تيم روث من أبرز نجوم السينما الأميركية والأوروبية حالياً، وعلى رغم
كونه قادماً من المسرح الكلاسيكي البريطاني، فهو لفت انتباه أكبر مخرجي
هوليوود وأدى أدواراً قوية في أفلام دخلت سجل تاريخ الفن السابع في القرن
العشرين، مثل «ريزرفوار دوغز» للسينمائي كوينتين تارانتينو، ثم «بالب فيكشن»
للمخرج نفسه، والذي حقق أرقاماً قياسية في شباك التذاكر على المستوى
العالمي، وحاز جائزة السعفة الذهبية في مهرجان «كان» للعام 1994، و «كوكب
القردة» من إخراج تيم بورتون، و «الكل يقول أحبك» لوودي آلن وأفلام أخرى
ناجحة، غير قيامه بخوض تجربة الإخراج عبر فيلم عنوانه «منطقة الحرب»، تناول
فيه شراسة أب تجاه زوجته وأولاده، خصوصاً بناته.
وفي فيلم «مكسورة» البريطاني، النازل قريباً إلى صالات السينما
العالمية، يؤدي روث شخصية رجل يقيم في ضاحية لندنية فقيرة وتتعرض ابنته
المراهقة لمعاملة قاسية من جيرانها، وإثر أحداث درامية معينة تمس الابنة،
ينقلب هذا الرجل الهادئ إلى مدافع شرس عن عائلته، معرِّضاً حياته للخطر في
سبيلها.
حضر تيم روث إلى باريس من أجل أن يروج لفيلم «مكسورة»، فالتقته
«الحياة» وحاورته:
·
ما الذي جذبك في دور هذا الأب
الذي يثور أمام الظلم الذي تتعرض له ابنته؟
- لقد تعجبت حينما تسلمت سيناريو الفيلم وقرأته، مكتشفاً أن الدور
الذي كان المخرج روفوس نوريس قد اختارني من أجله هو الأب وليس الجار
الشرير، ذلك أنني اعتدت عبر الأعوام تمثيل الشخصيات البغيضة التي تلعب
بالأسلحة وتقتل، مثلما يلعب الصغار بالمسدسات المزيفة. وقد أعجبني دور الأب
بطبيعة الحال، لأنه من النوع المثير للاهتمام بالنسبة إلى أيّ ممثل، ذلك
أنه يتطلب أداء الهدوء المطلق وبرودة الأعصاب، بل نوعاً من الجبن طوال
النصف الأول من الفيلم، ثم التحول فجأة إلى أسد جبار لا يتردد في مواجهة
عدوه بكل الوسائل، ويبدي استعداده التام للقتل إذا تطلب الأمر ذلك. فهو لا
يقدر على الاستمرار في تحمل رؤية ابنته تعيسة ومعرضة في شكل يومي إلى سوء
معاملة الجار كلما خرجت من البيت. وهناك المثل الذي يقول «احذر الماء
الساكن»، وأنا أرى أن هذا القول ينطبق مئة في المئة على شخصية الأب في فيلم
«مكسورة».
وعندما وجهت السؤال إلى المخرج في شأن السبب الذي دفع به إلى تقديم
هذا الدور لي بدلاً من شخصية الجار مثلاً، ردَّ علي بمنتهى البساطة،
قائلاً: «لأنك ممثل، وبالتالي تقدر على تمثيل كل الأدوار». لم أسمع في
حياتي جملة ناسبتني أكثر من هذه، وإثرها وافقت على المشاركة في الفيلم من
دون أي جدال، فنحن أهلَ التمثيل مثلُ الأطفال نلعب، وأنا أعشق مهنتي من أجل
ذلك أساساً.
·
ما هو تفسيرك في شأن توليك أدوار
الشر في أكثر الأحيان؟
- إنني عاجز عن تقديم أي تفسير في خصوص هذا الموضوع، والأجدر توجيه
السؤال إلى المخرجين الذين يختارونني من أجل هذا النوع من الشخصيات. إن ما
سمعته من فم بعض الأشخاص هو أن تعبيرات وجهي وملامحي توحي بالشر والخبث
أكثر من العكس، لذا يتم استخدامي على هذا النحو. لكن رأيي الشخصي يختلف عن
ذلك، فأنا مقتنع بأن أدائي الجيد لشخصية شريرة مرة أو مرتين في الأساس،
أقنع أهل المهنة بأنني الشرير المثالي، وبالتالي صاروا يفكرون فيَّ كلما
احتاجوا إلى مجرم أمام الكاميرا.
·
هل تعجبك هذه الأدوار؟
- إذا كانت حلوة وقوية نعم، فالمهم هو أن يفيد الدور في جعل حبكة
الفيلم أكثر إثارة بالنسبة الى المتفرج. أنا أفتش أولاً عن نوعية العمل
الذي أشارك فيه، أما عن حكاية تمثيل الشر أو الخير، فهي ثانوية في نهاية
الأمر.
البطل المطلق
·
أنت من الممثلين البريطانيين
القادمين من مسرح شكسبير الكلاسيكي، فكيف تتأقلم مع الأوضاع السينمائية
الهوليوودية الحديثة، خصوصاً المؤثرات التقنية التي تلعب دورها بالدرجة
نفسها لأهمية الممثلين فوق الشاشة؟
- صحيح أنني مولع بالفن الكلاسيكي الدرامي، وإلا لما احترفت التمثيل،
وأهم ما يحمسني في مهنتي هو إمكانية التنويع في الأدوار، كما ذكرت للتو،
وأيضاً في التجارب التي أعيشها مع المخرجين وزملائي من الممثلين. وأذكر على
سبيل المثال، عملي في مواجهة النجم الهوليوودي إدوارد نورتون في «هالك
العجيب»، فقد اكتشفت من خلال عملي في هذا الفيلم الأسلوب الطريف الذي يتميز
به نورتون، في إدارة مخرج الفيلم بدلاً من العكس، وذلك لأن نورتون كان
البطل المطلق للفيلم، وبالتالي لم يقبل أي تعليمات خارجية، فهو مثَّل دوره
على طريقته من دون أن يبالي بما كان يفكر فيه المخرج. وكان على هذا الأخير
أن يهتم بحركة الكاميرا والمؤثرات وسائر أبطال الفيلم -وأنا منهم- وحسب.
ورغم هذه التصرفات المنافية لكل ما تعلمته في مشواري الفني من قبل، وجدت
متعة كبيرة في العمل مع نورتون، وأيضاً مع المخرج لوي لوتيرييه، الذي خضع
تماماً لأوامر بطله.
إنها تجربة مثيرة عشتها، ولا شك في أنني سأستخدمها في شكل أو في آخر
من خلال كتابة سيناريو أو نص مسرحي في يوم ما.
·
وهل تمثل الشر فوق المسرح أيضاً،
أم أنه تخصص سينمائي؟
- إنه سينمائي أولاً وأخيراً، فالمسرح يخضع لقواعد ثانية، بما أن
ملامح الممثل لا تظهر بالنسبة الى الجمهور بالوضوح نفسه الناتج عن
الكاميرا. أنا مثلت كل شيء فوق المسرح، الأب الحنون، الفارس الشجاع، رجل
يعمل في فريق إطفاء، ملك... وخلاف ذلك من أدوار متنوعة.
·
أنت أديت دور البطولة في فيلم
«ألعاب مرحة» المخيف والجريء الذي أخرجه النمسوي مايكل هانيكي واعترضت عليه
الرقابة الأميركية. فهل تعتبر نفسك أخطأت بقبولك هذا الدور؟
- لست نادماً بأي شكل من الأشكال على قبولي المشاركة في فيلم «ألعاب
مرحة»، فهو فيلم معترف به وبقوته وعبقريته على الصعيد العالمي، وشارك في
أكبر المناسبات السينمائية الدولية. أما عن الرقابة الأميركية، فهي متناقضة
مع نفسها إلى أبعد حد، والفيلم لا يتضمن لقطة واحدة جريئة أكثر من اللازم.
أنا أعيب على السينما الأميركية الحالية ميلَها الى العنصر التجاري البحت
على حساب كل ما هو فني أصيل. وهذا ما يفرقها عن السينما الأوروبية عامة،
سواء كانت فرنسية أو إنكليزية أو إيطالية. ولا أرى الرقابة الأميركية تحتج
على العنف الذي يسود العدد الأكبر من الأفلام الهوليوودية في الزمن الحاضر،
فما الذي دفع بها فجأة إلى الاعتراض على فيلم نمسوي؟ ربما هي خافت من
المنافسة الخارجية تجاه السينما المحلية.
·
ما رأيك في الممثلة الناشئة
إيلويز لورانس، التي أدت دور البطولة النسائية أمامك في فيلم «مكسورة»؟
- إنها هائلة، ولذلك تم اختيارها من بين حوالى 500 ممثلة شابة مرشحة
للدور. لقد تعجبت أمام قدرتها على استيعاب تفاصيل شخصية الفتاة التي لا بد
لها من أن تقاوم العنف الخارجي الذي تتعرض له في شكل يومي، ثم أيضاً كيفية
جلبها المزيد من الأفكار والاقتراحات الخاصة بالحالة النفسية التي تمر بها
هذه الفتاة، نظراً الى الظروف الصعبة التي تحيط بها. واكتشفت في ما بعد
أنها تغني، وأن صوتها عذب وجذاب، فهي فنانة متكاملة رغم انها لم تتجاوز سن
الخامسة عشرة.
·
ما هو مشروعك الجديد بعد
«مكسورة»؟
- إنني عائد الى المسرح، مثلما أفعل بين كل فيلم وآخر تقريباً، وسأقف
فوق الخشبة في لندن ثم في نيويورك طوال الموسم الشتوي المقبل.
·
ماذا تفعل بالأموال الطائلة التي
تتقاضاها لقاء عملك في هوليوود؟
- أستفيد من الأشياء الجميلة التي تحيط بي، مثل قطع الأثاث واللوحات
والتماثيل والأحجار. فأنا مثلاً اقتنيت أخيراً قصراً في إنكلترا يعود إلى
القرن الرابع عشر. ولولا المبالغ الطائلة التي أكسبها بفضل التمثيل
السينمائي في هوليوود بالتحديد، لما استطعت أبداً تحويل هوايتي هذه إلى
حقيقة. أنا أعشق جمع الأشياء القيمة، وهي مكلفة جداً.
·
حدثنا عن تجربة عملك تحت إدارة
السينمائي وودي آلن في فيلم «الكل يقول أحبك».
- اكتشفت من خلال عملي في هذا الفيلم الأسلوب الطريف الذي يتميز به
وودي آلن في إدارة ممثليه، بمعنى أنه يترك لهم مطلق الحرية في الارتجال
أمام الكاميرا ولا يقيِّدهم بسيناريو محدد مكتوب أساساً في شكل دقيق. وأنا
عادة أميل إلى متابعة النص المكتوب وأحب أن يديرني المخرج بطريقة جيدة
وشديدة، وإلا شعرت بأن الفوضى تعمّ «بلاتوه» التصوير. ورغم هذه الأشياء،
وجدت متعة كبيرة في العمل مع مخرج يتصرف بشكل معاكس كلياً لما اعتدته
وأرتاح إليه، فقد تعلمت منه الكثير، واكتشفت في نفسي إمكانات كنت أجهلها
تماماً، خصوصاً من ناحية القدرة على الارتجال.
الحياة اللندنية في
20/07/2012
«سيارات مقدسة» لليو كاراكس:
مسيو أوسكار يُبهر ويُربك متنقلاً بين أدواره
إبراهيم العريس
خلال بعض مشاهد فيلم «كوزموبوليس» لدافيد كروننبرغ، والمأخوذ عن رواية
بالاسم نفسه للكاتب الأميركي دون ديليللو، يطرح بطل الفيلم سؤالاً يبدو انه
يلح عليه كالوسواس: «ما الذي تفعله سيارات الليموزين البيضاء الضخمة في
الليل؟»... في شكل عام، يبدو السؤال على هذا النحو عادياً، وطرحه أقرب الى
النزوة... ناهيك بأنّ ليس في حوارات الفيلم الأخرى أية إجابة واضحة عنه.
هذه الإجابة – ويا لغرابة الصدف!! - تأتي عند نهاية فيلم آخر عرض بدوره في
الدورة الأخيرة من مهرجان «كان» السينمائي، وبدوره – كما حال «كوزموبوليس»
– لم يقنع لجنة تحكيم المهرجان بمنحه اية جائزة، مع انه، وأيضاً كما حال
فيلم كروننبرغ كان يستحق جائزة وربما اكثر.
الفيلم الذي نتحدث عنه هو «سيارات مقدسة» (او بالإنكليزية «هولي
موتورز») للفرنسي ليو كاراكس. ففي آخر هذا الفيلم وبعدما تركن سيارة بطله
البيضاء الضخمة الى جانب اخوات كثيرات لها، يقوم حوار طريف بين السيارات
مرفقاً بإضاءة مصابيحها على ايقاع الكلام. طبعاً لن يهمنا هنا فحوى الحوار.
ما يهمنا هو تلك الصدفة المدهـــشة التي جعلت فيلمين، احدهما اميركي
والثاني فرنسي، يعطيان جزءاً من البطولة لليموزين البيضاء الضخمة ذاتها،
بيد ان «التشابه» بين الفيلمين لا يتوقف هنا. ففي الحالين ثمة سيارة تتجول
براكبها خلال يوم واحد... وثمة دور أساسي بالتالي للسيارة او اشارات اليها
بحيث تصبح اكثر كثيراً من مجرد وسيلة نقل. غير ان التشابه بين الفيلمين
يتوقف هنا وكذلك لعبة التكامل بين سؤال الفيلم الأول وإجابة الفيلم الثاني.
فرادة شاعرية
«سيارات مقدسة» لا يشبه في حقيقته اي فيلم آخر، حتى وإن كان ينتمي
بمعنى من المعاني الى سينما جان لوك غودار الشاعرية. اما اذا شئنا حقاً ان
نقارب بينه وبين منتج ابداعي سينمائي آخر، فإن هذا المنتج لن يكون سوى
المتن السينمائي لمخرجه الذي يعتبر حالة فريدة من نوعها في السينما
الفرنسية، وربما في السينما في شكل عام، من دون ان نعتبر هذا حكم قيمة...
بل مجرد تقرير امر واقع. فكاراكس الذي يعتبر الفتى المشاكس في السينما
الفرنسية منذ سنوات طويلة، والذي غاب عن الشاشات طوال السنوات الماضية –
باستثناء تحقيق فيلم قصير ضمن اطار فيلم جماعي عرض في «كان» قبل سنوات
بعنوان «طوكيو» -، أراد من فيلمه هذا ان يكون نوعاً من «الخلاصة» لسينماه
ككل... وأحياناً بالمعنى الحرفي للكلمة
ومن هنا يمكن النظر الى «سيارات مقدسة» على انه سيرة ذاتية لمخرج...
ناهيك بأنه واحد من الأفلام التي تجعل السينما موضوعها الأساس وليس فقط
انطلاقاً من ارتباط الفيلم بمخرجه. السينما وربما غيرها من الفنون ايضاً:
المسرح والموسيقى والرقص... ومع هذا يبقى البعد الذاتي في الفيلم اساسه.
ولعل هذا يبرز منذ البداية من خلال عنصرين اولين: كون الشخصية المحورية في
الفيلم، مسيو اوسكار، تحمل الإسم العلم الحقيقي لكاراكس نفسه... ثم كون من
يقوم بالدور هو الممثل ديني لافان، يعتبر ومنذ افلام كاراكس الأولى، اناه
/الآخر المعبر عنه وعن هواجسه. ولئن كان كاراكس حمّل بطله هذا في معظم
افلامه السابقة اسم اليكس، فإنه هنا يعطيه مباشرة اسمه. غير ان هذا ليس كل
شيء كما سنرى مباشرة.
قلنا اعلاه ان ديني لافان يلعب دوره في الفيلم. وهذا القول يحتاج
فوراً الى تعديل شديد الأهمية: اذا كان لافان يلعب دور مسيو اوسكار، فإننا
سنرى مسيو اوسكار يلعب طوال ساعتي الفيلم – تقريباً – ما يقرب من عشرة
ادوار... وذلك خلال اليوم الوحيد الذي يستغرقه سياق الفيلم. فالحال ان ما
لدينا هنا هو ذلك المسيو اوسكار وقد خرج من بيته صباحاً ليستقل سيارته التي
تقودها سائقته العملاقة (اديث سكوب التي كانت اشتهرت بالتمثيل في افلام
المخرج جورج فرانجو، ما يجعل حضورها هنا نوعاً من التحية لهذا المخرج
الفرنسي الذي يبدو اليوم منسياً بعض الشيء)... وخلال رحلة اليوم الواحد
سيتحول هذا السيد، أمام اعيننا وانطلاقاً من سيارته، الى الكثير من
الشخصيات الأخرى، وكأننا امام ممثل مسرحي – او سينمائي – ينتقل من دور الى
دور.
وهذا التحول لا يتم بشكل سينمائي غامض بفعل توليف ما او خدع سينمائية،
بل بشكل طبيعي من طريق الأزياء والماكياج والأكسسوارات... وكل هذا التبدل
يحدث داخل الليموزين التي تبدو هنا عن قصد اشبه بقمرة الممثل خلف كواليس
المسرح. ومهما يكن من أمر هنا، فإن حضور المسرح في الفيلم متضافراً مع
الوجود السينمائي، يبدو واضحاً منذ اللقطة الأولى التي ترينا كاراكس نفسه
يفيق من نومه ليكتشف من ثقب في جدار غرفته قاعة سينمائية – او مسرحية –
وجمهورها المشرئب بأعناقه يتفرج. ان هذا المشهد الجدير بفيلم سوريالي
للراحل لويس بونيال، يخدم هنا مدخلاً لما سيلي من رحلة مسيو اوسكار في
ادواره المتعددة. ولكن ما هي هذه الأدوار؟ وما الذي تعنيه في سياق الفيلم؟
تحية لتاريخ السينما
في فيلم مثل «سيارات مقدسة» لا يكون من السهل عادة الإتيان بجواب
واضح. غير ان ما يمكن قوله ببساطة هو ان الأدوار المتعددة التي يلعبها
اوسكار، مأخوذة – على شكل تحية احياناً وعلى شكل حنين في احيان اخرى، ثم
غالباً على شكل «زيارة» لعدد من الأنواع السينمائية – من تاريخ السينما في
شكل عام، وسينما كاراكس في شكل خاص... ولعل المشهد الأكثر تعبيراً عن هذا
هو ذاك الذي يلتقي فيه اوسكار (وقد تقمص هذه المرة شخصية اليكس بطل فيلم
سابق لكاراكس هو «عاشقا البون نوف») ليلتقي بالمغنية كايل مينوغ – بديلة
بشكل ما لجولييت بينوش بطلة ذلك الفيلم - ... ويدخلا معاً مبنى «الساماريتان»
الباريسي الذي تدور احداث الفيلم السابق فيه ومن حوله. في الماضي كان
المبنى المطل على «البون نوف» مزدهراً، اما اليوم فإنه مجرد أطلال.
ووسط هذه الأطلال تغني كايل واحدة من اجمل اغنياتها في استعادة يائسة
للحب الخائب في ذلك الفيلم القديم... والحال ان «اليكس» الفيلم القديم هذا،
هو واحد فقط من الأدوار التي يلعبها اوسكار بين فقرة وأخرى تقطع حوارات
بينه وبين السائقة داخل الليموزين فيما هو يتزيا ويتبرج للقيام بالأدوار
التالية. وهذه الأدوار منها تباعاً: مدير مصرف، غجرية عجوز تتسول، راقص في
فرقة طليعية، عازف اكورديون يقود مجموعة مدهشة من العازفين داخل كاتدرائية
فسيحة، رب عائلة يحاول اصلاح ابنته المراهقة، رجل مافيا، ممثل مسرحيّ...
ولعل ما يجدر بنا العودة اليه هنا هو ان بعض هذه الأدوار انما هي
استعادة إما لشخصيات كان ديني لافان لعبها في افلام سابقة لكاراكس كان هو
بطلها الرئيس، (ولكن في أداء جعل منه دائماً ذلك الأنا/الآخر، الذي لم
يتوقف في الماضي ليو كاراكس عن جعله محور افلامه منذ تعرفه إلى لافان نفسه
عند بداياته اوائل ثمانينات القرن العشرين) وإما لشخصيات سبق ان طالعتنا في
انواع سينمائية اخرى تنتمي الى تاريخ الفن السابع. ونعرف طبعاً من خلال
متابعتنا لمسيرة كاراكس/لافان، انهما اجتمعا في كل الأفلام التي حققها
كاراكس حتى الآن في استثناء فيلم واحد هو «لولا إكس» – الذي يعتبر على اية
حال أضعف افلام هذا المخرج وأكثرها ابتعاداً من خطه السينمائي، الجمالي
العام -. ويقيناً ان هذه المزاوجة المهنية والموضوعية بين المخرج وممثله هي
التي تضفي على الفيلم طابعه «الأنطولوجي» فيبدو، كما اشرنا اول هذا الكلام،
اشبه بسيرة ذاتية/سينمائية مزدوجة... ولا شك في ان هذا البعد واحد من
العناصر الرئيسة في فيلم قد يكفي سرد هذا للتعبير عن «غرابته» وفرادته.
غرابة مقلقة
والحال ان هذه الغرابة تعطي الحق لكثر ممن شاهدوا الفيلم فاعتبروه
«مرتبكاً غامضاً» من الصعب عليه ان يوصل الى متفرجيه «رسالة ما». وآية ذلك
ان فيلماً كهذا، هو في نهاية الأمر سيرة سينمائية لمخرجه، وبالتحديد سيرة
تعتمد اللغة البصرية الإيحائية من دون تفسير ادبي يشتغل على اللغة، سيبقي
خارجه كثراً من الذين لا يعرفون سينما ليو كاراكس... هؤلاء قد يتوخّون
«فهم» ما يدور أمامهم على الشاشة فيضيّعون في المحاولة لذائذ الفيلم
البصرية – وهي من دون حدود، لأننا هنا امام واحد من تلك الأفلام «البصرية»
النادرة في سينما اليوم - او سيكتفون بالمشاهدة وتتبع تنقلات مسيو اوسكار
بين ادواره فينغلق عليهم عالم الفيلم الحقيقي، العالم المرتبط بسينما لم
تكفّ منذ ما يقرب من ثلاثة عقود عن طرح اسئلة الحب والخيبة والجنون، اسئلة
السينما و«التمثيل» ولعبة الظواهر – المرتبطة اصلاً بذلك التمثيل – على
متفرجين لا يبدون عادة كبير اكتراث بهذا. انطلاقاً من هذا كله يبدو الفيلم
محيّراً في كيفية تلقيه...
ولعل هذا ما أبعد عنه نعيم لجنة التحكيم في «كان» ليؤكد مرة اخرى
ابتعاد هذا المخرج الطموح والجريء عن الدروب الممهدة ما يفسر قلة انتاجه،
وغياباته المتكررة عن الشاشة، غيابات لا تتوازى مع حضور اسمه منذ عقود
بوصفه واحداً من الصانعين الكبار للسينما الشاعرية في فرنسا... وأوروبا في
شكل عام.
ليو كاراكس: 5 أفلام من الفتى المشاكس في 30 عاماً
من المستحيل لمن يرى ليو كاراكس ان يخمّن انه تجاوز الخمسين من عمره.
فهذا المخرج الذي يعرف بالإبن المشاكس للسينما الفرنسية تبدو عليه ملامح
شباب دائم، وذلك على رغم مسحة الحزن التي تملأ عينيه ولا تستطيع ابتسامته
الطيّعة ان تبددها إلا حين يضع نظارتيه الغامقتين الشهيرتين. مهما يكن من
أمر، فإن حضور ليو كاراس (واسمه الأصلي الكساندر أوسكار ديبون) في السينما
الفرنسية، يتجاوز ومن بعيد حجم انتاجه السينمائي الذي لم يزد طوال اكثر من
ثلاثين سنة عن خمسة افلام طويلة وبضع شرائط قصيرة.
غير ان اللافت في حالته هو ان كلّ فيلم من افلامه يشكّل حالة خاصة
ويثير سجالاً وليس دائماً من موقع الإعجاب. ومع هذا لبعض هذه الأفلام
معجبون من دون قيد او شرط، ومنهم من هم بين كبار السينمائيين والنقاد من
الذين يرون في «جنون» سينما كاراس «عودة الى جوهر الفن وحرية الإبداع»...
ومن هنا تعتبر ثلاثة على الأقل من أفلامه علامات في التاريخ المعاصر
للسينما الحرة الأوروبية («صبيّ يلتقي فتاة»- 1984، «دم فاسد»– 1986 و
«عاشقا البون نوف»-1991).
وعلى اية حال، اذ نذكر هذه الأفلام، فإننا كمن نذكر معظم فيلموغرافيا
هذا المخرج الذي ولد عام 1960 وبدأ حياته المهنية كاتباً وناقداً ذا اسلوب
شاعري لا ينكر انه سيكون اسلوبه نفسه في سينماه. ولئن حرص ليو على ان يطلق
على بعض افلامه – ولا سيما فيلمه الأخير «هولي موتورز» – عناوين باللغة
الإنكليزية على رغم فرنسية الأفلام، فإن هذا يتلاءم مع ازدواجية انتمائه،
فهو فرنسي من ناحية الأب وأميركي من ناحية الأم، وحاز بالتالي ثقافة مزدوجة
منذ صبى اولع فيه بموسيقى الروك التي تحضر بوفرة في أفلامه. وبقي ان نذكر
اخيراً ان كاراكس تحوّل الى ما يشبه الأسطورة من خلال الصعوبات الخرافية
التي رافقت تحقيقه فيلمه الأشهر «عاشقا البون نوف»، والذي اضطر من اجله الى
بناء ديكور للجسر الباريسي الشهير (بون نوف) ومخازن الساماريتان كلفت
ملايين الفرنكات في فيلم افلس منتجيه وأوقف مخرجه عن العمل سنوات.
الحياة اللندنية في
20/07/2012
«تهريب الذهب» لفان غوليك:
مغامرات القاضي دي في الصين
الكاتب: ابراهيم العريس
من أفلام المغامرات البوليسية الشيقة التي عرضت خلال الموسم السينمائي
الأخير فيلم نال نجاحاً غير متوقع تدور احداثه في الصين القديمة ويبدو كل
ما فيه صينياً الى درجة لا تصدق. ولا سيما موضوعه والشخصية الأساسية فيه،
شخصية المحقق دي. لقد بلغ الإيهام بالحقيقة «الصينية» في هذا الفيلم الى حد
ان احداً تقريباً «لم يتنبه» الى ان الفيلم مأخوذ عن رواية لكاتب هولندي.
وأن هذا الكاتب هو الذي اخترع شخصية المحقق الذي لا وجود له، لا في الصين
ولا في الأدب الصيني اصلاً (على رغم ادعاء الكاتب دائماً أنه انما استقى
الشخصية من قاض حقيقي وجد في الصين القديمة يوماً!). وهنا نطل على هذا
الكاتب وعلى واحدة من رواياته.
> تخيّلوا تحقيقات بوليسية في حاضرة عربية خلال القرن العاشر أو الحادي
عشر، يقوم بها قاضٍ شاب، من نوع لم تلحظ وجوده نصوص مثل «مقامات الهمذاني»
أو « مقامات الحريري»، لكنه كان موجوداً في الحضارة العربية في ذلك الحين،
وكان، اضافة الى إلمامه العميق بالفقه والشريعة والقانون، ضالعاً في شتى
العلوم والمعارف. وتخيلوا مثل هذا القاضي يكلف من السلطات بالكشف عن جرائم
وما شابهها، مستخدماً الاستنباط العلمي والاستقراء العقلاني. ثم تخيلوا
كاتباً حديثاً يطّلع، بصدفة من الصدف على نصوص تحكي تفاصيل تلك التحقيقات،
ويحوّلها الى روايات معاصرة لنا. لو كان مثل هذا الأمر موجوداً، ولو وجد
الكاتب المعاصر الذي يتولّى التعريف به على شكل روايات أو على شكل دراسات،
كان من المرجح أن يكون هذا الكاتب، أوروبياً مستشرقاً. اذ لا ننسينّ هنا،
أن جزءاً كبيراً من نصوص الفكر العقلاني العربي المنتمي الى تلك الأزمنة،
كان للعلماء المستشرقين الفضل الأول في الكشف عنه، سواء أكان من ابداعات
ابن رشد أو ابن خلدون أو حتى القاضي الجرجاني. ذلك أن ما هو عقلاني في
فكرنا العربي، جرى في معظم الأحيان تجاهله أو طمسه ليفسح في المجال دائماً
لطغيان تراث الأوراق الصفر المعادي لكل منطق وعقل.
> طبعاً، لا يمكننا أن نقول عن نتاجات الحضارة الصينية أنها قد أصابها من
الطمس والإغفال ما أصاب نتاج حضارتنا التي كانت زاهرة ذات يوم. ومع هذا
احتاج الأمر الى ظهور مستشرق هولندي اهتم بجزء معيّن من التراث الصيني،
ليكتشف في داخله كنوزاً سيكون هو أول من يعرّف العالم الخارجي بها... حيث
نعرف أن العالم الداخلي - الصيني - كان من دون حاجة الى تلك الوساطة كي
يطلع على ابداعات أبنائه الأقدمين، عقلانية كانت أو غير عقلانية. وهذا فارق
أساسي بين ما كان من نصيب الحضارة الصينية، ومن نصيب الحضارة العربية.
المهم هنا أن موضوع الحديث هو، وكما ألمحنا أول هذا الكلام، قاضي تحقيق
صيني شاب، وجد وعاش فعلاً أيام سلالة آل تانغ الحاكمة في الصين، ومات في
حوالى العام 700 ميلادي. هذا القاضي يدعى دي. أما الكاتب الهولندي الذي
اكتشفه، فكان الديبلوماسي روبرت فان غوليك، الذي عرف بكونه كاتب رواية
بوليسية أكثر بكثير مما عرف بكونه ديبلوماسياً أو حتى باحثاً في الحضارة
الصينية. ذلك أن خزان الأدب البوليس الأوروبي يحفظ لمؤلفات فان غوليك في
هذا المجال كتباً كثيرة، معظمها «يقوم ببطولتها» القاضي دي. هذه المؤلفات
تعتبر اليوم روايات بوليسية خالصة، لكن فان غوليك أصر دائماً، كما قلنا،
على أنها - في الأصل - حكايات حقيقية استخلصها هو من المدونات القديمة، ثم
نسب أحداثها والتفكير فيها وحل ألغازها الى ذلك القاضي الذي كشفت له مدونات
سلالة آل تانغ وجوده، ليصبح على يديه بطلاً معاصراً، شكّاكاً ديكارتي
النزعة (نسبة الى ديكارت) هولمزي الأسلوب (نسبة الى شرلوك هولمز) لوبيني
الديناميكية (نسبية الى ارسين لوبين). هي اذاً روايات بوليسية، في نهاية
الأمر، في المعنى المهني للكلمة، ولكن من الجليّ لمن يقرأ مغامرات القاضي
دي (ومنها طبعاً الفيلم الذي عرض أخيراً)، أنه سيجد نفسه بسرعة، ليس فقط
أمام ألغاز بوليسية وجرائم من شتى الأنواع، بل خصوصاً أمام صورة دقيقة
وممتعة للحياة اليومية في الصين أيام تلك الامبراطورية المزدهرة.
> من هنا تبدو المتعة في روايات فان غوليك مضاعفة: متعة التسلل الى داخل
الجرائم وحل ألغازها عبر لغة منطق وعقل قد تبدو للوهلة الأولى ذات علاقة
بأزماننا هذه أكثر مما بأزمان سلالة آل تانغ، ومتعة التسلل الى الحياة
اليومية في عالم تميز دائماً بسحر غير خفي. ولعل الرواية الأشهر بين روايات
فان غوليك هذه، هي تلك التي صدرت للمرة الأولى عام 1965، يوم كان الكاتب
الديبلوماسي في الخامسة والخمسين: «تهريب الذهب تحت حكم آل تانغ». لم تكن
هذه، الرواية الأولى، في السلسلة الطويلة التي يقوم القاضي دي ببطولتها،
لكنها كانت الأكثر لفتاً للنظر، بل الرواية التي اذ قرئت على نطاق واسع،
دفعت ملايين القراء الى الإقبال على بقية الروايات، السابقة ثم اللاحقة بعد
ذلك. وتتمحور أحداث «تهريب الذهب...» من حول الحقبة التي نقل فيها القاضي
الشاب دي الى منطقة نائية تقع عند الحدود الصينية - الكورية، بل من الناحية
الكورية من الحدود، علماً أن الصين كانت احتلت كوريا لتوّها. أما القضية
الأولى التي عهد بها الى دي، فكانت قضية مقتل القاضي الذي كان يشغل الوظيفة
نفسها قبله. وطبعاً يمكننا أن نفهم، منذ البداية، أن دي سينجز مهمته،
معلناً استحقاقه المنصب، ولكن بعد سلسلة من اللقاءات الغريبة والخبطات
المسرحية، والهمسات في الزوايا، وانكشاف أغرب العلاقات، في مزيج بين سلطات
ادارية فاسدة، وعصابات الإجرام والتهريب، التي لن يخفى عن القارئ منذ
البداية كون القاضي السابق ذا علاقة بها. طبعاً لن نكشف هنا عن الأحداث وما
أسفرت عنه تحقيقات قاضينا الشاب، ولكن في وسعنا أن نقول، إننا، كقراء، إن
واصلنا القراءة حتى النهاية، سنجدنا داخل الأحداث، بل داخل الحياة العادية
للناس... خصوصاً أن روبرت فان غاليك استخدم كل ما لديه من معرفة بالصين،
وإلمام بقواعد الأدب البوليسي، وإدراك لسيكولوجية القراء، كي يحول العمل
كله الى أكثر بكثير من مجرد تقاطع للأحداث أو حوارات حول ما يجري، أو خبايا
وخفايا لا يريد لها أصحابها أن تنكشف: جعل منه أشبه برحلة يقود الكاتب
قارئه فيها الى داخل تشعبات الحياة الإدارية لدولة تبدو من خلال رسمه لها،
وكأنها معاصرة لنا، ادارة ذات بنى شديدة الحداثة، وبيروقراطية مدهشة مملوءة
بالموظفين الفاسدين والآخرين الذين تغلب عليهم النزاهة. في الرواية، نحن في
القرنين الثامن والتاسع - عند المفصل بينهما -، لكننا في الحقيقة داخل سلطة
قد تكون امبراطورية، لكنها تعرف كيف تبني علاقات شديدة التعقيد والتشعب،
والحداثة بالتالي، مع الجيش، الذي يتوقف الكاتب مطولاً عند دوره في السلطة،
وكذلك علاقات شديدة العمق بين تلك السلطة وشتى الطبقات الاجتماعية، ولا
سيما المثقفون الذين من الواضح أن دي ينتمي اليهم، ثم طبقة التجار
والمزارعين وصولاً الى القوادين الذين يديرون المواخير التي تشكل جزءاً
يُعامَل بشكل طبيعي، من النسيج الاجتماعي العام.
> كل هذا يصور الكاتب بدقة الباحث المطلع على شؤون وشجون تلك الحضارة،
وصولاً الى وقوفه عند السمات الثقافية والحضارية للمجتمع في ذلك الحين، ولا
سيما عند المنافسة الحادة التي كانت قائمة - بل محتدمة - بين الفلسفة
البوذية والفلسفة الكونفوشيوسية، مع إطلالة جيدة على ممارسة تعدد الزوجات
التي يورد الكاتب - على ألسنة شخصياته - تفسيرات منطقية لها، تفسيرات جديرة
بأن توضع في فاه باحث عربي من القرون الوسطى.
> والمهم في هذا كله هو أن فان غوليك يصوّر بطله القاضي دي، شاهداً وفاعلاً
في الأحداث، لكنه لا يشعرنا ولا لحظة أنه ينظر الى الأمور من الخارج... لأن
دي تحت قلم المستشرق الهولندي يصبح جزءاً أساسياً من الحياة الصينية. وفي
هذا الإطار لا بأس في أن نشير الى ان فان غوليك أكد دائماً أن كل المغامرات
والتحقيقات التي «نسبها» الى دي انما هي مستقاة أصلاً من أرشيفات قضائية
وكتب رحلات، وكذلك من بعض نصوص الأدب الصيني، الشعبي وغير الشعبي، ومن هذه
النصوص رواية مجهولة الكاتب صدرت في بكين خلال القرن الثامن عشر، يقوم
بالتحقيق في جريمة فيها، القاضي دي نفسه. وقد كان فان غوليك هو الذي ترجم
هذه الرواية عن الصينية. وروبرت فان غوليك (1910 - 1967)، كان كما أشرنا
ديبلوماسياً وضليعاً في أدب الرحلات. وهو، الى رواياته البوليسية الكثيرة،
وترجماته لبعض النصوص البارزة في التراث الأدبي الصيني، وضع دراسات علمية
كثيرة عن الصين وتاريخها وحياتها الاجتماعية. وقد كان من أبرز تلك النصوص
كتابه - المترجم الى لغات عدة منها الصينية - عن «الحياة الجنسية في الصين
القديمة». كما وضع قاموساً صينياً - هولندياً. والطريف أن علاقة فان غوليك
بالثقافة الصينية وصلت الى حد أنه كان يقوم بنفسه برسم اللوحات المصاحبة
لفصول رواياته، رسوماً كان كل من يراها يعتقد أنها منسوخة عن لوحات صينية
معروفة.
alariss@alhayat.com
الحياة اللندنية في
20/07/2012
«صورة سيدة» لهنري جيمس:
أوروبا الغاصبة الشريرة في رواية أميركية
الكاتب: ابراهيم العريس
منذ ما يزيد على قرن من الزمان في ذلك الحين، كان الأدب الأميركي قد استقل
عن الأدب الإنكليزي، وراحت الروايات الأميركية تنهل من مواضيع أميركية
خالصة، بل أحياناً من مواضيع لا تتورع عن المجاهرة بعدائها للإمبراطورية
القديمة المستعمرة للعالم الجديد، وعن الدفاع عن قيم جديدة لا علاقة لها
بأوروبا من قريب أو من بعيد. ومع هذا كان الفرنسي ألكسي دي توكفيل قد أكّد
بأن التيار سيسير عكسياً وستلتقي آداب العالم القديم بآداب العالم الجديد،
خارج إطار التناحرات القارّية والحضارية. وإذا كانت بدايات القرن العشرين
قد حوّلت توقع توكفيل هذا إلى حقيقة ملموسة يمكن إيراد عشرات الأمثلة
عليها، ولا سيما عبر كتاب أميركيين ومبدعين آخرين اختاروا «العودة» إلى
أوروبا بعد قطيعة، وعبر تحول نيويورك أواسط القرن العشرين إلى عاصمة حقيقية
للثقافة الأوروبية، فإن في إمكاننا أن نعود بهذا التيار إلى نهايات القرن
التاسع عشر، والتوقف عند اسم هنري جيمس. فجيمس الذي كان ابناً لكاتب يحمل
الاسم نفسه، وشقيقاً لفيلسوف البراغماتية الكبير ويليام موريس، كرس العدد
الأكبر والأهم من رواياته لـ «رمي جسر بين العالمين القديم والجديد»، بل
إنه «بالغ» في هذا إلى حد أن شقيقه ويليام نبهه ذات مرة إلى أن عليه «أن
يأخذ في حسبانه، وفي شكل أفضل رأي القراء الأميركيين الذين يرتبط بهم مصير
النجاح النهائي لمشروعه الأدبي». لكن هنري جيمس لم يعمل بنصيحة أخيه وحسناً
فعل. فلو عمل بها، لما كان أنتج في الحقيقة، بعض أهم أعماله، تلك الأعمال
التي كان موضوعها وفي شكل محدود، العلاقة الكأداء والمعقدة بين أميركا
وأوروبا - عموماً - وانكلترا خصوصاً. ومع هذا فإن نظرة هنري جيمس إلى الأمر
برمّته لم تكن دائماً على السوية نفسها. بل كان فيها طلعات ونزلات. فهو
تارة منتقد الأميركيين من وجهة نظر أوروبية، وطوراً منتقد الأوروبيين
وبقسوة من وجهة نظر أميركية. ولعل هنري جيمس كان - في نهاية الأمر - لا
يعبّر في هذا كله عن موقف شخصي، بمقدار ما كان يعبّر، حقاً، عما كان سائداً
في النظرات المتبادلة بين العالمين. وحسبنا للتيقن من هذا أن نقارن بين
رواية مبكرة لجيمس هي «الأميركي» (1877) وبين روايات متأخرة له مثل
«السفراء» أو «نساء بوسطن».
> لقد كتب هنري جيمس، خلال حياته الطويلة نسبياً، نحو مئة نص أدبي، بين
رواية طويلة ورواية قصيرة وما إلى ذلك. ومعظم أعمال هنري جيمس نال إعجاب
كبار كتاب زمنه ونقاده... وحتى في أيامنا هذه ها هي أعماله تنال حظوة
وإعجاباً، ولا سيما حين تحوّل إلى أفلام سينمائية (خباصة من قبل الراحل
جيمس آيفوري، الذي هو مثل جيمس، أميركي اختار التوجه غالباً إلى أوروبا،
ولكن للتعبير عن نظرة الأميركيين إليها). ومع هذا، على رغم وفرة أعمال هنري
جيمس فإن النقاد الكبار يتوقفون عادة للتدليل على عظمة إنجازه الروائي، عند
أربعة أعمال كبيرة له، وفي مقدمها «صورة سيدة». أما رواياته الثلاث الكبيرة
الأخرى فهي «أجنحة اليمامة» (1902) و «السفراء» (1903) و «كأس الذهب»
(1904). وهذه الروايات كلها، التي كتبها هنري جيمس في فترة نضوجه بالتأكيد،
ذات علاقة بأوروبا، أو على الأقل بالنظرات المتقاطعة بين أميركا وأوروبا.
وتتوقف هنا عند «صورة سيدة».
> «صورة سيدة»، وهي الأشهر قاطبة بين أعمال هنري جيمس. نشرت للمرة الأولى
في عام 1881، ومنذ نشرها المبكر هذا أجمع الدارسون على أنها - عكس أعمال
جيمس الكبرى الأخرى - تحمل الكثير من التنازلات «لكي يمكن وصولها إلى
الجمهور العريض». ومع هذا فإن هذه التنازلات لم تفقدها أبداً سحرها ولا
قوتها، على رغم مرور الزمن. وربما يعود هذا في شكل يحمل كل تناقضاته، إلى
صعوبة إدراك جوهر موضوعها منذ القراءة الأولى. ذلك أن الموضوع الأساس لـ
«صورة سيدة» إنما هو «اغتصاب حرية الاختيار لدى شابة أميركية تقع ضحية
شخصين أوروبيين فاسدين يرمزان إلى العالم القديم». وهو موضوع نعرف أن هنري
جيمس سيعود إلى تقديم عكسه - متخلياً عن هذه النظرة المرتابة إلى العالم
القديم - في أعمال لاحقة. أما هنا في «صورة سيدة» فكان لا يزال متمسكاً
بتلك التقاليد الفكرية الأميركية التي ترى في سلوك أوروبا شراً ما بعده من
شر.
> إن موضوع القاعدة والحرية هو الموضوع الأساس المهيمن على هذا العمل. فكيف
عبّر هنري جيمس عن موضوعه هذا؟ بكل بساطة عبر حكاية إيزابيل آرشر الأميركية
الحسناء والتي كانت تعيش في بيتها الكئيب في مدينة آلباني الأميركية حيث
تأتي خالتها الثرية والمنفتحة على الحياة، مدام توشيت لتقترح عليها
مرافقتها في جولة أوروبية. فتقبل إيزابيل بخاصة أن هذا السفر سيتيح لها
التخلص من إلحاح الشاب غودوود المغرم بها، لكنها، هي، لا تريد أن تضحي
بحريتها من أجله. وتكون إنكلترا أول محطة في الجولة حيث تقيم إيزابيل مع
خالتها في منزل فخم يحتضر فيه زوج هذه الأخيرة وفي رفقته ابنه رالف الذكي
والجذاب الذي تتنبه إليه إيزابيل ويبادلها هو الاهتمام ولكن من دون أن يقول
لها إنه هو الآخر مصاب بمرض قاتل. وفي الوقت نفسه يغرم شاب ثري آخر هو
اللورد واربورتون بإليزابيث، لكن هذه، على رغم رضاها عما يحصل لها، ترفض
هذا الأخير لأنها تريد أن تكمل جولتها الأوروبية قبل أي ارتباط. وحين يموت
السيد توشيت ترث إيزابيل نصف ثروته غير دارية أن هذا كان بتدبير من رالف
نفسه الذي أراد لها أن تعيش حياة كريمة. لكن هذه الثروة المفاجئة بدلاً من
أن تسعد إيزابيل، سرعان ما توقعها في حبائل سيدة تدعى ميرل، تعيش من النصب
والمغامرات. وهذه السيدة ميرل لكي تستولي على ثروة إيزابيل الجديدة، ترتب
لها لقاء وعلاقة مع المدعو جيلبرت أوزموند، وهو ليس في حقيقة أمره سوى عشيق
السيدة ميرل. وإذ يتقدم هذا المغامر الأفاق من إيزابيل تحت سمات نبيلة
خادعة، تغرم به هي التي لم تغرم من قبل بكل النبلاء الحقيقيين الذين تقدموا
إليها. هكذا، يصيبها عمى الروح وتشعر بانجذاب هائل نحو جيلبرت. وهو انجذاب
تعززه السيدة ميرل بتواطؤ يصل إلى حدود الاغتصاب والتأثير السحري. وإذ تقع
إيزابيل في الفخ، تقبل عرض جيلبرت أوزموند بالزواج، على رغم تنبيهات السيدة
توشيت وابنها رالف... وبعد الزواج تكتشف إيزابيل خطأها بسرعة، لكن الأوان
كان قد فات... كذلك فإن كبرياءها منعتها من الإقرار بالخطأ. ومع هذا حين
تجابه رالف وهو على فراش الموت أخيراً، تعترف له بأنها قد أخطأت في
اختيارها. وإذ تتوجه بعد ذلك إلى لندن بائسة محطمة، تلتقي هناك بعاشقها
القديم غودوود، لكن اللقاء لا يثمر شيئاً إذ إنها ترفض ترك أوزموند، على
رغم كل ما أصابها، وتعود إليه صاغرة مستسلمة وهي غارقة في بؤس ما بعده بؤس.
> من المؤكد أن هنري جيمس (1843 - 1916) لم يختر هوية شخصياته على سبيل
الصدفة. فأن يكون المغتصبان، السيدة ميرل وجيلبرت أوزموند، أوروبيين وأن
تكون إيزابيل أميركية، أمر لا يمكن الاستهانة به من لدن كاتب آثر أن يجعل
من قلمه جسراً بين العالمين. غير أن الصورة المنحطة التي يرسمها لأوروبا
هنا، من خلال الشخصين الفاسدين، ستتعدل لاحقاً لمصلحة صور أكثر دقة
وحــذراً. والمهم هنا أن كل شيء يبدو واضحاً للقارئ منذ البداية: كل ما في
الأمر أن إيزابيل هي المذنبة، لأن عمى قلبها جعلها لا ترى ما يحاك لها ولا
سيما «الاغتصاب» الذهني الذي تتعرض له: إن إيزابيل حرة في قول ما تشاء.
ولكن ليس حين تغتصب وتجبر على أن تريد ما يريده مغتــصبوها. وإيزابيل في
هذا، تشبه على أية حال، الكثير من الشخصيات الأخرى الخاضعة لإرادة خارجية،
والتي تملأ روايات هنري جيمس. والحقيقة أن أوروبا نادراً ما كانت تصوّر في
الأدب الأميركي بمثل هذا السوء. مهما يكن فإن هنري جيمس عاد وعانق أوروبا
أكثر وأكثر خلال العقود التالية، بل وصل لاحقاً إلى حد التخلي عن جنسيته
الأميركية إبان الحرب العالمية الأولى احتجاجاً على تباطؤ أميركا في خوضها.
alariss@alhayat.com
الحياة اللندنية في
21/07/2012 |