عندما يقول احد في ايامنا هذه إن السينما المغربية هي السينما الصاعدة
الوحيدة في طول القارة الأفريقية وعرضها من جهة، وفي بلدان العالم العربي
من جهة ثانية، لن يكون من الضروري الافتراض بأن هذا «الصعود» يعني صعوداً
في مستوى الأفلام ونوعيتها... ومع هذا، لن يفوت المراقب الأجنبي للحالة
السينمائية في المغرب ان يلاحظ ان نسبة الصعود النوعي تشكل مصدر فخر
للسينمائيين المغاربة الذين لم يعودوا في الأعوام الأخيرة يكتفون بالحديث
عن وتيرة انتاج متزايدة من الناحية الكمية. وفي كلمات اكثر وضوحاً، تكفي
متابعة ما يعرض حالياً من النتاج المغربي ضمن اطار «مهرجان الفيلم الوطني»
الذي يعقد – وحتى مساء غد السبت- دورته الثالثة عشرة، حتى يجد المرء نفسه
امام ما قد يمكن اعتباره نجاحاً مزدوجاً: فمن ناحية تعرض الدورة من الأفلام
القصيرة والمتوسطة الطول ثلاثة وعشرين فيلماً هي بالتحديد نصف الكمّ المنتج
من هذا النوع ، ومن ناحية ثانية تعرض الدورة اثنين وعشرين فيلماً روائياً
طويلاً -اضافة الى فيلم وثائقي طويل تساءل كثر عن علة وجوده ضن اطار مسابقة
للأفلام الروائية-. هذه الأفلام الروائية المعروضة في مهرجان يريد أن يكون
تتويجاً لعام سينمائي، هي في الحقيقة مجمل الإنتاج المغربي لهذا العام الذي
انتهى لتوه... ومع هذا، ثمة من بين منتقدي المهرجان من احتج على... سوء
اختيار الأفلام المشاركة!! وطبعاً لسنا في حاجة إلى أن نشير هنا إلى أن هذا
الاحتجاج السوريالي كان «نكتة» المهرجان!
أجيال وتوازنات
مهما يكن من أمر، كان من المنطقي ان تكون هناك احتجاجات في المقابل
على مستوى بعض الأفلام، سواء أكانت قصيرة ام طويلة، ولكن هذا من شأنه ان
يدخلنا في متاهات سجالية تخرج عن نطاق أواليات عمل مهرجان من هذا النوع...
فنحن هنا لمشاهدة الإنتاج المغربي للعام 2011، أي كل الإنتاج، بغثه
وسمينه... اما بالنسبة الى المستوى الجيد او السيء للأفلام المنتجة، فأمر
من الصعب الحسم فيه طالما ان سياسة الإنتاج المدعومة رسمياً تتطلب تقديم
الدعم خارج نطاق ما قد يقوله النقاد وغيرهم من المثقفين –وهم كثر وفاعلون
في الحياة الثقافية بل العامة ايضاً في المغرب–، ولعل في امكاننا هنا ان
نشير الى امر بالغ الأهمية في هذا المجال: فالمؤسسة الداعمة للسينما في
المغرب هي وزارة الاتصال من طريق المركز الوطني للسينما.
صحيح ان هذا الدعم يقدّم من دون ان يطلب منه ان يكون ذا مردود تجاري،
غير ان هذا لا يمنع جهة الدعم من ان «تحتفل» بأفلام تجد طريقها حقاً الى
الجمهور العريض وتحقق مداخيل تؤمن استخدام الفائض المالي المتحقق في مزيد
من الدعم ومزيد من الإنتاج. وهنا تبرز حقيقة لا بد من اخذها في الاعتبار،
وهي ان الجماهير المغربية العريضة لم تتدفق الا لمشاهدة الأفلام التي لا
ترضي النقاد... أما الأفلام التي يدعمها هؤلاء، فإنها تؤمن سمعة جيدة
للسينما المغربية وتعرض في المهرجانات الخارجية وتبقى للتاريخ. ونعرف طبعاً
أن ما نقوله هنا عن السينما المغربية هو ما يمكننا ان نقوله عن اي سينما في
العالم نفسه.
وفي المغرب، لا بد من الترحيب بهذا طالما انه يخلق توازناً بين
النخبوي والشعبي، ينضاف الى التوازنات العديدة التي تحكم مسيرة هذه
السينما، كالتوازن بين حضور المدن والارياف في جغرافية الأفلام، والتوازن
بين ضروب التنوع اللغوي وكذلك بين اجيال السينمائيين انفسهم، حيث يحظى
ابناء الأجيال السابقة بالفرص ذاتها التي يحظى بها السينمائيون الجدد (ولعل
ابرز ما يلفت النظر خلال الدورات المتلاحقة لمهرجان السينما الوطني هذا، هو
الوجود الدائم لأفلام هي اول انتاج صانعيها في المسابقة الرسمية، بل كذلك
كون تلك الأفلام الأولى تحقق فوزاً في الجوائز على أفلام المخضرمين).
والحقيقة ان كل هذه التوازنات نجدها حاضرة في هذه الدورة التي توزع غداً
جوائز مالية للذين سوف تختارهم لجنة التحكيم...
والحال أنه من قبل ان تجتمع لجنة التحكيم لتختار، كان اختيارها هي
نفسها في الصحافة المغربية موضوعاً للنقد والسجال... ولا سيما بالنسبة الى
اختيار الفيلسوف الفرنسي وعالم الاجتماع المعروف إدغار موران رئيساً للجنة،
وكذلك اختيار عالم الاجتماع والمناضل الحقوقي المغربي المعروف احمد
الحرزاني نائباً لرئيس اللجنة. كان الاحتجاج على موران من قبل صحافيين لم
يكونوا يعرفون أن له جهوداً هامة في النظريات السينمائية، فتساءلوا: ما دخل
عالم الاجتماع في اللعبة السينمائية؟ وهؤلاء أتاهم الجواب في اليوم الأول
للعروض، عبر محاضرة ألقاها موران عن السينما في تاريخها وجمالياتها
ومستقبلها، وأتت نادرة في دقتها وصفائها وبخاصة ايضا في ايمانها بمستقبل
السينما فناً وصناعة... اما بالنسبة الى عالم الاجتماع المغربي، فإن من
يشاهد القسم الأكبر من الأفلام المعروضة، ومن يتنبه الى واحدة من اهم
السمات التي تطبع السينما المغربية، حاضراً وماضياً، سوف يدرك بسرعة أهمية
حضوره.
إن واحداً من القواسم المشتركة الأساسية التي تسم السينما المغربية في
معظم انتاجاتها، هو ذلك الالتصاق المدهش بين هموم المجتمع وهموم
السينمائيين. فأنت أمام كل فيلم مغربي تشاهده –وربما منذ الأفلام الأولى
قبل اكثر من نصف قرن– سرعان ما تجد نفسك امام سينما تقول، او تحاول ان تقول
شؤون المجتمعات المغربية، وذلك بصرف النظر عما اذا كان الفيلم نخبوياً او
شعبياً. مميزاً من الناحية الفنية او جماهيرياً هزلياً... في كل الأحول
ومهما كانت هوية الفيلم الجغرافية، ومهما كان موضوعه، هناك دائماً حضور
لهمٍّ اجتماعيّ ما... همّ يقال مباشرة او مواربة، همّ ريفيّ او مدنيّ، يقال
في أمثولة تاريخية او في حكاية راهنة او مستقبلية، يقال حتى من طريق
التهريج او من طريق لغة شديدة التجريب والنخبوية... كل هذا لا يهم . المهم
في الأمر ان وجود هذا الهمّ في السينما المغربية امر حتمي ويبدو من نافلة
القول. ومن البديهي ان هذه الهموم الاجتماعية موجودة في القسم الأعظم من
عروض دورة هذا العام... ولكن كاتب هذه السطور لن يدخل في التفاصيل طالما
انه عضو في لجنة التحكيم ولا يحق له ان يدلي برأيه الا بعد اختتام
المهرجان. ومع هذا ثمة ما يغري هنا بالإشارة الى ان الهموم قد لا تكون هي
هي نفسها عاماً بعد عام. بل إنها ربما تسير أحياناً بالتوازي مع الراهن من
الأحداث... ومن هنا ما لاحظناه هذا العام من طغيان لموضوعين ماثلين في عدد
كبير من الأفلام: موضوع هجرة الشبان المغاربة الى اوروبا وغيرها، وموضوع
التطرف الديني. واللافت هنا حقاً هو ان هذين الموضوعين عولجا في عدد من
الأفلام بشكل هزلي... ولعل في امكاننا ان نتوقّع منذ الآن ان تحقق هذه
الأفلام الهزلية نجاحات جماهيرية كبيرة... في المغرب على الأقل.
امتحان الوزير
والواقع ان هذا الحكم نابع لدينا من ملاحظة ردود فعل المتفرجين في
الصالة خلال العروض المهرجانية... فبالنسبة الى الناقد والمثقف المهتمّ
حقاً بنوعية الأفلام وتجريبيتها وجدة مواضيعها ولغاتها السينمائية، كان من
الطبيعي له ان يخشى على السينما المغربية من وضوح ردود الفعل هذه، معتبراً
اياها غير صحية طالما ان الإعجاب انصبّ على ما هو الأكثر ابتذالاً وتهريجاً
مما لا يرقى عادة الى التطلعات التحديثية(!)... ولكن هنا في المقابل، علينا
ان نتنبه الى ان الجمهور الحاضر هنا ليس حتى جمهوراً شعبياً تماماً، بل هو
من جمهور أنصاف المثقفين، ما يطرح امام الباحث المراقب اسئلة شائكة قد
ينتهي معها الى اقناع نفسه بأن في الأمر بعد كل شيء ديمومة للسينما وربما
ايجاد جمهور ما يؤمن لها حماية تجعلها توجد ثم تنطلق من هذا الوجود الى
آفاق اكثر جدة وجدية كما حال كل نهضة سينمائية في العالم.
وفي يقيننا ان السينما المغربية التي تحقق منذ نحو عشر سنوات ما يشبه
المعجزة الصغيرة منتقلة من انتاج ما لا يزيد عن خمسة افلام في السنة كمعدل
عام الى انتاج ما لا يقل عن خمسة وعشرين فيلما في السنة في زمننا الراهن
هذا، في حاجة حقيقية الى مثل هذه الحماية... مع أن أكثر السهام القاتلة
تأتي من اهل السينما انفسهم، بقدر ما تأتي من لدن المتطرفين والمحافظين
الذين اعتادوا مهاجمة السينما صبحاً ومساء لكونها في نظرهم «رجساً من عمل
الشيطان»... وفي هذا الإطار بالتحديد، يمكننا ان نفهم الصحافة المغربية،
المؤيدة للسينما، حين كتبت بالعنوان العريض غداة حفل الافتتاح ان الوزير
مصطفى خليفي، وزير الاتصالات والناطق باسم الحكومة المشكّلة حديثاً، كان هو
نجم حفل الافتتاح.
طبعاً بالنسبة الى القارئ غير المغربي لن تكون الصورة الكامنة خلف هذا
العنوان الصحافي العريض واضحة، ولذلك سنوضح: ان الوزير خليفي ينتمي الى حزب
العدالة والتنمية الإسلامي الذي تسلم الحكم لتوّه، ومن هنا كان موقفه من
المهرجان اول امتحان له، بالنظر الى ان الإسلاميين الذين ينتمي اليهم أبدوا
دائماً عداء للسينما المغربية وللسينما بشكل عام. في النهاية نجح الوزير في
الامتحان: حضر المهرجان ورعاه وقال في خطبته القصيرة كلاماً طيباً عن
السينما و... تنفس الجميع الصعداء ولو حتى إشعار آخر.
الحياة اللندنية في
20/01/2012
نظرة من الخارج الى فيلم «هلأ لوين؟»...
السؤال الأصعب في تاريخنا المعاصر
شريف حتاتة
... والآن إلى أين؟ هذا هو السؤال الذي طرحته علينا المخرجة اللبنانية
نادين لبكي في عنوان فيلمها الآخير «هلأ لوين؟». طرحته في ما يتعلق بظاهرة
خطيرة أصبحت تُهدد حاضر ومستقبل الشعوب العربية، وتُثير قلقاً واسعاً يُثقل
عقول الملايين في بلادنا وقلوبهم. هذه الظاهرة هى تفاقم التعصب الديني
والصراع الطائفي، اللذين يُنذران بأوخم العواقب. سؤال طرحته في المشهد
الأخير من فيلمها من دون أن تُجيب عنه، فكم من المعضلات الخطيرة تُواجهنا
في هذا العصر المضطرب نسعى وسط نيرانها إلى الاهتداء لإجابة عنها. ذلك أن
الشعوب وحدها هي التي يُمكن في يوم من الأيام أن يصل إدراكها ونضالها إلى
حلول للمشاكل التي تنهش في لحمنا وفي حياتنا.
اختارت نادين لبكي، بفضل بصيرتها كفنانة، موقعاً مدفوناً في محيط
طبيعي قاس.
قرية بلا اسم، معزولة، وسط جبال صخرية عارية وقاسية ترتفع في السماء تقول
لنا:
«انظروا
كيف أن حياة السكان التي ستشاهدونها منحوتة في محيط جارح لا يُوحي بالآمان،
بحنان الأشجار والزهور والأرض الخصبة الولادة. قرية يتطلب الوصول إليها
اجتياز
منحدر وحيد، ضيّق وعميق وخطر يشق طريقه بصعوبة وسط الجبال.
فأتاحت لنا المخرجة منذ
البداية أن نحس بقسوة الحياة التي يعيشها السكان. إنه فيلم افتتحته مخرجته
برقصة
جنائزية مسرحية تُوحي بالأحزان المتراكمة في صدور نسائها، وبأحزان قادمة،
كما أتاح
لنا تصوير الجبال أن نشاهد منظراً نادراً لا يغيب عن البال.
إنها قرية نائية مسالمة يحيا فيها رجال ونساء بسطاء في حالة من
الوئام. رجال
ونساء فيهم ذكاء الفطرة، والقدرة على الضحك والسخرية التي تُولدها حياة
ليست مفروشة
بالمال والورود. ذكاء، وقدرة على السخرية تجلّتا على الأخص بين
النساء. إنها حالة
من الوئام، لكنها كما سنكتشف، لا تنفي وجود الضغائن، وتيارات العداء
الكامنة تحت
السطح كما هو الحال دائماً مع البشر، لأنهم حتى الآن لا يُولدوا، ولا يحيوا
في
مجتمعات تسود فيها الحرية الحقيقية، والعدالة، وعدم التفرقة،
والسلام. لذلك تتفجر
الصراعات عند حدوث الأزمات أو وقوع أسباب تُؤدي إلى سوء تفاهم، أو صراع في
المصالح.
نظرة امرأة
هذه الحالة من الوئام في القرية تظل قائمة إلى أن يتمكن اثنان من
الشباب أن
يأتيا بجهاز تلفزيون وملحقاته، وأن يضعاه في منزل «المختار»، أي عمدة
القرية
المسيحي بمساعدة زوجته «إيفون»، فمنذ تلك اللحظة تبدأ المشاحنات بين
الرجال، ذلك أن
التلفزيون صار ينقل إليهم أخبار الحرب الأهلية الدامية التي
جرت بين المسلمين
والمسيحيين في لبنان خلال سنة 1975.
وباتت المشاحنات تقع لأسباب تافهة بل مضحكة، ولهذا السبب، فإن إيعازها
إلى عوامل
خارجة عن نطاق حياة القرية نفسها كان فيه قدر من التبسيط المُخل، فهي لم
تتفجر إلا
على أرضية من الخلافات والضغائن الاجتماعية والدينية تكونت خلال تطور
تاريخي طويل
في المجتمع. هذا رغم تفاهة أسبابها الظاهرة.
ولقد اقترن هذا التبسيط للمشكلة بعنصر آخر هو تحيّز الفيلم إلى جانب
النساء على
نحو فيه تطرّف. لا شك في أن البناء الذكوري للمجتمع يُؤثر في طبائع الرجال
والنساء،
لكن الفيلم انساق في تحيزه للمرأة على نحو فيه الكثير من المبالغة.
في الفيلم تطورات ومشاهد مأسوية مؤثرة جداً عُولجت بفنية عالية.
الشابان اللذان
أحضرا التلفزيون إلى القرية كانا يتوليان نقل منتجاتها واحتياجاتها بواسطة
دراجة
نارية مزودة صندوقاً يجتازان بها الدرب الضيق الذي يصل بين القرية
والمدينة. في
إحدى الليالي كانت تدور معركة مسلحة في الجبال بين مسلمين
ومسيحيين فقُتل أحد
الشابين برصاصة طائشة وهما عائدان من المدينة. كان شاباً وسيماً ورقيقاً
اسمه «نسيم».
عندما تُفاجأ أمه بما حدث تُلقي بنفسها على جثة ابنها صارخة «رد عليَّ
يا
نسيم... رد عليَّ» لكنه لا يُجيب، فتعدو عبر مسالك القرية وتندفع داخل
الكنيسة.
هناك تقف أمام تمثال العذراء «مريم» وتُعبر
صارخة باكية عن تساؤلاتها، عن شكوكها،
عن غضبها، وعن تمردها، في مشهد مؤثر للغاية. بعد ذلك، وخشية
حدوث مجزرة في القرية
بين المسيحيين والمسلمين، تدفن جثة ابنها سراً في الليل مع عدد من النساء
اللائي
يُوثقن الجثة بحبال ثم يسقطنها في بئر عميق. تُخفي الأم ما حدث لابنها
وتُغلق غرفته
مُدعية أنه مريض، لكن ابنها الكبير يكتشف حيلتها، فيدور
كالمجنون في الدار باحثاً
عن سلاحه حتى ينتقم من المسلمين في القرية. في مواجهة خطر المجزرة القادمة،
تُخرج
هذه المرأة الأم الشائبة الشعر المعذبة الملامح، البندقيةَ من مكمنها
وتُطلق رصاصة
إلى إحدى ساقي ابنها لتمنعه من الحركة.
توليفة خصبة فنياً
اعتمد الفيلم إلى حد بعيد على الكوميديا الساخرة التي تجلت في
الحوارات والمواقف
التي اتخذتها النساء. الجزء الكوميدي البارز يدور حول الاجتماع الذي عقدته
النساء
بعد وفاة الشاب واتفقن فيه على صُنع فطائر محشوة بالحشيش والأقراص المخدرة،
ثم
أثناء نوم الرجال تدّعي المسيحيات تحولهن إلى الإسلام وتدّعي
المسلمات تحولهن إلى
المسيحية، ما قاد إلى مواقف كوميدية ساخرة ومضحكة كانت في الوقت نفسه
تعبيراً عن أن
الإنسان إنسان، سواء كان مسيحياً أم مسلماً، وأنه يجب ألاّ تكون هناك تفرقة
دينية
بين الناس.
تصدت نادين لبكي بجرأة في هذا الفيلم لمشكلة خطيرة، مُحاطة بكثير من
العوامل
الاجتماعية، والفكرية، والخلقية المعقدة والحساسة وهي تستحق التقدير على
ذلك. وهي
لجأت في إخراجه إلى توليفة غنية، وتركيبة فنية متعددة الجوانب، إلى الجمع
بين
الكوميديا الساخرة والدراما المؤلمة بين الواقع كما تصورته هي
والفانتازيا، بين
أسلوب سينمائي ومسرحي أحياناً في بعض المشاهد، ثم ضفرت فيه الرقص والأغاني
والموسيقى، التي أكدت وعمقت المواقف والمشاعر في الفيلم.
مع ذلك ثمة في الفيلم عيب أساسي ينبغي تسجيله، فلا شك في أن الفن
بطبيعته يميل
إلى المبالغة، وإلى التطرف خصوصاً عندما ينبني على مقدار كبير من الكوميديا
الساخرة، لكن جرعة المواقف والأحاديث والتطورات الفكاهية سيطرت على جزء
كبير منه،
ما أفقده التوازن. وهذا في عمل موضوعه جد خطير مما جعله يفقد جزءاً كبيراً
من
مصداقيته، ومن قدرته على الإقناع، خصوصاً أن المشاهد عندما
يدخل إلى فيلم يتناول
موضوعاً مثل الصراع الديني والطائفي لن يكتفي بالتسلية فقط، وإنما سيبحث عن
جوانب
أخرى أهمّ. كذلك، فإن التمييز المبالغ فيه بين طبيعة المرأة وطبيعة الرجل،
ساهم هو
أيضاً في إضعاف المصداقية.
أياً يكن الأمر، نعرف ان الفيلم نجح جماهيرياً في عدد من البلدان
العربية، بينما
الجماهير في مصر لم تُقبل عليه. وقد عزا بعض النقاد هذه الظاهرة إلى صعوبة
تتبع
المشاهد المصري لفيلم استخدمت فيه اللكنة اللبنانية، لكني أعتقد أن السبب
الرئيسي
في انصراف جمهورنا عنه هو انتشار التعصب الديني الإسلامي
والمسيحي بين قطاعات كبيرة
ومهمة من المجتمع. كذلك السخرية المبالغ فيها الموجهة ضد الرجال، والميل
إلى
تصويرهم كائنات تافهة، ربما أثار حفيظة الآباء والأزواج وشباب الأسر
والنساء
المتأثرات بهم، فالنظرة الذكورية تدعمت في المجتمع رغم كل
الكلام عن الحداثة، ما
عدا في قطاعات محدودة من الشباب المثقف. كما أن الديانات، دون استثناء،
تُؤكد سيادة
الرجل وهيمنته على المرأة.
الحياة اللندنية في
20/01/2012
أفلام جديدة (20-01-2012)
«مذبحة»
اخراج: رومان بولانسكي – تمثيل: جودي فوستر، كيت وينسليت
>
هذا الفيلم الذي يبدأ على شكل حكاية فتيان مدرسية تكاد تكون
عادية بحيث
يتساءل المتفرج عما جاء رومان بولانسكي يفعله هنا، سرعان ما تتحول الى شيء
آخر
تماماً... ولكن بعد خناقة بين تلميذين يجرح احدهما الآخر. ان الحكاية
الحقيقية
تنطلق حين يجتمع والدا الطفل الضحية بوالدي الطفل المعتدي. كان
يقصد من الإجتماع
التصالح غير ان الأمور تسوء تدريجاً خلال السهرة بين الجميع فيصبح ما يراه
المتفرج
على الشاشة اشبه بمسرح العبث ولكن على طريقة ادوارد آلبي الإجتماعية وليس
على طريقة
يونيسكو أو بيكيت. وليس هذا بالصدفة إذ ان الفيلم مقتبس من
مسرحية للكاتبة ياسمينا
رضا ( فرنسية من اصل ايراني) ومن المعروف ان مسرحيات رضا تحمل نكهة شديدة
القسوة في
التعامل مع شخصيات آتية من الطبقات الوسطى، ما يجعل هذا العمل السينمائي
المميز
يقدمها خير تقديم للجمهور العالمي.
} «رياح
معاكسة»
اخراج : جليل ليسبير – تمثيل : بنوا ماجيمال، ايزابيل كاريه
>
يمكن للمرء ألا يحب الأفلام الناعمة وبخاصة العاطفية منها في
هذه الأيام
العصيبة ويمكن له ألا يحب الثرثرة الزائدة في السينما الفرنسية التي يبدأ
الحوار
فيها منذ ما قبل اللقطات الأولى ويكاد لا ينتهي مع ظهور كلمة «النهاية» ،
غير ان
المرء لا يمكنه الا ان يحب هذا الفيلم البسيط والناعم الذي
يتحدث عن رب عائلة شاب
يفقد زوجته في ظروف تبدو غامضة الى حد كبير فيقرر ذات لحظة ان يبدأ حياة
جديدة رغم
كل شيء فيأخذ ولديه وينتقل ليعيش في مدينة سان مالو البحرية في الغرب
الفرنسي. غير
ان الهدوء الذي يسعى اليه لا يتحقق له ولكن ليس بالمعنى السيىء
للكلمة . اولاً
وأخيراً نحن هنا امام حكاية رجل، وبشكل اكثر تحديداً أمام حكاية رجل يعرف
كيف يخرج
نفسه من حالة الحزن والبكاء التي وضعه فيها اختفاء زوجته.
} «الهافر»
اخراج: آكي كوريزماكي – تمثيل: أندريه فيلمز ، جان بيار داروسان
>
كوريزماكي هو ومنذ زمن بعيد الأشهر بين المخرجين الفنلنديين
وشهرته تفوق
شهرة اخيه ميكا الذي هو الآخر سينمائيّ معروف، غير ان آكي لم يفلح حتى الآن
في ان
يقدم لنا افلاماً مهمة عن مجتمع بلاده لكنه عرف في المقابل كيف يفتح هذه
الأفلام
على مناطق اخرى من العالم وعلى مواضيع انسانية في شكل عام...
ومن هنا لم يستغرب احد
ان يذهب هذا المخرج الى مدينة الهافر الفرنسية ليجعلها ليس فقط مكان احداث
هذا
الفيلم الذي عرض في دورة مهرجان «كان» الأخيرة بل كذلك موضوع الفيلم بأهلها
اكثر
مما بجغرافيتها... ولا شك ان المتفرجين بعد ان يبدوا اعجابهم
بهدوء سينما كوريزماكي
وانسانيتها وصورها سيتساءلون: هل حقاً ثمة في فرنسا بلدة مثل هذه كريمة
ولطيفة
وانسانية تعرف كيف تقوم من همومها لمساعدة صبي افريقي هارب من سفينة تقله
سراً، على
الوصول الى لندن للإنضمام الى أمه؟
} «حقول
القتل»
اخراج: آمي كنعان مانّ – تمثيل : جسيكا شاستين ، سام ورثينغتون
>
قد لا يكون هناك جديد في حكاية هذا الفيلم... ومع هذا حقق
نجاحاً لا بأس به
لدى المتفرجين ما يدل مرة اخرى على ان النوع البوليسي من السينما التي تقوم
على
التحقيق الموصل الى نبش الماضي لا تزال لها حظوة في الصالات على رغم ما كان
معتقداً
من ان السينما سرقت منها موضوعاتها. الحكاية هنا تدور من حول
جريمة تقع في مدينة
تكساس سيتي الأيركية ضحيتها فتاة ليل. وفيما يكون محققان – كالعادة –
منكبّين على
التحقيق في هذه الجريمة التي تبدو للوهلة الأولى منفردة، تأتي دلائل عديدة
تحثهما
على التفكير في ان هذه الجريمة قد تكون من فعل مجرم سفاك – أي
قاتل بالتسلسل –
يقترف جرائمه منذ نهاية سنوات الستين.
الحياة اللندنية في
20/01/2012 |