بعد «سمعان بالضيعة»، يواصل السينمائي الشاب رحلته الوثائقية. في
«الحوض الخامس»، يستند إلى تجربة عائلته مجدداً، باعتبارها صورةً مصغّرة عن
أحوال المجتمع اللبناني خلال الحرب. هكذا، ينطلق من الخاصّ إلى العام، مع
شهادات والده وأصدقائه الذين عملوا في المرفأ في ذلك الزمن الأسود
في فيلمه الأول «سمعان بالضيعة» (2009)، تناول سيمون الهبر (1975)
أحداث تهجير المسيحيين من جبل لبنان خلال الحرب الأهلية (1975 ـــ 1990).
روى لنا قصّة عمّه سمعان الذي اختار العودة إلى الجبل كي يرعى البقر بعيداً
عن المدينة. اليوم في شريطه الثاني «الحوض الخامس» الذي عرض أخيراً ضمن
«مهرجان شاشات الواقع» في «متروبوليس أمبير صوفيل»، يسرد المخرج الشاب
فصلاً آخر من فصول الحرب على لسان أبيه وأصدقائه من سائقي الشاحنات التي
كانت تنقل البضائع من مرفأ بيروت. إنّها رحلة نجول فيها على شخصيات عايشت
زمناً مضى مع انتهاء الحرب. لكن، هل نجح صاحبنا في تقديم شيء جديد عن ذلك
«الزمن الأسود»؟ يتجسد الفيلم في ثلاث مساحات: الجبل، والمرفأ، ومساحة
مستحضرة من الخيال والروايات. في اللقطات الأولى، تتقاطع الصورة بين آليات
المرفأ، والطبيعة الجبلية، والشخصيات التي تشكّل نقطة التماس بين هاتين
الجغرافيتين. زمانياً، يعود بنا الهبر إلى الستينيات، لتنتهي بنا الحال
أوائل التسعينيات. مع ذلك، لا يستعين بمواد أرشيفية تساعده في إدخال
المشاهد إلى أجواء الفيلم، فالأرشيف هنا ينبع من ذكريات الشخصيات.
ينطلق الوثائقي مع الأب نجم الهبر المتنقل منذ صغره بين بيروت والجبل.
يخبرنا الرجل الكهل عن المرة الأولى التي قصد فيها بيروت بحثاً عن العمل
وهرباً من الريف. يفشل هذا المخطط عندما يكتشف أبو نجم مكان عمل ابنه في
مقهى «الجندول». سيعود نجم إلى القرية، ليعمل في الأرض وتربية الحيوانات.
لكنّ وفاة الأب ستسمح للابن بالعودة إلى بيروت، لتبدأ رحلته مع شراء
الشاحنات والعمل في المرفأ. بعد نجم، يتوالى ظهور السائقين الآخرين. يروي
كل واحد قصة وصوله إلى المرفأ، وذكرياته في ذلك المكان. ينقسم زمن الشهادات
التي تدلي بها الشخصيات إلى حقبتين. الأولى تتناول فترة ما
قبل الحرب، حيث تعود أسطوانة ذلك الزمن الجميل إلى الدوران عبر يوميات
هؤلاء الرجال. يخبرنا كل واحد عن فيلمه المفضل، لينفضوا الغبار عن «أبي فوق
الشجرة» وأفلام بروس لي. يخبروننا أن ثلاثين سيخ شاورما كانت تباع كل يوم
في ساحة البرج «التي ما كانت تنام». تتوالى الحكايات عن الزمن الجميل الذي
انتهى مع بداية الحرب الأهلية. هكذا، ندخل الحقبة الثانية. نصغي إلى
مغامرات السائقين في المرفأ الذي سيطرت عليه «القوات اللبنانية». لا بدّ
لنا من الخروج بعبرة، حين يخبرنا هؤلاء كيف أبعدوا شبح الطائفية عن المرفأ
رغم السعار الطائفي الذي أصاب المجتمع اللبناني. كان العمال المسلمون
يساعدون أصدقاءهم المسيحيين في الهرب إلى بيروت الشرقية، بينما ساعدهم
المسيحيون في النجاة من مجزرة «السبت الأسود». هكذا، نجول بين هاتين
الحقبتين، إلى أن نقترب من المشهد الأخير. حركة انسحابية للكاميرا من
المرفأ، مروراً بالجبل، وختاماً مع نجم الهبر الذي يخبرنا عن حلمه بالعودة
إلى القرية لقضاء ما تبقّى من حياته. من المؤكد أن «الحوض الخامس» يقوم على
جمالية عالية من حيث التأطير، وحركة الكاميرا، والألوان. لكن الهبر يتفلّت
من نجاح فيلمه الأول الذي استطاع عبره أن يطلّ على لبنان بأسره. في هذا
الشريط، يروي الهبر ذكريات سائقي الشاحنات في إطار تمجيدي، لتطغى
النوستالجيا على كل ما يريد قوله.
تستعدّ «متروبوليس أمبير صوفيل» لطرح سبعة أفلام وثائقية في أيار
(مايو) المقبل من بينها فيلم سيمون الهبر «الحوض الخامس» وشريط نديم مشلاوي
«القطاع صفر»
يا زمان الطائفية
يندرج «حوض الخامس» ضمن الموجة المعاصرة التي عمت لبنان وشجعت الأعمال
الوثائقية في بلد لا ذاكرة، ولا كتاب تاريخ له. هكذا، خُصّصت لها التمويلات
المحلية والأجنبية والمهرجانات. وفي بداية التسعينيات، شاهدنا أعمالاً تحمل
تلك النفحة النوستالجية والتمجيدية لحقبة الستينيات والحرب. ثم في أواخر
التسعينيات، تبلورت أعمال في السينما، والعروض المسرحية، والفنون التشكيلية
قطعت مع الماضي، وبدأت تبحث في حاضر مدينة جديدة بدأ يتشكل بعد الحرب. لكن
أين سيمون الهبر من الواقع الجديد الذي حطّم توجّهاً كان غارقاً في نبش
«زمن القتل على الهوية»؟
الأخبار اللبنانية في
03/04/2012
محمد خان: روبي هي «فتاة المصنع»
محمد عبد الرحمن / القاهرة
أعلن المخرج المعروف عبر حسابه على تويتر أنّ الممثلة والمغنية
المصرية ستؤدي بطولة فيلمه الجديد، الذي سينطلق تصويره في الصيف. وأكّد
صاحب «زوجة رجل مهمّ» لـ «الأخبار» أنّ العمل يتألّف من أشخاص حقيقيين
يعملون في المصانع
عبر حسابه الخاص على فايسبوك، أعلن محمد خان اختيار الممثلة والمغنية
روبي لبطولة فيلمه «فتاة المصنع». وبذلك، ستكون الممثلة الوحيدة المعروفة
في الشريط الذي سينطلق تصويره في الأول من حزيران (يونيو) المقبل. هكذا
أوضح المخرج المصري تفاصيل اختياره للممثلة والمغنية لتكون بطلة فيلم
الجديد «فتاة المصنع» (من إنتاج شركة «داي دريم»، وتأليف وسام سليمان، الذي
حصل أخيراً على منحة الدعم المقدمة من وزارة الثقافة المصرية). صاحب «بنات
وسط البلد» أكّد في اتصال مع «الأخبار» أنّ روبي ومعها الوجه الجديد ابتهال
السريطي، ستكونان فقط من الممثلات المحترفات، بينما باقي فريق التمثيل
يتألّف من أشخاص حقيقيين كما أعلن فور الكشف عن المشروع للمرة الأولى في
الدورة الأخيرة من «مهرجان دبي السينمائي الدولي» خلال شهر كانون الأول
(ديسمبر) الماضي.
ويدور الشريط بالكامل داخل أحد المصانع المصرية، كاشفاً عن تفاصيل
حياة العاملات في هذا المصنع، من خلال رؤية تمزج بين الوثائقي والروائي.
علماً أنّه المشروع الأول لخان، الذي يدخل حيز التنفيذ منذ سنوات. وقد أخفق
المخرج الكبير في الحصول على دعم المنتجين لمشاريع أخرى عديدة أبرزها
«ستانلي»، الذي كان من المقرر أن يؤدي بطولته محمود عبد العزيز، وأيضاً
فيلم «المسطول والقنبلة» عن قصة لنجيب محفوظ. ويعدّ فيلم «في شقة مصر
الجديدة»، الذي أدّت دور البطولة فيه غادة عادل (2007) آخر شريط أنجزه صاحب
«زوجة رجل مهم». وقال خان (1942) إنّ اختياره لروبي اعتمد على امتلاكها
الروح المصرية الشعبية، التي تناسب طبيعة الفيلم، مؤكداً أنّه لا يضع في
حساباته أعمال روبي السابقة، وسيتعامل معها باعتبارها تمثل للمرة الأولى.
وأشار إلى أنّ المجهود الأكبر سيتركّز على إقناع العاملات الحقيقيات بتجسيد
حياتهن الواقعية أمام الكاميرا. وقد رفض خان في الوقت الراهن الكشف عن مكان
المصنع الذي سيصوّر داخله، وأيضاً عن طبيعة الإنتاج. وأكّد أنّ الأهم هو أن
يرى الجمهور الشريط في أفضل صورة، بعيداً عن تلك التفاصيل. وكانت آخر
إطلالة لروبي على شاشة السينما من خلال فيلم «الشوق» للمخرج خالد الحج. وقد
حصل الشريط أخيراً على جوائز عدة في الدورة الأخيرة من «مهرجان مسقط
السينمائي»، لكنّ روبي نفسها غابت دوماً عن معظم عروض الفيلم في المهرجانات
المختلفة، استمراراً لسياسة الابتعاد عن الأضواء التي اتّبعتها منذ ظهورها
المثير للجدل قبل سنوات كمغنية في كليبات جريئة مع المخرج شريف صبري. هذا
قبل أن تتوجّه إلى التمثيل، لكن مع إطلالات متباعدة للغاية. وبعد فيلم «7
ورقات كوتشينة» الذي فشل نقدياً وجماهيرياً عام 2004، أطلت روبي (اسمها
الحقيقي رانيا حسين توفيق) في فيلمي «الوعد» و«الشوق» فقط، كما ابتعدت
كلياً عن الغناء في السنوات الخمس الأخيرة. وسيقوم خان بتصوير الفيلم
بتقنية الديجيتال، التي ازداد الاعتماد عليها في الحقل الفني المصري
أخيراً، بعد الاستعانة بنوعية متطورة من الكاميرات تسمح بعدها بتحويل
الشريط إلى نظام العرض السينما التقليدي بجودة عالية. وكان خان قد قدم فيلم
«كليفتي» عام 2004 بالتقنية نفسها، لكنّ العمل لم يعرض في الصالات المصرية.
الأخبار اللبنانية في
03/04/2012
من بطولة النجم وليم دافو
فيلم «الصياد».. يكشف عن الذات الإنسانية
عبدالستار ناجي
كلما شاهدت النجم الأميركي وليم دافو، حاصرني سؤال حول الاسباب التي لا
تجعل هذا النجم المتقدر لان يذهب الى النجومية المطلقة، مبدع ذو لياقة فنية
عالية المستوى، ولكن يظل ينقص شيء ما لربما الاختيارات ولربما فريق العمل
الذي يحيط به، ولهذا تظل النتاجات التي يقدمها بين النجاح الجماهيري وبين
الاخفاقات والهوامش ولكنه يظل دائما ذلك النجم المقتدر الذي يمتلك الموهبة
لتحويل الشخصيات الهامشية الى بركان من التفاعل والقيمة.
وهو في فيلمه «الصياد» يذهب الى ذلك الاتجاه الذي يرسخ القيمة، ويتطلب
لياقة عالية في فن الاداء السينمائي ولكنه في الحين ذاته يظل ينقصه شيء ما
للوصول الى مساحة جماهيرية اكبر.
نجم من تلك النوعية من امثال آل باتشينو ونيك تولت وايدهاريس وكيفين سبيسي
وغيرهم ورغم حصاد كل منهم الجوائز الا ان القفزة الى النجومية المطلقة تظل
ناقصة بعض الشيء.
ونذهب الى النجم وليم دافو من جديد قبل الذهاب الى فيلمه الجديد «الصياد».
ونشير الى ان وليم دافو حصل عام 1979 على دور صغير في فيلم «بوابة الجنة»
لمايكل شيمنو ولكنه وقبل بداية التصوير سحبت منه الشخصية وهو لايزال يتذكر
لحظة الالم التي عاشها، وظل ينتظر بعض الادوار الصغيرة حتى جاء فيلم
«بلاتون» مع اولينوستون ليحقق النقلة والانتشار ثم جاء القفزة مع فيلم
«الرغبة الاخيرة للسيد المسيح» مع المخرج مارتن سكورسيزي وتواصلت التجارب
ليقدم «مولود في الرابع من يوليو» و«القلب المتوحش» و«المريض الانكليزي»
و«السرعة 2» و«سبايدر مان» وكم آخر من الاعمال، ولكنه ظل دائما يذهب الى
الدور الثاني او الشرير في احيان كثيرة، وهو لا يريد ذلك.
وحينما تأتي الشخصية الرئيسة في فيلم «الصياد» فاننا نرى فضاء تلك الشخصية
وابعادها وايضا الجوانب السلبية والايجابية تلك الشخصية التي تذهب في مهمة
فاذا بها امام فخ انساني.
فيلم «الصياد» من توقيع المخرج دانييل نتهايم وهو شقيق المصور العالمي
مانيل نتهايم وعمل دانييل في التلفزيون طويلا ليقدم عمله الروائي الاول،
معتمدا على سيناريو
كتبته جوليا لي التي كتبت «الجميلة النائمة» وهنا تعتمد على نص روائي
للروائي واين فيمري.
وفي الفيلم الجديد نشعر حقيقة اننا امام فيلمين في وقت واحد فيلم يستند الى
نص روائي حيث رحلة الصياد مارتن دايفيد الذي يقدمه وليم دافو والفيلم الاخر
يتعلق في مواقع التصوير وتلك المناظر الخلابة التي تسحرنا وتأسر المشاهد،
وهو يرصد تلك الانحاء البعيدة في رحلة هدفها اصطياد الذئب الاسترالي الوحيد
المتبقي وهو الحيوان الاكثر شراسة على وجه الطبيعة كما تقول التقارير.
رحلة مارتين من خلال البراري والغابات وايضا الوصول الى منزل لوسي وعلاقته
مع اطفال احد الصيادين وزوجته الذين ينتظرون في كوخ بعيد عن الحياة بانتظار
عودة والدهم الذي ذهب الى ذات الهدف ولكن الغموض يحيط رحلته وبقاءه.
رحلة يكلف بها صياد محترف (مرتزق) من قبل شركة في مجال التكنولوجيا الحيوية
الغامضة من اجل الحصول على كل المعلومات اللازمة عن ذلك الذئب الكاسر
والرحلة تكون في براري تسمانيا الاسترالية.
وقد تمت الاستعانة بخبراء في مجال العيش في البراري والغابات، وتم تزويد
فريق العمل بمعلومات غاية في الاهمية من بينها الكيفية التي يمكن من خلالها
ازالة رائحة النفس الانساني حتى لا تستدل عليه الحيوانات التي تملك حاسة
الشم العالية.
رحلة للحصول على عينات من الانسجة والدم لذلك الذئب التسماني الشرس وتقديم
تقريره لتلك الشركة، ولكن الرحلة تقوده الى علاقات مع امرأة واطفالها وهي
امرأة الصياد الذي ذهب الى ذات المهمة ولم يعد، وظل اطفاله يمتلكون الامل
بانه عائد وتتطور العلاقة.
خلال الرحلة يجد نفسه ونقصد ذلك الصياد في متاهات لا تنتهي النفس وضعفها
وقوتها وعلاقاته مع تلك الاسرة وايضا الطبيعة والاكتشاف وهي اكبر قيمة من
الذهاب الى اغتيال نمر. فيلم يجعلنا نحرك عقولنا وقلوبنا قبل ان نحرك دوافع
الانتقام والقتل، انها دعوة الى السيطرة على الذات الى الذهاب الى ذواتنا
وتهجينها ومواجهة الخطر بأسلوب جديد حيث الحياة.
فهو يرى في ذلك المنزل الآيل للسقوط لاسرة لوسي واطفالها مكانا للحياة
والامل والفرح.
منزل بلا كهرباء او مياه ساخنة ولكنه مليء بدفء الاحاسيس حتى الزوجة التي
فقدت زوجها والاطفال الذين غاب عنهم والدهم.
وحينما يقرر مارتن القيام بالرحلة برفقة جاك وسام نيل حيث التناقض في
الشخصيات.
رحلة الى البراري تجعل الانسان يتبدل ليكتشف ان الحياة تختلف شكلا ومضمونا
عن المدينة وهذا ما يعمل على تغيير سلوكياته وتعامله مع الآخرين ومع ذاته.
فيلم محير لا ينتهي عند هدف ملموس بل يخلص الى اهداف تذهب الى عقولنا
وقلوبنا وتحولنا من مشاهدين نلهث وراء تلك الرحلة التي يقوم بها صياد شرس
بحثا عن ذئب شرس الى نتائج تسعدنا كمشاهدين، لانها العودة للحياة والاسرة
والسكون والاستقرار والطبيعة.
في الفيلم عدد من النجوم ومنهم الاسترالي سام نيل بدور رفيق الرحلة
وفرانسواز اوكز (لوسي) والطفلة الموهوبة مورغانا دايفيز بدور الابنة.
خلف هذا العمل يقف مدير التصوير العالمي روبرت همفيرز الذي يحول ذلك الصراع
المتوحش الى لوحات سينمائية بصرية مدهشة.
ويبقى ان نقول.. «فيلم الصياد» يجعلنا نذهب الى ذواتنا للاكتشاف وهنا بيت
القصيد، عبر اداء جميل لنجم قدير هو وليم دافو الذي يرفض ان يتحول الى نجم
تقليدي.
anaji_kuwait@hotmail.com
النهار الكويتية في
03/04/2012
البحث عن الأنسان في دوامة الحرب
طاهر علوان
صور عن مكان وذكريات ونبش في دفاتر التاريخ ، كل شيء آيل لأن يصبح تاريخا
وعلى السينما ان تلاحق وتوثق وتبحث عن صورة الأختلاف وشكله ومعانيه ..ولأن
السينما الوثائقية منذ بداياتها الأولى كانت اداة تعبيرية عابرة للمسافات
والتواريخ ، تلاحق الحقيقة وترصدها وتتعمق في معانيها ولم تكن الا في جزء
منها عملا ريبورتاجيا صحافيا خالصا ...هذه السينما الوثائقية هي التي يقال
عنها انها السينما الجادة والمختلفة التي تتواشج فيها المعاني والدلالات
والرموز في كل تعبيري دال وموضوعي .
لعل هذا الذي نتحدث عنه انما يخص تلك السينما الوثائقية التي تبحث عن
بدائلها الواقعية في ماضي الشخصيات وتحولاتها وفي تلمس المكونات المكانية
بل وفي اعادة قراءة المكان وتحليله والغوص في تحولاته والتعريف بتفاصيله
.
هذه الخلاصات تحضر الى الذهن لدى مشاهدة الفيلم الوثائقي "وداعا بابل"
للمخرج العراقي المقيم بباريس عامر علوان الذي تحصل على طاف العديد من
المهرجانات في انحاء العالم حاصدا العديد من الجوائز وهو انتاج عراقي –
اسباني
.
يقدم عامر علوان في هذا الفيلم موضوعا انسانيا عميقا ومؤثرا من الواقع
العراقي ، تشعر وانت تخرج من مشاهدة هذا الفيلم بشيء من الراحة بسبب تعامل
المخرج مع عقل المشاهد لاكما درجت بعض الأفلام العراقية على الضرب على
الوتر العاطفي واستدرار عطف او تعاطف المشاهد ..وهو امر اؤكد عليه وانبه
اليه كل العاملين في هذا الميدان ان يحذروا ويكفوا من هذا الدوران في حلقة
استدرار عطف وتعاطف المشاهدين وتكرار المشاهد المألوفة والمباشرة للبكائيات
والنواح واكوام القمامة ..لأن هذه الصور ان كانت مقبولة لدى المشاهد
العراقي فأن المشاهد العربي قد سأمها من فرط تكرارها الى حد الملل ومعرفة
النتائج مسبقا وهو مالايخدم السينمائي العراقي مطلقا بل ويضعف مهمته
ووظيفته وهي نصيحة لابد لي ان اقدمها الى كل الذين استمرؤوا الكليشيهات
الفيلمية التي وفدت الى الفيلم العراقي وتحولت الى قاسم مشترك في كثير من
الأفلام .
يشكل فيلم عامر علوان اضافة جدية الى مسيرة الفيلم الوثائقي العراقي في
قسمه الخاص بالموضوعات التي تتحدث عن الأحتلال الأمريكي للعراق ونتائجه
ومخلفاته ..فهو اولا اخرجنا من دائرة المخرج المقيم في الغرب الذي يعود الى
العراق بعد سنوات ليقدم لنا مشاهداته ..وهو اخرجنا من دائرة الكليشيهات
المتعلقة بالبكائيات والشكوى المكررة على شاشات الفضائيات والشخصيات
والأماكن الكئيبة الى موضوع آخر مختلف تماما .
الفكرة والموضوع
يتحدث الفيلم عن شخصيتين هما مترجم عراقي اسمه "ديار" كان يعمل مع القوات
الأمريكية الغازية والشخصية الأخرى هي الجندي الأمريكي "فرانك اوفاريل "
الذي تربطه علاقة صداقة متينة مع ذلك المترجم الذي ينتهي به الأمر الى
العمل سائق سيارة اجرة بعد انتهاء مهمته في الترجمة وسفر زميله عائدا الى
بلاده لكن صلته بصديقه المترجم العراقي لاتريد ان تنتهي
.
يواكب المخرج مراسلات المترجم والجندي الأمريكي عبر البريد الألكتروني ،
رسائل انسانية مؤثرة وخلالها يتنقل المخرج بين مفردات حياة ويوميات كل من
الشخصيتين مابين الولايات المتحدة وبغداد ، حتى انه يتغلغل في ادق تفصيلات
الحياة اليومية للشخصيتين ، المترجم السابق مازال مرعوبا يرفض اظهار شخصيته
ولا اسمه ولا اي شيء يخصه خوفا من تصفيته حيث جرت تصفية العديد من زملائه
الذين تعاونوا او عملوا مع الجيش الأمريكي ، ولكنه يمارس حياته اليومية
بهدوء متنقلا في ارجاء مدينة الحلة ، بلا بكائيات ولا شكوى مكررة بل انه
يرى الحياة كما هي ، ازمة وقود السيارات لايظهرها في شكل شكوى وصراخ ولكنه
يظهر اولادا صغارا وهم يقومون بهذا العمل على اطراف الشوارع ، واما الجندي
الأمريكي السابق فهو يعيش حياة هانئة وديعة مع زوجته وطفليه في بيته الواسع
، ولكنه لاينسى حياته في العراق ولو للحظة ولا تغيب عنه ذكرياته هناك ، هو
يعلن براءته من كل ماكان من تبعات الغزو وانه وفريقه كانوا يقومون بمهمات
انسانية لم تستغرق اكثر من عام واحد عاد على اثرها الى بلده ، وهو له وجهة
نظر خاصة في كل ماجرى للعراق انه خاطئ تماما ، وهو يشعر بالقرف والحزن
وتأنيب الضمير ، احساس لم يخفه ابدا بل ظل يردده مرارا ...وينتهي الفيلم
بنسف سيارة المترجم وتلقي صديقه الأمريكي الخبر بمزيد من مشاعر الصدمة
والأسف
.
قصة غزو العراق
مما لاشك فيه ان صور الغزو والأحتلال والدبابات والمجنزرات وهي تدخل شوارع
بغداد كانت وستظل علامة فارقة لتحول فريد في مسار التاريخ ، لكن تكرارها
بالشكل الذي ظهرت عليه لم يعد في خدمة العمل الفيلمي اما هذا الفيلم فأنه
يقدم ذلك الجندي الأمريكي الذي لايخفي سخطه والمه من كل ماجرى لكنه مايلبث
ان يعمق ذلك بأضافة شخصية اخرى وهو صديق الجندي وبرتبة اعلى منه والذي يروي
بوضوح انه هو وغيره ذهبوا متحمسين الى العراق في اعقاب واقعة الحادي عشر من
سبتمبر وانهم ذهبوا لمنع الخطر عن بلادهم الولايات المتحدة ، ولهذا فأنهم
ذهبوا الى هناك تحت تأثير اسباب ثلاثة وهي : اولا ، الزعم بوجود اسلحة
الدمار الشامل وثانيا ،الزعم بعلاقة النظام العراقي السابق بتنظيم
(القاعدة) والثالثة هي دكتاتورية الرئيس العراقي السابق .
ويؤكد ذلك الضابط انه الى الآن لم يثبت ولو بدليل واحد وجود اي من السببين
الأولين اي عدم وجود اسلحة دمار شامل ولا صلة بتنظيم القاعدة ولهذا فأنه
يشعر انه قد تم خداعه لكنه يضيف ان وجهة نظره هذه مازال من الصعب اقناع
الكثيرين بها لكنه هو شخصيا وآخرون مقتنعون بها تماما
.
يشكل الفيلم عبر هذه الشهادة الأنسانية الصادقة وثيقة مهمة وموضوعية في
محاكمة حقبة مؤلمة من تاريخ العراق كان ثمنها باهضا بتخريب العراق وقتل
مئات الألوف من المدنيين الأبرياء من ابناءه.
ولعل نقطة القوة في هذا الفيلم انه لم يستدرج الأخبار والمعلومات الأعلامية
المتداولة لدعم وجهة النظر بل ترك للشخصيات ان تروي اشياء مما تختزنه
الذاكرة وذلك خلال جلسة حوار ودي بين الصديقين الأمريكيين مايلبثان ان
يذهبا بعيدا في قراءة سياسية رافضة وساخطة على كل ماجرى .
ترافق كاميرا عامر علوان الشخصيات بموضوعية وهي تتنقل من مكان الى آخر ،
ترافق الجندي الأمريكي عائدا بسيارته الى بيته في الليل في لحظات بوح اكثر
انسانية واعترافات شخصية ولاتكتفي تلك الكاميرا اليقظة بذلك بل تجدها وهي
تتسلل الى الحياة التفصيلية للجندي وحتى الى غرفة نومه وهو مع زوجته وهو
يروي لها كوابيسه المؤلمة وخاصة كابوسه الأخير الذي واكب اغتيال زميله
المترجم العراقي السابق
.
كأن ذلك الجندي قد ترك في العراق توأما انسانيا له ، وهي حقيقة ملفتة للنظر
حقا لأنه عبر بعفوية وبلا ضجيج او ادعاء عن مشاعره ومواقفه وفي كل مرة كان
تفاعله مع صديقه المترجم البعيد من ابرز مايلفت النظر في تلك القصة
.
صورة امريكا / صورة العراق
تتناوب الصور الوثائقية لحياة مكتظة في الشوارع الأمريكية ومظاهر حياة
استهلاكية تتجلى في الشاشات العملاقة وصور الأعلانات ، كل شيء يسير بهدوء
، لأن هدوء امريكا ثمنه جحيم العراق وهو الهدف المرئي وغير المرئي للحملة
البوشية ، حيث في الوقت الذي تدب الحياة هناك ، فأن حياة اخرى ملأى
بالمعاناة تتفجر ممثلة في الواقع العراقي ، حقيقة لايختلف عليها اثنان
والمخرج لايريد تكرار ماهو معلوم ولكنه بث صورا وثائقية حقيقية لأشد
اللحظات تفجرا واهمية كمشاهد دخول بغداد واجتياح المتحف العراق وعبور جسر
الجمهورية وغيرها وكان في بث تلك الصور قد حقق عنصرا تعبيريا هو ارتكاز
الفيلم على ارضية صلبة من الحقيقة الدامغة دون ان يزج موقفا ايديولوجيا بل
ترك للمشاهد وخاصة الغربي ان يراقب مايرى ويقرر موقفه عما يراه ، وهي مسألة
مهمة تحسب للمخرج في تجاوزه المباشرة والصراخ والكلام بالنيابة عن المشاهد
او تلقينه ، ترك تلك الشهادة المأساوية عن الحرب ان تتجلى بقوة من خلال
الشخصيات ،" ديار " المترجم المغلوب على امره الذي يمضي ايامه حذرا متخفيا
ولا تعرف سبب التحاقه بذلك العمل الخطير لكن واضح ان لاعمل لديه ولهذا يلجأ
الى ان يكون سائق سيارة تاكسي بعد خروجه من عمل الترجمة وهو الوجه العراقي
للصورة في مقابل الجندي "فرانك اوفاريل " الذي يقدم التحاما مع صورة وواقع
ديار لأنه حتى وان كان جنديا تحت امرة قادته ، قادة الحملة ضد العراق الا
انه كان نموذجا للأنسان اليقظ الضمير وربما كان صديقه العراقي ديار سببا في
تلك اليقظة التي عبر عنها مرارا وهو الذي كان بإمكانه نسيان او تناسي ذلك
المترجم بمجرد عودته الى بلاده وانتهاء مهمته في العراق ، ولكنه لم ينقطع
يوما عن تلك الذكرى وهو امر استثنائي ملفت للنظر حقا .
في المقابل نجد ان موقف ورؤية صديق ذلك الجندي وهو الصديق الأمريكي "جول
هيكي" والذي ذهب متطوعا في تلك الحرب سيئة الصيت باحثا عن الكذب او الحقيقة
التي اشاعتها ادارة الليكوديين الجدد بزعامة جورج بوش وخدعوا بها الشعب
الأمريكي بل خدعوا بها العالم كله وخاصة في موضوع اسلحة الدمار الشامل وصلة
النظام العراقي السابق المزعومة بتنظيم القاعدة وخلال عام واحد اكتشف هيكي
تلك الأكاذيب فقفل عائدا ونادما على مشاركته في تلك الحرب ومعترفا بوضوح
انه وآخرون قد تم خداعهم
شيء ما عن ارض بابل
تشكل ارض بابل محورا مهما في الفيلم فالقاعدة الأمريكية التي خدم فيها
الجندي فرانك وزميله هيكي كانت في مدينة بابل ومن هناك يتعرف على المترجم
ديار الذي يعرفه ببابل تاريخا ووجودا وحضارة ، وتجد من بين مشاهد الفيلم
ضابطا امريكيا وهو يروي لجنوده في جو مغبر وساخن تاريخ حضارة بابل وتاريخ
الكتابة المسمارية وانهم يقفون اليوم على تلك الأرض التي ظهر فيها الأنسان
وبنى الحضارات ، ومن الملفت للنظر ان الضابط يلقي درسه على جنوده مستشهدا
بقطعة من الفخار عليها نقوش الكتابة المسمارية ملقاة على الأرض وقرب اقدام
اولئك الجنود الذين كانوا يصغون بأهتمام لما يلقى على مسامعهم .
وتجد تعليقات الجندي فرانك تمضي بنفس الأتجاه في ادراك اهمية بابل وعظمة
تاريخها فيما هي ترزح تحت سرفات الدبابات التي زلزلت تلك المباني الأثرية
.
يقف "ديار" هو الآخر مستذكرا صديقه الجندي الأمريكي على مشارف بابل ومرددا
حكمة تعود الى النبي موسى عليه السلام وهي انه سأل الله فيم عاقب قومه كلهم
لم يستثن منهم احدا ، فيرد عليه اذهب ونم تحت تلك الشجرة وستجد الجواب ،
فلما يذهب الى هناك وينام يتكاثر الدود عليه ومن حوله فيبدأ بالضرب عشوائيا
دون تمييز ايا من الدود قد آذاه او من لم يؤذه ...
تحضر بابل في الفيلم وتصبح حلقة وصل اخرى بين الشخصيات ، لكون الجندي فرانك
سيكتشف تلك الأرض من خلال علامة حضارية وارث انساني صار مستباحا ومدنسا
بدبابات الغزاة لاسيما بعد الغزو والنهب والتخريب ..
بناء جمالي وتعبيري
خدمت الفيلم عناصر مهمة ، فمثلا هو ترك لحوار الشخصيات ان يمضي موضوعيا
وهادئا ولم تطرأ على الشريط الصوتي اضافات من موسيقى او غناء تقليدي من حيث
هي لازمة من الرتابة التي يقع فيها كثير من المخرجين العراقيين ولكن
الملفت للنظر مما اضاف عنصرا مهما للفيلم هو استخدام الحوار والحديث
المباشر وقراءة الرسائل المتبادلة بين المترجم والجندي فضلا عن استخدام
اغنية امريكية تدين كل مايجري
.
لاشك ان الفيلم اجتمعت فيه عناصر الصورة الوثائقية الدالة والعميقة التي
تحركت فيها الكاميرا بانوراميا لنقل الحقيقة ومن دون ان يثقل على المشاهد
باجترار وتكرار المعلومات المعروفة.
فيلم "وداعا بابل" ، هو فيلم مميز حقا في بنائه وموضوعه وتكامل عناصره
التعبيرية وهو شهادة ادانة بليغة ومؤثرة لجرائم الحرب ضد العراق والعراقيين
وهو ينطق بلسان امريكي فصيح عن حقيقة ماجرى ويجري في العراق من طرف شهود
عيان حقيقيين شهدوا وعاشوا كل شيء.
وفي واقع الأمر ان هذا الفيلم ربما يكون وبجدارة وثيقة لمخاطبة الرأي العام
الغربي بشكل خاص ومن دون ضجيج ولا افتعال ولا "بروباغاندا" بل بمصداقية
ووضوح وموضوعية وذلك عنصر مهم من العناصر القوية التي ميزته ، فالناشطون
في مجال حقوق الأنسان والمعنيون بما جرى ويجري سيجدون في هذا الفيلم وقائع
تستند الى الصدق والموضوعية .
في الأخير وتجسيدا لوداع بابل فقد ودعها الجندي الأمركي الذي احبها عائدا
الى دياره وودعها المترجم "ديار" حيث جرى اغتياله ..وقالت الناس والبشرية
لبابل وداعا من فرط ما طالها من تخريب وتدنيس واسرقة واهمال
..
الجزيرة الوثائقية في
03/04/2012 |