أحرص هذه الايام علي متابعة الأفلام المرشحة لجوائز الجولدن جلوب، حيث
إن نسبة كبيرة منها سوف تنال ترشيحا جديدا للأوسكار الذي سوف تعلن نتائجه
في فبراير القادم! ومن أهم العناصر اللافتة للنظر، والتي تحتاج وقفة طويلة
وتأملا، عنصر التمثيل، الذي تشير المتابعات السينمائية، لأن ما نقدمه في
أفلامنا أو مسلسلاتنا شيء آخر لاعلاقة له بهذا الفن الجميل! فنحن نعتمد علي
مدارس في الأداء عفي عليها الزمن، ولا اعرف إن كان معهد الفنون المسرحية،
يتعامل مع الأساليب الحديثة أم الكلاسيكية؟، ولكن أغلب الظن أن مناهج
الدراسة لم يتم تحديثها منذ زمن بعيد يعود الي الستينيات من القرن الفائت،
لأن معظم خريجي المعهد لم يظهر بينهم أي حالات تدعو للتفاؤل، والثقة أننا
نسير في الطريق الصحيح. وإذا دعتك الظروف لمناقشة أحد خريجي المعهد من نجوم
هذه الأيام، فسوف يصدمك مستوي ثقافته الفنية، فبعضهم يزهو بأنه لايتابع
السينما، لضيق الوقت، ولا يشاهد ما يعرضه التليفزيون من مسلسلات عربية أو
أجنبية، ولايهتم حتي بقراءة ما يكتب في الجرائد بهذا الشأن! وكان لي نقاش
مع واحدة من ممثلات هذا الجيل، كاد يدفعني للجنون أو علي الأقل لترك مهنة
كتابة السيناريو، حيث فاجأتني بتعليقها علي أحد الأدوار المعروضة عليها،
بأنه دور يخلو من التمثيل !!وهي تريد أن تمثل! ولما سألتها ببراءة أن توضح
لي ماتقصده بالضبط من قولها عايزة أمثل، جاءت إجابتها يعني دور يكون فيه
انفعالات كتير، ابقي مظلومة أو حد بيعذبني، أو حتي أكون مريضة وبحاول اخفي
حالتي عن أقرب من حولي، أو يكون فيه حد بيدبر لي مؤامرة، أو أكون بخفي سر
معذبني، مواقف جامدة تخليني أمثل، وأستعرض موهبتي!!ووجدتني أرد ببديهة أشك
أنها استوعبتها، وقلت لها عزيزتي بمجرد أن تقفي أمام الكاميرا، تجسدين
شخصية غير حقيقتك، ولها اسم غير اسمك ووظيفة غير وظيفتك، وخلفيتها
الاجتماعية أو الاقتصادية أو النفسية تختلف عنك، يبقي كدة إنتي بتمثلي حتي
لو المشهد لواحدة بتشرب فنجان شاي! لإنك في هذا الحالة لن تكوني أنت، بل
امرأة اخري تتحرك علي الشاشة! أسلوب أداء تلك المقدمة كان لابد من طرحها
قبل أن أتحدث إليكم عن أسلوب أداء إحدي المرشحات لجائزة الجولدن جلوب،
كأفضل ممثلة في فيلم كوميدي وهي تشارليزز ثيرون"37 سنة" التي سبق لها
الحصول علي الأوسكار في عام 2004 عن فيلم "الوحش"، أما الفيلم المرشحة عنه
هذا العام فهو" الناضجون الصغار"
YOUNG ADULTS
للمخرج" جاسون ريتمان"، حكاية الفيلم بسيطة جدا، ليس بها أية تعقيدات أو
انقلابات صاخبة، كاتبة روايات، وسيناريست من الباطن لمسلسل شهير، مطلقة
وتعيش بمفردها في شقة فاخرة، مع كلبها المدلل، حياتها سلسلة من الملل
والروتين اليومي، تستيقظ في الصباح تجلس أمام جهاز اللاب توب، تكتب مقاطع
في الكتاب الذي تؤلفه، تذهب للمطبخ تشرب كميات كبيرة من المياه الغازية،
تتجول في الشوارع بلاهدف، تتابع واجهات المحلات، تذهب للكوافير، تسلم
قدميها "للباديكيرست" تغير ألوان طلاء أظافرها من حين لآخر، تبدو وكأنها
تتحرك في فراغ مرعب، تصلها في صباح أحد الأيام، رسالة علي بريدها
الالكتروني تحمل صورة طفل حديث الولادة، واضح انها ارسلت لعدد كبير من
الأصدقاء، والرسالة صادرة من "بادي"، الحبيب السابق "لمافيس"، يعلن عن
استقباله وزوجته، لأول طفلة في حياتهما، يبدو أن صورة الطفلة تحرك الحنين
لقصة الحب التي عاشتها "مافيس" أيام الدراسة "لبادي"، تقرر "مافيس" العودة
إلي بلدتها الصغيرة، التي تركتها من سنوات، سعياً للشهرة والنجاح، حتي
تلتقي "ببادي" وتستعيد معه قصة حبهما، فهي لم تستطع ان تتخلص من حنينها له،
رغم كل سنوات البعاد، متجاهلة تماما أن للرجل حياة زوجية مستقرة! وتتصل
مافيس بحبيبها القديم وتخبره أنها عادت للاحتفال بعيد ميلاد طفلته الصغيرة،
ويستقبلها الرجل ببراءة كصديقة قديمة ويعرفها علي زوجته، التي بدت مبهورة
بزيارة كاتبة مشهورة وجميلة مثل مافيس لمنزلها المتواضع، وهي لاتدري ان
الزائرة تخطط لخطف زوجها، وتدمير استقرارها، وتحاول مافيس بكل ما أوتيت أن
تعيد صديقها القديم لحظيرتها، وتنطلق منها كل نوازع الأنانية، ولكن بادي
يصدمها عندما يعترف لها أنه من يفكر في دعوتها لحفل عيد ميلاد طفلته ولكن
زوجته هي التي فعلت، ثم ينتهي به الامر بطردها من المنزل بعد محاولتها
إغوائه، فتنفجر فيه أمام ضيوفه بأنها كانت تستحق ان تكون زوجته، وأن تكون
أما لطفلته، ويبلغ بها الارتباك مداه فتلقي بنفسها في فراش آخر رجل يمكن أن
يخطر ببالها، وهو صديق قديم تعرض لحادث إصابة بشلل وعاهة دائمة، وبعد كل
هذا الاضطراب الذي تحدثه نتيجة أنانيتها ورغبتها في الحصول علي مالا تستحقه
تقرر ترك البلدة وتعود من حيث أتت، ولكنها تدرك أنها تمتلك مميزات تجعلها
محل حسد الآخرين، غير أنها الوحيدة التي لم تكن تؤمن بما لديها، إنها تتقدم
بالعمر ولكن لاتزال تحمل نفسية فتاة مراهقة لم تنضج بعد! فراغ عاطفي تمر
مشاهد الفيلم بلا أي صدمات أو صراعات، مجرد مشاهد متتالية لإمرأة وحيدة
تعاني من فراغ عاطفي واضح، وقد يعتقد البعض أن تلك المشاهد لاتحتاج الي
ممثلة محترفة، ولكن قدرة "شارليز ثيرون" علي أداء المشاهد أو المواقف
الخالية من المشاعر ربما تكون أكثر صعوبة وتعقيداً من مواقف مليئة بالصدام،
إنها تعيش حالة الخواء النفسي بكل تفاصيلها، وحتي قبل ان تصل الأحداث الي
نقطة الذروة، يصل الي المشاهد حالة ان الشخصية التي تتحرك أمامه علي الشاشة
تعاني أزمة ما سوف تصل بها حتماً الي لحظة صدام، تكتشف فيها حقيقة نفسها!
وهذا هو التمثيل الذي استحقت علي شارليز ثيرون الترشح لجائزة أفضل ممثلة،
وليت من يحترفون التمثيل عندنا يتابعون هذه الافلام من باب التعلم وإدراك
ان فن الأداء التمثيلي شيء آخر تماماً عما يقدمونه لنا!
جريدة القاهرة في
10/01/2012
بذرة السينما اللبنانية الباسقة
تري..
بقلم : رفيق الصبان
هل ستصبح نادين لبكي البذرة الأولي لنمو شجرة السينما الباسقة في
لبنان والتي عجز مخرجون كبار كمارون بغدادي وبرهان علوية أن يعطياها هذا
الانتشار والشعبية الواسعة في أوروبا وأرجاء العالم والذي حققته أفلام هذه
المخرجة الشابة الطموح. نادين لبكي بدأت علاقتها بالكاميرا.. والسينما بشكل
عام عن طريق إخراجها للفيديو كليبات وأشهرها كليبات المغنية نانسي عجرم
التي لولا الإطار الجمالي المدهش الذي أحاطتها به نادين لبكي لما تيسر لهذه
المطربة الشابة أن تحقق انتصاراتها الكبيرة التي حققتها في أرجاء الوطن
العربي. لبكي لم تكن أول مخرجة سينمائية تنطلق من عالم الكليب إلي عالم
الشاشة الواسعة، فهناك أمثلة كثيرة ناجحة.. حفرت هذا المسار في أمريكا
وفرنسا وغيرهما من البلدان لكن المدهش في «لبكي» أنها استطاعت أن تتخلص من
أثار الكليب القاسية.. التي بهرت مخرجين آخرين وأن تخلق لنفسها منذ البداية
أسلوبا سينمائيا فذا يختلف اختلافا جذريا عن المبادئ السارية في كليبات
التليفزيون.. وهذا ما توضحه ببساطة في فيلمها الأول «سكر نبات» الذي تدور
أحداثه بين مجموعة من النساء يعملن في صالون حلاقة للسيدات، وعلاقتهن
بالعالم الخارجي. عالم نسوي شديد الخصوصية.. وشديد الرقة عرفت لبكي كيف
تقدمه من واقع نظرتها الخاصة ومن خلال إحساس نسائي عارم ورقة أنثوية في
التعبير لم تمنعها من جهة أخري عن التعامل بقبضة من حديد مع إيقاع فيلمها
وأداء ممثليها. هذا العالم النسائي البحت بعواطفه وتناقضاته.. وبدموعه
وآهاته المختلطة مقتضياته وبسحاقه، والذي يدور في حلقة شبه مفرغة تتمحور
كلها حول العواطف النسائية وأثارها نقلته لبكي هذه المرة إلي قرية لبنانية
صغيرة في أعلي الجبل تتجاور فيها الأسر المسيحية والمسلمة في مناخ خاص.
اشتهرت به القري اللبنانية سلام وتسامح في الظاهر يخفي تناقضات خفية في
الداخل وأحاسيس معادية أحيانا.. يمكن أن تنفجر في كل لحظة. صور مدهشة هذه
المرة لم تكتف نادين لبكي بتصوير مجموعة من النساء كما فعلت في فيلمها
الأول بل رسمت إلي جانبهن صورا مدهشة لرجال القرية يشكلون مع نسائها توازنا
مدهشا للتعبير عما أرادت لبكي أن تقوله لأن هدفها هذه المرة لم يكن تصوير
العواطف النسائية فقط وإنما ذهبت إلي أبعد من ذلك بكثير إذ أرادت أن تلمس
حقيقة التطرف الطائفي والعصبية الدينية في قرية اشتهرت بالتسامح وبعدم
التفرقة بين سكانها المسيحيين والمسلمين الذين يعيشون معا في ائتلاف ظاهري
وفي مودة وانسجام لا غبار عليهما. رؤية صادقة لبكي.. أرادت أن تقدم رؤية
شعرية موسيقية اجتماعية ذات خلفية سياسية مباشرة عما يدور الآن ليس في
لبنان وحدها ولكن في أرجاء الوطن العربي كله.. وأن تزيح الستار المزركش
الخادع لتظهر وجه الحقيقة البشع الذي يحاول الجميع إخفاؤه وراء حجج واهية
سرعان ما تذوب أمام أول شائعة.. أو حدث يفسره كل جانب علي طريقته. النساء
في القرية هن أكثر من يتحمل وطأة هذا الغضب الكامن والكراهية المكتومة
يدفعن ثمنها.. من موت أولادهن أحيانا ومن فشل علاقاتهن الحميمة مرة أخري
ومن تحطم سور الحماية الوهمي الذي ظننت أنه سيمنع عنهن الموت والدمار ورغم
دور الرجال الرئيسي في فيلم «لبكي» فإن النساء هن المحرك الأول للأحداث من
خلال تصرفهن ووقوفهن في وجه تيار الخراب المقبل.. تتمحور الأحداث التي
يرويها الفيلم والتي تتأرجح بين السخرية المرة والنقد الأليم ومواجهة
الحقائق دون رتوش. كل ذلك تغزله نادين لبكي كما تغزل الأصابع الماهرة سجادة
فارسية نفيسة بحزن وذكاء وجمالية لا حد لها. مختلطة بشاعرية تميزت فيها
لبنان بأغانيها وطبيعتها وسمائها وأشجارها وجبالها وبيوتها المزينة بالورد
وكنائسها التي تجاور صلبانها، مآذن المسلمين. مسيرة نسائية لبكي تقدم
فيلمها من خلال مسيرة نسائية وعلي أنغام أغنية لبنانية مليئة بالشجن تستعرض
فيها لبكي بيوت القرية ووديانها وحواريها ومعابدها وطرقها الجبلية الضيقة
وأشجارها ووردها قبل أن تنقلنا إلي مسيرة جماعة النسوة المتشحات بالسواد
واللائي يسرن بخطي عسكرية موجهات نظرهن إلينا وكأنهن يطلبن منا الرد علي
هذا السؤال الحائر الذي سيلقيه علينا الفيلم في لقطاته الأخيرة «والآن ما
الحل؟». هذه المسيرة التي تشبه خطوات الكورس اليوناني في المسرحيات
الإغريقية يختفي لتبدأ الأحداث اليومية التي تعيشها القرية وحيث نري عن
طريق الحلم والخيال استعراضا ثنائيا يكشف علاقة صاحبة المقهي الصغير في
القرية «وتلعب دورها نادين لبكي نفسها» بأحد العمال النقاشين الذي يعمل في
مقهاها، مشهد غنائي داخلي راقص تهيمن فيه الروح الاستعراضية الوثابة التي
تعودنا عليها في كليبات لبكي القديمة ولكنها هذه المرة تقدمها بأسلوب
سينمائي متميز ومن خلال مونتاج شديد الذكاء تخلط فيه الحلم بالواقع.
ويتركنا الفيلم ليستعرض نماذج أخري من سكان القرية والتي ستلعب دورا مهما
في الأحداث التي ستتوالي علينا. هناك عمدة القرية.. الذي يحكمها مراعيا
التوازن بين مواطنيها مسلمين ونصاري وزوجته المدهشة ايفون والتي تلعب دورها
باتقان شديد ممثلة لبنانية مخضرمة والتي تدعي أن لها علاقة مباشرة بالسيدة
العذراء التي تظهر لها بين حين وآخر لتمدها بالنصائح وتستمع إليها وهي تشكو
لها مشاكل القرية.. والتي تلعب دوما دورا أخلاقيا مميزا لدي السكان فهي
مثلا تعترض علي المشاهد العاطفية في الفيلم السينمائي الذي يعرض في القرية
في الهواء الطلق وتنبه إلي ضرورة الالتزام بالحدود الأخلاقية.، وهناك أم
نسيم صاحب القبعة الشهيرة التي لا تغادر رأسه وهي محل هزء شباب القرية
والأم تدافع ببسالة عن حق ابنها، وتلجأ دائما إلي الكنيسة وتحتمي بالعذراء.
هناك بعض المشاكل التي تندلع من حين لآخر.. وكادت تسبب انفجارا لولا قيام
النساء بالتهدئة وتطييب الخواطر خصوصا عندما تتبادل الشتائم بين الطرفين..
وتصل إلي حدود إهانة الأمهات. فرقة راقصات ويحل حدث مهم بالقرية عند قدوم
فرقة راقصات أوكرانيات تعطلت بهن السيارة واضطررن إلي البيات في القرية مع
كل ما تحمله هذه الإقامة من مشاكل ومقالب تكشف عن خفايا النفوس. وتستغل
لبكي هذه الزيارة لترسم في موقفين اثنين مشهدين من أجمل مشاهد الفيلم،
الأول تعكس فيه غيرة صاحبة المقهي من إحدي الراقصات التي لفتت انتباه
النقاش الذي تحبه عبرت عنه لبكي بأسلوب سينمائي شديد الابتكار يعتمد علي
الإيقاع السريع واللقطات المكبرة والاتصالات الداخلية. والمشهد الثاني
استقبال شباب القرية لإحدي الراقصات في المقهي استقبالا مليئا بالاحترام
ويعكس نبل الفلاح الحقيقي بعيدا عن الاسفاف ويعطي انطباعا حضاريا بأسلوب
ليس فيه مبالغة علي أخلاقيات القرية وأحاسيس شبابها. وتبدأ المأساة
الحقيقية عندما يعود نسيم يوما من إحدي رحلاته قتيلا برصاص طائفي اندلع في
ضواحي قرية أخري وتخفي أمه خبر وفاته لأنه أعقب سقوط صليب الكنيسة عن طريق
الصدفة والخشية من أن يظن المسيحيون أن المسلمين هم من أسقطوا الصليب وكان
رد فعلهم الفوري هو الهجوم علي الجامع وتحطيم محتوياته جميعا، وحادثة القتل
هذه ممكن أن تشعل الفتيل الذي سيحرق القرية كلها. لذلك تكتمت الأم خبر وفاة
ابنها عن الجميع في مشاهد تقدمها «نادين لبكي» بأسلوب أخاذ وتكتفي بالذهاب
للكنيسة وأن تثور علي العذراء التي تحبها وتتهمها بالسلبية وعدم التدخل
لحماية أهل القرية من حماقاتهم وتعصبهم والتي راح ابنها ضحية لها. مشهد
شديد التأثير يؤكد جرأة المخرجة وموهبتها سواء في الكتابة أو في الإخراج،
وتقرر النسوة أن يتخذن حلا ينقذ القرية من تعصبها فتقرر النسوة المسيحيات
الدخول في الإسلام أما المسلمات فيخلعن الحجاب ويتزين بزي النصاري وعندما
يذهب الجميع لدفن الفقيد يتوقف الموكب أمام المقابر المسيحية التي تجاور
المقابر الإسلامية ويتساءل الجميع «والآن.. إلي أين؟». فيلم مدهش فيلم مدهش
يعالج التفرقة الطائفية بأسلوب شديد الذكاء وشديد الرقة معا، وتخلع عليه
المخرجة رداء شعريا واستعراضيا خلابا، تجيد فيه تحريك شخوصها وتقديم
مواقفها ورسم أجواء قريتها وكأنها رسامة وموسيقية معا. لن أدهش حقا إذا فاز
هذا الفيلم بأوسكار أحسن فيلم أجنبي الذي رشح له، فهو رسالة حب معطرة
بالشعر والموسيقي تحمل رأيا سياسيا واجتماعيا عميقا نحن بأمس الحاجة إليه
الآن.. في زمننا المضطرب والذي احتشدت في سمائه غموم سوداء منذرة.
جريدة القاهرة في
10/01/2012
«برد
يناير».. والاحتماء بدفء
الثورة في هذه الأيام وأنت تستعيد
بقلم : د. وليد سيف
أجمل ذكريات عاشتها الأجيال المعاصرة سوف تجد العديد من الأفلام التي
وثقت لثورتنا أو سعت للتعبير عنها دراميا. ولكنك لن تلتقي كثيرا بفيلم قصير
في مستوي «برد يناير» الذي فاز بجائزة مهرجان الإسكندرية عن جدارة. فمن أول
لقطة سوف تتنبه لهذا الإبداع السينمائي الفريد والموهبة النادرة للمخرج
روماني سعد الذي صنع من كل لقطة ونقلة وكلمة وإيماءة معني. أما علي مستوي
العمل ككل فقد شيد بناء نموذجيا مشبعا بالمشاعر ومثير التأمل ولا تغيب عنه
روح الصراع بأنواعه ولو للحظة واحدة. كأي سينمائي موهوب متمكن يصدر روماني
شريطه بلقطة سينمائية من الطراز الأول مصاحبة لعنوان الفيلم. فالكادر تشغله
مساحات من الظلال والأضواء المموهة الغامضة ويلوح لك علي مهل مع اتضاح
محدود للصورة دخان حريق يتصاعد في عمق الكادر. بعدها تتوالي العناوين مع
لقطات قصيرة ومتنوعة ومترابطة بجهد مميز للمونتيرين بيشوي ورفيق جورج
وباختيار استهلالة في أجواء ضبابية فجرية حتي تتلاءم مع التصدير. ظل ونور
ننتقل إلي زمن أكثر إشراقا مع استمرار اللقطات العامة القصيرة لجموع
المتظاهرين مع هتاف " تغيير.. حرية.. عدالة اجتماعية". وتنتقل الصورة
بحسابات دقيقة تدريجيا إلي إظلام الليل مع لقطة للدخان الذي يتصاعد حتي
تكتشف أنها إعادة توضيحية أقرب لشرح أو تفسير للتصدير الأول. وهكذا مع
نهاية العناوين يتضح هذا السعي الحثيث نحو التعبير بلغة الفيلم وبتعاون
مثمر بين المخرج الذي يدرك ما يريده والمصور فادي سمير القادر علي الوصول
بخيال الصورة ورسمها بالأضواء والظلال بديناميكية ودرامية لتحقيق هذا
الهدف، بل وبإلهام الفنان نحو التحليق إلي آفاق أبعد في توظيف مختلف
العناصر الفنية. وهو ما يتبدي في ختام هذه المقدمة حيث تتصاعد مع أجواء
حريق الدخان أصوات الأنين لتصنع علامات استفهام سوف تجبرك علي التأمل
والتلهف علي مشاهدة المزيد. من حرارة النيران التي تشبعت بها الصورة ننتقل
إلي برد الحجرة الفقيرة التي تكاد تخلو من الأثاث حيث ننتقل من التسجيلي
إلي الدرامي. مع لقطة بانورامية نكشف عن المدخل الذي يخلو من الباب بينما
تتكرر شكوي الطفلين من البرد. فلا تجد الأم بدا من الخروج للسطوح بحثا عن
حل.. نتابعها وهي تتلفت في المكان ثم تتوجه نحو السور وتخلع لوحة وتضعها
مكان الباب. لنكشف انها صورة مبارك المقيتة في حملته الانتخابية المستفزة.
الأب الغائب لا تكفي الصورة لسد فراغ الباب كله ولا ينسي المخرج الذي لا
تفوته تفصيلة أن يجعل الأم تضع الصورة بالمقلوب. ومع لقطات أفقية ورأسية
تستعرض صورة مبارك ويتوالي الحوار عن الاب الغائب لتمتزج صورة مبارك مع
إنفعال الأم " أبويا!.. ماسمعش حد فيكوا يقول ابويا تاني.. اللي باع العفش
حتة حتة ما فكرش في ولاده ما يتقالوش ابويا.. اللي ساب ولاده من غير باب
يحميهم في عز برد يناير ما يتقالوش ابويا". لن ينتهي المخرج سريعا من هذه
المقاربة الرائعة. فيعقب الليل فوتومونتاج نهاري، فنعود من جديد للقطات
التسجيلية والأرشيفية، حيث صور البؤس العادية جدا والوجوه الشاردة في
الشارع المصري، بلا مبالغة أو مباشرة. مع خطاب قديم لمبارك في فاصل من
أكاذيبه المفضوحة. يعود روماني للدراما من جديد لنري الأم تلجأ لصاحب كشك
الجرائد ـ يؤدي الدور بحنكة المخضرم كمال سليمان- طلبا للمساعدة. يختزل
السيناريو بمهارة الكثير من الثرثرة والتكرار حيث تشير الأم لأعلام مصر
الموضوعة فوق الجرائد وهي تتساءل في استنكار "علم ايه يا معلم اللي عايزني
أبيعه!؟.. العيال عايزين باب يحميهم من البرد".. فيرد الرجل مفسرا "ماهي دي
بقي اللي بتجيب الفلوس اللي تقدري تجيبي بيها الباب اليومين دول " مع نهاية
هذا المشهد يكون السيناريو قد استكمل كل مراحله التمهيدية دون أن تفلت منه
لحظة واحدة او جملة واحدة بلا دلالة أو قيمة وبعد أن تكون خلفية الشخصيات
قد اكتملت وبذرة الصراع بمستوييه قد تحددت. فالصراع الأول مادي بحت حول
تدبير المبلغ المطلوب لشراء باب والذي ارتبط تحقيقه في ذهن البطلة بوجود
مبارك الذي تتلخص أهمية بقائه في ذهنها باستمرار إقبال الناس علي شراء
الأعلام" باقول لك ايه انتي تشدي حيلك اليومين دول عشان الريس لو مشي
المولد اللي قدامك دا كله حينفض"، أما الصرع الثاني فهو صراع فكري محض يدور
داخل رأسها ورءوس أولادها في حدود وعيهم وفهمهم حول ما نسميها مسألة شرعية
وجود مبارك في السلطة. حضور الأبناء من الآن فصاعد سيتزايد حضور الأبناء في
المشهد فهم شركاء رئيسيون في الحلم بالباب الذي يسترهم من البرد وأيضا
بالرغبة في الفهم أيضا وسط أجواء مشبعة بالغرابة والغموض بالنسبة لهم وقد
تواجدوا في قلب المظاهرات بين الثوار وهم جمهورهم الحقيقي في شراء الاعلام
وبالتالي من خلالهم سيتحقق الأمل في تدبير المبلغ المطلوب. ومع حركة النداء
علي الاعلام وبالقرب من الأم وفيما يمكن اعتباره مشهدا مخصوصا يجمع بين
الطفلة وشقيقها الأصغر الذي وقف علي قاعدة تمثال أسد قصر النيل مما يمنح
الصورة والزوايا ألقا وذكاء لم نألفه في أفلامنا التي قتلتها التقليدية
والركاكة.. "قمر أنده اقول علم زيك؟".. "قول علم علم او عيش حرية عدالة
نسناسية" فيقرر الطفل أن ينادي علي مطلبه هو "هامبورجن.. هامبورجن ".. نعود
إلي الام التي بدأ يعتريها اليأس من النداء علي بضاعتها حتي يأتيها أول
زبون ويدفع الجنيهات العشر بكل بساطة ثمنا لما تراها هي قطعة قماشة مثبتة
بخشبة لا تساوي شيئا. يتناول الشاب العلم وينصرف بينما تبدو الفرحة العارمة
علي الأم بعد لحظة شرود وقد آمنت بقيمة ما تبيع، لتنادي بحماس وأمل أكبر في
حركة شبه راقصة " علم.. علم ".. ومع ندائها تبرز فرحتها مع صوت الكمان
والرق في أنشينيهات «لقطات ممتزجة» فرحة وفي توظيف بليغ ومحسوب من المخرج
لموسيقي عدلي سعد المعبرة. صراع مزدوج تتوالي حلقات الصراع من أجل تدبير
المال والوصول للحقيقة أيضا. وعلي موقع قريب من الكوبري حيث تقف الطفلة
يقترب منها أحد الشباب - محمد رمضان في حضور خاص- ليشتري منها علم بعد نقاش
ويهم بالانصراف ولكنها تستوقفه "كابتن كابتن.. ما تقوللي كلمتين انادي بيهم
اصلي اول مرة ابيع اعلام " يتوقف مفكرا ثم في حماس وتأثر " قولي خد علم
اتأسف لمصر.. حقك عليا يا بلدي.. اتاخرت عليكي كتير انا اسف يا مصر" ثم
ينصرف وهو يكاد يتبخر في إضاءة معبرة مع صوت الكمان ونداء منغم في شبه
أنين. من الخاص إلي العام ننتقل مجددا إلي اللقطات التسجيلية لمظاهرات
التحرير حتي اسقاط مبارك وبينما تتوالي مشاهد تسجيلية لفرحة الناس العارمة
بخلعه. يعود روماني إلي أسرة فيلمه عبر لقطة بان علي الكورنيش لنري الأم
علي النقيض من الجميع مهمومة وحزينة - بأداء صامت ورصين وملفت لإيمي- وإلي
جوارها طفلاها وقد غطت رأسها بالعلم من شدة البرد أو من شدة صداع الرأس
المنهك بالهم والتفكير. ويجد الدرامي البارع وسيلة للتعبير عما يدور في ذهن
الأم من خلال أسئلة طفليها كحيلة سيبدأ باستخدامها هنا"هي امي زعلانة كدا
ليه؟".. " كدا الناس اللي بيشتروا الاعلام حيمشوا ومش حنعرف نجيب حق
الباب". مفاجأة سارة في طريقها للعودة منكسرة ويائسة وحزينة يأتي صوت أحدهم
يناديها " يا بتاعة الأعلام" فتلتفت في عدم تصديق "ممكن علم".. فتتساءل في
اندهاش "انتوا مش خلصتوا؟" "خلصنا !! دا احنا ابتدينا".. تتألق الاضواء
خلفها عن بعد لتعادل لحظة التنوير التي تعيشها. فالعلم قيمته زادت بعد رحيل
مبارك وليس العكس. وقبل أن تستوعب ما يدور يأتي آخر.. تسير الأم ومعها
أطفالها فرحين ورافعين أعلامهم من جديد بينما تنساب موسيقي حالمة مشبعة
بالأمل والشجن. وتواصل كاميرا روماني تسجيلها للحظات الفرحة والاحتفالات
برحيل المخلوع المقصي في أنشينيهات تذوب في بعضها وكأن الام والأطفال قد
ذابوا أخيرا وسط زحمة الجموع لتمتزج في مهارة اللقطات التسجيلية مع
الدرامية. مع الصباح التالي نري الأم وأولادها وهم في طريقهم لعبور الكوبري
من جديد ليتواصل الحوار بأسلوب أكثر إيحاء وللوصول إلي نهاية أكثر ذكاء
وتأثيرا. فمن تمثال سعد زغلول نهبط علي الأم تسير بين طفليها عند بداية
الكوبري حيث تسأل الطفلة أمها " ياما هو إحنا حنعدي الكوبري"؟ ثم تتوالي
أسئلة الولد والبنت كترديد لما يدور في ذهنها وفي أذهاننا جميعا ومنها :
"العلم دا حيفضل غالي ولا حيرجع تمنه زي الاول" "وابويا مش حيبهدلك تاني..
و مافيش ظابط حيضربك في القسم وحنرمي صورة الريس" "وحنعلق صورة ريس تاني"..
يدخل صوت انين منغم مع نزول عناوين النهاية مصاحبة للصورة مع استمرار صوت
أسئلة الطفلين.. "العساكر حيفضلوا لامتي" "يعني ايه مصر".. "يعني ايه رئيس
جمهورية" " يعني ايه شهيد".. " هي الثورة حتيجي امتي تاني".. "جيش يعني ايه"..
"نظام يعني إيه".. " أنا باحبك قوي يامّا".. "انا باحبك قوي يامّا". في برد
يناير الذي تدور أحداثه أثناء مظاهرات التحرير كانت روح الثورة والفهم
العميق لمعانيها والإيمان المطلق بها تفوح من كل كادر، دون أي مباشرة أو
مبالغة أو تلفيق. وكان توغل هذه الروح وانتقالها إلي شخصيات الفيلم يتسرب
بإيقاع سينمائي بارع وكأنها تنساب داخل كيانهم كما يتغلغل في نفسك الشعور
بمصداقية الفيلم لتتوحد تماما مع هذا العمل الساحر. هذه هي الخبرة التي
حاولت أن أنقلها عبر هذه السطور بمنتهي التكثيف والاختصار المخل. فالفيلم
القصير «برد يناير» يستحق وصفا تفصيليا وتحليلا لكل كادر من كادراته حتي
نوفيه حقه ونشرح جمالياته وأسلوبيته ومعانيه الجميلة والعميقة رغم بساطته
ووضوحه.
جريدة القاهرة في
10/01/2012
مارشاكاتيكا الهندية.. تهزم
الدراما الأمريكية بالقاضية..
بقلم
: .
هناك من يختبئون خلف سياج فولاذية طواعية.. وآخرون يزيدون علي ذلك
بقيود تحد من حركتهم.. ويجعلهم فقراء فكرا وإحساسا.. ولكن حظهم الجيد أن
فيهم من يهتم بهم رغم ضعفهم.. ويحاول أن يحطم هذه القيود وهذا السياج غير
عابئ بتعارض ذلك مع الساسة وأهلها.. من أجل رؤية وثقافة جديدة ومختلفة. وسط
أبخرة البخور.. وظلال الأزياء الملونة.. بدأ مارشاكاتيكا غزوته بمسرح
شكسبير بمدينة آشلاند بولاية أوريجون تحت قيادة المخرج الشاب بيل روش..وإعداد
كيتيه كاتراك.. صاحبة الفكر والإلهام والفضل الأول في وصول هذه النوعية من
الثقافة والدراما إلي أبعد مدي ممكن.. ليكون شكسبير آشلاند أول مسرح غربي
يقدم فيه عرضاً هندياً كلاسيكياً بعيدا عن الكلاسيكية الغربية الذي اعتاد
المسرح أن يقدمها منذ تأسيسه عام 1905 وقد خطف قلوب وألباب الجمهور
الأمريكي.. وهز عرش الدراما الغربية. قلب التراث مارشاكاتيكا أو عربة طفل..
مسرحية هندية تراثية شديدة القدم مكونة من عشرة مشاهد كتبت باللغة
السنسكريتية.. كتبها الملك الهندي سادراكا قبل قرنين من الميلاد.. وقد كان
سادراكا ملكا وحكيما وفيلسوفا وكتب الشعر والنصوص المسرحية. واللغة
السنسكريتية هي لغة الرهبنة والطقوس الهندية.. لغة قديمة عند الهندوس
والجانيين والبوذيين وبعض دول جنوب شرق آسيا.. وهي واحدة من أكثر من عشرين
لغة هندية رسمية..وتعد في منزلة اللغة اللاتينية ـ اللغة الأم ـ في
أوروبا.. لغة المفكرين والأدباء الصعبة الاستيعاب.. وقد نتج عنها نوع من
الدراما أطلق عليه "الدراما والأدب السنسكريتي".. ومن كتّابه المشاهير
سادراكا وكاليداسا وبهاسا.. ولهم إنتاج شعري ومسرحي كبير حافظت عليه
الأجيال المتعاقبة.. حتي بات بين أيدينا اليوم.. ويبدو أنه قد جاء الموعد
ليغزو هذا الأدب وهذه الدراما العالم.. خاصة انجلترا والولايات المتحدة.
كورومانس مارشاكاتيكا مليئة بالرومانسية والكوميديا السوداء والغزل الغير
العفيف.. والقصة بها العديد من التقلبات.. وتدور حول شاب يدعي شارودتا
وحبيبته فاسانتاسينا أو فاسنتا أحد محظيات البلاط الملكي.. يتولد الصراع
عندما يتكشف أن هناك قائداً من المقربين للملك يهوي هو الآخر فاسنتا..
وتزداد القصة تعقيدا بدخول شخصيات أخري ما بين لصوص ومارقين.. وآخرين
مجهولي الهوية مما يزيد المسرحية متعة وإمتاعا. ذكر الناقد بيل فالون أنه
شعر بغربة شديدة في بداية العرض ولكنه رويدا رويدا بدأ يتآلف معه وبعد ثلاث
ساعات وهي مدة العرض تمني أن يستمر أكثر من ذلك.. وألا ينتهي ويكفي عبارته
" مقولة إن المسرح هو دنيا قائمة بذاتها تجسد حرفيا في هذا العرض "..
وتعليق الناقد بول جلير " أن القصص العظيمة تتجاوز القرون وتظل شامخة ".
أما كيتيه كاتراك ابنة مدينة بومباي.. فهي أستاذة الأدب الآسيوي في
الولايات المتحدة.. والتي تعيش حاليا في جنوب كاليفورنيا وتجيد عدد من
اللغات الهندية الأم.. وقد حصلت علي الماجستير في الأدب الإنجليزي من كلية
سانت كازافييه ببومباي ورحلت للولايات المتحدة بعدها لتنال الدكتوراة من
كلية برين ماور الأمريكية في الأدب الأفريقي وكان موضوعها عن الكاتب
النيجيري وولي سوينكا الحائز علي جائزة نوبل وكانت بعنوان " وولي سوينكا
والتراجيدية الحديثة " ولها العديد من المؤلفات وآخرها " المرأة في العالم
ما بعد الثالث ". قامت كيتيه بالتدريس في العديد من الجامعات الأمريكية
ومنها هوارد وماساتشوستس وإميرست وحاليا في كاليفورنيا وهي رئيسة قسم
الدراسات الآسيوية الأمريكية والأدب المقارن.. ولها دراسات واسعة في الآداب
والفنون الآسيوية والأفريقية وفنون الكاريبي خاصة التراثي منها وفنون
الموسيقي والرقص القديمة. السنسكريتية وكانت كاتبة مجلة المسرح فينيتيا
أنسيل قد أجرت حواريين مهمين مع كيتيه كاتراك وبيل روش.. والبداية مع كيتيه
: > كيف كان لقاؤك بنص سادراكا ؟ - قمت بإعداد هذا النص خلال 8 شهور من
العمل المتواصل.. وأكثر ما واجهني من صعوبات هي كيفية تقديم هذه النوعية من
الثقافة للجمهور الأمريكي.. وأن يكتسب الفن الهندي وجمالياته احترامهم..
وأيضا التحول من النص الشعري إلي النص النثري ومن اللغة الهندية الأم إلي
اللغة الإنجليزية أو المزج بينهما أحيانا.. وأيضا تقليل عدد ساعات العرض من
5 إلي 3 ساعات طبقا لوقت العرض المحدد بمسرح شكسبير. وكان اختزال النص
الشعري دون الإخلال بنكهته ومضمونه واحدة من التحديات الكبيرة أيضا..
ومراعاة الاختلافات بين المسرح القديم والمسرح الحديث حاليا.. خاصة أن
العرض كان يقدم في ضوء الشمس بعيدا عن تكنولوجيا الإضاءة الحديثة.. وأيضا
التركيز علي بعض عناصر الديكور مثل تمثال شيفا آله الرقص وأهميته. > كيف
تعاملت مع الشعر والموسيقي والرقص في هذا العرض؟ - الموسيقي من العناصر
الأساسية في هذا العرض.. وقد وضع الموسيقي أنري بليس وهو صاحب مهارة
فائقة.. ومثال ذلك مزجه الساحر بين الطبلة الهندية والفلوت الغربي.. والذي
عكس بدوره مشاعر الشخصيات والحركة في كل لحظة.. أما الرقص فكانت مهمة ثقيلة
برعت فيها أنجينا أبيجونكار.. وظهر هذا واضحا في تنفيذ الرقصات المختلفة
خاصة رقصات البروتكا والكاساكا التي أدتها الممثلة ميريام لابو ببراعة
أيضا.. وتمكنا مع هذه العناصر وتغيراتها التي تساير روح العصر ، أن نحافظ
علي الصور والرموز الهامة في نص سادراكا. > في المسرح السنسكريتي اعتاد
تطبيق بعض التقاليد واستخدام بعض الإيماءات الرمزية مثل ارتجاف اليد اليمني
مع بعض الانفعالات والتي تعد أحد أنماط راسا ـ نوعا من الطقوس الدينية ـ
فهل تبغين بث روح راسا في جمهورك؟ وهل هذا يمكن تحقيقه مع جمهور هذا العصر
الذين لا يعرفون من هي راسا؟ - كان استخدام راسا عفويا.. ودون تخطيط مسبق..
لأنني أقوم بعمل دراسات خاصة بها حاليا.. وأقوم ببحث ومشروع حالي وهو عن
العلاقة بين راسا والرقص الهندي الحالي أي العلاقة بين التقاليد
والابتكارات.. والغرض من راسا في عرضنا هذا هو زيادة التواصل بين نص
سادراكا والجمهور وهذا ما ركز عليه بيل ليزيد من درجات الوضوح بأكبر قدر
ممكن.. وبمجرد أن يندمج المتفرج في هذا ، تتدفق المشاعر. > كيف يمكنك أن
تقارني بين المسرح السنسكريتي الدرامي والتراجيديا الإغريقية وهل حاولت
الاقتراب من النموذج الإغريقي الأكثر تقديرا وشعبية عند الجمهور من أجل
ضمان تحقيق نجاحا كبيرا ؟ - التشابه بين الدراما الإغريقية والسنسكريتية
مفيد في كونه يزيد قدر الإمتاع والحث الديني.. وأن كلاً منهما يعمل الآن من
أجل إرضاء جمهور العصر الحالي.. فهناك عناصر في تكوين المشاهد المسرحية لا
تختلف باختلاف الثقافات.. ولكن هناك مسرحيات سنسكريتية لا تصلح للعرض علي
الجمهور المعاصر.. ولن يتقبلها كما تقبل عربة طفل وهي بالمناسبة كوميدية.
وهنا أشير إلا أنه لا يوجد تراجيديا في الدراما السنسكريتية.. وحتي المشاهد
الحزينة فيها تولد في المتفرج مشاعر أخري أكثر تأثيرا.. وأضيف أن الدراما
السنسكريتية تختلف عن الدراما الإغريقية في وحدات الزمان والمكان والحركة..
والحقيقة أن أجمل ما في الدراما واختلافاتها أنها تأخذ الممثل لعالم جديد
للحظة يعود بعدها ليصف لنا ما رآه.. وأقول أيضا عن الاختلاف بين
السنسكريتية والإغريقية.. أن السنسكريتية أكثر طبيعية.. وتعكس المشاعر
البشرية مجردة بعيدا عن توصيفها بكونها خيرة أو شريرة.. فقط مشاعر مجردة...
روش : مارشاكاتيكا الأكثر إيرادات في أمريكا خلال عام.. وجاء الدور علي بول
: > اخترت مارشاكاتيكا لسادراكا كأول عمل غير كلاسيكي غربي يتم عرضه بمسرح
شكسبير.. لماذا هذه المسرحية؟ - شعرت بعد 73 عاماً تناوب خلالها كبار
الفنانين علي تقديم المسرحيات المنقولة من كلاسيكيات المسرح الأوروبي
وعمالقة الكتّاب.. أنه بات لزاماً علينا أن نتجه لثقافات مختلفة.. وأن
نجتاز الحدود التي وضعناها لعقولنا وأفكارنا.. وكنت قد قرأت هذه الملحمة
الهندية الاجتماعية والكوميدية لأول مرة منذ 16 عاما..ووقعت في
هواها..وقطعت عهدا علي نفسي أنها ستكون أول عمل أقدمه عندما أتولي مسئولية
إدارة هذا المسرح..وقد كان. ليكن لي السبق في تقديمها في غير لغتها الأصلية
فقد قدمت في انجلترا وإسبانيا وكوريا والصين ولكن بلغتها الأصلية.. ووجدت
فيها مزيجاً من الشخصيات تنقل تفاعلات ومناحي الحياة بكل جوانبها.. كما
وجدتها رغم أنها أحدثها تعود لألفي عام قبل الميلاد.. لكنها ليست بعيدة عن
وقائع حياتنا هذه الأيام وخاصة فيما يتعلق بالأزمات السياسية والاقتصادية.
> هل وجدت مقاومة تجاه تقديم هذه المسرحية خلال هذه الفترة؟ - عرضت النص
علي أصدقائي فأحبوه كثيرا.. وإن حاول البعض إقناعي بتأجيل تقديمها.. من
منطلق أنه تحد كبير ولم تسبقنا إليه مسارح أخري خاصة الأمريكية
والبريطانية.. ورغم المغامرة الكبيرة.. إلا أن هذا جعلني أكثر تصميما..
وراهنت علي الجمهور.. فكافأني.. وبات عرضنا الأكثر ربحا منذ افتتاحه في
أمريكا. > جميع المسرحيات السنسكريتية كانت تقدم في الأساس للأغنياء ومن
يطلق عليهم النخبة لا العامة.. فكيف تعاملت مع ذلك؟ - إن شعبية وملحمية
القصة ساعدني كثيرا.. وهذا أساس الاختيار المبني علي قراءة أذوق المتفرجين
وما يمكن أن يستهويهم.. وهذا ما جعل جمهور العرض من كافة الطبقات والأعمار.
> كان يمكنك أن تستبدل الشخصيات الملحمية والملوك والآلهة بشخصيات عادية
فيقربك هذا من الجمهور المعاصر؟ - لم أجد ما يدعو لذلك.. فقد كان تركيزنا
علي المشاعر والمعاني والقيم كالحب ونبل الأخلاق بصرف النظر عن الطبيعة
البشرية والاجتماعية للشخصيات. > هل تشعر أن ما قمت به وما حققت من نجاح
سيزيد من الاهتمام بالدراما السنسكريتية في المستقبل؟ وهل تمثل لك هذه
المرحلة انطلاقة سنسكريتية؟ - أنا ملتزم وشركائي بتقديم كل ما هو مختلف عن
الكلاسيكية الغربية.. طالما أنا المدير في آشلاند.. فنحن نسعي لاكتشاف
عادات وتقاليد أخري بعالمنا الفسيح..نقدمها لجمهورنا ليستفيد منها ويستمتع
بها.. وأنا علي يقين بأني سأعود لأقدم أعمالاً سنسكريتية أخري في المواسم
المقبلة. > الدراما السنسكريتية لا تعرف التراجيدي مطلقا فلا يموت فيها
البطل في النهاية وتعتمد علي النهايات السعيدة علي عكس ما اعتاد جمهور هذا
المسرح.. فهل هذا مصدر قوة أم ضعف؟ - اعتقد أن الجمهور يتقبل جميع أنواع
الدراما الحزينة منها والسعيدة.. وبقدر ما يمكن أن تقلقني هذه النهاية
السعيدة بقدر ما يمكنها أن تعطيني وتعطي الجمهور أمل.. صحيح أننا في
مسرحيات شكسبير الرائعة نصل لنهاية غير سعيدة للدلالة علي نضجها فكريا
وفنيا.. وتعلمنا أن الحياة صعبة ورهيبة.. ولكن أليس هناك ما يدعو للابتهاج
والبحث عن السلام والمحبة في النهاية.. فقد أحببت مارشاكاتيكا لما فيها من
تفاؤل.. وكم نحن في حاجة للتفاؤل في عالمنا المعاصر.
جريدة القاهرة في
10/01/2012 |