فعلها جيل جاكوب في الكلمة التي زيّنت إعلان الدورة 65 لمهرجان كانّ.
قال: "غداً، سيأتيكم مَن لم يشاهد "الفجر" لمورناو ليحاكم أفلامكم". جاكوب
لم يفعل الا ذكر فرنسوا تروفو، الناقد والمخرج وصاحب هذه العبارة. بكلمته
هذه داس على "كبرياء" الأجيال الآتية من خلف شاشات المعرفة المسطحة،
المختبئة وراء البريق والضوء واللمعان. لم يكن ينوي الاهانة بقدر ما كان
يرغب في الثناء على مهرجان يضع الارشيف البصري الخالد في خدمة المعرفة
والاطلاع. "لدينا الكثير من العمل"، صرّح سلطان الكروازيت. حكيمٌ مثله يعرف
انه لا يُمكن نكران القديم في صناعة ذوق جديد. تجاوز السائد من خلال
استحداث ما ينتمي الى عصور أخرى، هو الآخر، لا يمكن تجاهله. ما قاله تروفو
عن النقاد، ينسحب ايضاً، وخصوصاً، على السينمائيين...
كان هذا مدخلاً لكتابة بضعة سطور عن فيلم لا يستحقّ أكثر من ذلك:
"تنورة ماكسي" لجو بو عيد. الشاب الآتي من الفيديو كليب، عالم الألوان
والأزياء وتصحيح العيوب على الكومبيوتر، لا يمكن أن يُصنَّف خارج هذا
الجوّ: جوّ معزول تماماً عن السينما، عن تاريخها، آنيتها، ومستقبلها. جو
موبوء بالمظاهر الفارغة، بالسجادة الحمراء، بالتصريحات المستعجلة أمام
كاميرات التلفزيون.
المسؤولون في روتردام ضحكوا وتهكموا: "ما هذا؟ عفواً، لا نعرض مقاطع
موسيقية مصوّرة في مهرجاننا". رُفض الفيلم في أماكن عدة قبل أن ينضمّ الى
برمجة دبي، في زمن "ثوري" لم يكن من السهل على الأخير ايجاد أفلام عربية
ذات قيمة. فريق العمل راح يوزع على المارة في "مول الامارات" أكياساً
وبروشورات طُبع عليها ملصق الفيلم، وفيه وجه الممثلة المثيرة التي وضعت
احمر شفاه سميكاً وعريضاً. جون كاسافيتس وزمرته في نيويورك الستينات لم
يفعلوا مثل هذه الاشياء. كانوا يكتفون بلصق الافيشات على جدران المدينة
عندما يحلّ المساء، كوطاويط منتصف الليل، بعيداً من الأنظار. اموال غير
صديقة للبيئة أهدرت في مطبوعات وأوراق. في حين لم تتعد عائلة كل الأفلام
الأخرى المشاركة، بضعة أنفار، كان هناك جيش من الذين حاربوا على جبهة
الفيلم، في دبيّ، يلتقطون الصور بعضهم للبعض وعينهم على السجادة الحمراء،
كأنها الدرب الى الجنة. في بيروت، تكرر المشهد ضمن حفل عاد ريعه لعمل خيري،
بيعت خلاله تنانير الماكسي لسيدات مال وأعمال. طريقة جديدة، على ما يبدو،
لإحراج صحافة متواطئة مع كل ما يتيح لها صفحات مفلوشة وساعات على الشاشة.
بين بو عيد والسينما، علاقة غير واضحة وغير محسومة، عما اذا كان يجب أن تمر
عبر القماش: تنانير، سجاد، محارم ورق، الخ.
الآن وقد وقع الفيلم في فخّ التفاصيل، بات يمكن القول اننا نسينا
القبيح واهتممنا بالأقبح. "تنورة ماكسي" شريط كاريكاتوري آخر، اقصى طموحه
نادين لبكي. من مشهد الفلامينكو في الكنيسة الى حركات الترافيلينغ الدائرية
المتواصلة، نحن أمام ظاهرة لا يستهان بمفعولها السلبي على المدى البعيد.
ظاهرة أن يجعل المخرج من الكاميرا نجمة فيلمه. جون فورد كان يقول ممازحاً:
"حرِّكوا الممثلين بدلاً من تحريك الكاميرا. فهؤلاء يقبضون أضعاف ما يقبضه
العمال الذين يدفشون الكاميرا". هناك فهم خاطئ للسينما ينسف كل ما صوّره بو
عيد، من المشهد الأول حتى الأخير. هذا مخرج يجهل تماماً كيف يحبك قصة؛
الاحتكاك عنده بين المتتاليات يولّد عدماً وليس شرارة. هذا كله يجعل
"الشيء" الذي أمامنا، خارج اطار النقاش، لأن كل وحدة تصويرية فيه، كل لقطة،
تلغي ما يأتي بعدها، وعلى هذا المنوال حتى الخاتمة.
كل شيء وحدة منفصلة عما يليه، ضمن هستيريا تركيبية تصدم الحواس. نحن
أمام تجسيد بهيّ للولدنة على الطريقة اللبنانية. زخرفة، تفخيم، خفة!
الكاميرا تلفّ وتلفّ وتلفّ، راسمة دوائر حلزونية حول نفسها، من دون أن
ترينا شيئاً. الديناميكية مهمة في ذاتها فقط. هناك حكايات متداخلة من وحي
الحرب الأهلية وغير الأهلية. في المقدمة، حكاية الصبية (جوي كرم) الهاربة
مع عائلتها الى قريتها الجنوبية حيث ستلتقي بشاب (شادي التينة) يتهيأ لدخول
الرهبنة. حبّ أفلاطوني صامت. تقترب آلة التصوير من عيني كاهن المستقبل، لا
شيء يخرج من هذا الوجه. شادي التينة الذي مثّل في عدد من الاعلانات، لوح
ثلج. حضوره يثقل كاهل الفيلم، ويمتد هذا الثقل الى شريكته في التمثيل التي
لا ترتقب منه الا قبلة، كان يمكن طبعها بأقرب وقت واختصار الفيلم. لكن
الانتظار سيطول كما لو أن طريق المشاهد ينبغي أن تمر دائماً من درب
الجلجلة، ليستمد الفرحة من المعاناة. أن يتكوّن الفيلم انطلاقاً من تفاصيل
اوتوبيوغرافية، فهذا لا يغيّر شيئاً في المعادلة، ذلك لأن الفيلم يبقى
بعيداً من الحميميات، ويغوص في العموم على خلفية ايقاع بيانو لا يأخذ قسطاً
من الراحة. النساء يتكلمن كثيراً، زعيقهن ينافس أحياناً دويّ القنابل. شريط
صوتي يفرغ كبته مجاناً: شيك، شاك، شوك. بوم، بوم، بوم. كل المحاولات لإحياء
الماضي لا تسعفه، لأن الفيلم زائف ومخادع وفارغ ومدّعٍ. حتى مشهد البكاء
على مصير دجاجة في بلد المئة ألف شهيد وقتيل حرب، لا يبلغ هدفه من السخرية.
ليس كوستوريتسا من حلم بذلك. باختصار، هذا كله تفوح منه رائحة نفتالين،
برغم مظاهر الحداثة. لنسدّ انوفنا...
ماستروياني وغاسمان في "متروبوليس": كم أحببناهما!
"ماستروياني وغاسمان: كبيرا السينما الايطالية". بهذا العنوان
نضرب موعداً جديداً مع السينما الايطالية، تلك التي تجعل القلوب تتسارع
دقاتها. غداً الساعة الثامنة مساء، في "متروبوليس" تنطلق هذه الاستعادة،
وهي الحادية عشرة تنظمها صالة الأفلام الفنية، بالاشتراك مع المعهد
الايطالي في بيروت، حول الكبار الذين صنعوا أفراحنا ومآسينا. مارتشيللو
ماستروياني وفيتوريو غاسمان هما العزيزان اللذان يعودان الى أحضان الصالة
المظلمة. "طلاق على الطريقة الايطالية" (1961) لبييترو جيرمي، مع
ماستروياني ودانييلا روكا وستيفانيا ساندريللي، يفتتح الحدث. هذا الشريط
محطة في تاريخ السينما الايطالية، لأنه كان الأول في ابتكار تسمية
"الكوميديا الايطالية"، وهي التسمية التي التصقت بمجمل ما انتج في بلاد
دانتي طوال عقدين، الستينات والسبعينات. حاز عنه ماستروياني "غولدن غلوب"
أفضل ممثل عام 1963، ونال جوائز في كانّ وهوليوود. انه نسخة ملطفة وبريئة
لجريمة الشرف. رجل متزوج من الطبقة النبيلة، من منطقة صقلية الايطالية،
يريد أن يقترن بالمرأة التي يحبها، لكن لكون الطلاق ممنوعاً، فهو يسعى الى
تدبير عشيق لزوجته، ومن ثم يخطط لالقاء القبض عليهما في "الجرم المشهود"،
وقتلهما، وبالتالي الافلات من العقاب بذريعة "جريمة الشرف".
"المتبجح" (1966) لدينو ريزي جوهرة سينمائية خالصة يتصدر مع
"الحمام" للمخرج نفسه، أشهر تيار انبثق من ايطاليا ما بعد الحرب العالمية
الثانية: التراجيكوميديا. نهاية الفيلم باتت اسطورية اليوم، لا سيما ان
الثنائي الذي شكّله كلٌّ من غاسمان وجان لوي ترانتينيان، يسحق القلوب. يكفي
ذكر "المتبجح" كي تعود الى الاذهان مشاهد لا تنسى، من سباق على طريق جبلية
متعرجة ومنعطفات خطرة جداً برفقة ترانتينيان وغاسمان، يختتم بسقوط السيارة
في الوادي ومقتل احدهما.
هناك ايضاً في هذه الاستعادة فيلم أحدث صدمة لدى عرضه للمرة الاولى:
"المأدبة الضخمة" لماركو فيريري (1973). في كانّ نال جائزة لجنة التحكيم
الكبرى. الحكاية بسيطة: اربعة رجال يجتمعون في فيلا ليملأوا بطونهم
بالطعام، حتى... الموت. فيريري يذهب بعيداً جداً جداً، ويطلق العنان
لمخيلته السقيمة، مختاراً اربع قامات كبيرة في التمثيل: ميشال بيكولي،
فيليب نواريه، أوغو تونيازي، وطبعاً، "مارتشيللو"، الذي يضطلع ايضاً بدور
البطولة في "انطونيو الجميل" لماورو بولونييني، حيث يعالج موضوع العجز
الجنسي عند الرجال. كلاوديا كاردينالي تسانده في هذا الشريط الذي نال
الجائزة الكبرى في مهرجان لوكارنو. تعيدنا هذه الريتروسبكتيف الى عام 1974،
الذي شهد صدور واحد من أروع أفلام ايتوري سكولا "كم أحببنا بعضنا البعض"،
وهو يعيدنا بدوره الى ايطاليا منتصف الاربعينات، لحظة تحريرها وانفتاح
الحياة على آفاق واسعة. ابطالنا هنا جياني، انطونيو ونيكولا، والبطولة
لنينو مانفريدي وفيتوريو غاسمان وستيفانيا ساندريللي. في المهرجان ايضاً
"العائلة" لايتوري سكولا (غاسمان)، و"صحراء الترتار" لفاليريو زورليني
(غاسمان)، و"عطر امرأة"، تحفة ريزي (غاسمان) الذي قدم مارتن بريست نسخة أقل
اصالة منه برغم وجود آل باتشينو.
"كانّ
65": يسري وكريستيان وسيرغي والآخرون
هـ. ح.
مهرجان كانّ على الأبواب. 16 – 27 أيار. الدورة: 65. عشرة أيام بعد
بزوغ فجر جديد على فرنسا من خلال رئيس جديد، يبدأ الاحتفاء الأضخم بالسينما
في العالم، والحدث الثاني الأكثر تغطية على المستوى الإعلامي بعد
المونديال. هذه السنة، الأسماء كبيرة والوعود شائقة. 22 فيلماً في المسابقة
الرسمية. لا تجارب أولى. لا نساء مخرجات. لا مجازفات فضفاضة. هناك 4 من أصل
22 مخرجاً سبق أن حملوا في أيديهم، خلال حفل توزيع الجوائز، مجسّم "شوبار"
الذهبيّ البراق. البقية هم من الذين نالوا فرصهم من التكريم، سواء في كانّ
أم في مهرجانات الفئة أ. قبل نحو اسبوعين من المؤتمر الصحافي في باريس، نشر
احد المواقع لائحة بالأفلام المشاركة، قائلاً إن موقع المهرجان الرسمي
سرّبها من طريق الخطأ قبل أن يسحبها في غضون دقائق. المدير التنفيذي تييري
فريمو كذّب هذا الخبر، ووعد "المخربين" بأن أقدامهم لن تطأ أرض كانّ
مجدداً. بيد أن عدداً من الأفلام التي وردت في "اللائحة المسرّبة" وجدت
مكاناً لها تحت شمس مسابقة 2012.
في المقابل، غابت أسماء أخرى كانت مشاركتها مطروحة بقوة. أكثر الذين
سيتركون خلفهم فراغاً لا يعوّض، هم: بول توماس أندرسون وجيمس غراي، وهما
أهم مخرجين أميركيين من الجيل الذي برز من منتصف التسعينات الى أواخرها.
آخرون مثل أوليفييه أساياس وألكساي غيرمان، الذي تحولت عملية تصوير فيلمه
الجديد الى حكاية "ألف ليلة وليلة". في المقابل، يبدو ان تيرينس ماليك الذي
عوّدنا على اطلالة يتيمة مرة كل عقد أو أكثر، لن يكون ضمن الدورة الآتية.
قيل ان شريطه جاهز لكنه يحتاج الى لمسات أخيرة. الكلّ يعلم ماذا تعني لمسات
أخيرة عند مخرج "أيام الجنة": بضع سنوات اضافية. على كل حال، لم يقفل فريمو
الباب. فهناك حتماً فيلم أو فيلمان قد ينضمان الى القافلة، التي ستنطلق
بمشوارها مع فيلم "مملكة صعود القمر" لوس اندرسون. ديفيد كروننبرغ يعود الى
الكروازيت بعد أشهر قليلة على عرض فيلمه "طريقة خطرة" في البندقية. جديده
"كوزموبوليس". كيارستمي سيطلعنا على ما يتضمنه فيلمه الذي صوّره في اليابان
وحمل اسم "كشخص مغرم". ميشاييل هانيكه يتعاون مرة جديدة مع ايزابيل أوبير
في "حبّ". وولتر ساليس يؤفلم رواية "على الطريق" لجاك كيرواك، بعد طول
انتظار.
هناك ايضاً مشاركة منتظرة لـ"طفلي" السينما الأوروبية الرهيبين:
أولهما، الروماني كريستيان مونجيو الذي سبق أن نال "السعفة" عام 2007 مع
"اربعة أشهر، ثلاثة أسابيع ويومان"، يستعد لملاقتنا مع "خلف التلال"، وهو
أطول أفلام المسابقة في ساعتين وخمس وثلاثين دقيقة. ثانيهما، الايطالي
ماتيو غاروني، مخرج "غومورا" (الجائزة الكبرى ـــ 2008). أما التشكيلة
الفرنسية، فيتقدمها شيخ السينمائيين الفرنسيين ألان رينه. بسنواته التسعين،
ها اننا في انتظاره على السجادة الحمراء متأبطاً "لم تشاهدوا شيئاً بعد".
فعلاً؟ سنرى الى أي حدّ هو صادقٌ في هذا الوعد، على شكل تهديد مبطن. على
طرف كل من جناحي رينه، هناك سينمائي: جاك أوديار من جهة، وليو كاراكس من
جهة أخرى. اذا كان الأول صنع الدورة 62 مع رائعته "نبيّ"، فالثاني غائب عن
الشاشات منذ 14 عاماً، تاريخ عرض "بولا أكس"، وإن كان له فيلم مشترك في قسم
"نظرة ما"، قبل اربع سنوات. أخيراً، ليس آخراً، يشهد المهرجان هذه السنة،
اختيار فيلم مصري في المسابقة، ما جعل الحبر يتدفق على صفحات الصحافة
الصفراء في مصر، لكتابة ما يلزم وما لا يلزم، تمجيداً لهذا الاختيار.
المخرج هو يسري نصرالله وفيلمه "بعد الموقعة" يخلف "المصير" (1997) ليوسف
شاهين، آخر شريط مصري شارك في المسابقة. الى جانب قامات ككارلوس ريغاداس،
وكنّ لوتش، وأولريش سيدل، وسيرغي لوزنيتسا، هناك مجموعة شباب أميركيين
يشكلون مركز ثقل هذه الطبعة، مع تراجع لافت لسينما آتية من آسيا القصوى، في
ظلّ هيمنة أوروبية ــ شمال أميركية (17 فيلماً من أصل 22). ولا ينسى
المهرجان كلود ميللر، الذي رحل في الرابع من الجاري، فيعرض له في ليل
الختام، شريطه الأخير "تيريز ديكيرو" (خارج المنافسة)، في الوقت الذي سيكون
لنا محطة تكريمية لفيليب كوفمان (1936)، الذي سيأتينا بفيلمه الجديد
"همنغواي وغيلهورن" مع نيكول كيدمان وكلايف أون.
الوقاحة التي لا تُحتمل
هل سمعتم في أيٍّ من بلدان العالم، أن فيلماً يُعرَض بالقوة، بالبلطجة
والمضايقة، وبالاحراج الناتج من الثرثرة فوق سطوح شبكات التواصل وأمام
جدرانها الافتراضية وداخل أروقتها؟ هذا كان يحصل في تشيكيا عندما كانت لا
تزال في "عهدة" الاتحاد السوفياتي. في كل حال، منذ أمس، صار في امكاننا أن
نتباهى بأننا بتنا من الدول النادرة، وربما الدولة الوحيدة على هذه الأرض،
حيث ممثلة الفيلم ومن يروجّون لها، هم الذين يقررون اذا كان يجب أن يُعرض
الفيلم في احدى صالات العاصمة أم لا. هناك ما يكفي من تشويه للذوق عبر
الفضائيات، فافسحوا لنا المجال كي نصون هذه الفسحة، ونبقيها بعيدة من وسخ
السياسة.
المسألة فعلاً سابقة: ادارة "غراند" لم تبرمج "33 يوماً" في صالتها
الواقعة في الـ"أ ب ث" الى أن تعرضت لإحراجات أجبرتها على برمجة الفيلم في
حصتين يوميتين. أقل ما يستحقه مستثمرو الصالات هو أن يُمنَحون حقّ القبول
أو الرفض. هم أحرار في انتقاء الحجة التي يرونها مناسبة: نبذ الأعمال
البروباغاندية، ضيق المساحة، عدم تناسب الفيلم مع ذوق زبائنها. هناك ألف
سبب وسبب، ولا يهم اذا كانت الأسباب صادقة أو ملفقة. هذا ما ناقشته على
مدار سنوات الصحافة السينمائية المكتوبة في لبنان في عصرها الذهبي: ميول
الصالات وأذواقها وانفتاحها المحدود على مسألة التنوع. لكن في النهاية،
السوق ومتطلباتها هي التي تتحكم بعقول الموزعين واصحاب دور العرض، ولا شيء
آخر. هؤلاء تجار في الدرجة الاولى. هل ينبغي التذكير بأن احد أبناء سلسلة
"أمبير" يملك مطعماً في السوديكو؟ شأنه شأن وكيل احد أهم استديوات هوليوود
الذي يوزع في لبنان منتوجات غذائية. ولكن، بما ان الغوغائية هي التي تحكم
البلاد والعباد، فقد سلك الكلام دربه المعتاد، وتحول الموضوع ثرثرة مبنية
على أساس معلومات خاطئة، تضليل بتضليل، تهديد بتهديد. وشمّر الكلّ عن
ساعديه، ليتدخل في ما لا يعنيه. لا نفهم مثلاً، مهما يكن منطقنا وعقليتنا
ولغتنا، كيف يمكن وصف عدم الرغبة في عرض فيلم بـ"المنع". صاحب الصالة ليس
رقيباً في جهاز الأمن العام. تعالوا لنناقش. وبالأسماء: هل كان امتناع عرض
النسخة اليابانية لـ"رايات آبائنا" لكلينت ايستوود منعاً؟ مَن يتذكر هذا؟
وهل كل الروائع التي رفضت الصالات استقبالها منعٌ؟ لا يعلق في اذهان الناس
الا العناوين العريضة. هل تحول معنى كلمة "منع" بين ليلة وضحاها ولم نتبلغ
ذلك؟ هل يأتي يوم أخاف فيه أن اقفل بابي في وجه من لا أحبه؟ وهل أتعرض
للبهدلة من أجل هذا الشيء وانعت بأحط النعوت؟ يا اصدقائي، هذا ايضاً قمعٌ
وابتزاز، لكن من جانب الضعيف للضعيف. هنا يُفرَض فيلم، وهناك يُمنَع،
والأمر سيان في بلد بات يؤوي كل قمامات العالم، من اللحوم الفاسدة الى
الايديولوجيات الخبيثة. كل هذه المواد التي دخلت بطوننا وعقولنا جعلت
ذاكرتنا تتعرض للهذيان، وجعلت بعضهم يرشق بالحجارة آخر حصن للسينيفيلية في
لبنان، منطقة بأكملها لم يتوقف فيها النشاط السينمائي حتى عندما كان الرصاص
يلعلع، من دون أن ينتبه هذا البعض أن كل حجر يرمى على هذا الحصن، سيعود
ويقع عليه!
¶¶¶
القاهرة. عادل امام في قفص الاتهام. التهمة: ازدراء الاسلام. الحكم:
ثلاثة أشهر سجناً وتغريمه كفالة مئة جنيه. الأسوأ من الحكم: الشخصية التي
يطالها. انه الفنان الذي أضحك ملايين المصريين والعرب على مدار العقود
الثلاثة الأخيرة. والأسوأ ان الشخصية المتهِمة هو امام: المرحلة التي صدر
فيها هذا الحكم. يعني، ما بعد الثورة المصرية التي جاءت بأمل التغيير. كأن
ثمة مَن يقول بوقاحة لا تُحتمل: هاكم التغيير. الأسوأ من الأمرين: ان
الاتهام صادر من محامٍ، من المفترض أن مهنته تقضي بصون الحريات. عادل امام
لا يضحكني شخصياً، وعندي مشكلة مع لقب "الزعيم" الذي يحمله، لكني أرى نفسي
منحازاً اليه لاشعورياً ومن دون حساب. فكيف من الممكن تقبّل هذه
الازدواجية، وكيف من الممكن تجاهل تلك الحقيقة المرة، التي على محامي عادل
امام أن يجعلها جوهر مرافعته: هذا الشعب تلذذ وضحك مما كان يفعله هذا
الكوميديّ. والضحك تواطؤ صامت. تواطؤ خبيث. وانحيازه الى السلطة كان ينم
ربما عن الخوف من المعرفة المسبقة بما ستؤول اليه الحال عند تسلم "هؤلاء"
زمام السلطة. محاكمته هي محاكمة مفهوم كامل متكامل... فليحاكموه: لكن سيقف
خلف القضبان، وفي مواجهتهم، ملايين العرب، ممن أحبّوه وممن لم يعنِ لهم
فنّه شيئاً.
النهار اللبنانية في
26/04/2012
ميل غيبسون ممثلاً وكاتباً
«كيف
أمضيت إجازتي الــصيفية».. أوقات «ممتعة» بالقتل
زياد عبدالله - دبي
كيف يمكن للسيد ميل غيبسون أن يمضي إجازته الصيفية؟ سؤال يجيب عنه
فيلم لعب بطولته ومعروض الآن في دور العرض المحلية عنوانه
How I spent my Summer Vacation «كيف أمضيت إجازتي الصيفية»، ويمكن أيضاً العثور
على الفيلم نفسه بعنوان آخر هو
Get The Gringo «أحضر الغرينغو» والغرينغو هو الاسم الذي يطلق على الأميركي في
البلدان الناطقة بالإسبانية والبرتغالية، وترجمة هذا العنوان بـ«أحضر»، هي
ترجمة ملطفة لما له أن يكون إحضار هذا الغرينغو بالقوة وبالتالي يمكن
للعنوان أن يكون «اشحط الغرينغو» أو أحضره من تحت الأرض.
هذا السؤال الذي بدأنا به سيمنحنا أيضاً فرصة للتعريج على ما يصنعه
غيبسون الممثل بعيداً عن الإخراج وقد كان آخر الأفلام التي قام بإخراجها
«أبوكاليبتو» ،2006 بينما كان آخر دورين قدمهما ممثلاً في «حافة العتمة»
2010 و«القندس» 2011 الذي أخرجته جودي فوستر، لكن مع مقاربة «كيف أمضيت
إجازتي الصيفية» لن يكون دور غيبسون في الفيلم هو التمثيل فقط، فهو كاتب
سيناريو هذا الفيلم الذي أخرجه أدريان غرانبيرغ في أولى تجاربه الإخراجية،
والذي كما سنشاهد في الفيلم محمّل بشيء من لمسات غيبسون الإخراجية أيضاً.
لنمض الآن مع ما حمله هذا الفيلم، بحيث يمكن تأكيد حقيقة أولية في هذا
الخصوص، ألا وهي أن الفيلم مسل، ولا أعرف إن كان في مثل هذاً توصيف شيء من
النقد السينمائي، أو ربما كل النقد إن تعلق الأمر بالأفلام التجارية التي
تنتج ومعيار جودتها متمثل بشباك التذاكر، وهنا أيضاً يحضر مفهوم هو في
النهاية مفهوم السلعة، المتمثل بالتأسيس للعرض والطلب، وتأسيس ذلك وفق
معايير لها أن تقول شيئاً في هذا الخصوص مع كل فيلم أشاهده وأقول عنه إنه
فيلم مسل أو ممتع، كون ذلك يحيلنا إلى مما له أن يكون سؤالا متعلقا بالطلب،
بمعنى الذائقة التي تم التأسيس لها وانماط العيش الحديث التي لا تريد من
الفيلم إلا مساحة لتمضية ساعة ونصف من التسلية والسلام، لا بل إن المشاهد
العادي سيضيق ذرعاً بأي فيلم يخرج عن هذا السياق، مع التأكيد بداهة أن
المتعة شرط سينمائي للتلقي، لكنه ومع 99٪ مما نشاهده تكون المطمح الوحيد،
في استجابة للطلب بحيث تحول المشاهد إلى كائن يتلقف المتعة فقط ويضحي بما
عداها من قيم فنية وجمالية.
كل ما سبق آت من وصف فيلم «كيف أمضيت إجازتي الصيفية» بالممتع، ولعله
في شكل من أشكاله إجازة يريد لها غيبسون أن تكون كوميدية لكن دون التفريط
بالحركة، والرهان أولاً وأخيراً على اتصال بجار أميركا «اللدود» أو الباحة
الخلفية التي ترمي فيها ما يسقط منها، أي المكسيك، حيث علينا أن نشاهد مئات
الأفلام وهي تتنقل بين عصابات المخدرات والهجرة غير الشرعية وما إلى هنالك
من مقاربات هوليوودية تجد في ذلك البلد مرتعاً لهذه المواد الأثيرة التي
توفر المساحة الحيوية للأكشن وغير ذلك، ولنقع في فيلم «كيف أمضيت إجازتي
الصيفية» على أول شروط تحقيق ما تقدم، حيث أحداث الفيلم تجري في المكسيك
وفي سجن له أن يكون رهان الفيلم الرئيس كونه يقدم عالماً غريباً له أن يكون
مغرياً للمشاهد أن يتابع الغرينغو أي ميل غيبسون وسط غرائبية المكان، فنحن
في سجن مكسيكي هو مدينة مصغرة تحتوي على كل شيء ووفق قوانين وأعراف متفق
عليها بين رجال العصابات الذين يمضون فترة عقوبتهم في هذا السجن والشرطة
التي تدير المكان، وعليه سيكون هناك مدينة مصغرة لأي مدينة في العالم،
بمعنى أن هناك طبقات وعائلات وأسواق مبنية كيفما اتفق كما لو أنها واحدة من
عشوائيات البؤس التي «تزنر» المدن الكبرى مع فارق بسيط يتمثل بأنها محاطة
بالأسوار والحرس، حيث يمكن لمن يريد أن يعيش حياته في هذا السجن أن يمارسها
وفقا لقدرته على«الفهلوة» والتي سيتحلى بها غيبسون، أورد اسم غيبسون دون
اسم الشخصية التي يمثلها لأنه سيكون بلا اسم إلا إذا تم اعتماد اسم بارنز،
ففي «جنريك» الفيلم اسم الشخصية «دريفر» - وهو بطل الفيلم الذي يمضي في
مغامراته التي لن تكون إلا إجازة دامية ومضحكة في الوقت نفسه، حيث سيتمكن
بمساعدة فتى لم يتجاوز الحادية عشرة من عمره أن يدخل مفاصل هذا المكان الذي
وضع فيه ويستعيد حتى المال الذي استولى عليه شرطيان مع بداية الفيلم،
ولنضيف هنا سؤالاً إلى الذي بدأنا به، يتمثل بكيف حقق غيبسون ذلك؟ هنا سيتم
استدعاء الخفة التي تجعل من فعل إلقاء قنبلة يدوية أمراً مضحكاً ونحن نرى
من يوجه الرصاص عليه يتفتت، على طريقة «المكسيكي» أو على شيء من «ماتريكس»
المطعم بالظرافة عندما يدخل مجموعة من الرجال السجن على طريقة «الكاوبواي»
وهم يبحثون عن غيبسون ليقتلوه، وكل ذلك يجري في هذا السجن العجيب، حيث
سيكون صراع غيبسون مع من يتعقبه من خارج السجن، ومن ثم من داخله أي خافي
وأخوه وعصابته العائلية، ومن ثم دخول تلك العصابة المهيمنة على السجن من
خلال الفتى الذي قتل والده على أيديهم وهم حريصون على هذا الفتى لأنه قادر
على منح خافي كليته، وبالتالي سيتم تدوير الاحداث وربط مصير الفتى وأمه
بمصير غيبسون الذي سينجح في النهاية في الخروج من كل المآزق والورطات التي
يقع فيها مثل «الشعرة من العجين»، ولعل هذا العبارة هي الأصلح لوصف سيناريو
الفيلم الذي يدوّر الحدث بحيث يصب في النهاية نحو تلك النهاية المصادق
عليها سلفاً. أنتهي من استعراض الفيلم سريعاً، لكن يبقى ما يمكن أن يكون
قدرة السينما على تقديم ما تشاء وتحريفه، القدرة التي تستدعي الاحتفاء على
الدوام والتفكير أيضاً، وأقصد هنا مساحة العنف الكبيرة التي يحملها الفيلم
والتي يجبرنا في الوقت نفسه على التمتع بها، العنف الذي يكون مادة للترفيه
والضحك، فغيبسون وأفلامه التي أخرجها تحمل الكثير من تصوير البتر وقطع
الرؤوس والأعضاء في «قلب شجاع» و«أباكاليبتو» وحتى «آلام المسيح»، حيث
المازوشية والسادية على قدم وساق، وكذلك الأمر في «كيف أمضيت إجازتي
الصيفية» مع أنه ليس مخرج الفيلم، إلا أنه يقول: هذه إجازتي التي أمضيتها
في قتل كل أولئك الأشرار لتضحكوا يا معشر المشاهدين، وهو ناجح تماماً في
ذلك.
الإمارات اليوم في
26/04/2012
«مذكرات
ديفيد لينش»..
الضياع وسط الظلام والحيرة
زياد عبدالله
يمكن لمن شاهد أفلام المخرج الأميركي ديفيد لينش، أن يضبط عوالمه
الخاصة في أفلامه، وله أيضاً أن يقع في ذلك النفق الذي لا ينتهي من الألغاز
القادمة من عوالمه وشخصياته التي تستدعي التوقف مطولاً أمام مملكة سينمائية
خاصة صنعها هذا المخرج الأميركي المستقل، واقتحم من خلالها عوالم لها أن
تكون على اتصال به وحده.
هذه العوالم لها أن تدفع للتساؤل عن صانعها أيضاً، ومقاربته شخصياً،
بحيث سيكون المشاهد معنياً بشكل أو آخر بالاقتراب من شخصية مخرج تلك
الأفلام، والتعرف إلى ما يحيط صناعته أفلاماً مثل «الرجل الفيل» ،1980
«مخمل أزرق» ،1986 «مولهولاند دريف» ،2001 وغيرها من أفلام، وعليه سيكون كل
ما تقدم بمثابة تقديم لكتاب يحمل عنوان «مذكرات ديفيد لينش» صادر عن
المؤسسة العامة للسينما في سورية، وهو يحمل الرقم 192 في سلسلة الكتب
السينمائية التي أصدرتها المؤسسة. الكتاب سلسلة لقاءات أجراها مع المخرج
كريس رودلي، تختزل حياته ومقاربته ومسيرته الفنية من خلال إجابته عن أسئلة
هذه الحوارية المطولة التي تمتد في أكثر من 330 صفحة في النسخة العربية
منها التي ترجمها عبدالله ميزر، وعلى شيء يجعلنا حيال مسار زمني يبدأ من
الطفولة وينتهي مع فيلم لينش الشهير «مولهولاند دريف». سأركز في عرضي لهذا
الكتاب على المقدمة التي وضعها رودلي، مع التأكيد في الوقت نفسه على أهمية
وعمق كل سؤال موجود في الكتاب، بحيث يمكن اعتبارها محاولة حصيفة لنبش عوالم
لينش والخروج بأكبر قدر ممكن من طريقة تفكيره ومقاربته وما أحيطت به
أفلامه، وبالتالي العملية الإبداعية والحياتية المنغمس بها لينش، كما لو
أننا نتتبع الطريق المفقود الذي يتحدث عنه لينش حين يتكلم عن «مولهولاند
دريف»، «الطريق» ايضاً لدى فيلليني الذي تستلم له الخطوات فيمضي بها إلى
عوالم مجهولة يجري اكتشافها بالتناغم مع المسير. سيتحدث لينش كثيراً عن
الفن التشكيلي في هذا الكتاب، خصوصاً في القسم الأول منه، فهو رسام أيضاً،
ولعله منغمس تماماً في الرسم الذي يلتقي لديه مع السينما بوصف الفعل
الإبداعي يؤدي إلى تغليف الماضي «بصورة جميلة كي نتمكن من متابعة الحياة
بشكل أفضل، لأن النظر إلى ذكريات الماضي بدقة ومن دون تحريف لابد أن يوقع
الكآبة في النفس». أعود إلى المقدمة التي أختم بها والتي تبدأ بـ«الغرابة
والغموض»، الكلمتين المفصليتين في سينما لينش، أو «الضياع وسط الظلام
والحيرة» حسب تعبير لينش، وهنا يشكل ذلك المعبر إلى غواية سينما لينش، أو
جانب رئيس في عالمه السينمائي، إذ إن الغرابة والغموض «تشكلان الأرضية
للجوانب المروعة أو التي تثير الخوف حسب اعتقاد فرويد، حيث يتعلق الأمر
بالشعور بالرهبة لا بالرعب الحقيقي، وبهاجس الأفكار المقلقة والمزعجة لا
بالخفايا المروّعة»، إذ إن الغرابة والغموض في أفلام لينش تحولان «كل ما هو
مألوف إلى غير مألوف فتفرز بذلك إحساساً مقلقاً من الغرابة أو اللامألوف في
الاشياء»، ومن ثم ستنتقل إلى البحث عن منابع ذلك وربطه بالحياة المدينية
وما إلى هنالك مما سيتوالى مع توالي صفحات الكتاب ونحن نتعقب عوالم لينش
مروية على لسانه.
الإمارات اليوم في
26/04/2012 |