يعتبر المخرج الأمريكي من أصل تشيكي ميلوش فورمان اشهر المبدعين التشيك
الذين حققوا شهرة عالمية في الخارج بسبب إثباته موهبته السينمائية كمخرج
وممثل وكاتب للسيناريو وكأستاذ جامعي للسينما.
وفي دليل على نجاح الكثير من أفلامه فان فيلم "اماديوس" الذي روى فيه قصة
حياة المبدع الموسيقي العالمي موزارت حصل على 8 جوائز اوسكار في حين حصل
فيلم " طائر فوق عش الوقواق " على 5 جوائز اوسكار أما فيلم "العالم ضد لاري
فلينت" فقد حصل على جائزة مهرجان برلين الدولي.
فورمان احتفل قيل أيام قليلة بعيد ميلاده الثمانين وسط أفراد عائلته لأنه
لا يحب الاحتفالات الكبيرة ولذلك يتجنبها وبهذه المناسبة أدلى بحديث للملحق
الأسبوعي من صحيفة "برافو" التشيكية تحدث فيه عن تجربته السينمائية وأعماله
وعلاقته بالرئيس التشيكي السابق والكاتب الراحل فاتسلاف هافل.
·
ماهو الانطباع الأول الذي ساد
لديك عند زيارة أمريكا؟
ــ عندما حضرت لأول مرة إلى نيويورك في عام 1969 كنت مذهولا وقلت آنذاك في
نفسي بأنه يمكن لي العيش في هذه المدينة غير انه لم يخطر ببالي أبدا بان
ذلك سيحدث يوما ما. إنها مدينة رائعة لان كل شخص فيها يمكن له أن يرتب
حياته فيها بالطريقة التي تناسبه ولا احد يتدخل في شؤونه أما في بلدنا
آنذاك تشيكوسلوفاكيا فقد كان الحزب الشيوعي هو الذي يحكم وكان بمثابة الأخت
الأكبر لي التي كانت تقول لي ما الذي يتوجب علي عمله وما هو مسموح وغير
مسموح.
·
غير أن فيلمك الأول في الولايات
المتحدة ( المسابقة ) كان فاشلا؟
ــ لقد ظننت وبسذاجة آنذاك بان الجميع سيدهشون به غير أن ذلك لم يحصل
وعندما كتبت لمؤسسة السينما التشيكوسلوفاكية " فيلم اكسبورت " آنذاك طلبا
للسماح لي بإخراج فيلم آخر كتبول لي بأنهم انهوا عقد العمل معي وكان ذلك في
عام 1971 ولهذا توجب علي الاختيار. لقد كنت اعرف آنذاك بان أفلامي جرى
وضعها في صندوق حديدي وانه في حال عودتي إلى بلادي فإنهم لن يتركونني اعمل
أو انه سيتوجب علي إخراج أفلام حول الدعاية للشيوعية الأمر الذي لم أكن
أريده.
إن الشيء الأصعب في قراري بالبقاء في الولايات المتحدة كان آنذاك هو إنني
سأفقد الصلة مع بلدي ومع الناس المقربين لي فيها فانا لم استطع أن اخذ ولدي
معي إلى الولايات المتحدة أي بيتر وماتتي وبالنظر لكونني فقدت أهلي في
الحرب العالمية الثانية فإنني لم أرد للأولاد أن يفقدوا أمهم كما أن زوجتي
الأولى فييرا أرادت البقاء في براغ.
لقد كنت اهدأ نفسي بالقول انه عندما سيرى أطفالي أفلامي فإنهم سيعرفون
بأنني إنسان طيب غير انه توجب علي في الولايات المتحدة أن أبدا بشكل مختلف
أي إنهاء الفيلم بدون إنهاء قصة الفيلم أمر لا يحبذه المشاهدون الأمريكيون.
·
كيف كان الطريق إلى فلمك الأول "
طائر فوق عش الوقواق " الذي حصل على 5 جوائز في عام 1975 منها جائزة
الاوسكار لأفضل إخراج وجائزة فيلم العام؟
ــ لقد كنت في نفس الوضع الذي كان عليه مثلا رومان بولانسكي وغيره من مخرجي
الكتلة الشرقية فلم يكن باستطاعتنا العودة إلى بلادنا ولذلك لم يكن أمامنا
سوى القفز في الماء وممارسة السباحة.
إن الفكرة الأولى بموضوع الفيلم " طائر فوق عش الوقواق " جاءت من كيرك
دوغلاس غير انه لم يتمكن من توفير المال اللازم لتحقيق الفيلم لأنه لم يرد
احد فيلما عن المعاقين ذهنيا غير انه كان من النوع العنيد وكانت الفترة
ستينيات القرن الماضي وقد توجه إلى أوروبا وزار براغ وشاهد بعض أفلامنا
وبينها أفلام لي ثم شاهدنا بعضنا في إحدى الحفلات وهناك سألني فيما إذا كان
هذا الموضوع يثير اهتمامي وانه سيرسل لي كتاب كين كيسي الخاص بذلك وبالطبع
فقد وافقت على ذلك على الفور غير أن هذا الكتاب لم يصلني أبدا.
وبعد 8 أعوام من ذلك جلب لي نفس الكتاب المنتج ساول زانتيز وأيضا مايكل
دوغلاس أما الأمر المثير في هذا الموضوع فهو أن مايكل دوغلاس لم يكن يعلم
بأنني تحدثت عن موضوع هذا الفيلم مع والده وعندما التقيت لاحقا بكيرك اخذ
علي عدم استجابتي لاقتراحه فقلت له متعجبا أنا؟ فالكتاب أنت لم ترسله لي
طوال هذه السنين ولم يكن احدنا يعلم آنذاك بان المخابرات الشيوعية هي التي
صادرت الكتاب فقد تدخلت الرقابة غير أن القدر كان أقوى.
·
وكيف كان جاك نيكلسون؟
ــ لقد تقمص الشخصية تماما وكان مورافي حتى خارج أوقات التصوير فهو ممثل
ارتجالي بارع لكنه كان دائما مستعدا وجاهزا للتصوير بشكل ممتاز. و كان على
الدوام محترفا وانضباطيا وايجابيا ورائعا. لا أستطيع القول بأنني اعرفه
خارج ميدان التصوير لكنني أحبه فهو رجل مهذب.
·
كيف كانت قصة فيلم اماديوس؟
ــ لقد كانت هي الأخرى فصلا كبيرا كقصة إنجاز فيلم الطيران فوق عش الوقواق
لأنه لم يرد أي أستوديو إنجاز هذا الفيلم وكانوا يقولون هل تريد تصوير فيلم
عن مؤلف موسيقى كلاسيكية؟ ومن الذي سيتفرج عليه؟ إضافة إلى أن هذه الألبسة
والباروكات المقترحة في الفيلم ستكون باهظة الثمن وكانوا يظنون أن الأمر
ميتا ثم نجح المنتج زانتيز في توفير المال اللازم واتجهنا إلى براغ للتصوير
فيها لان فيينا كانت غالية جدا ولذلك عدت إلى براغ بعد عدة أعوام من الغياب
عنها غير انه توجب علي تحييد كافة المشاعر والأحاسيس والتركيز على العمل
وبالطبع تمت متابعتنا من قبل الشرطة السرية.
·
لقد كان فيلم العالم ضد لاري
فلينت يستحق أيضا جوائز كالتي حصل عليها اماديوس والطائر فوق عش الوقواق
غير انك يبدو اصطدمت بالنظرة الأمريكية للمسالة.
ــ بالنظر لكونني شهدت مختلف الأنظمة أي النازية والشيوعية والديمقراطية
فقد كنت اعي جدية الصراع القائم بين الفردية الإنسانية وبين المؤسسة ولهذا
ربما ظهر هذا الأمر في أفلامي أما فيما يتعلق بفيلم العالم ضد لاري فلينت
فقد حظروا في أمريكا الملصق الجداري الذي اعد للترويج للفيلم والذي ظهر فيه
لاري فلينت مصلوبا على حضن امرأة مع أن ذلك كان حقيقيا كما أثيرت حالة
واسعة من الرفض لهذا لفيلم
·
ما هي الوصفة التي لديكم لتحقيق
النجاح؟
ــ لم اخذ في الحسبان مسبقا إمكانية تحقيق النجاح وعلى الإنسان أن يفعل على
الدوام الأمور بأفضل ما يتقنه وان يفعل ذلك بسرور وحتى عندما يكون سعيدا
بما أنجزه فانه لا يعرف أبدا كيف سيستقبل الجمهور هذا العمل.
إن المخرج يمكن له أن يكون بمقدرات كبيرة غير انه عندما لا يعجب الناس
العمل أو القصة التي يخرجها فان ذلك يكون بلا فائدة فالحوار في الفيلم يجب
أن يكون حقيقيا ويحدث في الكثير من الأحيان أن تقرأ قصة ما وتقولون بأنها
تبدو رائعة وعندما تبدأ الشخصيات في الفيلم بقول ما هو وارد في الكتاب فان
الأمر يصبح مختلفا وهنا جوهر المشكلة ففي السينما يجب أن يحظى كل شيء
بالمصداقية وعلى المخرج أن يعلم ذلك وباختصار الكتاب هو نوع أخر من الوسائط
مختلف تماما عن الفيلم.
·
تعرفت على هافل منذ الصفر في
مدرسة داخلية للأطفال ولكن كيف التقيتما هناك مع أنكما كنتما من أصول
مختلفة؟
ــ
لقد كما مختلطين في هذه المدرسة فثلث الطلاب كانوا من الأيتام وأنا كنت
واحد منهم أما الثلث الثاني فكان من أولاد الشيوعيين أصحاب النفوذ فيما كان
الثلث الأخر من أولاد الرأسماليين وأنا تعرفت على هافل آنذاك مباشرة بعد
انتهاء الحرب العالمية الثانية في عام 1945 وسكنا في غرفة واحدة وبالنظر
لأنني كنت اكبر منه 4 أعوام فقد كنت رئيسا للغرفة.
إيلاف في
28/02/2012
«مارا» لمارون بغدادي:
من لبنان الى ثنايا الثورة الفرنسية
إبراهيم العريس
في عام 1988 حقق المخرج اللبناني الذي رحل عن عالمنا بعد ذلك بأعوام قليلة،
مارون بغدادي فيلم «مارا» الذي عرضته التلفزة الفرنسية وسط الاحتفالات
بالذكرى المئوية الثانية للثورة الفرنسية. ولم يكن ذلك صدفة بالطبع، اذ إن
الفيلم الذي أنتج ضمن إطار سلسلة افلام حملت عنواناً رئيساً هو «ثنايا
الثورة» يتحدث عن مارا، احد ابطال تلك الثورة. عن حياته وتعقيداتها وكيفية
انتمائه الى العمل الثوري ومقتله في نهاية الأمر على يد شارلوت كورداي.
يومها وفي هذا الفيلم خرج مارون بغدادي اخيراً، وللمرة الأولى، من عباءة
لبنان والحرب اللبنانية، بعد انغلاق طال امده داخلها. ولكن هل تراه خرج
حقاً؟
> كان «مارا» فيلماً تلفزيونياً عن الثورة الفرنسية وعن أحد أبطالها.
ولربما كانت الصدفة هي التي جعلت الاختيار يقع على مارون بغدادي لكي يقوم
بإخراج الفيلم. كان من الممكن، بالطبع، ان يتم اختيار اي مخرج آخر. والحال
ان السلسلة نفسها تتألف من حلقات حققها مخرجون كثيرون (معظمهم من اصحاب
الأسماء الكبيرة في السينما الفرنسية). ومن هنا، فإن الصدفة جعلت «مارا» من
نصيب بغدادي. ولكن إذا كان لعبارة «صدفة سعيدة» من دلالة واقعية، فإن هذه
الدلالة تبرز بكل زخمها من خلال هذا الاختيار. فإذا كان في وسع المرء ان
يدهش اول الأمر قبل مشاهدة الفيلم متسائلاً: «... ولكن ما دخل مارون بغدادي
بثنايا الثورة الفرنسية وخفاياها وألعابها ومجرميها؟»، فإنه ما إن يشاهد
الفيلم ويصل الى المشهد الأخير منه حتى يجد نفسه قادراً على فهم بعض الأمور
في شكل أوضح، حيث سيخيّل اليه وكأن مارون بغدادي، في المشهد الأخير من
الفيلم، اعاد ثريا بطلة فيلم سابق له هو «حروب صغيرة» وجعلها توجه هنا الى
مارا، وهو في «البانيو» تلك الطعنة التي كان من شأنها ان توجهها الى طلال
في مشهد اخير من «حروب صغيرة». أو لنقل، من ناحية ثانية، ان المشهد الأخير
ربما كان حمل جريمة قتل الأب (مارا كأب للثورة تقتله الثائرة الخائنة
شارلوت كورداي) طقوسية ظل طلال نفسه يحوم من حولها وهو يحاول ان يقنع نفسه
وأمه بأن أباه المخطوف قد مات وانتهى في «حروب صغيرة» نفسه.
> ولكن لماذا نركز على هذا في حديثنا عن مارون بغدادي؟ ببساطة لأن قتل الأب
وصل هنا الى بعد طقوسي، يكاد يكون هندسياً. من دون ان يعني هذا بالطبع ان
«مارا» هو مجرد استمرار لـ «حروب صغيرة» ومن دون ان يعني ان بغدادي حقق عبر
«مارا» فيلماً ذاتياً آخر، هو مؤلفه، بل بالعكس، سيبدو لنا «مارا» فيلماً
محققاً تحت الطلب انطلاقاً من حكاية جاهزة سلفاً، عن شخصية حدد لها التاريخ
اكثر من صورة ممكنة، وعن سيناريو كتبه اديب فرنسي معروف، هو دانيال
بولانجيه، ليس من شأنه - في اي حال من الأحوال - ان يرضى بأن يكون مجرد ظل
سينمائي شاب آت من لبنان همه «ان يعلم الفرنسيين كيف يصنعون فيلماً حقيقياً
عن ثورتهم».
> وهنا لا بد من ان نشير، الى ان فكرة تقديم حدث جماعي مهم، عبر شخص يجسد
هذا الحدث، طبعت معظم افلام مارون بغدادي. ومن يعرف بغدادي جيداً يعرف ان
هذا المبدأ رافق ليس فقط مسيرته السينمائية، بل ايضاً مسيرته السياسية
وربما الحياتية، إذ لم يكن من النادر له ان ينظر الى الأحداث الكبرى، في
آلامها وتقلباتها، عبر مرشح دائم هو شخص يحل لديه مكان الأب أو الأم أو
«الأخ الأكبر». وإذ نعود هنا الى الكلام عن هذا الفيلم نلاحظ ان الصورة
التي يقدمها دانيال بولانجيه ومارون بغدادي لهذا الثائر الشهير، لا تنتمي
مباشرة الى اي من الصورتين المعهودتين عن مارا: صورة اليسار المبجلة له،
وصورة اليمين المدمّرة له. مارا هنا هو مزيج من الصورتين، بل هو بالأحرى،
الصورتان متماهيتان تماماً، وقد عرف صانعا الفيلم كيف يخرجان بها من كتب
التاريخ، الى هشاشة الحياة. مارا هنا إنسان يحمل تناقضات البشر، عيوبهم
وأحزانهم، خوفهم وبطشهم، نهمهم وتحفظهم. بل، وأكثر من هذا، يحمل الى حد
الإفراط كل تلك القدرة على ان يكون وحشاً وحنوناً في الوقت نفسه. مارا
المرسوم هنا، ليس البطل الثوري فقط، بل هو الطفل الذي تربى على «الطبيعة»
وصعقه الجنس منذ بداية حياته، وعاش كل نجاحاته، انطلاقاً من خيبته وإخفاقه
المؤكدين: يطرد من الجامعة الفرنسية فيشتري شهادة الدكتوراه في الطب من
بريطانيا، يفشل في ممارسة الجنس انطلاقاً من مركبات نقص جديرة بأن يحللها
فرويد بدائي، فيمارس شتى انواع الشذوذ، وسط اكوام من القاذورات، القاذورات
التي تبدأ بجلده الملتهب المصاب بنوع عصي من الاكزيما، وصولاً الى هوسه
المجنون بالقتل، وفرحه الطاغي امام الاختراع «الجديد» آنذاك: المقصلة التي
يقول ما ان يراها ويطلع على إمكاناتها العجيبة، والابتسامة تعلو شفتيه
النهمتين «سنقتل بها مئة ألف!». اما الطب الذي هو في الأصل وسيلة لشفاء
الإنسان من آلامه، فإنه يتحول لدى مارا الى «مجاز»، الى وسيلة للتخلص من
المرض: بالنسبة إليه الشعب مريض ولا يستقيم وضعه إلا بقطع اعضاء فاسدة فيه.
> بطل ثوري مارا، لكنه يعيش يومه في خوف دائم. وخوف مارا ليس من أعداء
الثورة بل من رفاقه فيها، من «الجيرونديين» و «الجبليين». يعرف مارا ان
الثورة تأكل أبناءها. ومارون يعرف هذا بدوره، وبالتحديد منذ صعقه إعدام
سالم ربيع علي (سالمين) في اليمن الديموقراطي، في اواخر السبعينات من القرن
الماضي وهو كان عرفه شخصياً خلال زيارة قام بها لليمن عاد منها شديد الحزن
(...). وهنا، في هذا السياق بالذات، لا يعود من قبيل الصدفة على الإطلاق،
ان يحقق مارون بغدادي كل هذا النجاح في تعاطيه السينمائي مع الثورة
الفرنسية. ويبدو فيلمه عنها اكثر صدقاً من بقية افلام سلسلة «ثنايا
الثورة». فالحال ان زملاء بغدادي من المخرجين الفرنسيين الذين خاضوا
التجربة نفسها كان العهد طال بهم كثيراً، عن حقيقة الثورات ومآسيها. بل حتى
الذين عرفوا جيداً كيف ان الثورة البولشفية - التي كانت بدورها املاً
كبيراً للشعب والمثقفين - انتهت الى أكل ابنائها بعضهم بعضاً فتمكّن ستالين
من ان يصفي كل رفاقه، بمن فيهم تروتسكي، مؤسس الجيش الأحمر. خلال محاكمات
موسكو، كانوا قد اعتادوا على إلصاق كل شيء بهمجية ستالين نفسه. اما بغدادي
فكانت التجارب الحية التي عاشها بنفسه في شرقه الأوسط «اللذيذ» - على حد
تعبيره الساخر - ماثلة في ذهنه، من هنا جاء رسمه لمارا صادقاً حياً، وأشبه
بأمثولة سياسية. ولكن لا يتعيّن علينا هنا ان نعتقد ان مخرجنا اللبناني جعل
من فيلمه عن مارا بياناً سياسياً معادياً للثورة. لقد جعله بالأحرى بياناً
عن الخيبة. وهذه الخيبة - بالأحرى هذه المرارة التي تعامل بها مارون بغدادي
مع رسالة فيلمه - تتمثل في الوجه الآخر للميدالية: شارلوت كورداي، الفتاة
الثورية الآتية من مدينة «روان» والتي - وإن كان الفيلم يستند الى الحقيقة
التاريخية ليصوّر لنا إقدامها على قتل مارا في الحمام، وذلك تنفيذاً لخطة
مرسومة سلفاً من جانب مجموعة من المتآمرين - تتحرك في نهاية الأمر انطلاقاً
من دوافع شخصية عنوانها الخيبة.
alariss@alhayat.com
الحياة اللندنية في
28/02/2012
«سارق
الدراجة» لفيتوريو دي سيكا:
بين بؤس
العمال والوجه الشاعريّ للواقع
إبراهيم العريس
حتى ذلك الحين كانت السينما لا تزال تعيش بريقها كحيّز يبرز كل ما هو خارج
الواقع، من بطولات وحياة رغيدة وميلودرامات صاخبة، وسط مناخ
يهيمن عليه النجوم
والديكورات الفخمة. وكان هذا واضحاً في إيطاليا أكثر من أي مكان آخر، حيث
اعتاد
الناس ان يطلقوا على معظم ما تنتجه السينما هناك اسم «سينما التلفون
الأبيض»، بمعنى
انه في وقت كانت أجهزة الهاتف جميعاً سوداء اللون، كانت السينما الايطالية
السائدة
تصرّ على تلوين الأجهزة بأبيض خلاب يشي بالوهم الذي تحاول ان
تغرسه في النفوس. ولكن
في عقد الأربعينات من القرن العشرين، القرن الأول في عمر السينما، بدا ان
كل ذلك
بات في طريقه الى ان يتغير، فإيطاليا التي كان فنانوها ومثقفوها منذ بداية
ذلك
العقد أدركوا ان الواقع، ومهما كان اتجاهه، بدأ يلوح، وان
تغيرات جذرية حاصلة لا
محالة في النفوس والمجتمع، وكذلك في الحكم. كانت ايطاليا في طريقها لأن
تنبذ
الفاشية التي حكمت أكثر من عقدين، وكان من مصلحتها ان تشيع الصورة الزاهية،
بدلاً
من أن تدع الفن يعبر عما هو واقعي.
>
وما كان واقعياً في ذلك الحين، كان مغايراً تماماً لما تقدمه السينما. ومن
هنا، لئن كان مخرجون شبان في ذلك الحين يحملون اسماء فيسكونتي وروسليني ودي
سيكا،
برزوا مفعمين بحب للسينما، فإن حبهم للواقع كان الغالب، ومن
هنا، حتى من دون ان
ينتظر بعضهم زوال الفاشية، راحوا يطلون على ذلك الواقع من خلال أشرطة لعل
أهم ما
يميزها ثلاثة أمور: كونها تتحدث عن الناس الحقيقيين وظروفهم الحقيقية،
كونها تصوّر
في أماكن طبيعية من دون ديكورات أو أي تزييف آخر للواقع، وكونها تعطي
الأدوار لأناس
تلتقطهم من واقع الحياة غير معتمدة على الممثلين الكبار أو
النجوم.
>
في شكل عام يعتبر فيلم «الأرض تهتز» للوكينو فيسكونتي، الفيلم الأول في ذلك
التيار الذي سيطلق النقاد عليه لاحقاً اسم «الواقعية الجديدة»، غير ان فيلم
«سارق
الدراجة» يظل الأشهر والأكثر ارتباطاً بذلك التيار حتى اليوم، والأكثر
شعبية في
إيطاليا وخارجها. ولعل الشيء الإضافي الذي جعل له هذه المكانة،
عدا عن موضوعه
وتمسكه بحرفية قوانين الواقعية الجديدة، ان مخرجه هو فيتوريو دي سيكا، الذي
كان
ممثلاً كبيراً ومشهوراً، اضافة الى خوضه الإخراج. ودي سيكا حقق هذا الفيلم
يومها في
تعاون وثيق مع الكاتب تشيزار زافاتيني، الذي يعود اليه الفضل
الأكبر في خلق ذلك
التيار.
>
إذا كان للمرء أن يختصر الإرادة الصادقة التي كمنت يومها خلف تحقيق «سارق
الدراجة»، كما خلف كل ذلك الرهط من الأفلام التي اتبعت الطريق نفسه، فهو
يجد في
النص التالي، الذي رافق دائماً الحديث عن «سارق الدراجة» كما
عن الواقعية الجديدة،
خير معبّر. يقول النص: «ان ما يهمنا هنا هو تقديم حكاية هذا الإنسان
العادي. هناك
عشرة ملايين حكاية مثل هذه الحكاية تحدث كل يوم. من هنا نجد ان علينا ان
نهتم بهذا
الإنسان وبحكايته، لأننا بشر، وهو كذلك بشر».
>
وهذا الإنسان العادي الذي يجرى الحديث عنه على هذا النحو، هو مجرد مواطن
بسيط يعيش في روما ما بعد الحرب العالمية الثانية، يوم عمّت
البطالة وراح الناس
يتخبطون وسط فرحة التخلص من الفاشية ومن الحرب في آن معاً، غارقين في فقرهم
والآفاق
المسدودة أمامهم. وهذا الإنسان البسيط، ويدعى أنطونيو، المتزوج من دون ان
يدري كيف
يقيم أود عائلته، يحدث له يوماً ان يحظى بعمل بسيط مثله: تعليق
الملصقات التابعة
للبلدية. وهو من أجل القيام بذلك العمل يحتاج الى دراجته التي يدفع كل ما
تبقى لديه
من أجل الحصول عليها. وهكذا يبدو أمامه أن الآفاق فتحت، فيصطحب ابنه ويبدأ
الاستعداد للقيام بعمله. ولكن في اليوم الأول، وسط فرحته
الغامرة، تُسرق الدراجة،
أي تسرق وسيلة عمله التي يعتمد عليها. وهكذا يجد نفسه من جديد مهدداً
بالبطالة.
لكنه لا يخلد الى اليأس، بل يصطحب ابنه
برونو، ويبدآن معا رحلة البحث عن الدراجة في
أزقة الحثالة، بين جامعي القمامة والمتسولين والباعة المتجولين
الذين كانت روما
تمتلئ بهم في ذلك الحين، وكان الذي ظهر منهم في الفيلم حقيقياً. في النهاية
يعثر
انطونيو على دراجته، ليكتشف ان من سرقها انما كان شخصاً أكثر فقراً منه،
وهو إذ يصل
الى أم السارق ينهار امام بؤسها ويقرر ان يسحب شكواه، ثم بالقرب من ملعب
رياضي حافل
بالمتفرجين، يجد ضالته: دراجة رأى ان في إمكانه ان يسرقها فيفعل، لكن حظه
يكون أضأل
من حظ السارق الأول، إذ سرعان ما نجده مطارداً أو يقبض عليه
المارة أمام سمع ابنه
الفتى وبصره. غير ان المارة سرعان ما يطلقون سراحه شفقة عليه. وينطلق هو
وابنه
ضائعين في الزحام وقد تصالحا بعد فترة من النفور بينهما، وأمسك كل واحد
منهما بيد
الآخر.
>
كان جديداً في ذلك الحين ان يتمكن مثل هذا الفيلم المتقشف والبسيط من
ملامسة أفئدة الناس، ليس في ايطاليا وحدها. الذي أعطى سحراً
خاصاً لفيلم يتحدث عن
رجل يبحث طوال أربع وعشرين ساعة عن وسيلة عيشه وعمله الوحيدة، في مدينة
استفاقت
لتوها من الحرب ولا تزال تعيش كوارثها الاجتماعية؟ هذا السؤال الذي طرحه
كثير من
النقاد ومؤرخي السينما، وجد جوابه لدى الناقد والمؤرخ الفرنسي
جورج سادول، الذي قال
ان الساحر في «سارق الدراجة» انما كان تمكنه من الكشف عن «شاعرية الواقع».
وكان هذا
التعبير مدهشاً وغريباً في ذلك الحين، لأن الواقع كان هو الواقع بالنسبة
الى الناس
عامة، فكيف يمكن الواقع ان يكون شاعرياً؟ الفيلم يجيب على هذا
السؤال، لأنه خارج
الإطار العام لما يحدث، كشف عن تأثير ما يحدث على دواخل النفوس، ليقول بكل
بساطة إن
الإنسان في طبعه بسيط وطيب ومتعاطف (مع الآخرين) لكن الظروف الاجتماعية هي
التي
تبدله. ولكن الإنسان هنا ليس أي انسان: انه «البروليتاري»، بل
«حثالة
البروليتاريا»، المرء البائس الذي لا يريد من الحياة ان تعطيه أكثر مما
يمكنه من
البقاء، لكن الحياة تبخل عليه حتى بهذا، ومع هذا تبقى له مشاعره الإنسانية،
المشاعر
نفسها التي عبر عنها الفيلم من خلال العلاقة بين انطونيو وابنه
برونو، تلك العلاقة
التي تتأرجح طوال الفيلم تبعاً لمزاج الأب وفرحه أو يأسه. لكنها في النهاية
تتكشف
في عمقها الحقيقي... الإنساني. وهذا ما جعل الكثر يقاربون بين دي سيكا
وشارلي
شابلن.
>
والمقاربة لم تكن بعيدة من الواقع، خصوصا أن دي سيكا كان -على غرار شابلن-
عُرف كمخرج وممثل هزلي، تنطبع أفلامه حتى قبل «سارق الدراجة» بحس انساني
عميق، غير
ان ما كان ينقصه انما هو البعد الواقعي والطبقي، وهو ما أضافه اليه لقاؤه
وزافاتيني. ولقد تواصل اللقاء بينهما طويلاً بعد ذلك. خصوصاً
في الفيلمين التاليين
لـ«سارق الدراجة»، واللذين يشكلان مع هذا الأخير ثلاثية: «معجزة في ميلانو»
(1950)
و«اومبرتو د.» (1951). صحيح أن هذين لا
يقلان قوة وجمالاً عن الأول، لكن الشهرة
كانت دائماً من نصيب «سائق الدراجة»، وان كان اتهم دائماً بأنه
يدعو، في التباس ما،
الى الإذعان والتسليم بما تأتي به الأقدار.
>
فيتوريو دي سيكا (1902 - 1974)، خاض معترك الفن منذ بداية شبابه ممثلاً،
ولكن أيضاً متقلباً في شتى المهن السينمائية والمسرحية
والميوزكهول، واعتبر الى حد
ما «شابلن ايطاليا»، لا سيما منذ تحول الى الاخراج السينمائي في العام 1939
مع فيلم «وردة قرمزية». وهو حقق حتى 1948، عام إخراج
«سائق الدراجة» عدداً من الأفلام التي
غلب عليها الطابع الفكاهي الاجتماعي. ثم، بين 1944 و1952، لعب
الدور الأساس في
ايجاد تيار «الواقعية الجديدة» عبر الأفلام التي ذكرناها (الثلاثية). وهو،
ولئن كان
تخلى بعد ذلك عن صفاء تلك الواقعية الشاعرية-الاجتماعية بالتدريج، فإن
أفلامه ظلت
تحمل نكهة خاصة، جذبت اليه كبار النجوم الذين تدافعوا للعمل
معه، من مونتغمري كليفت
الى صوفيا لورين، التي يعتبر هو مكتشفها الى حد ما، ومثلت من اخراجه بعض
أجمل
أفلامها، مثل «امرأتان» و «ماسح الأحذية» وجزء من «بوكاشيو 70»... إلخ.
alariss@alhayat.com
الحياة اللندنية في
29/02/2012 |