بمناسبة تكريمه في الدورة الرابعة عشر لمهرجان سالونيك الدولي للافلام
التسجيلية قامت إدارة المهرجان بأصدار كتاب عن المخرج
الوثائقي"الأسرائيلي": آيال سيفان ضم مقدمة كتبها مدير المهرجان الناقد
اليوناني"ديميتري ابيديس"وحوار مطول مع سيفان اجراه الصحفي اليوناني
"ديميتري كركينوس"بالاضافة إلى عدة مقالات وقراءات نقدية وصحفية لأفلام
سيفان التي انجزها على مدار اكثر من ربع قرن منذ ترك اسرائيل عام 1985 إلى
فرنسا وعمل كمصور فوتغرافي ثم انتقل إلى عالم السينما الوثائقية.
ضمن فعاليات تكريم سيفان عرض له المهرجان ستة من اهم افلامه التي
انجزها على طول مشواره السينمائي الذي بلغ ستة عشر فيلما بدأها عام 1987
بفيلمه عن مخيم"عقبة جبر"إلى جانب أفلام "اذكر..عبيد الذاكرة"إنتاج
1990و"المتخصص"عن محاكمة النازي"اودلف ايخمان"في اسرائيل إنتاج1999وفيلمه
الأشهر الذي اشترك فيه مع المخرج الفلسطيني"ميشيل خليفه" "الطريق 181"
إنتاج 2003 وفيلم "احبكم جميعا" إنتاج 2004, وبالطبع فيلمه الرائع "يافا
البرتقالة الآلية" إنتاج 2009 والذي عرض ضمن الاختيار الرسمي للمهرجان
العام الماضي وفيه قدم قراءة مميزة لواقع وتاريخ اسرائيل كفكرة استعمارية
نبتت في ذهن اوروبا والصهاينة الاوائل للتخلص من اليهود في اوروبا وزرع قوة
عسكرية امبريالية داخل الشرق العربي.
وكانت مفاجأة سيفان والمهرجان على حد سواء هو العرض العالمي الاول
لفيلمه الجديد"الدولة المشتركة..الجزء الاول من حوار طموح"والذي يدور حول
هدم فكرة الدولتين التي تتبناها اوروبا واتفاقية اوسلو, وتطرح من خلال
محاورة سينمائية شيقة اراء 25من المفكرين والنشطاء السياسيين الفلسطينين
والاسرائيليين من مناهضي الصهيونية ومؤيدي فكرة اقامة دولة واحدة تجمع
الشعب اليهودي والفلسطيني دون أن تكون صهيونية أو اسرائيلية.
وقد ادير نقاش مع المخرج عقب عرض الفيلم في صالة مبني الاوليمب اكبر
واهم قاعات العروض في مدينة سالونيك, حيث سئل المخرج عن سر قبوله للعرض
العالمي الاول في مهرجان ليس كبيرا مثل سالونيك فأجاب انه كان من الممكن أن
يقوم بعرض الفيلم عالميا لاول مرة في مهرجان كان او فينيسيا ولكنه دائما
مؤمن بالانحياز إلى الضعفاء! في اشارة إلى المشاكل الأقتصادية التي تواجهها
اليونان الان وبالرغم من ذلك تمكنت من انجاز الدورة الجديدة من المهرجان
على اكمل وجه.
·
في البداية نود أن تحدثنا عن بعض الامور التعريفية بك؟ علاقتك بالبلد التي
ولدت ونشأت فيها,قرارك بتركها والعيش في بلد أخر, الأسباب التي كانت وراء
تركك للتصوير الفوتغرافي واتجاهك لصناعة الافلام الوثائقية؟
لقد ولدت في شمال"اسرائيل" عام 1964 لأبوين مهاجرين جاءا إلى"إسرائيل"
قبل عام واحد من ولادتي قادمين من اوروجواي, وكان كلاهما من الجيل الاول
الذي ولد في أمريكا الاتينية لأن جدودي أنفسهم كانوا ايضا مهاجرين, جاؤوا
من اوروبا الشرقية إلى امريكا الاتينية في اوائل عام 1920.
وعلى الرغم من
أنني ولدت لأسرة مهاجرة كنت جزءا من الطبقة العليا للمجتمع, انني يهودي
اشكينازي(غربي)في النهاية, وهذا أمر مهم للغاية يجب أن اذكره, لانه بالنسبة
للكثير من اليهود فإن علاقتهم بالدولة تتحدد على اساس المناطق والدول
القادمين منها وهذه الفكرة هي التي تحسم ايضا امكانية حصولهم على حقوقهم
وامتيازاتهم.
ولكنني ارى أنه كوني يهوديا او اسرائيليا امر لا يستحق الحصول على أية
حقوق أو امتيازات, بل على العكس تماما, أنه من الواجب ان يقوم المرء
بالنضال من أجل الحصول على المساواة وضد اي تمييز.
لقد انتقل ابوي وانا في سن الرابعة من مدينة حيفا في الشمال إلى القدس, بعد
عام واحد من الاحتلال الأسرائيلي للضفة الغربية وقطاع غزة. وكان ابواي
كليهما يجسدان النموذج الصهويني من خلال مهنتهم, حيث كانت أمي عالمة آثار
وكان أبي مهندسا معماريا. ولقد نشأت في الفترة التي كانت فيها السياحة
مستحبة داخل مدن القدس الشرقية وقطاع غزة على الرغم من الأحتلال.
ومثل كل الشباب الأسرائيلي كان يجب على أن التحق بالجيش الاسرائيلي
بعد الانتهاء من المدرسة الثانوية ولكنني اتخذت قرار بألا أفعل ذلك,وكان من
الامور التي سهلت نضالي لتجنب الخدمة العسكرية هو أنني كان من المفترض ان
انخرط في الجيش عام 1982, بعد شهرين فقط من المذبحة الأسرائيلية التي حدثت
في لبنان بمخيمات صابرا وشاتيلا.
بعد أن تم اعفائي من اداء الخدمة انتقلت من القدس إلى تل ابيب وهناك
حاولت أن انقل هوايتي وهي التصوير الفوتغرافي إلى مجال الاحتراف حيث عملت
بتصوير الأعلانات والموضة وقمت بالعمل كمصور محترف لمدة عامين متتالين حتى
منتصف الثمانينيات وبعدها قررت أن اسافر إلى فرنسا بسبب رمانسيتها في نظري.
في العام التالي مباشرة 1985 قمت باخراج اول افلامي "عقبة جبر" حول
الحياة اليومية للاجئين الفلسطينيين في مخيم يقع على شاطئ البحر الميت في
مدينة جرش الأردنية, كنت قد قمت بزيارة المكان لاول مرة مع احدى الموديلات
من اجل جلسة تصوير لمجلات الموضة, وهناك التقطت مجموعة من الصور الهامة
والتي لم انشرها وقتها.
في نفس السنة التي تم اطلاق الفيلم فيها للعرض العام انطلقت الانتفاضة
الفلسطينية الاولى في الضفة الغربية وقطاع غزة, وهي الانتفاضة التي بدأت من
مخيمات الاجئين, وعدت بعدها إلى اسرائيل لكي اعمل في الحملة الانتخابية
للحزب العربي اليهودي(القائمة التقديمة للسلام)ومكثت لوقت قليل جدا في
اسرائيل ثم عدت بعدها لاستقر تماما في باريس.
·
ما هي العناصر الجمالية
والسينمائية التي أثرت على تكوينك الاخراجي؟ وإلى من تعزو بعض الفضل في
تشكيلك كمخرج ؟
يجب
أن اعترف انني لم اكن من المتحمسين للسينما, لقد جئت إلى السينما من مجال
الصورة الثابتة, والتي لا ازال اعتبرها فنا نبيلا, ولكنني بسبب عملية
المونتاج السينمائي عرفت قيمة الصورة المتحركة ودلالاتها الانهائية.
لست متيقنا من فكرة الأشارة إلى عناصر مؤثرة بعينها, عندما كنت شابا
كنت مولعا بأعمال فلليني ولكنني لا استطيع أن اقول أنني تأثرت بها جماليا,
انني لا زلت مفتونا بأعمال مصورين امثال ديانا اربوس, روبرت فرانك, جوزيف
كودكا, وبالطبع هنري كارتيير بريسون, اما سينمائيا فقد اكتشفت اثناء عمليات
البحث الكثيرة لموضوعات افلامي مؤلفات لكتاب مثل مارسيل اوفولس وجون فان
ديركوخن, والتي عززت قناعاتي بالامكانيات الهائلة للسينما الوثائقية.
·
إلى أي مدى تاثرت بالمفكر الكبير
ليبوفيتز؟ وهل ثمة هناك مفكرين اخرين نستطيع ان نقول انهم احدثوا امرا
فارقا معك؟
لقد التقيت بالبروفيسور ليبوفيتز عام 78 عندما تأسست في القدس
حركة"طلاب ضد الاصولية الدينية"حيث ذهبنا للحصول على الدعم الفكري منه, وهو
رجل الدين الذي طالما أمن بضرورة الفصل ما بين الدين اليهودي ودولة اسرائيل
وقد اعطانا دعمه بكل ترحيب.
كان لموقفه بخصوص عصيان الجيش الأسرائيلي وانكار الخدمة العسكرية
في"الأراضي المحتلة" وحرب لبنان اكبر اثر على قراري برفض الانخراط في الجيش
الاسرائيلي وتأدية الخدمة.
ولكن ليس معنى هذا اننا نتوافق على كل شئ, فهو صهيوني على سبيل المثال
بينما أنا لست كذلك, وهناك بالطبع بمرور السنوات العديد ممن اثروا في
تفكيري, وبالطبع لا نستطيع ان ننكر اهمية القراءة في احداث تأثير كبير.
يمكنني ان اذكر ايضا الكاتبة"حنا ارندت"و"والتر بنيامين", ومن بين
الأحياء الذين تأثرت بهم كثيرا ولانزال على صداقة وطيدة البروفيسور"عمون
راز كراكوتزكن" الأستاذ بجامعة بن جوريون, لقد دوامنا على تبادل المناقشات
لسنوات طويلة وهو ايضا احد شخصيات فيلمي الجديد "دولة مشتركة" وفيلمي
السابق"يافا البرتقالة الألية".
·
ما هو تعريفك للسينما
الوثائقية؟وهل يمكن أن تحدد لنا رؤيتك لها؟
في البداية اقول أن السينما الوثائقية بالنسبة لي ليست نوعا من
السينما, انا لا اعتقد أن الوثائقية"نوع"مثل الفيلم الخيالي, ولاهي نوع من
الانتاج الثقافي, اعتقد ان الوثائقية هي"موقف" وليست نوع, وموقف الوثائقية
هو المراجعة, المراجعة الدائمة للأفكار, واقصد هنا كلا المعنيين اللذان
تشير إليهما كلمة"مراجعة", أي اعادة النظر وإعادة التقييم لكل ما هو موجود
وثابت بالفعل عبر طرق تفكير مختلفة, وتنقيح المعرفة الراسخة
و"الحقيقة"المتعارف عليها.
انا مهموم دائما بمراجعة التاريخ, واتصور ان الوثائقية في جانب منها
هي مراجعة للتاريخ, وكذلك فإن الوثائقية تخلق نوعا من الارشيف الدائم الذي
يحفظ الواقع في لحظات معينة من ناحية ويشهد من ناحية أخرى على الوقائع
السياسية اكثر من هؤلاء الذين يعملون بالسياسة.
اود أن اعرف الوثائقية بأنها التعامل مع الواقع بينما الخيالية"الفيلم
الخيالي" هو الانطلاق من الواقع,
اما على المستوى الشخصي يمكن ان اقول ان صناعة الأفلام الوثائقية هي أداتي
في التعبير, ربما الاداة الوحيدة للتعبير التي يمكن أن ادعي اني على علم
بها, وهو الادعاء الذي لا يمكن أن اقوله بالنسبة للكتابة على سبيل المثال
أو اي وسيلة فنية اخرى للتعبير.
الوثائقية بالنسبة لي هي امكانية اعادة صياغة وجهات النظر المستديمة
والمواقف السياسية والتاريخية بل والتاريخ نفسه.
·
تركز افلامك على الصراع
الأسرائيلي-الفلسطيني وكذلك على التوظيف السياسي للذاكرة-تحريف الذاكرة
والهوية اليهودية من خلال الدولة الأسرائيلية, ماذا يعني لك التعامل مع مثل
تلك الأفكار؟ هل تعتبر نفسك مخرج مناضل؟ وما هي المشكلات التي تواجهها
عندما تصنع مثل هذه الأفلام؟
اسرائيل وفلسطين, فلسطين واسرائيل, الامر قبل كل شئ هو مساحة اختبار,
مساحة تمكنني من اختبار الحديث عن موضوعات تتجاوز فكرة الصراع الجغرافي أو
الديني.
يمكنني من خلال تلك المساحة أن اطرح اسئلة عن الذاكرة, استخدام
الذاكرة, التعامل مع الذاكرة كأداة, السؤال عن التزوير التاريخي, اسئلة عن
الأستعمار والأستعمارية, كل هذه اسئلة يمكن أن اختبر طرحها من خلال مساحة
الصراع الأسرائيلي-الفلسطيني, وايضا بنظرة اوسع من ذلك يمكن ان اقول ان
افلامي تتعامل اساسا مع الشر السياسي والجريمة السياسية.
التعامل مع مثل هذه الموضوعات يجعلك دائما على خط النار في مواجهة
صراع عنيف, يجب عليك ان تتقبل وجودك في المعركة, وان تتحمل عقبات هذه
المعركة, هذا هو الصراع الحقيقي وهذا هو جزء من الاجابة على سؤالك بخصوص
اذا ما كنت اعتبر نفسي مخرج مناضل.
(militant)/المناضل في اللغة الأنجليزية هو مصطلح اشكالي في
الحقيقة, انه لا يعني نفس المصطلح في اللغة الفرنسية (الناشط), في
الانجليزية يعني الشخص الذي يستخدم سلاحا, أنه يعني نوع من الجندية
السياسية, وفي الحقيقة انطلاقا من هذا التعريف بالانجليزية استطيع أن اتقبل
فكرة أنني مخرج مناضل لانني بالفعل اومن بأن الوثائقية نوعا من الأسلحة
ولكنها ليست من اسلحة الدمار الشامل بل من اسلحة البناء الشامل إذا جاز
التعبير بل اذا اردت ان تقول : انها سلاح هائل للتفكيك وأعادة البناء مرة
اخرى.
اما عن المشكلات التي اواجهها فانا اواجه نفس المشكلات التي يواجهها
اي صانع افلام وثائقية في الفترة الحالية وهي مشكلات الانتاج وصعوبة الوصول
إلى الأرشيفات المختلفة, او رفض بعض الشخصيات أن تشارك في افلامي, ولكن
بسبب إننا في صراع - وهو صراع سياسي بالأساس- نواجه عدو شرس وعنيف, احيانا
ما اواجه معارك شرسة جدا داخل هذا الصراع الكبير لصناعة فيلم, احيانا تتمثل
في فرض انواع من الرقابة, محاولة الأغتيال الفكري, وتشوية السمعة إلى أخره
ولكنني لا ارى هذا استثنائيا بالنسبة لي بل اراه امرا عاديا في مثل هذا
النوع من الصراعات لانني متقبل لضرورة تحملي لمسؤلية وجودي داخل مثل هذا
الصراع.
·
فيلمي"احبكم جميعا"و"المتخصص"
كلاهما تم بناءهما بالكامل من خلال اعادة مونتاج مواد ارشيفية, ما هو دور
المونتاج في السينما الوثائقية؟
في الحقيقة أتصور أن الأجابة تكمن في السؤال, أن الوثائقية تكمن في
المونتاج, المراجعة تعتمد على المونتاج, والمونتاج في اللغة الفرنسية يعني
القطع, التوليف, وايضا البناء, عندما تقوم ببناء مادة معينة فهذا هو
المونتاج وهذه هي الوثائقية, الوثائقية هي أن تضع أشياءا بجانب اشياء أخرى
لا تنتمي جميعها لنفس الزمن أو المساحة, انها اعادة البناء واعادة التعليق
بشكل لم يتخذ صورته بمثل هذه الحالة في الواقع, إذن الوثائقية هي بشكل او
بأخر مونتاج.
·
هل تعتقد أن فيلمك يافا
البرتقالة الآلية نجح في اعادة النظر للإدعاء الذي قامت علي اساسه دولة
اسرائيل"شعب بلا أرض من أجل ارض بلاشعب"؟ إلي اي مدى يمكن ان تنجح
الوثائقية في تغيير المعتقدات الراسخة لدى الناس؟
الفيلم بمفرده لا يمكن ان ينجح في هذه المهمة, وهي مهمة تعتمد على
اعادة بناء جيولوجية, ان"يافا"هي جزء من تلك العناصر التي استخدمت لسنوات
طويلة في محاولة اعادة بناء الصهيونية جيولوجيا, يافا هي جزء من الصراع
الأستعماري.
بالنسبة للسؤال الخاص بنجاح الفيلم في مهمته فهو سؤال يجب أن يوجه إلى
المتلقي, فالمتلقي هو الوحيد الذي
يمكن ان يقول لك إذا ما كانت رؤاه قد تغيرت بعد المشاهدة, وهذا
ايضا مرتبط بسؤالك عما إذا ما كانت الوثائقية قادرة على تغيير معتقدات
الناس, الوثائقية كموقف وليست كنوع كما ذكرت تستطيع او يجب عليها محاولة
تغيير وجهات النظر الراسخة, ان الامر ليس له علاقة بالمعتقدات ولكن كيفية
اعطاء الناس من خلال"المراجعة الوثائقية"القدرة على تنقيح الأفكار, واعادة
النظر في نفس الاشياء التي نتصور اننا بالفعل نملك وجهة نظر واضحة عنها
ورأي سليم, انها اعادة مشاهدة الامور من زاوية مختلفة تماما والايمان بأننا
لا يمكن ان نتجاهل ما هو حقيقي وموجود بالفعل حتى لو لم نكن نعلمه.
·
هل تعتقد أن المخرج الوثائقي يجب
أن يتعامل كمؤرخ لفترته الزمنية, اي يقوم بتسجيل التاريخ من اسفل بدلا من
أعلى؟ هل تتفق افلام "عقبة جبر"و"الطريق 181" مع هذا المنظور؟
يقول والتر بنيامين في اطروحته عن التاريخ(أن المؤرخ في نظرته للتاريخ
يجب ألا يفرق بين الأحداث الكبيرة والأحداث الصغيرة).
اتصور أن عمل اي مخرج وثائقي هو عمل تأريخي, انه يتعرض لكل من الواقع
ووجهة النظر عنه في نفس الوقت, وهو ايضا يُعتبر شاهدا على الاحداث السياسية
في فترة زمنية معينة, اعتقد أنه بسبب أن السينما الوثائقية تعتبر جزء من
الأرشيف المعرفي العام فأن المخرج الوثائقي يمكن أعتباره مؤرخا بشكل أو
بأخر.
اما بخصوص عما اذا كان التاريخ يجب أن يسجل من الاسفل وليس من الأعلى
فإن الجزء الاول من اجابتي يبللور لك أن اهتماماتي هي عدم اعتبار ان ثمة
أحداث كبرى واحداث صغرى, أو شخصيات كبيرة وشخصيات أقل شأنا, في هذا المجال
يكمل والتر بنيامين رأيه قائلا: المؤرخ الذي لا يصنع تمييزا بين الأشياء
الكبرى والأشياء الصغرى, بين ما يبدو مهما وما يبدو غير مهم هو من يشهد على
الحقيقة في النهاية.
·
جاء فيلم "أذكر" 1990 ليتلامس مع
موضوع النظام التعليمي في "إسرائيل"والطريقة التي يتم بها استغلاله للذاكرة
و"المعاناة اليهودية" في الماضي من أجل تبرير افعال "الدولة" الحالية فهل
تغير شئ في السنوات الأخيرة فيما بتعلق بذلك؟
اعتقد اننا يجب أن نستمع إلى السياسيين الأسرائيليين بخصوص هذا, يجب
أن نرى كيف ينظر العالم الغربي إلى إسرائيل وساعتها سوف ندرك ان شيئا لم
يتغير على الاطلاق, لقد اصبح النظام التعليمي الأسرائيلي اكثر عنفا من ذي
قبل, اكثر "قومية" , واكثر عنصرية مما جاء في الفيلم قبل عشرين عاما, ان
القاعدة الأساسية هي تحديدا عملية استخدام "الذاكرة" كسلاح من اجل تبرير
الجرائم ولاسكات كل من يحاول أن ينقد"الدولة". وهذا هو الاحساس الجديد الذي
سوف تشعر به اليوم, ان اي محاولة لأنتقاد السياسة الأسرائيلية سوف يتم
اعتبارها"معادة للسامية"على الفور, وهذه الطريقة في استخدام "معادة
السامية" كأداة لتخويف الناس تعني ان شيئا لم يتغير.
ان اسرائيل ترى نفسها دائما كممثل لشهداء"الهولوكست"والأبادة
الجماعية,كدولة لها ميزة أخلاقية بسبب ذلك, هكذا ترى نفسها
ويراها"العالم"على هذا النحو.
·
ينظر لك دائما على انك احد
المنشقين عن تيار السينما"الأسرائيلية", كيف يتعامل السينمائيين
الأسرائيليين فيما يتعلق بالتعبير عن اي انتقاد لسياسة الدولة؟ وكيف تتعامل
معهم "إسرائيل"؟ هناك الكثير ممكن يتهمونك بمعادة اسرائيل فهل هناك من
يدافع عنك؟
في مقابل كل شخص يتعاطف معي ثمة عشرة اشخاص يكرهونني, وفي مقابل كل
شخص يدعمني ثمة عشرة اشخاص يتهمونني, هذا لا يعني انني لا القى دعما بالطبع
ولكنني اقصد في الحقيقة أنه عندما يقدم مهرجان هام مثل سالونيك على تنظيم
برنامج تكريمي لافلامي فهذا يعني دعما هاما جدا بالنسبة لي ولغيري ايضا.
اما بخصوص الدعم من داخل اسرائيل اقول لك نعم لدي الكثير من الدعم
المعنوي خاصة من طلابي في الجامعة, ومن بعض صناع الأفلام الاسرائيليين
والمفكرين ايضا. اما بخصوص العلاقة ما بين صناع الأفلام الأسرائيليين
والدولة فلا اعتقد ان ثمة موقف محدد, معظم صناع الأفلام مثلهم مثل معظم
الاسرائيليين من "القوميين" او المنتمين للرأسمالية الليبرالية القومية,
ونستطيع ان نرى ذلك من خلال نوعية الأفلام التي تصنع والموضوعات التي يتم
اختيارها, هناك ايضا الكثير من صناع الأفلام الذين يتعرضون بالنقد للدولة,
ولكن هناك فارق كبير بين ان تنتقد بعض عناصر النظام وبين أن تنتقد النظام
ذاته وهو امر مختلف تماما, عندما تكون في موقف المناهض او المنشق فهذا
معناه ان تحدث تمزق, ان يكون لديك ارادة للتغيير, البعض الاخر يرى انه يكفي
أن تكون مجرد ناقد للمسموح به, وفي الحقيقة فهذه هي الافلام التي تروج من
قبل"إسرائيل"وهذه هي الخدعة الكبرى تحديدا, ان العلاقة بين"إسرائيل"وصناع
الافلام او الفنانين هي في الحقيقة ان يتم استغلالهم عالميا من اجل ابراز
انها دولة"ديموقراطية", فها هي تدعم وتساعد حتى من ينتقدوها!!
وهذا هو تقريبا التحدي الاكبر والمشكلة الكبرى التي تواجهني كمخرج,
وهي إلا يتم استغلالي على هذا النحو, فالتحدي الاكبر لمناهضي اسرائيل هو
ألا يتم اعتبارنا مدينين"للديموقراطية الأسرائيلية" ولكننا موجودون بالرغم
من تلك "الديموقراطية الأسرائيلية".
الصديق العزيز والمخرج الفلسطيني الكبير"ميشيل خليفة" الذي قمت
بالأشتراك معه في إخراج فيلم "الطريق 181" عام 2003 قال : أن اخطر شئ يمكن
ان يحدث هو أن يتم استغلال نقد السياسة الأسرائيلية من قبل "إسرائيل" نفسها
من أجل تأكيد صورة الدولة التي تريدها لنفسها.
ولكن للأسف هذا ليس حال اسرائيل فقط مع النقد, ولكنها حالة عامة تخص
كل الانظمة اللبرالية الغربية التي تدعي الديموقراطية فيما يتعلق بسوء
استخدام مناهضيها, وكأن الأنتقاد ليس شيئا طبيعيا ولكنه مجرد استثناء يجب
احتواءه فقط.
·
ما هو عدد الأفلام التي قمت
بعرضها في "إسرائيل" ؟ وكيف كان استقبال الجمهور لها؟ وهل كان لأفلامك اي
تأثير يذكر على الجمهور فيما يخص الموضوعات التي تناولتها؟
هناك الكثير من أفلامي لم يتم عرضها في"إسرائيل" , فقط عدد قليل جدا
تم عرضه في النوادي السينمائية او في مهرجانات سينمائية صغيرة, او في
الجمعيات الأهلية والاجتماعات غير الرسمية أو في مقرات الحركات السياسية,
وثمة عدد من افلامي تم تدريسها في إسرائيل, ولكنني أعلم أن عدد الأشخاص
الذين كتبوا عن أفلامي وانتقدوها بشكل كبير اكثر من عدد هؤلاء الذين قد
شاهدوها بالفعل!
استطيع ان اقول ان معظم الاشخاص الذين انتقدوا افلامي لم يشاهدوا
أفلامي في الواقع لانه ليس هناك فرص تسمح بعرضها كثيرا في"إسرائيل", اما
بخصوص التأثير على الجمهور ففي الحقيقة ان بعض افلامي بالفعل استطاعت ان
تخلق جدلا بين الجمهور وتشكل بعض المعارضين والداعمين لهذا التيار وهو ما
اصبح صوتا مضادا من الصعب تجهاله الان, واستطيع ان اضرب مثلا بفيلمي
"المتخصص" فاليوم من المستحيل أن تأتي على ذكر محاكمة "ايخمان" أو تتساءل
عن محاكمات الجرائم النازية دون ان تشير إلى هذا الفيلم, وحتى العديد من
معارضي اعمالي لا يستطيعون ان ينكروا هذا.
·
إلى أي مدى انت متفائل بالمستقبل؟ مع الاخذ في الاعتبار ان ثمة العديد من
الحملات القوية والمؤثرة التي تعزز فكرة الدعوة إلى الحرب وليست لها اي
اهتمامات بطرح خيار السلام؟
لا اتصور ان السؤال له علاقة بالتفاؤل أو التشاؤم, انه أشبه بتعريف
التفاؤل بأن نقول : في العام القادم سوف نأكل رمالا, ساعتها سوف يتساءل
المتشاءم : كيف يمكن أن نجد وقتها رمالا تكفي الجميع!, أن السؤال المطروح
هو سؤال الوعي, هو السؤال عن الأجندة السياسية ومعنى أن يكون لك موقف
سياسي, اود هنا أن اقتبس شيئا ما ورد في أحد افلامي اثناء التصوير مع
البروفيسور ليبوفيتز وهو ما اقتبسه بدوره من فولتير, يقول فولتير: أن
التاريخ هو تأريخ جرائم وجنون وكوارث البشر, واضاف ليبوفيتز ان هذا صحيح
جدا ولكن التاريخ كذلك هو تأريخ لصراع الانسان في مواجهة الجرائم والجنون
والكوارث ايضا. أنني اتفاءل عندما اجد الناس في حالة صراع, ان تصارع معناه
انك على قيد الحياة, سواء انتصرت أو لم تنتصر, ربما كانت هذه الرؤية سببها
الأشتباك بالسياسة, إذا اردت أي ضمانات أو يقينا بالانتصار فهذا معناه انه
ليس لديك القدرة على الأشتباكات السياسية, ان الصراع السياسي هو صراع دائم.
·
ما هي أحلامك بالنسبة لأسرائيل؟
لا اعتقد أن لدي أيه احلام تخص أسرائيل, ما احلم به هو ما يمكن ان
تكون عليه هذه الأرض ذات يوم, الأرض التي ولدت بها, البلد التي احبها على
الرغم من كل مناهضتي للدولة القائمة عليها, ما احلم به لاسرائيل في الحقيقة
هو لا شئ, انني احلم من أجل الأسرائيليين, احلم من أجل الفلسطينيين, أحلم
من أجل الناس, انني آمل قبل كل شئ أن حكومة اسرائيل وايديولوجيتها لا تقرر
أن تصنع نهاية العالم التي هي قادرة على اطلاقها, ولكن بالنسبة
للأسرائيليين والفلسطينيين فإنني أتمنى ان يدركوا جميعا الحقيقة البسيطة
التي تتمثل في ان السؤال ليس هل سيعيش الأسرائيلين والفلسطينين سويا او
العرب واليهود معا ولكن السؤال هو كيف سيعيشان معا؟ أمنيتي أن تأتي لحظة
اليقين بحقيقة أن السؤال ليس عن الأنفصال او الدولتين ولكن عن كيفية بناء
مجتمع واحد,وهذا ما سوف يحقق بالفعل فكرة مناهضة الاستعمارية.
·
هل يمكن أن تحدثنا عن فيلمك
الجديد "الدولة المشتركة..الجزء الأول من حوار طموح"؟
هذا الفيلم ولدت فكرته عقب انتهائي من تأليف كتاب مع الناشر والمفكر
الفرنسي إريك حازان عنوانه"دولة مشتركة ما بين البحر المتوسط ونهر الأردن",
الفيلم عبارة عن محاورة متخيلة على شاشتين منفصلتين بين مفكرين وعلماء
ونشطاء سياسيين اسرائيليين وفلسطينيين, والذين يناقشون معارضة فكرة تقسيم
فلسطين, أنه فيلم يناقش فكرة انه توجد دولة واحدة الان على ارض فلسطين هي
دولة الفصل والتمييز العنصري, ولكنهم يتحدثون عن المستقبل والامكانيات التي
يحلمها ويتحدثون عن كيفية انهاء الاستعمار وصياغة مشروع ديمواقراطي حقيقي
لدولة واحدة.
انه حوار متخيل يتكون من لقاءات قمت بتصويرها اثناء صيف وخريف 2011
عبارة عن توجيه نفس الاسئلة ل 25 شخصية حيث مكنني هذا من بناء حوار متكامل
حول نفس الموضوع, والمثير في الامر إلى جانب محاولة صياغة هذا بصريا هو
حقيقة أن الأسرائيليين كانوا يتحدثون العبرية والفلسطينيين يتحدثون العربية
والطريقة الوحيدة التي كان من الممكن ان يفهموا بها بعضهم البعض او يفهمهم
الجمهور هي فقط عبر الترجمة إلى لغة مختلفة تماما
! .
* من منشورات مهرجان سالونيك الدولي للأفلام التسجيلية الرابع عشر
الجزيرة الوثائقية في
12/04/2012 |