فى مكان واحد، وخلال عدة ساعات، تتوالى مشاهد هذا الفيلم الثرى
بعواطفه، المتنوع بشخصياته، الذى يخرج منه المتابع مبتهجا، يتراءى له الأمل
فى عام جديد، تتحقق فيه أمنيات لم يدركها فى العام الماضى.. الفيلم، أنشودة
للأشواق، منسوجة على نحو يجمع بين الرقة والرحمة والحنان، فضلا عن تفهم
عميق للجوانب الطيبة التى رصدها من مختلف المشارب. يتلمس متاعبها، وعناءها،
وأحلامها الضائعة، ولكن فى ذات الوقت، يثق فى قدراتها على تجاوز أزماتها،
طالما.. لايزال فى العمر بقية، ولو نصف يوم فقط.
المخرج، جارى مارش، مع كاتبة السيناريو، كاترين فوجات، نجحا بتفوق فى
الاختبار الصعب، المتمثل فى إبداع عمل جميل، منطقى ومتماسك، يلتزم بوحدات
المكان والزمان والحدث. المكان: «تايمز سكوير» ــ أكبر ميادين نيويورك،
وأوسعها شهرة. الزمان: عدة ساعات قبل انقضاء عام وقدوم عام جديد. الحدث:
نزول كرة الزمن البلورية المضاءة إلى قلب الميدان، فى منتصف الليل، وهو
التقليد المتبع، سنويا، منذ العام 1907.. فى الجزء الأول من الفيلم، يتابع
قدوم جحافل المحتفلين، ومن بينهم يختار نماذجه البشرية، تعبر عن قطاعات من
الناس برغم خصوصية كل منهم. وإذا كان الجميع فى طريقهم إلى الميدان طلبا
لمتعة المشاهدة، فإن ثمة مسئولين عن الاحتفال، يعيشون لحظات قلق، بأعصاب
ممزقة، خوفا من فشل يداهم المشرفة على إنزال كرة الزمن، ويكاد قلبها يتوقف
حين تعلق الكرة فلا ترتفع ولا تهبط، ويكون لزاما عليها الاستعانة بإخصائى
فى الكهرباء، عجوز عصبى، يخطرها أنها طردته منذ فترة، وإزاء رجائها، يقبل
المهمة، وينجح فى مسعاه.. وهناك رئيسة الطهاة فى حفل أحد أكبر الفنادق، حيث
سيغنى نجم الشباب «جنسن»، الذى لا تطيقه، وتصفعه على وجهه لسبب لا نعلمه.
ونتابع، حيرة الأم وقلقها على ابنتها المراهقة التى تصر على قضاء الليل، مع
مجموعتها، بعيدا عن عين والدتها. والأهم، وربما الأعمق تأثيرا، ذلك المريض
المشرف على الوفاة ــ بأداء خلاب من روبرت دى نيرو ــ طريح الفراش فى
مستشفى بالقرب من الميدان، يتمنى أن تكتحل عيونه برؤية الكرة البلورية قبل
أن يودع الحياة. ومن بين أبطال الفيلم تنهض زوجتان، كل منهما تحاول وضع
مولودها فى منتصف الليل، كى تربح جائزة مقدارها خمس وعشرون ألف دولار.
خطوط الفيلم قد تبدو مبعثرة، لا يجمعها سوى الإطار الخارجى للوحدات
الثلاث، ولكن فى الربع الأخير من الليلة، نكتشف الأواصر الداخلية للنماذج
البشرية، فندرك المعنى الإنسانى للفيلم. إحدى الحاملتين تزعم أنها وضعت
مولودها بعد الأخرى، كى تتيح للأخرى، الأكثر احتياجا، الحصول على الجائزة.
رئيسة الطهاة تكتشف أن المغنى اللامع، الذى لم يف بالزواج منها، هو الذى
اشترط أن يسند لها المنصب كى يوافق على إحياء الحفل. وبينما تبدو الابنة
وقد غدت أعمق ائتلافا مع والدتها، تجد الأخيرة الرجل الذى أخطرته، فى العام
السابق، أنها ستوافق على الزواج منه إذا جاء خصيصا لها هذا العام.. أما عن
العجوز الذى رحل عن الدنيا، روبرت دى نيرو، الذى أصر على مشاهدة الكرة
الجميلة، فإنه أيضا، كان يبغى الاطمئنان على نجاح ابنته، المسئولة عن إنزال
الكرة.. وحين يغادر الدنيا، يتعمد الفيلم أن ينتقل إلى عنبر المواليد الجدد
فى حضانة المستشفى، وكأنه يؤكد أن الحياة ستستمر، وتغدو جميلة، بفضل الحب
والأشواق.
الشروق المصرية في
09/01/2012
الميدان
كمال رمزي
يجدر بنا ألا نتعجل ظهور الأعمال السينمائية، الروائية، التى تتعرض
لثورة يناير 2011، وإلا سنجد أنفسنا أمام أعمال مصطنعة، موحدة، تحكى عن
شباب مأزوم، أو رجال منكسرين، أو نساء مظلومات، ينخرطون فى آتون الثورة
التى ينتهى بها هذا الفيلم وذاك، واضعا ختاما سعيدا، لا يخلو من بلاهة، كما
لو أن الثورة عصى موسى السحرية، ذات القوة الحاسمة.. الإبداع المركب، مثل
السينما والمسرح، يحتاج وقتا للتأمل، والتقييم، ومعرفة مسار الأمور، خاصة
بالنسبة لثورة لا تزال فى منتصف الطريق، لم تنجح ولم تفشل، حققت إنجازا
مبتورا، أمامها مشوار طويل كى تحقق أهدافها.. هذا الوضع ليس مقصورا على
ثورة يناير 2011 فقط، ولكن حدث من قبل، فى الثورة الروسية 1917، والصينية
التى استغرقت سنوات طويلة «1925 ــ 1949»، والكوبية 1959، حيث لم يبدأ ظهور
أفلام تعبر عن روح الثورة إلا بعد فترة ليست قصيرة.
مثل معظم الثورات، بدت الأغانى، عندنا، هى الأسرع إبداعا، والأعمق
تأثيرا، فالأغانى، فى جوهرها، تعبر عن العواطف، أو على الأقل، شحنة
الأحاسيس فيها أكبر وأوضح من التحليلات والتأملات الفكرية، العقلية..
والملاحظ أن أغانينا، إجمالا، فى كلماتها، وألحانها، وأدائها، تعبر تماما
عن وضعنا الثورى الملتبس، فهى لا تتحدث، بيقين، عن الانتصار، وبالتالى تخلو
من صخب الآلات النحاسية وإيقاعات الطبول، تبتعد عن أصوات المجاميع الهادرة
والكلمات الطنانة.. إنها، فى بعد من أبعادها، جماعية وفردية فى آن، أجملها،
وربما أعمقها تأثيرا، تلك التى تتسم بالطابع الرومانسى، والرومانسية ليست
نقيض الثورية، ولا تعنى الغرق فى الضعف، فهى قد بدأت ثورية، ولعل أغنية «يالميدان»
التى مست شغاف القلوب أن تكون نموذجا من النماذج التى ستقود الأغانى إلى
نوع رقيق، مدجج بروح الصلابة، فى الغناء المصرى.. «الميدان» هنا، يكتسب
معنى نبيلا، ويتحول إلى مساحة نابضة بالحياة والأمل، ومنذ البداية، تأتى
الأغنية بحرف «الياء» المنادى، المترعة بالأشواق، لتستكمل بعدها بتلك
الكلمات التى صاغها، بعذوبة، أمير عيد، متسائلة بمحبة وترحيب «كنت فين من
زمان».. ومع الاقتصاد فى الآلات الموسيقية، يبدو الصوت البشرى شديد الوضوح،
وتتوالى الكلمات مع اللحن السلس الذى وضعته فرقة «كاريوكى»، لتعبر بصدق عن
«حالة ثورية» وليس عن انتصار تحقق: مافيش رجوع، صوتنا مسموع، والحلم خلاص،
مش ممنوع.. ثم يأتى صوت عايدة الأيوبى، الأقرب للدانتيلا، لتستكمل الأغنية،
وحين ترصد الكاميرا وجهها، يدرك المرء أنها تعنى بروحها، فملامحها،
بابتسامة الأمل المضيئة، يضفى المزيد من الأمل، والعزيمة، على كلمات
الأغنية: هانصون بلادنا وولاد ولادنا، حق اللى راحوا من شبابنا.
مخرج الأغنية، محمد شاكر، عن طريق الصورة، منح الكلمات واللحن
والأداء، المزيد من العواطف والمعانى، فالسترة المليئة بثقوب رصاصات، تبين
بجلاء خسة الطغاة القتلة.. وفى النهاية، مع كلمات: الميدان بيقول للظالم
دايما لأ.. يظهر الميدان بآلاف من الشباب المصرى، يوحى بالأمل والعزيمة على
النصر.. إنها أغنية تعتبر من نتاج الثورة، بحق.
الشروق المصرية في
15/01/2012
المأزقا
كمال رمزي
لمشاهد الوثائقية تضع السينما المصرية فى مأزق، سواء روائية أو
تسجيلية، فالمقاطع التى رصدتها الكاميرات، أثناء الثورة، تبلغ فى قوتها،
وصدقها، وصخامتها، حدا يفوق قدرات أى مخرج روائى، حتى لو كان من طراز جريفت
أو سكورسيزى.
صحيح، قد يعجب المرء بمهارة صناع هذا الفيلم أو ذاك، وربما ينبهر
بالقدرة على تحريك المجاميع، ولكن يظل للمقاطع الوثائقية، بكل زخمها
وصدقها، سحرها المتفرد، خاصة حين تتعلق بجموع ميدان التحرير، والمواجهات
الدامية، البالغة العنف، بين الثوار من ناحية، والعساكر والبلطجية من ناحية
أخرى، بالإضافة لبطولة شباب وقفوا، بأجسادهم، أمام خراطيم المياه والمصفحات
السوداء والصفراء.. إنها مشاهد أصبحت ذات حضور واضح فى الضمائر، وهنا تأتى
مشكلة الأفلام التسجيلية التى تعتمد، بالضرورة، على المقاطع الوثائقية،
والملاحظ أن عشرات الأفلام التسجيلية، إجمالا، سارت فى طريقين تقليديين، لا
يؤديان إلا لمزيد من عدد الأفلام:
الطريق الأول، غالبا، يجرى لقاءات مع المتظاهرين، والمصابين، وأهالى
الشهداء، مع تدعيم شهاداتهم بمقاطع وثائقية يحفظها المتلقى تماما. هذه
الأفلام تكاد تخرج فى تبويبها داخل خانة السينما التسجيلية لتدخل فى بند
البرامج التليفزيونية، وتصل إلى أدنى مستوياتها حين يظهر مع المشاهد، مذيع
أو مذيعة، يبديان التأثر الشديد. أما الطريق الثانى، فإنه يعتمد على تعليق
صوتى، من خارج المشهد، يشرح، يسرد، يعقب.. أسلوب «التعليق» هذا، كان من
آفات السينما التسجيلية المصرية، ظهرت أعراضه، على نحو مزمن، أثناء بناء
السد العالى، فمع تصوير الأوناش العملاقة، وكتل الحجارة الملقاة فى مجرى
النيل، ينهمر صوت المعلق، العارف بكل الأمور، شارحا، بحماسة، ما نراه
أمامنا، مؤكدا، بالأرقام، أهمية المشروع الكبيرة وجدواه المؤكدة.. ثم، فى
أعقاب حرب أكتوبر 1973، اجتاح المعلِّقون عشرات الأفلام التسجيلية، تقدم
ذات المشاهد، بأصوات مذيعين، يتحدثون، بجمل وعبارات متكررة، عن «دبابات
العدو التى هربت من هول الصدام»، وقواتنا التى «لقنت العدو درسا قاسيا،
وحققت النصر فى ست ساعات».
مع ثورة يناير 2011 بدأت موجة عالية من الأفلام التسجيلية، مشكلتها
أنها، حتى الآن، وقعت بين قبضتى البرامج التليفزيونية والمعلِّق.. ربما تجد
ميزة ما فى «18 يوم» و«التحرير»، ولكنهما، فى التقييم النهائى الحاسم، لا
يشقان طريقا خاصا بهما، فإلى جانب لقاءاتهما مع الثوار، ثمة المشاهد
الوثائقية المعهودة، الأقوى والأعمق من اللقاءات.. كذلك الحال، بالنسبة
لنتيجة الأفلام المعتمدة على معلِّق، حتى لو كان هذا المعلِّق يحكى تجربته،
ذات الطابع الذاتى، أيام مواجهات الدم والنار.. فها هى، على سبيل المثال،
المخرجة الطموح، هبة قنديل فى فيلمها «الثورة المصرية» تروى من خارج
الصورة، عن مشاعرها وأفكارها. وسريعا يدرك المتلقى مدى بُعد المسافة بين
وعيها من ناحية، والشرائط التى بين يديها من ناحية أخرى، فيكفى أن تسمعها
تقول، ببراءة تصل إلى حد السذاجة: «كلنا منبهرين بالثورة فى تونس اللى
خلتنا نغير ونقول عايزين نعمل كده فى مصر».. يا سلام!.
الشروق المصرية في
28/01/2012
المصرية في
27/01/2012
|