في المرة الأولى التي وطئت فيها قدماه ارض
بغداد بعد غياب عشرين عاما، شعر كأنه يشاهد فيلما من أفلام الخيال العلمي.
تغير
المشهد، طغت وجوه أخرى وأسماء جديدة ومظاهر غريبة. وجوه " اللوعة" كما
وصفها له
صديق مقرب يساري سابق ومؤذن لاحقا. لكن سعادة العودة إلى الوطن طغت على ما
عداها.
المخرج العراقي عامر علوان ترك بلاده قبل الغزو الأمريكي، و يقيم في
فرنسا منذ
ثلاثين عاما. نتعرف في هذا الحوار على بعض من أعماله
واهتماماته الفنية، لكن
السياسة زجَت بنفسها بالطبع، فما يحدث في
العراق وسوريا والثورات...، يجعل من الصعب
فك السياسة عن الفن في أي حديث مهما كانت الرغبة مخلصة. لكننا في النهاية
بدأنا
بطرح الأسئلة تصب في هدف اللقاء الأساسي.
·
منذ " زمان، رجل القصب" الذي
صورته في
الأهواز 2003 ما حلً بك وبالعراق؟
أشياء كثيرة! قضيت الفترة في
الكتابة السينمائية، باتت لدي عدة سيناريوهات جاهزة. وسمحت لي الإقامة في
باريس
بالعمل مع مخرجين فرنسيين وبتمثيل بعض الأدوار، كدور صغير في فيلم "فتاة
القطار
السريع" لاندريه تشيني مع كاترين دونوف. كما أنجزت أكثر من فيلم تسجيلي
منها"
العراق بين الواقع والخيال" و"وداعا يا بابل" وقمت بإعداد حلقات المسلسل
التلفزيوني" سقوط الخلافة العثمانية" لتُخرج سينمائيا. ومؤخرا أديت دور
البطولة في
فيلم " المغني" لقاسم حول. سأصور قريبا في العراق سيناريو كتبته " أهلا بكم
في
بيتي"...
·
إلى الآن لم تنجز سوى فيلم
روائي، كان هو الآخر مزجا بين
الوثائقي والروائي، هل اتجهت نحو التعبير
عبر الوثائقي لصعوبات إنتاجية وتقنية أم
حبا في هذا النوع السينمائي؟
- أميل إلى الأفلام الروائية وهي حلمي
وطموحي، لكن الأفلام التسجيلية والوثائقية هي المدرسة التي تعلمت فيها هي
مجال
للإبداع الذي ينتمي للحظة الراهنة دائما. وأحيانا تفرض صعوبة الحصول على
موارد
مالية بعض الخيارات.
·
ذكرت الوثائقي والتسجيلي،
بتعريفك الخاص كمخرج
لهذه النوعية من الأفلام كيف ترى الفرق بينهما؟
الفيلم الوثائقي مبني
على أمور آنية تنتمي للحظة، منجز بأسلوب
مشابه لإجراء الريبورتاج (التحقيق الصحفي)
أكثر منه الأسلوب القائم على التوثيق التاريخي. في التسجيلي أرى الفيلم
الذي يتطرق
إلى موضوع خارج الزمن، موضوع محدد كالآثار مثلا، الديكتاتورية، الطبيعة
وحياة
الحيوانات... ثمة فروق تقنية كذلك. ففي الوثائقي تكون طبيعة التصوير سريعة
بينما
يعتني التسجيلي أكثر باللقطة، باختيار الكادر، ثمة بناء درامي ودراسة للقطة
قريب من
ذلك المستخدم في الروائي. أيضا يلعب المونتاج دورا أكبر في التسجيلي فقد
نصور خمسين
ساعة لنختصرها في النهاية إلى ساعة ونصف، فيما قد نكتفي في الوثائقي بخمس
ساعات
يحولها المونتاج إلى ساعة، هو بالتالي أكثر مناسبة للتلفزيون منه للسينما،
أي
للاستهلاك السريع.
·
عملك الأخير " وداعا يا بابل "
يقدم وجهة نظر
عراقية سينمائية عن الوجود الأمريكي من
خلال متابعة جندي أمريكي في العراق ثم بعد
عودته إلى نيويورك؟ هل هو أول فيلم عراقي يقوم بذلك؟ كيف جاءتك الفكرة ؟
ربما كنت أول مخرج عراقي
يدخل بيت جندي أمريكي سابق. لم تكن تلك
فكرتي في البداية. عام 2009، ذهبت للعراق
لاختيار أماكن التصوير لسيناريو كتبته، كنت أبحث عن أمريكي ليقوم بدور في
الفيلم،
لم أرد ممثلا حقيقيا بل شخصا من الواقع، وهذا أمر اكتسبته من السينما
التسجيلية.
التقيت بالجندي فرانك وأعجبت بحضوره ووقوفه أمام العدسة وعرضت عليه فكرتي
بعد أن
رأيته مناسبا للدور، بيد أنه كان على وشك العودة نهائيا إلى بلاده. قال لي
" قريبا،
سأقول وداعا بابل"! حينها جاءتني فكرة الفيلم، وسألته إن كان بإمكاني
ملاقاته في
نيويورك للتصوير. لم أكن أفكر بانجاز فيلم بهذه الصورة و كان الحدث فيما
بعد يفرض
نفسه على تسلسل الفيلم، فمثلا حين وصلنا نبأ موت المترجم العراقي، صديق
فرانك، قررت
مشهد التصوير في غرفة نوم الجندي.
·
بعض المشاهد صورت في المعسكر
الأمريكي، كيف سمحوا لك بالتصوير؟
صورت بعض المشاهد في الخفاء منها
المحاضرة ووداع الجنود قبل السفر. التصوير في قصر صدام كان أيضا ممنوعا،
لكن الجندي
سمح لي بالتصوير وحين حضر المسؤول طلب مني بسرعة التوقف. في الحقيقة شعرت
في تلك
اللحظة بالإذلال: أنت في مدينتي التي ولدت أنا فيها، وأنت محتل تفتشني مرة
واثنتين
وثلاث وتعطي الأوامر... لكن، تهون علينا الأمور حين وجود هدف نبيل
ورسالة.
·
هل توصلت إلى التعبير عن النظرة
التي
أردتها؟
توصل الفيلم إلى قول بعض الحقائق، ولو كانت لدي إمكانيات أكبر
لتوصلت إلى حقائق أكثر. لقد تكلم الجندي بطلاقة حين اعتبر ضرب بوش بالحذاء
ديمقراطية. ظهرت أيضا طبيعة الاختلاف الحضاري والثقافي بين الأمريكي
والشرقي،
انتماؤهم مبني على معالم معينة كطبيعة البناء، الكوكا كولا... والشرقي يهتم
بالنخلة
ومجرى الماء... جهل الأمريكي بهذه العادات وعدم احترامها كان ولا يزال،
أحد أخطاء
التعامل الأمريكي مع الشرق. إن عدم أخذ القيم
الثقافية والحضارية بعين الاعتبار أدى
إلى فشل سياستهم في العراق وفي العالم العربي.
·
هل ثمة نظرة
استعلائية للجنود لحظتها عند تصويرك للفيلم؟
كانوا متأكدين من أنهم
يخدمون البلد, يرفض أي مسؤول فكرة أنه
محتل، هو مبشر مصلح لكنه ليس محتلا! استخدمتُ
كلمة "مرتزقة" في أحد المشاهد في إشارة إلى نوعية معينة من الجنود
الأمريكيين،
وذلك أثناء حديثي مع أحد المسؤولين ولكنه رفض
تماما الوصف. إجمالا، كانوا مجاملين
لطفاء في معظم الوقت.
·
كيف انتقلت" للغناء في فيلم
"المغني"؟ وهل سبق
وأديت أدور بطولة؟
كنت ممثلا
مسرحيا في العراق قبل مغادرتي، كذلك مثلت
في التلفزيون. كلفت من قبل آرتي الفرنسية
لإدارة الإنتاج في "المغني" ولهذا رفضت عرض المخرج السابق بالتمثيل، ثم
شاءت الظروف
أن أقوم بالمهمتين! في الحقيقة، أفضل الوقوف خلف الكاميرا وليس
أمامها. لقي الفيلم
نجاحا في بعض المهرجانات العربية كوهران
مثلا. لقد استفدت من التجربة وأرى أن مهنة
الممثل هو عيش الشخصية لا تأديتها بمبالغة. لكنني أترك التقدير والحكم
للجمهور.
·
ما هي باختصار فكرة الفيلم؟
ديكتاتور يحتفل
بعيد ميلاده فيدعو مغن ذو شعبية كبيرة
ليغني في الحفل. يصل هذا متأخرا بسبب ظروف
قاهرة ولمعاقبته، يجبره على الغناء ووجهه للحائط!
·
صاحب عرض فيلمك"
وداعا يا بابل" في أحد التظاهرات الباريسية الأخيرة، عرض أفلام قصيرة من
إنتاج
اتيليه للسينما في بغداد؟ هل تحدثنا عنه وعن وضع السينما في العراق
اليوم؟
ثمة جهود تبذل من بعض السينمائيين العراقيين في أوربا من أجل
إنشاء عدة مدارس سينمائية في العراق والعمل على وصل الفنان هناك بما يجري
في
العالم. إنها مبادرات رائعة لمحمد الدراجي وغيره.
في العراق لا تعطى الإمكانيات
للفنان، و رغم التصريحات لا تمويل ولا تقدير! يتعاركون على وزارة النفط
والمالية
وآخر ما يفكرون فيه هو الثقافة! راح شكسبير وغيره وصارت لوحات عاشوراء...
أمقت
التوجه الجاهلي للدين... رسميا هناك مؤسسة عامة للسينما والمسرح تمد ببعض
المساعدات
الضئيلة كالمعدات ولكن لا معونات مالية وأكثر الأفلام هي نتيجة جهود شخصية
للشباب.
أما صالات السينما فهي ملجأ لأفلام الجنس والأفلام التجارية. ماتت
السينما
ودفنت في العراق وتعود لها الحياة اليوم بجهود خاصة وليس بجهود
الحكومة. نأمل من
رجال السلطة التخلي عن مصالحهم الشخصية
وامتلاك توجه ثقافي واع في كل نواحي الحياة
الدينية والاجتماعية. هو حلم بعيد ولكن علينا الاحتفاظ بالأمل!
الجزيرة الوثائقية في
19/01/2012
عن السينما التسجيلية.. الدراما والشعر
أمير العمري
التعمق في قراءة كتاب الناقد السينمائي الأردني
عدنان مدانات الذي يحمل عنوان "السينما التسجيلية.. الدراما
والشعر" (الصادر عن
مؤسسة عبد الحميد شومان في عمان) يكشف لنا أول ما يكشف، أن السينما
التسجيلية ليست "سينما
تكميلية" أي نوع من الأفلام يترمم على الفيلم الروائي، كما قد يتصور البعض،
بل هي تتمتع باستقلالية كبيرة وتحررا كبيرا من تلك القيود التي يتقيد بها
الفيلم
الروائي، أي قيود الإنتاج ورغبات المنتج والموزع وأساسا
مقتضيات السوق، وتتمتع
بالتالي بمساحة حرية تسمح لها بالتعبير من خلال الفن وليس التجارة.
هذا المعنى
هو أول ما يصل إليك عندما تتابع المقدمة التي كتبها السينمائي الكبير قيس
الزبيدي
لهذا الكتاب، وفيها يسعى للتوصل الى استعراض "فكر" الناقد عدنان مدانات
الذي كما
يقول: "لا يرى في الفيلم مادة فنية للمشاهدة الممتعة وللتسلية فقط، بل مادة
للتفكير
أيضا، مادة تدفعه (أي المشاهد) للبحث تدريجيا في جوهر آلية تأثير الفيلم
على
الجمهور..".
أما عدنان فيؤكد في مقدمة كتابه أن الفيلم التسجيلي "ليس مجرد وسيلة
إعلامية أو وسيلة للتوثيق المرئي المسموع بل هو "نوع" سينمائي له خصوصيته
الفنية
والشعرية".
هذا المدخل هو جوهر الكتاب لأن المؤلف يقوم بعد ذلك باختيار عدد من
النماذج الفيلمية من العالم العربي والعالم الخارجي، يتوقف خلال استعراضه
لها أمام
مشهد هنا ومشهد هناك، لتحديد ما يطلق عليه المؤلف "الحل الفني الإبداعي".
الفكرة
الثانية المهمة في الكتاب التي يسعى عدنان الى اختبارها، هي فكرة سبر أغوار
العلاقة
بين المخرج/ المبدع/ السينمائي، (الذي يخرج الأفلام التسجيلية تحديدا) وبين
الفيلم
الذي يصنعه: ما الذي يدور في رأسه في وقت "إبداعه" الفيلم، وهل هذه العملية
عملية
واعية تماما، أي أن السينمائي يدرك أبعادها وإشاراتها ومضامينها الخفية أم
أنه قد
يكون متجها اتجاها آخر لا علاقة له بما يمكن أن يتوصل إليه المشاهد أو
الناقد فيما
بعد؟
هذه الفكرة هي ما يطلق
عليها عدنان "المختبر الإبداعي". وهو يطبق هذا النوع من الفحص داخل
"المختبر" على
بعض تجاربه الشخصية في اخراج الأفلام التسجيلية، وهي التجربة التي يشير
اليها
بتواضع كبير عندما يقول إنها لم تقدم له خبرة عملية كافية لأن يطلق على
نفسه صفة
المخرج.
في حواره الطويل المثير مع المخرج الفلسطيني ميشيل خليفي عن فيلمه
"صور
من ذكريات خصبة" (1980) أول أفلام ميشيل التي لفتت النظر بقوة إلى موهبته،
يسعى
عدنان الى تطبيق نظريته في التسلل الى ذات الفنان، إلى عقله، ويتوصل عبر
طرح الكثير
من التساؤلات الجدلية الى طبيعة علاقة الفنان بأدواته.
إنه مثلا يقول لميشيل إنه
ربما أن التفكير بالفيلم لحظة الاخراج هو تفكير شمولي لا ينحصر
فقط بموقف معين، وأن
هذا التفكير هو جزء من موقف وتأملات الفنان في الحياة.
ميشيل يجيب مؤكدا صحة
ذلك، وأن هناك علاقة متبادلة بين الشمولي والفردي، هذه اللعبة موجودة في كل
الفيلم
تقريبا. وينتقل الى الجمالي لكي يقول ان "بامكانك ان تبني المشهد آخذا بعين
الاعتبار كل التجربة الجمالية في العالم، لأنك تعرفها ومن ثم
تعطيها ابعادا جديدة "لأنك
تعرفها ومن ثم تعطيها أبعادا جديدة".
والحقيقة أن الحوار بين عدنان وميشيل
هو نموذج رائع للحوار بين الناقد والمخرج، ليس ذلك الحوار
الصحفي الذي يكتفي بتوجيه
أسئلة محددة سلفا وتلقي الاجابات الجاهزة عليها.. التبريرية في معظم
الأحيان، بل هو
حوار تأملي، يميل الى طرح التساؤلات وتبادل الأفكار حول مفهوم السينما،
فلسفة صنع
الفيلم وليس حل التقنية من أجل فهم استخدامها في تشكيل
الأسلوب، أي للتأمل في مغزى
الأسلوب نفسه.
يكتب عدنان ذكريات حية ومباشرة وذات قيمة عن فترة دراسته للسينما
في موسكو، ويتوقف أمام قيمة اللقطة المبدعة في السياق السينمائي، وكيف يمكن
أن
يلتقط المخرج موقفا أو حركة أو تصرفا ما بعيدا عن التوقع
التقليدي، لكي يستخدمه في
اطار فني يضيف أبعادا جديدة أعمق على المشهد.
يرى عدنان ان هناك فروقا كبيرة بين
الفيلم التليفزيوني أو الريبورتاج، وبين الفيلم التسجيلي
الابداعي، ويحذر مما يسميه
بالصحافة السينمائية، ومن هذه الفروق إن الفيلم التسجيلي لا يلهث وراء
الحدث الآني
بل يسعى لاستخلاص الدلالات العامة منه وبالتالي يكون تركيزه على الموضوع
الرئيسي
والابتعاد عن الثرثرة والاستطرادات والتفاصيل الثانوية.
يتناول عدنان بالنقد
عددا كبيرا من الأفلام "الكلاسيكية"
ليست كلها من الأعمال المشهورة في تاريخ
السينما، بل منها أفلام لا يلتفت اليها كثيرون.
إنه يتوقف مثلا أمام المشهد
الافتتاحي المثير للتأمل في الفيلم السوفيتي الشهير "فاشية
عادية" للمخرج ميخائيل
روم (ترجم عدنان كتابا له بعنوان أحاديث حول الإخراج
السينمائي)، يثبت نظرية عدنان
في الإبداع في الفيلم التسجيلي، وأنه ليس شرطا أن تبدأ فيلما عن الفاشية
(النازية
الألمانية تحديدا وفظائع نظام هتلر) بداية "منطقية" أي مباشرة من داخل
الموضوع،
ويضرب مثلا بالمشهد الاول الذي يحتوي لقطات متنوعة لأمهات يحملن أطفالهن في
عواصم
عالمية مختلفة قبل ان يختتمه بلقطة الأم الالمانية التي تحتضن طغلها بقوة
ثم الجندي
الالماني الذي يصوب بندقيته ويطلق النار عليها!
يتوقف عدنان أيضا أمام فيلم قصير
بعنوان "انطباعات من تحت الماء" للسينمائية الألمانية الشهيرة
ليني ريفنشتال،
ويستعيد مشهدا معينا لسمكة صغيرة جميلة تتسلل وتخرج من فم سمكة متوحشة
قبيحة الشكل
جدا ولكن دون أن تلتهمها تلك السمكة كدلالة على فكرة الفيلم في التعايش بين
الكائنات البحرية وتآلفها في العيش معا.
ميزة الكتاب أن عدنان أنه لا يقدم
تحليلا شموليا للأفلام التي يعرض لها، لأنه غير مهتم بإبراز
"النقد" الكلاسيكي، بل
بفحص فكرة الابداع الفني في الفيلم التسجيلي وهي زاوية جديدة جديرة
بالدراسة نتوقف
أمامها للمرة الأولى في كتاب من كتب السينما التي تصدر باللغة العربية،
وجهد يستحق
التقدير والاشادة بسبب رياديته.
وربما يكون من أهم ما يتضمنه الكتاب الجزء الخاص
بفحص تأثير السينما التسجيلية على السينما الروائية.
عدنان
يستعيد وصف السينمائي الهولندي الأشهر يوريس إيفانز الذي قال ان السينما
التسجيلية
هي "ضمير السينما"، وأطلق عليها الروسي دريغا فيرتوف "شعر
الوقائع"، ثم يعود تفصيلا
من خلال التوقف أمام عدد من الأفلام الروائية لكي يدرس تأثير
الفيلم التسجيلي على
الفيلم الروائي وهو ما يثبت أنه ليس من الممكن أصلا، الفصل التام بين
النوعين،
فصحيح أن مادة الفيلم التسجيلي (الكلاسيكي على الأقل) هي الواقع، في حين أن
مادة
الفيلم الروائي (التقليدي) قد تكون الخيال، إلا ان هذا الفارق
لم يكن موجودا في
بدايات السينما، كما أنه لم يعد قائما اليوم بهذا التحدد الفاصل.
الدليل على ذلك
يثبته عدنان عندما يرصد مثلا في فيلم "مولد أمة" رائد الفيلم الأمريكي
جريفيث، الذي
أخرجه عام 1915، استخدامه الاسلوب التسجيلي في تصوير مشهد اغتيال الرئيس
الأمريكي
ابراهام لينكولن داخل مسرح، ثم الطابع التسجيلي أو بالأحرى، اعادة صياغة
المادة
التسجيلية دراميا وروائيا في فيلمي أيزنشتاين "المدمرة
بوتيمكين" و"أكتوبر"، ثم كيف
امتدت التجربة على استقامتها في أفلام حركة الواقعية الجديدة
الايطالية، واكتسبت
طابعا شعريا، أي اعادة صياغة الواقع والشخصيات والتوقف أمام بعض التفاصيل
الموحية
بطبيعة الشخصية والحدث والمكان لكي لا يتحول الفيلم إلى مجرد فيلم إخباري
صغير.
ويشير عدنان أيضا الى تجارب السينما الايطالية في مجال الفيلم السياسي
في
الستنيات والسبعينيات من القرن الماضي خاصة افلام المخرج فرنشيسكو روزي مثل
"الأيدي
فوق المدينة" و"قضية ماتيه"، وكيف امتزج الواقع بالخيال، وتأثرت السينما
بفكرة
اعادة توثيق الحقيقة.. الحدث. وهنا يقول عدنان ان الفيلم السياسي نوع مستقل
له
ملامحه وليس مجرد فيلم يتضمن مضمونا أو حكاية سياسية أو لها
علاقة بأحداث سياسية
كما كان يعتقد الكثيرون، وهو يحدد الأسلوب- المنهج- الطريقة ويلخصها في
"استخدام
الوثائق او اعادة تركيب الواقع كوثائق وبناء الفيلم
دراميا وفق منطق تحليل
الوقائع وعلاقاتها المتبادلة".
ان قراءة كتاب "السينما التسجيلية: الدراما
والشعر" رحلة فكرية ممتعة، تكشف لنا الكثير، ليس فقط عن الفيلم التسجيلي
وعوالمه،
بل عن السينما في علاقتها بالحياة.. بحياتنا ووجودنا نفسه. ومن هنا تأتي
أهميته بل
وضرورته كأحد المصادر الأساسية التي تثري معرفنتنا بالسينما.
الجزيرة الوثائقية في
19/01/2012
"تحرير بنغازى"...معايشة للثورة الليبية
صفاء الليثى
مع لقطات سريعة من ميدان التحرير بقلب القاهرة نسمع
تعليقا :" بعد 18 يوم فى التحرير وسقوط مبارك، شعرت أنه من واجبى أن أذهب
إلى
ليبيا، أخذت أجازة من عملى وحملت الكاميرا – ليس بغرض التصوي- ولكن بغرض
المشاركة
فى ثورة ليبيا. يكتب على الشاشة اسم الفيلم " تحرير بنغازى"
الذى يعنى من ميدان
التحرير إلى بنغازى ويعنى أيضا عملية تحرير ليبيا بدءا من بنغازي. راوي
التعليق هو
مخرج الفيلم ومصوره أسامة الوردانى، ولن يكون موفقا فقط فى اسم الفيلم بل
فى رحلته
التى تبدأ بكتابة على الحائط ، مرحبا بكم فى ليبيا، جرافيتى- كتابة
الحائط- ترحب
بثوار 25 يناير. لم يسألوا عن جواز سفر أو حتى بطاقة هوية، يسألهم المصرى،
هل أنتم
من الجيش؟ فيرد شاب بلباس عسكرى "لا نحن أهالى". يخبرنا التعليق أن الشاب
نصف مصرى
نصف ليبى، " هنجيب حسنى مبارك ونخليه يحكم هنا" يرد بدعابة على سؤال المخرج
عن
نيتهم بعد الانتصار. يظل الشاب مع المخرج من الحدود حتى طبرق ويواصل مع
آخرين حتى
بنغازى، يندهش من أن المشهد الأول الذى ظهر كان مشهد ترحيب كلب
أليف بصاحبه فى
جلبابه المغاربى، في جو سلام لا يشى بوجود معارك.
يتابع الراوي " فوجئت بما
رأيته فى ليبيا فلم أكن أعرف عنها سوى القذافى المجنون الذى
يتحرك بخيمته،
والصحراء، وأنطونى كوين فى دور عمر المختار. يعرض لنا مشاهد جميلة من
بنغازى
الخالية من الأهالى الذين تجمعوا بميدان المحكمة حيث مقر الاعتصام ورأس
الثورة
للانضمام لمسيرة التدريب العسكرى. تجرى مقابلة مع ثائر يحكى
سبب قيام أول مظاهرة
ويؤكد أنها سلمية. يحكى عن استعمال القذافى للسلاح مع العزل أيام 17،18،19
فبراير.
يقطع المخرج على صور لشهداء على الحائط
أثناء حديثه، يقول" شارون القذافى هو الذى
اضطرنا لحمل السلاح،" ويواصل بأنه باق حتى رحيله. تتواصل
الرحلة وعلى الحوائط كثير
من الجرافيتى التى تسخر من القذافى . يقابل مهندس اتصالات اسمه منير الزغبى
يصحبه
لتصوير الأنفاق التى كانت سجنا للمعارضة، يخبرنا الراوى أنه بعيد عن
السياسة ولكنه
عارف جيد لتاريخ بلاده.
الراوى لا يتركنا لحظة بل يشرح بصوته ما يعرضه علينا من
صور، فتنتقل إلى المشاهد الصورة كاملة دون أن يترك مساحة لتأويلنا ولا يؤجل
تعليقه
حتى نستوعب ما نشاهده، ولم يكن فى حاجة لهذا الشرح المطول
فالصورة تشرح نفسها
تماما.
ويواصل فيلتقى مع
أرملة وبناتها تشكو قلة المعاش وتصف القذافى باللص. يحكي المهندس منير كيف
سيطر
الثوار على بنغازى فى أربعة أيام وشكلوا مجلسا لإدارة شئونهم. نشاهد
التدريب
العسكرى بموقع على شاطيء البحر، البعض يلتف بعلم ليبيا الجديد،
علم الثوار. أشبه
بعرض عسكرى لجيش منتصر. الراوى يذكر أن شرق ليبيا كانت معقل مقاومة
الاستعمار
الإيطالى، لقب الثوار أنفسهم "أحفاد عمر المختار" وفى الليل يلتقي ثوارا
آخرين
يحكون عن حدوث خيانات بينهم سببت فى إشعال حريق بمخزن ذخيرة، صيحة الله
أكبر تقوي
قلوبهم وتملؤهم إيمانا بالنصر القادم رغم الهزائم المتلاحقة
على أرض الواقع. ثم
نشهد تجمعا وصلاة على عدد من الشهداء ولقاءات تشرح ظروف الاستشهاد. فى
الطريق يلوّح
الثوار بعلامة النصر.
كل مشاهد فيلم " تحرير بنغازى " تمت فى إضاءة ساطعة ومع
سيارات نظيفة وكأننا فى رحلة، لم يعرض علينا المخرج معركة حقيقية ولم نشاهد
دخانا
كثيفا، بل شاهدنا بشرا بملابس مهندمة، بعضهم يتحدث -وهو بزى
الجيش- كيف درسوا
السلاح نظريا بالثانوية، وكيف أنهم اكتسبوا الخبرة العملية أثناء الممارسة.
وينتهى
اللقاء بقول شاب إنهم إنشاء الله سيحررون ليبيا كلها كما تحررت بنغازى.
ويؤكد آخر
في متوسط العمر "تكمن قوتنا في الإيمان بالله" ثم وبسخرية
مقلدين القذافى "إلى
الأمام ثورة..ثورة". تمر عشر دقائق من الفيلم ونشاهد عملية إطلاق نار يعلق
عليها
الوردانى "شعرت أننى لو مت فسأكون شهيدا وسط أناس أشعرونى أنهم أهلى وأن
ليبيا أيضا
وطنه".
يؤكد أحد الثوار أنها ليست ثورة جوع بل ثورة حرية، ثم نشاهد آخر بزى
مدنى يحكى عن تحرير رأس لانوف.
التآلف مع الكاميرا أصبح سمة من سمات عصر
المعلومات ومن يقابلهم المخرج يتحدثون بطلاقة ويبدعون فى الشرح
والتعبير. مشهد آخر
فى شركة رأس لانوف للنفط التي تحولت إلى مستشفى، وتتواصل الرحلة حيث منطقة
سكنية
وأطفال يلعبون بمرح، يغني أحدهم أغنية لشباب بنغازى، طفلة مع طفل يرفعان
علامة
النصر. هل الثورة لعبة العصر؟ أتساءل وكل ما يعرضه المخرج يبعث على التفاؤل
والفرحة
بالثورة مع بعد تام عن مشاهد للدماء أو جرحى، ينهى المخرج
فيلمه بالتعليق: أنا لا
أعرف أين ستأخذنى قدماي ولكنني سأكمل" ونقرأ العناوين تصوير أسامة الوردانى،
مونتاج
هاجر حمدى، منتج فنى هالة جلال، سيناريو وإخراج أسامة الوردانى. ولوحة شكر
ليميدان
التحرير وليبيا . ولافتة رافقتكم السلامة يا أبناء ثورة 25 يناير.
الفيلم 24
دق من إنتاج شركة سمات للسينما المستقلة ، والوردانى مغنى للراب، درس اللغة
الإنجليزية والأدب الأمريكي بجامعة عين شمس بالقاهرة ، يعمل مترجما وشاعرا.
" تحرير
بنغازى "هو عمله الأول وله فيلم" على الحائط" إنتاج أتيليه فن. ونتصور أنه
إذا نجح
في التخلص من النزعة الأدبية سيكون له شأن مع الفيلم الوثائقى الذى يحتاج
دائما
دماء جديدة تنعشه.
الجزيرة الوثائقية في
19/01/2012 |