أين أصبح الفيلم
الوثائقي العربي؟ عشية انتهاء العام 2011، الذي شهد ولادة ربيع عربي هو
الأول من
نوعه منذ سنين بعيدة، أو شهد تطوّر الربيع هذا، مفتتحاً عصراً جديداً من
العلاقة
القائمة بين «المحكوم» و«الحاكم»، يُطرح السؤال انطلاقاً من
«تورّط» هذا النمط من
التعبير البصري عن واقع الحال اليومي، في مجريات الحياة اليومية. الحدث «الانقلابي»، أي ذاك الذي وضع أسساً جديدة
من التعامل بين الشعب والسلطات الحاكمة
(وإن
لم تتوضح معالمها كلّياً، لغاية الآن على الأقلّ)، جعل الفيلم الوثائقي
حاضراً
بفعالية كبيرة في لعبة الصراع الدائر بين المنتفضين على السلطات القامعة،
وأصنام
السلطات الحاكمة تلك. جعل الفيلم الوثائقي امتداداً مطلوباً
للنزاع، كونه الأقدر
على تسجيل اللحظة، وتأريخها وأرشفتها وحمايتها من التزوير والاندثار.
شرعية
التجديد
لهذا كلّه، يُطرح سؤال راهن الفيلم الوثائقي، شكلاً ومضموناً. ذلك أن
الفيلم المذكور، بانشغاله في تسجيل اللحظة، تاه بين كلاسيكية الاشتغال
البصري
والتطوّر الإبداعي الذي بلغه ذات يوم. غير أن المسألة أبعد من
ذلك: إن تحرير الفيلم
الوثائقي العربي الجديد من الحدث الآنيّ، يؤدّي حتماً إلى المضمون العميق
للسؤال
المطروح. فالفيلم الوثائقي هذا بلغ مرتبة
رفيعة المستوى في صناعة صورته، كما في
معالجته الدرامية مواضيع حيّة مستلّة من الواقع الراهن، أو من الاختبار
الذاتيّ
المحض، أو من الذاكرة الفردية المفتوحة على الجماعة. وهو بات هكذا، من دون
انتظار
«الربيع
العربي»، لأنه أدرك أن اللغة السينمائية قادرة على منحه شرعية تجديدية في
مقاربة المشاغل والحكايات.
الأمثلة عديدة. في الدورات الأخيرة للمهرجانات
السينمائية الثلاثة المُقامة في أبو ظبي (الخامس) والدوحة
(الثالث) ودبي (الثامن)،
وهذا كلّه بحسب تواريخ تنظيمها بين تشرين الأول وكانون الأول
من العام 2011، عُرضت
أفلام وثائقية عربية حديثة الإنتاج، يُمكن الاستعانة بها في محاولة الإجابة
على
السؤال المطروح آنفاً. يُمكن الاستعانة ببعضها، لأن كثرتها محتاجة إلى حيّز
نقدي
أوسع أولاً، ولأن أفلاماً عدّة بينها منزوية إما في خانة
التسطيح أو التسرّع في
التنفيذ، وإما في خانة الريبورتاج التلفزيوني، ثانياً. يُمكن الاستعانة
ببعضها، لأن
بعضها هذا يمثّل خير تمثيل المرتبة الإبداعية التي بلغتها صناعة الفيلم
الوثائقي
العربي. ثلاثة مهرجانات سينمائية خليجية، بالإضافة إلى «مهرجان
بيروت الدولي
للأفلام الوثائقية»، التي أُقيمت دورته العاشرة بعد انتهاء ثالث المهرجانات
الخليجية، أتاحت فرصة قيّمة لتبيان ملامح الفيلم الوثائقي العربي الجديد،
خصوصاً أن
المهرجانات الخليجية ساهمت في إنتاج بعضها، وموّلت بعضها الآخر، أو اكتفت
بعرضها
كلّها. غير أن الكثرة هذه لا تعني إبداعاً، وغزارة الإنتاج لا
تفضي حتماً إلى صناعة
وثائقية متحرّرة من تقليديتها، ومنسجمة والتطوّر الحاصل في الصناعة هذه،
شكلاً
ومعالجة وتقنيات.
بعيداً عن التنظير شبه المُكرَّر للمسألة، استجابت أفلامٌ عدّة
للشرط الوثائقي الإبداعي، سواء ارتكزت مضامنيها على الراهن وعلاقته
بالماضي، من
خلال الذاكرتين الفردية والجماعية، أم تناولت حكايات الأهل (أم، أب، جدّ،
عمّ...
إلخ) في مسعى ذاتيّ للتطهّر من خطايا الماضي، أو للمصالحة مع الذات، أو
لفهم المسار
المفضي إلى الآنيّ. أما الأفلام المرتبطة بـ«الربيع العربي» في تونس ومصر،
فلها
حيّز آخر مستقلّ، لحاجتها إلى قراءة هادئة، على ضوء التطوّر
التقني الهائل الذي
أتاح لمحترفين ولغير المحترفين فرصة إنجاز أفلام، أو ما يُشبه الأفلام.
لحاجتها إلى
قراءة تجمع السياسيّ بالإنساني، والبصري بالدرامي.
الإبداع الوثائقي عاملٌ جاذبٌ
في أفلام عدّة: «أبي ما زال شيوعياً، أسرار حميمة للجميع»
للّبناني أحمد غصين، و«في
الطريق لـ... وسط البلد» للمصري شريف البنداري، و«القطاع صفر» للّبناني
نديم مشلاوي
و«يامو» للّبناني رامي نيحاوي و«أسبرين ورصاصة» للسوري عمّار البيك. هذه
أمثلة
مستندة إلى قراءة شخصية، لا تخلو من حسّ موضوعي وتواصل انفعالي
في آن واحد. هذه
اختبارات مفتوحة على احتمال تفعيل البنية الجوهرية لصناعة النمط الوثائقي
الإبداعي.
أي لصناعة أفلام تروي الحكاية عبر حوار
وشخصيات وأنساق درامية، من دون الابتعاد عن
جماليات الصورة في مقاربة الحكاية، أو في تفعيل امتدادها
الدرامي والفني. «أسبرين
ورصاصة» للبيك «أثقل» الأفلام ثقافة سينمائية. هذه الأخيرة حاضرة بشكل
مباشر:
المُشاهدة الناتجة من ثقافة واسعة. الإمعان
في توظيف الثقافة النظرية في سرد
الحكاية. رفع مستوى التنظير على حساب السرد القصصي. هذه
ملاحظات قد تكون لصالح
الفيلم، أو ضده أيضاً. فالثقافة السينمائية محتاجة إلى ترجمة بصرية متمثّلة
بالصُور
والحكايات، لا بالذهاب بعيداً في «تلقين» المُشاهد قولاً مفاده أن للمخرج
ثقافة
سينمائية واسعة. مع هذا، لا يُمكن نكران جمالية الاختبار
البصري، على الرغم من أن
إقحام شخصيتين نسائيتين في المسار الحكائي بدا مفتعلاً ومتصنّعاً وغير ذي
نفع.
أسئلة معلّقة
«القطاع صفر» لمشلاوي مختلف: الصورة رديفة النصّ. أي
أنها استكمالٌ لحبكته. الأرشيفان المصوَّر والحكائي جزآن أساسيان من البناء
الدرامي
وجماليته البصرية. اختيار منطقة الكرنتينا انفتح على سيرة بلد
ومجتمع وناس. البطء
في التقاط مناظر متفرّقة أشبه بتحريض المخيّلة على بلوغ الانفعال نفسه
للبؤس
والخيبة والتمزّق، المتمثّلة باللقطات هذه مثلاً. ثلاث شخصيات عامّة ظهرت
أمام
الكاميرا في تحاليل ثقافية معمّقة: الطبيب النفسي شوقي عازوري،
والكاتب والمحلّل
السياسي حازم صاغية، والمهندس المعماري برنار خوري. التحاليل المُقدَّمة
منهم
اشتملت على جوانب متفرّقة من الحياة اللبنانية، بناء على الموقع الجغرافي
للكرنتينا، بما هو عليه من بيئة اجتماعية واقتصادية وإنسانية،
وبما هو عليه من
تجمّع متعدّد الهويات والجنسيات والثقافات، وبما هو عليه من بؤرة حرب وعنف
مكتملين
بسلم منقوص. هناك أشخاص آخرون، معنيون مباشرة بالحيّز هذا، رووا تفاصيل من
سيرته
التاريخية وتبدّلاته الحياتية والاجتماعية. لكنهم لم يظهروا
أمام الكاميرا. كأن
غيابهم السينمائي ترجمة لتغييبهم عن الحياة والبيئة معاً ربما. أو تأكيد
على
تهميشهم عبر الفصول المتلاحقة من التاريخ الحديث للبنان ربما. بينما بدا
ظهور
الشخصيات الثلاثة تلك أمام الكاميرا بـ«وضعيات» وإضاءات مختلفة
أقرب إلى الاعتراف
بأن المعاينة التحليلية الصرفة «خارجية وداخلية في آن واحد». أي أن هؤلاء
الثلاثة
بقدر ما أطلّوا على البلد وناسه وأحوالهما من خارج البيئة الجغرافية
المحدَّدة في
الفيلم، شكّلوا مرآة شفّافة وحادّة منبثقة من داخل النسيج الإنساني للبقعة
والبلد
معاً، وكاشفة الاهتراء الفظيع للذات اللبنانية.
هناك كلامٌ كثيرٌ يُقال حول
«القطاع
صفر» (الجائزة الأولى في مسابقة «المهر العربي للأفلام الوثائقية» من
مهرجان دبي الثامن). جماليته السينمائية متوازنة والنسق الحكائي المعتَمَد:
التحليل
والحكاية متداخلان مع بعضهما البعض، بشكل سرديّ منح النصّ حيويته الإنسانية
وسؤاله
الأخلاقي من دون تسلسل تأريخي مملّ، أو محاكمة مسبقة. التوليف
أدّى دوراً جمالياً
مهمّاً، لأنه حافظ على ثنائيات متكاملة: التاريخ واللحظة، الحكاية
والتحليل، الكلام
والصورة. البقعة الجغرافية مفتوحة على كَمّ هائل من أسئلة الحرب والسلم
الهشّ، كما
على أسئلة الجغرافيا والمجتمع والتاريخ. الكاميرا غير مستعجلة، لأنها راغبة
في
التقاط أشياء عاكسة محطات مرتبطة بالحكاية، لأنها راغبة في فهم
اللحظة المُصوّرة،
وخلفياتها الزمنية وأبعادها المكانية أيضاً.
السياسة حاضرة في خفايا التحليل
والسرد. تماماً كما في فيلمي نيحاوي وغصين. العلاقة بالأهل
باتت نواة جوهرية لأفلام
وثائقية لبنانية عديدة، تمثّلت هنا بهذين الفيلمين أيضاً. العلاقة بالأم
تحديداً،
للذهاب بفضلها ومعها وعبرها إلى التخوم المؤلمة للذاكرة الفردية أو للشقاء
الجماعي.
العلاقة بالأهل، من خلال الأب مثلاً، سمة
الفيلم الجديد للّبناني سيمون الهبر
«الحوض
الخامس» أيضاً. حكايات الأهل جزء من حكايات بلد وتاريخ وعلاقات. رامي
نيحاوي
شرّح الأم سينمائياً، كأنه يُشرّح ذاته أمام ذاته. أو كأنه ساع لتمزيق
أقنعة سطت
على تاريخه الشخصي، وبات الآن مُصرّاً على فهم آلياتها، أي على
فهم آليات المسار
التاريخي لمجتمع خبيث ومخادع. الأم طريقٌ إلى تحرير الذات من وطأة السلطة
الأبوية (الوالدان معاً) أيضاً. مع غصين، شكّلت
الرحلة إلى أيام الحرب الأهلية اللبنانية
مفتاحاً لتحليل العلاقة الملتبسة بين المخرج ووالده المهاجر
إلى المملكة العربية
السعودية للعمل. بين المخرج ووالدته المقيمة معه وإخوته في ظلّ بشاعة الموت
وقسوة
العنف. وضع نيحاوي والدته أمام عدسة الكاميرا. وضع غصين والدته أمام آلة
التسجيل.
الصورة والصوت. أجمل ثنائي سينمائي. ذهب
نيحاوي بعيداً في اختبار التجربة الحياتية
لوالدته. واجهها بأسئلته. ذهب غصين بعيداً في إعادة رسم
الملامح المعلّقة للعلاقة
الملتبسة بين والديه. لم يواجه أحداً بشكل مباشر. ترك أشرطة الكاسيت تروي
الحكاية،
متسلّياً بإعادة ربط المسائل بعضها ببعض، ومستعيناً بمخيّلة فوتوغرافية
لوضع الصورة
الصامتة المزوَّرة مكان الصورة المنقوصة.
هذه عيّنات مختصرة لتحليل نقدي قابل
لمزيد من النقاش. هذه عيّنات عاكسة جمالية الصورة في قول
الأشياء. المصري شريف
البنداري لم يبتعد كثيراً عن المناخ العام للعلاقات الملتبسة والمعلّقة بين
الآنيّ
والذاكرة. «في الطريق لـ... وسط البلد» محاولة سينمائية لفهم التحوّل
المعماري
والإنساني للقاهرة، ولفضائها الثقافي والاجتماعي، على ضوء
الحراك الشعبي في ميدان
التحرير. العمارة والغناء والحياة اليومية ومواجهة الشرطة والعجز عن بلوغ
المكان
المطلوب بسبب الزحمة، إسقاطات سينمائية على واقع منقلب على ذاته، من دون
بلوغ لحظة
انبثاق الفجر الجديد، وثبات ولادته.
هذه عيّنات خاصّة بأفلام وثائقية قليلة هي
جزء من حالة تأسيس فعلي لصناعة جديدة. لعملية تجديد فعلي لشكل
الفيلم الوثائقي
ومفردات اشتغالاته الفنية والدرامية والثقافية، بالأحرى.
كلاكيت
استفزاز دانييل عربيد
نديم جرجورة
باختصار، يُمكن
اختيار المخرجة السينمائية اللبنانية دانييل عربيد «شخصية العام السينمائيّ
اللبناني». يُمكن اختيار فيلمها الروائي الطويل الأخير «بيروت بالليل»
أيضاً «فيلم
العام السينمائي اللبناني». لهذا الاختيار أكثر من سبب: قدرة
المخرجة على الاستفزاز
الثقافي، المعقود على لغة الصورة السينمائية، بطرحها أسئلة متعلّقة بالحياة
اليومية
للّبنانيين. قدرة المخرجة على تجاوز المعتاد اللبناني في التعاطي مع
المسائل كافة،
بشكل حادّ أحياناً. قدرة «بيروت بالليل» على قول الممنوع، والتمسّك
بالمُباح لكشف
بعض المستور. أميلُ إلى القول إن «بيروت بالليل» فيلمٌ سياسيٌ
بوليسيٌ لبنانيٌ،
قلّما يُنتج مثله محلياً. هذه ميزة أولى. لكنها ميزة أثارت غضب الرقابة
الأمنية
اللبنانية، المستندة، بقراراتها الهمايونية، على رقابات دينية وطائفية
وسياسية،
وعلى مصالح مشتركة أو متناقضة بين أمراء الحروب الدائمة وملوك
السلم الأهليّ الهشّ
والمنقوص. أميلُ إلى اعتبار «بيروت بالليل» فيلماً سينمائياً سلساً، وإن
شابه خللٌ
ما في السيناريو مثلاً لجهة الاشتغال السياسي والأمني. هذه ميزة ثانية.
لكنها ميزة
دفعت الرقابة الأمنية اللبنانية إلى إعلان جديد عن سياستها
القامعة إبداعاً،
والرافضة طرح أسئلة لا تزال أجوبتها معلّقة في زمن السلم المفقود هذا، أو
ملتبسة
وسط الانهيارات القاتلة. أميلُ إلى «بيروت بالليل»، لبراعته في تعرية
الرقابات
اللبنانية كلّها (من بين أمور أخرى طبعاً)، ولجعلها مفضوحة
أكثر أمام الرأي العام،
خصوصاً أن الرقابة الأمنية عجزت عن الفصل بين الروائي المتخيّل للإبداع
الثقافي
والاشتغال الفني، والواقعيّ الحقيقيّ المتفشّي كرهاً وحقداً وتخريباً في
جسد
المجتمع اللبناني (أو بقاياه) وروحه (أو بقاياها).
لكن «بيروت بالليل» لا يقف
عند الحدّ هذا. ميزته الأولى والأساسية أنه فيلم سينمائي
حقّاً. ما شابه من خلل هنا
وهناك لا يُلغي جمالياته الأخرى، المنتشرة في السياق الدرامي، والتمثيل،
والمناخ
الإنساني، والبراعة في التقاط نبض الانفعال الفردي وسط ضجيج الدمار والهلع
والتمزّق. ميزته الثانية أنه أكّد، مجدّداً، انتماء دانييل
عربيد إلى سينما وازنت
بين الاستفزاز الأخلاقي لمجتمع مدّع ومبطّن ومخادع، ومتتاليات بصرية محكمة
البناء
غالباً، بإضافة أجواء واضحة المعالم، لرغبة ما في قراءة مضامينها وناسها.
في «معارك
حبّ» (2004)، بدا واضحاً أن الحبكة الواقعية منتمية إلى بيئة مسيحية،
اجتماعياً
ودينياً وثقافياً، وإلى حيّز لبناني، إنسانياً على الأقلّ. أما
«رجل ضائع» (2007)،
فذهب بعيداً في تحطيم الحدود القائمة بين الناس والمجتمعات
العربية المتجاورة (بل
بين الفرد وذاته، وبين الفرد وجسده وروحه أيضاً)، من خلال سرد بصري لقصّة
التوهان
داخل ذاكرة مثقوبة، ولحكاية الضياع بين أمس وراهن. بينما استعاد «بيروت
بالليل»
(2011)
العلاقة المتأزّمة بين اللبناني وذاته، وبين اللبناني وبلده. استعاد
مواقع
الصراعات القائمة في بلد مخلّع، بدا واضحاً أن سلطاته مستمرّة في التكتّم
عنها.
الدليل على فرض التكتّم؟ منعُ الرقابة اللبنانية إجازة العرض التجاري
للفيلم في
لبنان.
السفير اللبنانية في
29/12/2011
الفيلم الأميركي «الأحفاد» ومُكَمِّله الألماني «ثلاثة
أرباع
قمر»
جـدران الـعـزلـة الـواهـيـة
زياد الخزاعي
(لندن)
الصَّوتان الأجشّان
للنجم الأميركي جورج كلوني في جديده «الأحفاد» لألكسندر باين، وزميله
الممثل
الألماني إلمار فيبر في «ثلاثة أرباع قمر» لكريستيان زوبرت (عُرض الفيلمان
في
الدورة الثامنة لـ«مهرجان دبي السينمائي الدولي»، المُقامة بين
السابع والرابع عشر
من كانون الأول 2011)، جعلهما كأنهما مُكَمِّلا طرفي معادلتين عائليتين:
خيانة
زوجية وورطة أولاد. الصّوت هنا صدى لطبيعتين صدئتين، تتزاحمان على أنانية
غير
مسبوقة، همّها التكسّب والنجاح. للأول، كونه وريث أراض شاسعة
و«حفيد» سكّان أصليين
تزاوجوا مع الأبيض الوافد، ومزاحمات أقرباء يتلهّفون لإكمال صفقة تحوّلهم
جميعهم
إلى مليارديرات، من دون أن يكلِّفوا أنفسهم عناء مطاردة المال. بينما يعيش
هارتموت
ماكوفيك كفافه اليومي كسائق سيارة أجرة في شوارع برلين
المرفّهة، ساعيا لضربة حظ
تعفيه من التجوال بين أحياء الغرباء الوافدين، ونادي أصحاب سيارات الأجرة
المليء
بالجدب.
الأميركي مات كينغ (كلوني) محام ذائع السمعة. مشكلته إصراره على الغرق
في أوراق قضاياه وتفصيلاتها وانتزاع حقوقها. يحلّ بعزم نادر مشاكل الآخرين،
قبل أن
يصطدم بفاجعة تقوده إلى اكتشاف نقصه الذاتي وحماقاته. في حين تسرق الألماني
ماكوفيك
(فيبر)
شوارع وطلبيات توصيل ولجاجة زبائن، قبل أن يقف لاحقاً أمام استحقاق
زوجي
مؤلم، يعجز فيه وعبره عن معرفة مكمن خطئه الذي أدّى بزوجته إلى حضن رجل
آخر. يقطن
بطل «الأحفاد» في إحدى جزر هونولولو، ويُفجع بالحادث البحري
الذي «أغرق» زوجته في
غيبوبة تقودها لاحقاً إلى الموت. تتكشّف له، عبر ابنته البكر ألكسندرا ذات
السبعة
عشر ربيعاً (شيليني وودلي)، أن الام امرأة خائنة، تورّطت في علاقة جنسيّة
مع سمسار
عقارات نافذ. يقرّر الأب المكلوم بخسارتيه في أم بناته وشرفه أن يقترب من
الرجل
الذي سحر زوجته: ما سرّ جاذبيته؟ ما سرّ طريقة إغوائه؟ هذه
الحشرية نفسها تقود
الألماني هارتموت إلى تعقّب العاشق، وصولاً إلى عشّ الحبيبين العجوزين،
فيعرف أن
جزعه وقسوته وتأفّفه المريض مصائبه الذاتية، التي دفعت سيّدة البيت إلى
البحث عن
حرية نهائية، تنقذها في ما تبقّى من أيامها من نقّه وتحاملاته
على الآخرين وجفاف
عواطفه.
الخلل الذي يغيب عن فطنة الشخصيتين مات وهارتموت يكمن في أنهما رفضا
بغباء الاعتناء بمَنْ يحيط بهما. أي أنهما تعمّدا إغفال أقرب الناس،
وانغمرا في
عزلتين خادعتين ذات جدران واهية، عمادها التَرفُّع. مع الهزّة
الكبرى، يتهاوى
صرحيهما، ويكشفان عن مخلوقين هشّين، يحتاج ضميرهما إلى غسول وتطهيرات، قبل
أن يكونا
جاهزين لإعادة تأهيل عائلي صارم. ليست صحوة الضمير العامل المساعد في
حالتيهما، بل
أطفال صغار يمتلكون بصائر مضمرة، تفتح للثنائي كينغ ماكوفياك السبيل نحو
غفران وستر
خطايا. يعي الأول أن ضحيتيه هما طفلتاه، وأن علاقته بهما كأب بائرة. وبقدر
سرعة
شبوبتهما، يكون نقص معرفته بالخراب الذي عمّ كيانهما، وهو قطع
مراحل حرجة من صعوبة
التأهيل. الكبرى سليطة لسان ومتعجرفة وميّالة للانتقام، وعلى قدر من صفاقة
جنسية.
إنها مثالب سرعان ما تُصيب الصغرى سكوتي
ابنة العاشرة (آمارا ميلّر) في عمق
تربيتها، فتُصبح مقلّدة لها من دون أن تعرف حجم المخجل في وراثة مثل هذا
السلوك. إن
ثراء العائلة انتقاص عكسي لالتزام أخلاقي من قِبَل الفتاتين، أمام غياب أب
وأم.
فالمال في حالتيهما لن يرث سجايا حميدة، أو يغرس مكارم أخلاق. الصفّة
الأخيرة هي
التي تكون في يد الطفلة التركية الأصل حياة (مرجان فاطمة تورك أغلو)، كي
تُحرّك
الفاسد من القيم، وتدفع لإلغائها من دواخل السيّد الألماني،
وتلتقط من والدتها
شتيمة «نازي» لتردّ الصّاع على عنصريته تجاه تركيتها، وتحوّلها الطفلة ذات
الطلّة
المبهجة إلى اسم له ومفارقة سياسية. يلعن هارتموت حظّه. بيد أن عقابه لن
يقف إلى
حدّ الـ«هنا». فالمكان الآخر (أو تركيا الصغيرة) يصبح الـ«هناك»
الذي يدفع البطل
العجوز إلى صحوة ضميره. نراه في نهاية حكايته وقد انتقل إلى قلب اسطنبول،
حيث يجد
جماعيته وحرارتها، وقيم مكارمها ونخوتها التي افتقدها في صقيع برلين
المعاصرة. قبل
هذا، يتورّط الألماني الجِلْف في رعاية الصغيرة التي أصيبت
جدّتها بجلطة قاتلة. ومع
تخلّي والدها الألماني عنها، وسفر والدتها بدواعي العمل، تتحوّل «الأمانة
البشرية»
إلى ثورة طبائع وفيوض عواطف، ينتزع فيها
سائق التاكسي أبوّة لم تكن في حسبانه،
يتعلّم منها الصبر وعفوية الحياة. إن هارتموت يعلن منذئذ حرباً
على انغلاقه وثقل
دمه وعجرفته.
ينهي مخرج «انتخابات» (1999) و«عن شميدت» (2002) و«طرق جانبية» (2004)
جديده بمشهديات متألقة بإنسانيتها، تكشف عن تغيير هائل الوطأة يعمّ كيان
مات
(كلوني)،
ويدفعه إلى قرار معاقبة العشيق، وهو بدوره أب لطفلين، وإجباره على وداع
امرأة فراش الموت. لكن جبن هذا الأخير وصرخته «ارحم عائلتي» يؤكّدان للبطل
أن
عقاباً واسعاً شَمَل الجميع. ومثلما عليه أن يتّخذ قراره برفض
صفقة بيع الإرث
العائلي الغالي الثمن، يتوجّب أن يُعلن انتصاره لابنتيه. فآصرته معهما لن
تُباع أو
تُشترى. في المشهد الختامي، يضع المخرج باين «عائلته»، التي اقتبس حكايتها
عن رواية
ذائعة الصيت للكاتبة كايوي هارت همينغز، مجتمعة تحت غطاء واحد أمام
التلفاز. ذلك أن
أمانها الآن لن يتعدّى أبداً وشيجة «تقاليدها» المتوارثة. أي أن الموت
يُغيِّب
بشراً. بيد أن الحياة تُصرّ على تجدّدها الأبدي، وما «الأحفاد»
سوى نسغ
استمرارها.
في المقابل، يتهكّم نصّ الألماني زوبرت «ثلاثة أرباع قمر» (تورية
أدبية للهلال التركي) على «تقليدية» أخرى مسيَّسة، معنيّة بصراع أضداد
عرقية عبر
فرجة سينمائية مفعمة بالحنيّة التي تسبغها إطلالة الطفلة مرجان
بالدرجة الأولى.
فالوجه البريء يخطف المبادرة في توجيه إرادة الرجل العجوز، ويريه أن عالماً
يُصرّ
بغباء على سوداويته يجب أن ينهار. وإن ما نراه من مَشَاهد ميلودرامية
للاثنين في
دارة الأخير، هو إقرار بشراكة عواطف. لن تفرض حياة سوى عنادها
الذي يرغم العجوز
هارتموت على فهم أفضل لمحيط لا يني في شتمه والاعتراض عليه بصرخته «يا
ناس!، يا
ناس!»، الموجّه ضد الجميع من دون استثناء. يتلصّص مات على العشيق ويتحدّث
مع زوجته
الشابة، ويتخيّل أنه يُقبِّلها انتقاماً. هو في واقع حاله يتعرّف الى أن أي
زلّة
منه تُهدم تطامن الأم مع ولديها. أي أنه يتسبّب بكارثة عائلية
أخرى، الأمر الذي
يفرض عليه التراجع. يكون علينا الانتظار حتى زيارة هذه الأم من أجل وداع
المحتضرة،
كي نعلم أن حدسها أوصلها إلى معرفة خيانة موازية جرت بين جدران بيتها. هنا،
تصبح
بلاغة اعتذارها في عرف الثنائي المخرج باين والكاتبة همينغز
موازية لنظيرتها في
الموت، الذي يلفّ الشخصيات كلّها بثقل مأساته.
في حالة المواطن الألماني، فإن
تلصّصه على المنزل الريفي للعشيقين، واقتناعه بأن خيط عودة
امرأته انقطع إلى الأبد،
يدفعانه إلى الانتقام من سيارة الرجل الجامعي (إشارة إلى الفروق الطبقية
مرّة
أخرى)، الذي لم يرَ سحنته أبداً، قبل أن يتورّط معه في نهاية الفيلم
بحوارية مفاجئة
تجمعهما على حبّ صيد الأسماك. ثم يصل إلى قناعته الجديدة: عليه أن يتبع
حكمة
الصغيرة «حياة»، التي لم تتركها الأقدار وحيدة أبداً. فما بال
رجل يقف عند حافة
القبر: هل يخاف زاويته، أم يجّب عليه أن يفتح أفقاً أعمّ على حيوات
الآخرين، من دون
جَزَع منهم ومن ثقافتهم ودينهم وأعرافهم؟ يتحوّل «نازي» الطفلة حياة إلى
رجل متكامل
العواطف، وهو يسير بين جموع شارع الاستقلال، أشهر شوارع
اسطنبول، ليُعلن عن «استقلالية»
ختامية من غلوّه الأوروبي، وإن جاء نموذجها متأخراً قليلاً.
السفير اللبنانية في
29/12/2011 |