص والتمرد في مصر. أما «أمنحك عيني» فناقش العادات السيئة
لزوج في التعاطي مع زوجته التي تقرر الهرب مع ابنها من سطو رجلها وعنفه.
وقد حاز هذا الفيلم جائزتي غويا من أكاديمية السينما في إسبانيا.
ومن الأفلام اللافتة والمميزة التي قدمها المهرجان، فيلم «أمينة» وهو
من آخر أعمال المخرجة اليمنية خديجة السلامي التي تقول إنها حين علمت بقصة
أمينة المأسوية عبر الصحف، بدأت فوراً في إجراء مقابلات معها في السجن. ومن
هنا طلع الفيلم في نهاية الأمر، وهو عبارة عن وثائقي مبني على تلك
المقابلات، ويستخدم قصة هذه المرأة كمثال على الانتهاكات القانونية
والاجتماعية التي تنهال على المرأة العربية.
أنقذ الشريط حياة امرأة من الإعدام، إذْ نجح في جعل قضية امرأة متهمة
بقتل زوجها قضية رأي عام. لا يحاكم العمل القضاء فحسب، بل يحاكم أيضاً
مجتمعاً بأسره رضي بأن تكون نساؤه زوجات لسفاحين. واللافت في العمل مزجه
بين العام والخاص، بين ما عاشته أمينة من مآسٍ، وما عانته المخرجة من مشاكل
أقل أسى.
وفي فيلم «الحلمة المرتعبة» الحائز جائزة «الدب الذهبي» في برلين عام
2009، تعرض البيروفية كلوديا يوسا، قصة فوستا التي تصاب بمرض نادر يسمى
«حليب الأسى»، وينتقل عن طريق الثدي من النساء الحوامل اللواتي تعرضن
للاغتصاب، كما حصل مع والدتها إبان سنوات العنف التي عاشتها البيرو في
ثمانينات القرن العشرين.
تمرّ فوستا في حالة من الإضراب والخوف المزمنين نتيجة المرض، ما
يجعلها تعيش هاجس الهروب من مصير والدتها. ينتمي العمل إلى أفلام ما بعد
الحرب، حيث تنقل إلينا المخرجة حالة المجتمع المصاب بجروح لا شفاء منها.
الحياة اللندنية في
14/12/2012
خالد زهراو يعيد تشكيل بغداد سينمائياً في «المدينة والناس»
بغداد – علي السراي
يرى المخرجُ العراقيّ خالد زهراو أنَّ بغداد مدينةٌ سينمائيّة، بمعنى
أن فيها مادة غزيرة لصناعة الأفلام الوثائقيّة. كما أن الأحداث والقصص
المثيرة التي مرّت عليها تستحق أن تكون وجهةً جديرةً باهتمام صنّاع الأفلام
في العالم.
وانطلاقاً من هنا، تحدث زهراو الى «الحياة» عن واقع السينما في العراق
وعن فيلمه الأخير عن بغداد، وهو يحاول اليوم نفي القناعة السائدة بأن
العاصمة العراقيّة لا تصلح للتصوير، والسبب في رأيه الصورة النمطية التي
شكلتها «الميديا» المحلية والعربية عن مدينةٍ تعيش وسط القتل والرعب طيلة
السنوات العشر الماضية.
يقول زهراو: «نعم... الوضع ليس مناسباً لصانع الفيلم، لكن المتعة تكمن
في العمل تحت وطأة هذه الظروف (...) أستطيع أن أجزم بأن تذليل عقبات
التصوير ليس أمراً مستحيلاً».
وربما دفعت تلك الصورة النمطية عن المدينة زهراو إلى تنفيذ سلسلة من
الأفلام الوثائقيّة الطويلة عن بغداد تحت عنوان «المدينة والناس»، يحاول
فيها -كما أخبر «الحياة»- أن «يُقدِّم صورة تستحقها المدينة وسكانها».
وهكذا... على مدى عام، استغرق المخرج العــراقي العمل على كتابة
وإخراج سلســلة أفلام وثائقية، تتضمن أربعة عـــشر فيلـــماً كجــزء أولي
من العمل. ورافق زهروا في رحلته الطويلة مع بغـــداد فريقٌ من السينمائيين
الشباب، تنقلوا في أزقة العاصمة وأحيائها، في محاولة لتدوين الذاكرة
الشعبية.
ويسرد زهراو لـ «الحياة» رحلته في «المدينة والناس»، حيث كان التدوين
البصري يلاحق قصص الناس اليوميّة، ويهتم «بتفاصيلها التي تصوّر حقيقة
المدينة».
يقول زهراو إن «هذه السلسلة من الأفلام تنقلت بين البيوت القديمة
والمحلات الشعبية ودور السينما، التي لم يبق منها غير الواجهات المتهالكة
(...)، والكاميرا سجلت أيضاً الحياةَ في المقاهي، التي صنعت جزءاً من تاريخ
المدينة».
«أعدت إنتاج مدينة بغداد بواسطة السرد الشعبيّ، لم أستعمل أي تعليق أو
صوتَ معلِّق على الأفلام (...)، وفي واحد من الأفلام على سبيل المثال، وكان
عن نشوء مدينة الثورة (شرق بغداد)، كانت الكاميرا تواجه شاعراً وروائياً
وسينمائياً ورياضياً وبائعَ سمك وخياطاً يحكون مدينتهم، الثورة».
ويكتشف زهراو من أبطاله «أنهم يقصون المدينة، التي يتمنون أن تكون لهم».
زهروا بدا متحمساً كثيراً وهو يقف مع زملائه على الكاميرات، التي تلف
الأمكنة وهامش الحياة الذي يبدو أكثر حيوية من المتن الظاهر في «الميديا».
زهراو هنا يبرر حماسه: «كنت أقرأ تاريخ المدينة في الكتب، وهو التاريخ
الرسمي الذي دونته المراجع الأكاديمية والبحوث والحفريات التقليدية، سوى
أنني أستمع إلى تأريخ آخر لنشوء المكان من قصص الناس، وهو المرتبط برغبتهم
في تشكيل مدينتهم بطريقة مؤلمة (...) أستمتع حين أسجل قصصهم وأعرضها عليهم
فيلماً يتعرفون فيه على حكايتهم، على مدينتهم». في النهاية يلخص المخرج
فكرة فيلمه بالقول إنَّه «صنع المدينة التي يحبها».
ويواجه صنّاع السينما في العراق صعوبات كبيرة على صعيد الإنتاج، لكن
زهراو، الذي يسجل أفلامَ «المدينة والناس» بفريقٍ من الشباب وبثلاث
كاميرات، حصلَ على فرصةِ إنتاجٍ طيبة -كما يقول- من قناة «السومريّة»، التي
ستتولى عرض منجزه على شاشتها العام القادم بمعدل فيلم كل أسبوعين.
يرى زهراو أن الدعم الأكثر تأثيراً من الناحية الفنــــية هــو ما
يجده من الشارع، حيث يراقب متعة النـــاس وهم يتحدثون عن تاريخ الأمكنة
التي يعيشون فيها.
يذكر أنَّ خالد زهراو صانعُ أفلام وثائقيّة عراقيّ، درسَ المسرح
والسينما في بغداد وهولندا ونيويورك، ويعملُ في حقل السينما والتلفزيون
مُنتجاً ومُخرجاً، وبُثت أعماله على شاشة قنوات عالميّة.
الحياة اللندنية في
14/12/2012
أيام للسينما الخليجية في عمّان
عمان - «الحياة»
بين السابع عشر والعشرين من كانون الأول (ديسمبر) الجاري، تقيم الهيئة
الملكية الأردنية للأفلام، بالتعاون مع «مهرجان الخليج السينمائي»، تظاهرة
تعرض خلالها وطوال اربعة ايام، مجموعة من الأفلام الآتية من بعض بلدان
الخليج العربي، اضافة الى فيلم من اندونيسيا وآخر من لبنان. ومن ابرز
الأفلام المعروضة فيلم «ظل البحر» للإماراتي نواف الجناحي وهو فيلم روائي
طويل أثبت حضوره طوال الشهور الفائتة في بلدان كثيرة في العالم، جماهيرياً
ومهرجانياً، ويمثل وصوله الى عمّان اليوم حدثاً سينمائياً مميزاً.
من الإمارات ايضاً، الى جانب فيلم الجناحي، تعرض التظاهرة الفيلم الذي
حققته نجوم الغانم قبل عام وبات له من الشهرة ما يضاهي شهرة «ظل البحر».
وهو الفيلم الوثائقي الطويل الذي يروي فصولاً من «حكاية» امل التي تصل الى
الإمارات ذات لحظة محمّلة بالآمال، لتجد نفسها اول الأمر واقعة تحت عبء تلك
الآمال والعجز عن تحقيقها.
وأقل طولاً من «امل» بكثير يأتي فيلم «لمحة» للإماراتية نايلة الخاجة
وهو فيلم لافت حيث لا يتعدى طوله الدقيقتين. وفي المقابل، يمتد فيلم منى
العلى - ايضاً من الإمارات - وعنوانه «دوربين» - لمدة تصل الى ثلاثة أضعاف
ونصف ضعف فيلم «لمحة» (7 دقائق) وهو بدوره فيلم صامت تسعى مخرجته الى ان
تستطلع من خلاله «نظرتنا الى الحياة»...
من السعودية تعرض التظاهرة فيلم «كيرم» لحمزة طرزان (12 دقيقة)، فيما
يأتي من العراق فيلم «صمتاً كل الطرق تؤدي الى الموسيقى» (80 دقيقة) لحيدر
رشيد، ومن اندونيسيا فيلم «بدءاً من الحرف» (15 دقيقة) لبي دبليو بوربا
نيجارا، ومن لبنان فيلم «ع بعلبك» وهو قصير في 21 دقيقة لسمير سرياني الذي
يتحدث فيه عن شاب وفتاة يقدّمان الينا غريبي الأطوار خلال زيارة يقومان بها
الى مدينة بعلبك اللبنانية وآثارها.
وأخيراً في الوقت الذي تعرض فيه التظاهرة الفيلم اليمني القصير «اسوار
خفية» لسمير النمري (25 دقيقة)، تعرض ايضاً «هذه هي لندن» لمحمد بوعلي وهو
انتاج مشترك بحريني - إماراتي. بينما يأتي من البحرين فيلم «آخر قطرة نفط»
لمحمد جاسم، الذي يروي في دقائقه الخمس حكاية الرجل الذي كان أخفى آخر
برميل نفط منذ زمن طويل، لكنه الآن نسي اين خبأه، وأخيراً عندما يتذكر
المكان يسرع الى برميله ليجده... فارغا!
الحياة اللندنية في
14/12/2012
«دراكولا»
لبرام ستوكر:
الدكتاتور خلف قناع مصّاص الدماء
ابراهيم العريس
في واحدة من أعمق الدراسات التي توقفت بالتفصيل عند العلاقة بين
السينما التعبيرية الألمانية وظهور النازية في ألمانيا سنوات العشرين، يقول
الباحث سيغفريد كراكور في بحثه المسمى «من كاليغاري إلى هتلر» إن
السينمائيين الألمان إنما عبّروا من خلال شخصية الغيلان - مصّاصي الدماء -،
ولا سيما دراكولا ونوسفراتو وما شابههما عن ذلك الرعب من مجيء هتلر، كوحش
نازي سيمتص دم الشعوب ويدمّر أوروبا. والغريب في الأمر أن كراكور، على رغم
صواب مقولته، لا يأتي في كتابه كله على ذكر أمر كان يتعين عليه أن يلفت
انتباهه، وهو أن الكاتب الذي أحيا أسطورة دراكولا، عند نهاية القرن التاسع
عشر، وهو الإرلندي الأصل برام ستوكر، كان حين كتب ونشر روايته الأولى
والأشهر في هذا المجال «دراكولا رجل الليل» عضواً في تنظيم إرلندي سرّي
يسمى «الفجر الذهب»، ويحمل من المبادئ ما مكّن من القول لاحقاً أن الفكر
النازي نفسه قد غرف منه ومن العديد من منطلقاته على أساس مبادئه. والحال
أننا حتى يومنا هذا - وقد يكون في الأمر عذر لكراكور -، لا نعرف الكثير عن
نشاطات تلك المنظمة حتى ولو كان ثمة شبهات تفيد بأن فكر المنظمة، الوثني
والسحري، كان وراء العديد من الكتابات الغرائبية والتنبئية التي كثر صدورها
في ذلك الحين وبالتالي وراء ظهور النازية، أي الفكر القومي - الاشتراكي
لاحقاً. والحقيقة أن هذه الشبهات لن يفوتها أن تطرح العديد من التساؤلات
حول تلك «الصدفة» التي جعلت برام ستوكر يصدر روايته في وقت كان ينشط فيه
بقوة داخل إطار تلك المنظمة.
>
ومهما يكن من الأمر، لا بد من الإشارة هنا إلى أن كثراً من
القراء قد ظلوا يجهلون اسم برام ستوكر لعقود طويلة من الزمن، حيث أن شخصيته
المبتكرة (دراكولا) سرعان ما استقلت بنفسها في القرن العشرين، لتنسي
«المعجبين» «المناضل» الإرلندي، خصوصاً أن «دراكولا» نفسه عاد وتسمّى
بالعديد من الأسماء، في الأفلام السينمائية، كما في الروايات وفي ضروب الفن
الأخرى. ولقد احتاج الأمر إلى فيلم عن «دراكولا» حققه المخرج الأميركي
فرانسيس فورد كوبولا أواخر القرن العشرين وجعل عنوانه «دراكولا برام ستوكر»
حتى يعود إلى الأذهان اسم ستوكر هذا ويربط اسم دراكولا باسمه.
>
المهم أن برام ستوكر عاش في إنكلترا عند نهايات القرن التاسع
عشر، في زمن كان فيه ظلّ الملكة فيكتوريا يخيّم على البلاد كلها، خالقاً
العديد من الخيالات والأفكار المرعبة. ولقد أتيح لستوكر الشاب في ذلك الحين
أن يلتقي بالعديد من الشخصيات الغربية، التي سيقول في آخر أيامه أن كلا
منها كادت تكون «دراكولا» حقيقياً. ومن هنا، انطلاقاً من تلك اللقاءات
تمكّن الكاتب من صياغة الشخصية. غير أن دراكولا لم يأت من العدم، ولا من
خيال ستوكر، ولا من لقاءاته، بل أتى في أبعاده الحقيقية من عمق التاريخ. أي
أن ستوكر غاص في تاريخ أوروبا الوسطى خلال القرون السابقة ليعثر على شخصية
تاريخية حقيقية تمكن من استخدامها رمزاً للعديد من المخاوف التي كانت تعصر
الروح الأوروبية في ذلك الوقت. ولسوف يقول ستوكر أيضاً أنه ما كان في
إمكانه أن يعثر على تلك الشخصية إلا في الخرافات والأساطير الشعبية التي
كانت، في جوهرها، تعبّر عن رعب عام. ومن هنا كان رمز مصّ الدماء - ككناية
عن مرض الطاعون الذي كانت تنقله الجرذان وشكل رعباً لأوروبا كلها منذ
العصور الوسطى-، ورمز الثوم والصليب كوقاية وترياق - ويجب أن نذكر هنا أن
الثوم كان منذ العصور الوسطى مستخدماً لإبعاد الجرذان والجراثيم، ولا يزال
مفعوله هذا معروفاً حتى الآن - أما الصليب كترياق فأمر لا يحتاج إلى تفسير،
طالما أن الكنيسة كانت تأتي في تلك العصور لتقول للناس إن كل وباء وكارثة،
يحلان بهم، إنما هما عقاب من الله، سببه ابتعاد الإنسان عن الكنيسة
والإيمان الديني.
>
إذاً على خلفية هذا كله، «أعاد» برام ستوكر «اكتشاف» شخصية
وجدت حقاً في القرن الخامس عشر في منطقة فالاكيا شمالي البلقان... واسم
الشخصية في الحقيقة هو فلاد دراكولا، وكان أميراً عرف كيف يدافع عن منطقة
ترانسلفانيا ضد المولداف المتوحشين كما ضد الأتراك المحتلين. وفلاد دراكولا
هذا، في الحرب التي خاضها ضد أعدائه، لم يكن لطيفاً ولا هادئاً بل كانت
ضروب العقاب التي كان يمارسها على الأسرى الذين يقعون في يديه، من القسوة
والعنف بحيث جاء لقب «دراكولا» أي الشيطان مناسباً له. وانطلاقاً من هنا،
إذا كان فلاد قد اعتبر أول الأمر بطل تحرير وطني، فإنه لاحقاً عاد واعتبر
رمزاً للشر والعنف، ثم غولاً حقيقياً... وراحت الأساطير الشعبية تتثاقل
«مآثره» وإن كانت تغيّر اسمه تبعاً للهجات أصحابها وأسماء الشيطان لديهم،
فهو تارة دراكولا وتارة نوسفراتو وطوراً موريو، ثم ستريفيو فبيكوليتش، لكنه
هو نفسه دائماً، ذلك الوحش الضاري الذي لا يتورع عن مص دماء ضحاياه لكي
يعيش في الليل إذ يخرج من قبره... ولا يمكن قهره إلا بتعريضه إلى النور -
لأنه أمير الظلام - وبدق وتد حاد الطرف في صدره.
>
إذاً، هذه الصورة هي التي استعارها برام ستوكر من الأساطير
الشعبية التي حيكت من حول الأمير فلاد... لكنه، إذ كتب روايته عملاً
غرائبياً مسلياً، ومفعماً بالرموز في الوقت نفسه، آثر أن يحدث العديد من
التجديدات في الشخصية. وهكذا ولدت على يديه إمكانية تحول الغول إلى خفاش،
مضيفاً إلى هذا، الثوم والصليب اللذين استعارهما من أساليب مكافحة الشعوب
الأوروبية الوسطى لداء الطاعون...
>
وإذ اتسمت الأسطورة بكل هذه التجديدات، أصبحت على يدي برام
ستوكر، وعلى رغم كل ما يمكن لنا أن تقوله من حول علاقتها المسبقة بالفكر
النازي، أصبحت واحدة من أروع الكتب المنتمية إلى الأدب الغرائبي. ولقد أصدر
برام ستوكر روايته هذه في عام 1897، لتعرف من فورها نجاحاً شعبياً كبيراً،
وهو أمر دفع المؤلف إلى أن يكرس نفسه منذ ذاك الحين وصاعداً للأدب، ضارباً
الصفح عن أية نشاطات مهنية أخرى له. ومع هذا علينا أن ندرك هنا أن هذا
العمل سيعتبر أكبر ما كتبه وأجمل ما كتبه هذا الكاتب الذي لن يتمكن أبداً
في أي من أعماله التالية من استعادة جمال وصفاء عمله الأول، حتى وإن كان قد
عرف له عملان آخران حقق كل منهما نجاحاً ما على طريقته، الأول هو «جوهرة
النجوم السبع» وتتحدث عن انبعاث وتقمص ملكة فرعونية مصرية قديمة، والثاني
هو «حجر الدودة البيضاء»، ويتحدث عن تمكن دودة عملاقة من البقاء على قيد
الوجود في قبو قصر مسكون.
>
على رغم نجاح أعماله وطبع «دراكولا» مرات عدة خلال حياته،
سيعيش برام ستوكر (المولود في دابلن عام 1847) سنوات صعبة عند نهاية حياته
هو الذي توفي في عام 1912، ذلك أن الأمراض نهشته. وهو حين مات، مات شبه
منسيّ على رغم أن السينما كانت قد بدأت تستولي على روايته الكبرى وتحولها
أفلاماً ناجحة... ومن هنا لم يعد إلى الأذهان إلا لاحقاً في سنوات الأربعين
حيث استشرت النازية وساد التساؤل حول جذورها الفكرية لتكون من بينها أفكار
جمعية «الفجر الذهب» التي كان ستوكر ناشطاً فيها حين كتابة دراكولا.
وبالنسبة إلى ستوكر كان لافتاً على أية حال أن الصراع لديه أخذ دائماً
طابعاً ميتافيزيقياً بين النور والظلام والخير والشر، وهو طابع لا يفوتنا
أبداً أن نلاحظ أن النازية أضفته دائماً على الصراعات التي خاضتها.
alariss@alhayat.com
الحياة اللندنية في
14/12/2012
«السيرك»
لتشارلي شابلن:
الشاشة مرآة الفنان الصادقة
إبراهيم العريس
من البديهي القول ان كل عمل فني، يستحق هذا الاسم، يعبّر أولاً
وأخيراً عن فن مبدعه، وربما أيضاً عن حياة هذا المبدع وعن مزاجه، وعن نظرته
الى عصره في لحظة ابداع العمل نفسها، حتى من دون أن يكون، في الأصل، راغباً
في التعبير عن هذا بوضوح. غير ان ثمة، مع هذا، بين أعمال المبدعين الكبار،
أعمالاً، وأحياناً عملاً واحداً، قد لا تكون هي أكبر أعمالهم وأهمها، لكنها
مع هذا تتمتع بخصوصية استثنائية: وتكمن هذه الخصوصية في أن العمل، بصرف
النظر عن قيمته، يقول الكثير عن مسار صاحبه المهني، فاضحاً أسرار هذا
المسار كاشفاً ما كان «مسكوتاً» عنه أو متضمّناً أو خفيّاً عن قصد أو عن
غير قصد في الأعمال الكبرى. هذا العمل يأتي عادة ليبدعه صاحبه خلال مرحلة
انعطافية من حياته، الفعلية أو المهنية، أو الاثنتين معاً، راغباً من خلاله
أن يرسم محصّلة لعمله ككل، وربما أيضاً أن يختتم مرحلة ليبدأ ما بعدها.
وكأنه يطوي صفحة ما كان يمكنها أن تنطوي حقاً، من دون ذلك العمل.
>
بالنسبة الى فنان السينما الكبير تشارلي شابلن، ربما يصح أن
نقول انه اذا كان، بدوره، وضع خلال مرحلة من حياته عملاً من هذا النوع له
هذا الدور، فإن هذا العمل لن يكون بالأحرى سوى فيلم «السيرك» الذي حققه في
العام 1928، بعدما كان فيلمه السابق «الهجمة على الذهب» (1925) حقق واحداً
من أكبر نجاحاته، المالية والفنية، وفي وقت كانت السينما على وشك أن تنطق
بعدما كانت في خرسها (السينما الصامتة) مملكة جعلت من شارلو ملكاً غير
متوّج لها. اذاً، في تلك الحقبة كثرت أسئلة شابلن عن فنه، وعن موقع سينماه،
وعن مستقبل هذه السينما على ضوء التقنيات الصوتية التي تهدده حقاً. وفي
يقيننا ان شابلن، من دون أن يعلن هذا، وضع جزءاً كبيراً من أسئلته وقلقه في
ذلك الفيلم.
>
ومع هذا يبدو «السيرك» - في ظاهره على الأقل - فيلماً عادياً
ينتمي الى المسار الهزلي/الانساني الذي طبع كل ما كان شابلن حققه قبل
ذلك... ففيه الألاعيب والمواقف المتعاقبة. وفيه الأفكار نفسها والتأرجح بين
الهزل والدراما. وفيه، كما دائماً، شارلو شريداً «حربوقاً» يبحث عن عيشه
وعن مكانته، عن لقمة الخبز كما عن الحب والحنان. يبحث عما يجعله كائناً
بشرياً في مجتمع لا يعطيه أي أمل بأن يصبح انساناً. بل إن شابلن (المخرج
والكاتب) استخدم في هذا الفيلم أجواء ومشاهد بأسرها بدت مستعارة من بعض
شرائطه القصيرة السابقة التي حققها لشركتي «ايسناب» و «متويل». ولكن هل كان
هذا الاستخدام لمواقف قديمة، صدفة هنا؟ أبداً بالتأكيد. فلدى فنان مثل
تشارلي شابلن، ما كان لشيء أن يكون من قبيل الصدفة. خصوصاً انه استغرق ثلاث
سنوات قبل خوض تجربة «السيرك»، ما أعطاه وقتاً كافياً للتفكير في كل شيء.
وهو ما كان في امكانه إلا ان يفكر في كل شيء خلال تلك الحقبة... لأن فنه
ومستقبله وشخصيته ومهرّجه الصعلوك، كانت كلها على المحك. اذاً، على ضوء هذا
التمهيد، سنرى ما الذي يحصل في «السيرك»: في البداية لدينا سارق كان انتهى
لتوّه من نشل محفظة جيب من احد المارة. وهو، اذ يتنبه الى ان الشرطي يكاد
يضبطه، يسارع الى وضع المحفظة في جيب الشريد الصعلوك شارلو الذي كان -
كعادته - يمر صدفة من هناك. واذ يمر الشرطي، يعود اللص النشال الى شارلو
ليحاول أن يستعيد المحفظة من جيبه في غفلة منه. لكن الشرطي ينتبه هذه
المرة، فيأخذ المحفظة من اللص ويعيدها الى... شارلو الذي لم يكن يعرف ان
هذه المحفظة كانت في جيبه. المهم ان صاحب المحفظة الثري يتدخل في تلك
اللحظة معلناً ان المحفظة محفظته. وهنا تبدأ المطاردة الشهيرة بين الصعلوك
ومطارديه. ولا يجد الصعلوك أمامه إلا ان يدخل لاجئاً الى السيرك... حيث كان
العرض قد بدأ... لكنه، كما سنكتشف بسرعة، عرض ممل يدفع مهرجوه الجمهور الى
التثاؤب. وهنا اذ يدخل شارلو راكضاً ويبدأ بالدوران وسط السيرك وهو مرتعب
كالمجنون... يخيّل الى الجمهور ان هذه انما هي فقرة من العرض فيبدأ الضحك
والتصفيق وشارلو يمعن في ركضه دائراً. واذ يرى مدير السيرك الأمور على هذا
النحو، لا يجد مناصاً من أن يتعاقد مع الصعلوك ليصبح جزءاً أساسياً من
العرض. لكن شارلو يعجز عن تأدية العرض المطلوب فيطرده المدير. وهنا تحدث
«المعجزة» التالية: هناك اضراب للعمال في السيرك... وهذا الإضراب سرعان ما
يحول شارلو الى عامل اكسسوار. وفيما هو يحمل أدوات الحاوي لمساعدته على
تأدية عرضه يتدحرج في شكل مضحك، ما يثير من جديد عاصفة من التصفيق والاعجاب
لدى الجمهور وقد أيقظه شارلو من سباته من جديد. وهكذا، يصبح شارلو من دون
أن يدري، ومن دون أن يخطط أصلاً، نجم سيرك من الطراز الأول.
>
هل يمكن هذه الحكاية، اذ نتخيلها بصرياً، ولكن أيضاً فكرياً
ضمن السياق المعهود لسينما تشارلي شابلن، هل يمكنها أن تقول لنا شيئاً؟ في
الحقيقة ان هذا السؤال لو طرح في ذلك الزمن على الشخص المعني، أي تشارلي
شابلن، لما كان من شأنه أن يحير جواباً. وليس فقط لأنه لم يكن من عادته أن
يفسر أعماله في ذلك الحين. وهنا لا بأس في أن نفتح هلالين لنذكر ما يقوله
الباحث الفرنسي جاك رانسيار، وتحديداً في مجال حديثه عن هذا الفيلم لتشارلي
شابلن، منطلقاً مما قاله هيغل، الفيلسوف الألماني، حول الفن: «ان يحقق
المرء شيئاً آخر غير ما كان ينوي تحقيقه، شيئاً آخر غير ما تنتجه ارادته
المباشرة، انما هو الجوهر المستور للفن». هنا، اذاً، من دون أن نتوقف
طويلاً عند التساؤل عما اذا كان شابلن واعياً أو غير واع للنتيجة التي أسفر
عنها «السيرك»، يمكننا أن نقول ان هذا الفيلم انما يختصر، في شكل أو في
آخر، تصور شابلن لمسيرته الذاتية ودخوله عالم الفنان: أي كل تلك الصدف غير
الارادية التي جعلت منه نجماً يعجب الجمهور وينال تصفيقاً، من دون أن يكون
قد سعى الى ذلك، أو حتى خيّل اليه ولو للحظة أنه قادر عليه. والحقيقة أننا
اذا أخذنا هذا البعد في الاعتبار، ثم قرأنا على ضوئه مذكرات شابلن، ثم عدنا
لمشاهدة أفلامه، سنجدنا أمام صورة متغيرة تماماً: لا نعود هنا أمام صورة
الفنان الذي خطط واشتغل بكل ارادة وصلابة، حتى صار ما هو عليه، بل أمام
انسان، كان في الأصل نتاج مجتمع البؤس والاستبعاد، لكن الصدفة حولته الى
شيء آخر تماماً. وفي يقيننا ان شابلن، حين كتب «السيرك» وحققه ومثله
وأنتجه، لم يقل من خلاله أي شيء آخر: رسم صورة ما، لسيرته الحياتية،
ولسيرته الفنية، هي انعكاس في العمق لما كان يؤمن به، وإن كان أثر دائماً
عن غروشو ماركس: ازدواجية عقدتي العظمة والدونية في شخصيته، النجم الآتي من
اللامكان، الناجح الذي لم يسع الى ذلك.
>
حين حقق تشارلي شابلن (1889 - 1977) فيلم «السيرك» كان بلغ
ذروة شهرته العالمية ونجاحه الفني والمالي... وكانت أسئلته تجاه نفسه وتجاه
فنه قد أضحت كثيرة ومقلقة. ومهما كان من أمر مكانته الفنية، فإنه لن يحقق
بعد «السيرك» سوى سبعة أفلام أخيرة - طوال ما يقرب من نصف قرن -، معظمها
يعتبر من أعظم أفلامه ومنها: «اضواء المدينة» (1931) و «الأزمنة الحديثة»
(1936) و «الديكتاتور» (1940) و «السيد فيردو» (1947) و «أضواء المسرح»
(1952). أما قبل ذلك، فإنه كان حقق عشرات الشرائط القصيرة والمتوسطة
والطويلة، وذلك من بداياته في العام 1914 في أفلام سرعان ما وطّدت مكانته
لدى الجمهور العريض، ولكن أيضاً لدى النخبة. والأغرب من هذا، لدى
السرياليين وكبار الشعراء الذين كتبوا عنه واعتبروه واحداً من كبار مبدعي
القرن العشرين.
alariss@alhayat.com
الحياة اللندنية في
14/12/2012 |