100 عام مضت على ميلاد الأديب المصرى «نجيب محفوظ»، ذلك الأديب
العالمى الذى أثرى الحياة الأدبية والفنية من خلال شخصيات ذات مواصفات
خاصة، تلامس طبائع ومكونات البشر فى كل مكان، لها مفرداتها العميقة التى
تجسد حالات شديدة الإنسانية، وأغدقت شخصيات نجيب محفوظ على العديد من
النجوم طاقات خصبة ليتألقوا ويبدعوا ويبهروا، عبر أعمال عاشت ومازالت فى
وجدان المشاهد العربى، وهنا نستكشف معا بعض ملامح هذه الشخصيات ونجومها.
فقرة واحدة، وأحيانا جملة قصيرة، عند نجيب محفوظ، تضىء عند الممثل
العالم الداخلى للشخصية التى سيؤديها. تجعل الممثل يتفهم الأبعاد النفسية
للنموذج البشرى الذى سيعبر عنه، وليست مصادفة أن يصل الكثير من الفنانين
إلى أفضل مستوياتهم حين تسند لهم أدوار أبطال روايات نجيب محفوظ، سواء
الرئيسية أو الثانوية.. صحيح، كاتبنا يهتم بالتفاصيل ذات الدلالات، تعبر عن
واقع اجتماعى وسياسى واقتصادى، سواء على مستوى المجتمع أو الفرد، ولكن لا
يمكن إغفال ما تتسم به بعض عباراته من القدرة على الإمساك بجوهر الشخصية،
وإدراك ظلالها، والوصول إلى أغوارها، لذا ليست مصادفة أن يتحدث الممثل عن
نجيب محفوظ أكثر مما يتحدث عن كاتب السيناريو والمخرج، وهذا لا يقلل من
شأنهما، ولكن يشير بوضوح إلى تلك الطاقة الكبيرة القادمة من صفحات الروائى،
التى تفوق طاقة كل من كاتب السيناريو والمخرج، بل تجعل عمل كل منهما ينهض
على أساس راسخ من الفهم.. وكل هذا يصب فى طاحونة الممثل الذى تجده، غالبا،
يتألق فى الأفلام المعتمدة على نجيب محفوظ، على نحو أفضل مما تجده فى أعمال
أخرى.
دخل نجيب محفوظ عالم السينما من خلال بوابة صلاح أبوسيف، فى أواخر
الأربعينيات، حين أسند له أبوسيف مشاركته فى «المنتقم» 1947، و«مغامرات
عنتر وعبلة» 1948، و«لك يوم يا ظالم» 1951.. وبعد عدة عقود، دخلت السينما
عالم نجيب محفوظ، فلأول مرة تقدم إحدى رواياته على الشاشة الفضية، عن طريق
صلاح أبوسيف أيضا، حين حقق «بداية ونهاية» 1960.
نقديا استقبل الفيلم بترحاب، وتوقف المعلقون طويلا عند الأداء الجيد
لمعظم الممثلين، خاصة سناء جميل، فى دور «نفيسة»، وفريد شوقى فى دور «حسن
أبوالروس».
سناء جميل، نجمة المسرح المرموقة، لم يكن لها حظ على شاشة السينما،
فيما قبل «بداية ونهاية»، فخلال ما يقرب من العشر سنوات، منذ ظهرت فى دور
هامشى، فى فيلم متواضع، عنوانه «طيش الشباب» لأحمد كامل مرسى 1951. شاركت
فيما يزيد على العشرين فيلما، لم تلفت الأنظار... لكن، مع «بداية ونهاية»
تغير الوضع تماما.. كتب فاروق القاضى، فى جريدة المساء 26 أكتوبر 1960
«كانت تمثل بعينيها وشفتيها، بل بكل خلجة من خلجاتها».. وبلغة أحمد حمروش،
فى جريدة الجمهورية 5 نوفمبر 1960، جاء: «سناء جميل، لعبت دورها بإتقان
الممثلة التى تفهم طبيعة الدور، وتستطيع بأدائها أن تصل إلى القلوب».. هكذا
نقد الممثل فى الستينيات، وبالضرورة بحكم التطور، أصبح أكثر نضجا وتفصيلا،
وتحول الانطباع العام إلى نوع من القراءة المتأملة، فبعد أكثر من ثلاثة
عقود من ظهور الفيلم، يكتب الناقد حسن عطية، فى الكتاب الذى صدر عنها،
بمناسبة تكريمها فى المهرجان القومى 19 «...تحب الأخ الأصغر المتطلع ــ
حسنين ــ وتتعاطف مع الأخ الأوسط المسالم ــ حسين ــ ولا تكره الأخ البلطجى
ــ حسن ــ وتتداخل فى شبكة علاقاتهم، وإن مالت أكثر إلى أخيها ــ حسنين ــ
لأنه يمثل لها الفعل العاجزة هى عن تحقيقه، بحكم ظروف الواقع الاجتماعية
والأخلاقية المحيطة بالبنت المصرية وقتذاك، ولذا كان لقاؤها معه همسا،
ومنحها إياه النقود سرا، والتصاقها به داخل الكادر التصاقا حميما، وفرحها
به وهو قادم بالبذلة الرسمية فرحا حسيا، وحركتها الوئيدة على ماكينة
الخياطة، وبين جدران البيت المتهالك، بملابسها السوداء الكالحة، ونظراتها
الحائرة والمنتقلة بانفعال بين أفراد أسرتها وماكينة الخياطة المنكبة
عليها، وقرارها الأخير بالموت قذفا للجسد فى مياه النيل بليل دامس، خلاصا
مزدوجا لها من شعور بلا إثم من خطيئة العهر، وخلاصا لأخيها من ورطته
باكتشاف سقوط أخته وهو الضابط المتباهى» (1).
صحيح، لمسات صلاح أبو سيف واضحة، فى تحريك بطلته، داخل المكان،
واقترابها وابتعادها من بقية الأشخاص، على النحو الذى ذكره حسن عطية.. ومن
الإنصاف الاعتراف بقوة الإيحاءات النفسية المرهفة التى ترجع للمصور كمال
كريم، الذى جعل الجدران تنطق بالمعانى، حتى أن مكان ساعة الحائط التى تم
بيعها، يظل مختلفا فى لونه الفاتح عن بقية الجدار.. إنه، طوال الفيلم،
وبدرجات متفاوتة، يحيط نفيسة بالظلام، حتى أن الكثير من مشاهدها تدور ليلا،
ولكن إبداع الممثلة هنا هو الأوضح، وهو وإن كان يعبر عن موهبة سناء جميل،
إلا أن الإمساك بالشخصية، يأتى من نجيب محفوظ الذى منح الممثلة مفتاح بطلة
الرواية، بجملة محكمة، حاكمة، يقول فيها إنها تدرك، على نحو مأساوى، وضعها
كفتاة «بلا مال ولا جمال ولا أب».. ست كلمات، سارت سناء جميل على هديها،
امتلأت بها داخليا، وحددت شكل وطريقة وسلوكها، وحركتها، ونظراتها، وردود
أفعالها. إنها لم تضحك من قلبها طوال الفيلم، وحتى حين مارست الجنس مع ابن
البقال، لا يظهر على وجهها أى أثر للنشوة، ولو عابرة. وعندما تثور وتغضب،
لا تجد أمامها سوى مرآة، تعكس وجهها، فتبصق عليه وتمسك بعلبة صلبة، تقذفها
لتهشم المرآة، وكأنها تريد تحطيم حقيقتها كفتاة تعيسة «بلا مال ولا جمال
ولا أب».. وفى مشهد النهاية، عقب خروجها من قسم الشرطة، حيث قبض عليها
بتهمة الدعارة، تسير خلف شقيقها، حسنين، ضابط الجيش، مستسلمة، ذليلة، يكاد
وجهها، فى لمسة إبداعية بارعة، أن يشفق عليه أكثر من قلقها على نفسها.
وبإيعاز منه، ولأنها تدرك هوان شأنها، تلقى بجسدها فى مياه النيل، من دون
تردد.
جدير بالذكر، فى ذات الفيلم، أن الممثلين عموما، وصلوا إلى أفضل
مستوياتهم، خاصة فريد شوقى، الذى أدى دور ابن الأسرة الكبير، الفاشل، حسن،
«ابن الشارع»، المهيأ للإجرام، المستعد للانحراف فى كل السبل، لكن نجيب
محفوظ، صاحب الخبرة العميقة بالبشر، يرى فى أغوار «حسن» المظلمة، بصيصا من
نور، يجسده الروائى فى عشر كلمات «كان حب أسرته العاطفة الشريفة الوحيدة
التى يخفق بها قلبه». وبهذه الجملة الموجزة، لم يعد فريد شوقى، فى الفيلم،
مجرد بلطجى، أو قواد، أو تاجر مخدرات، فثمة بعد إنسانى جعل للشخصية سحرها
الخاص، لا تتجسد فقط فى الموقفين المؤثرين بين فريد شوقى، وشقيقه الانتهازى
حسنين، ضابط الجيش ــ بأداء عمر الشريف ــ حيث يمنح أولهما نقودا، للثانى،
كمصاريف لدخول الكلية، ثم، بعد تخرجه، يطالب شقيقه الكبير، بترك العالم
السفلى.. تعمد صلاح أبو سيف ألا يجعلهما فى مواجهة بعضهما، أو بجانب
بعضهما، فكل منهما يقف فى مفترق. عمر الشريف يطالعنا بجانب وجهه الأيمن.
فريد شوقى فى مواجهة الكاميرا. ويتجلى إبداع الممثل فى نظرة فريد شوقى التى
تدرك ما تنطوى عليه أعماق شقيقه من عفن، فيضعه فى اختبار صعب، يوافق على
شرط أن يخلع بذلته العسكرية، ويبدآن حياة جديدة، وبلا تردد، يرفض عمر
الشريف. هنا، تخلو نظرة فريد شوقى من الغضب والكراهية. فقط، درجة ما من
الأسى، ممتزجة بخبرة عميقة بالحياة، فهو يدرك ما الذى سيختاره هذا
الشقيق... لكن الموقف الأهم، وربما الأعمق تأثيرا، فإنه يأتى قرب النهاية،
فبعد أن تضيق بفريد شوقى كل السبل، وتتعقبه الشرطة، ويتربص به خصومه، يلجأ
جريحا، مشجوج الرأس مرتديا جلبابا، إلى أسرته.. وها هو، على الفراش، ينظر
لوالدته الحانية، كما لو أنه طفل يطلب الحماية.
بعد عامين من «بداية ونهاية» الذى أعتبر من عيون السينما المصرية، عرض
«اللص والكلاب» لكمال الشيخ، الذى رشح شكرى سرحان، قبل التنفيذ، كى يجسد
شخصية سعيد مهران. لم يكن شكرى سرحان قرأ الرواية من قبل.. ذهب إلى المكتبة
واشترى الرواية، وأثناء عودته إلى البيت، طالع صفحاتها الأولى.. اتصل بكمال
الشيخ ليخطره، بحماس، بشغفه للقيام بالدور. وعندما استفسر المخرج عن سر
موافقته السريعة، قبل أن يكمل الرواية، أجابه شكرى سرحان أن جملة «آن للغضب
أن ينفجر وأن يحرق» جعلت الشخصية، بأغوارها، تترآى أمامه، وأنه أدرك أن بطل
الفيلم الذى غادر السجن توا «خرج وفى جوفه نار».. وأردف «إنى ممتلئ بهذا
الشعور».
طوال الفيلـم، حافظ شكرى سرحان على جذوة النار التى تعتمل بداخله،
سواء فى صمته حيث يبدو وجهه مفعما برغبة حارقة فى الثأر، أو فى أحاديثه،
حين تخرج الكلمات من فمه، حتى بصوت منخفض، وكأنها طلقات مسدس مكتوم الصوت..
كذلك الحال فى مواقفه المختلفة، بما فى ذلك المواقف الرومانسية. إنه يحب
نور ــ شادية ــ ويتواصل معها، لكن ذلك التواصل المتقطع بفعل الألم الذى
يحسه، والذى يزداد كلما تكالبت الظروف عليه، وكلما ازداد إدراكه لعجزه،
فعندما تعود «نور» ليلا، ممزقة الملابس، آثار الكدمات على وجهها، عقب
تعرضها لاعتداء شباب أقرب للكلاب، يشعرنا شكرى سرحان أن ألسنة اللهب تتصاعد
بداخله.
أما نور، فإنها اسم على مسمى، فتاة ليل نعم، ولكن تضىء شيئا من عتمة
أيام سعيد مهران، وبهذا الفهم، أدت شادية دورها، بالصرامة التى يتسم بها
أسلوب كمال الشيخ، ذلك أنه تحاشى تماما أن يستدرج إلى إغراء تتبع مهنتها أو
تجسيد جانب منها، ولكنه حدد بدقة، مستواها، بالملابس البسيطة التى ترتديها،
والمكياج الفج الذى وضعه بمهارة، الماكيير رمضان إمام، حيث أبرزها كامرأة
فقيرة، من الناحية المالية والمادية، ولكن بأداء شادية، بدت على قدر كبير
من الثراء الروحى، تمنح سعيد مهران، بسخاء، فيضانا من الرحمة. علاقتها به
ليست حسية، فهى، بالنسبة له، أقرب إلى الأم، تحنو عليه، تترقرق فى عينيها
محبة خالصة، تأويه فى شقتها المتواضعة بالقرب من منطقة المقابر.. تخرج،
لعملها، وتعود، متعجلة، كى تطمئن عليه، ويتعمد كمال الشيخ أن يبقى بطله فى
العتمة، وحين تدخل بطلته الحجرة المظلمة، تضىء النور.. إنه «نور» فعلا.
وبينما تنطلق طلقات رصاصات الشرطة لتردى سعيد مهران قتيلا، فى النهاية،
تعبر شادية، بتقلص وجهها ألما، عن الإحساس أن هذه الطلقات، إنما تصيبها هى.
إلى جانب نور، جسدت شادية ثلاث من بطلات نجيب محفوظ: حميدة فى «زقاق
المدق» لحسن الإمام 1963. كريمة فى «الطريق» لحسام الدين مصطفى 1964. زهرة
فى «ميرامار» لكمال الشيخ 1969.. نجحت فى بعضها، عندما التزمت، مع صناع
الأفلام، برؤية نجيب محفوظ الجوهرية، لنماذجه وواقعه.. ولم توفق فى بعضها،
بسبب عدم الالتفات، بما فيه الكفاية، لما جاء فى أعمال نجيب محفوظ.
ظهرت «حميدة» مرتين على شاشة السينما، مرة فى الفيلم المصرى، وبعد
ثلاثة عقود تسطع فى فيلم مكسيكى بعنوان «حارة المعجزات»، من إخراج جورج
فونس، حيث أصبح اسمها «الميتا»، بأداء الممثلة التى أصبحت عالمية،
اللبنانية الأصل سلمى حايك.. وثمة مفارقة تستحق الانتباه: الفيلم المكسيكى،
أقرب لعالم نجيب محفوظ وروايته من الفيلم المصرى، وسلمى حايك تعبر عن
«حميدة» على نحو أعمق وأصدق من تجسيد شادية لها. جورج فونس، وكاتب
السيناريو بيثينتى لينيرو، وسلمى حايك، كل على حدة، أشاد أكثر من مرة، إلى
نفاذ بصيرة الروائى، وإدراكه للقوانين التى تؤدى للظواهر، وتماثلها، برغم
اختلاف المكان والزمان.. والواضح أن سلمى حايك تفهمت واستوعبت شخصية حميدة،
بتكوينها الداخلى، الذى يرصده نجيب محفوظ بقوله «فتاة مقطوعة النسب معدمة
اليد، ولكنها لم تفقد قط روح الثقة والأمان والإطمئنان، ربما كان لحسنها
الملحوظ الفضل فى بث هذه الروح القوية فى طواياها، ولكن حسنها لم يكن صاحب
الفضل وحده، كانت طبيعتها قوية لا يخذلها الشعور بالقوة لحظة فى حياتها»..
وفى موضع آخر، يصف، بجرأة وحسم، فى ثلاث كلمات قاطعة، أحد أهم سمائها «كانت
عاهرة بالسليقة».
تحركت سلمى حايك، طوال «حارة المعجزات»، على هدى ملاحظات نجيب محفوظ،
فبنظراتها، تلتهم ما تطمح له أو تطمع فيه، فإذا أطلت من نافذتها ورأت
حبيبها، فإنها ترسل له، بعيونها، رسائل مفعمة بالرغبة، وإذا وقفت أمام
«فاترينة» تعرض الملابس الداخلية، فإنها تعطى إحساسا باستعدادها على مد
يدها لتكسر الزجاج كى تأخذ ما تريد. تتحرك وتتلفت وتتكلم وتتشاجر وكأنها
تقف على أرض نفسية صلبة.. وبإرداتها، تذهب مع القواد إلى وكره، وتستجيب بلا
مقاومة لطلباته، وتندمج فى حياة الليل، وتنتقل سريعا من فراش لفراش، وتغدو
مدمنة للمخدرات، وهى فى هذا السقوط السريع، تعبر عما جاء فى الرواية التى
تقول «إنها تنحدر إلى مصيرها المحتوم لا يعوقها من وازع إلا ما يعوق
المنحدر إلى الهاوية من دقائق الحصى».. رواية «زقاق المدق» منحت سلمى حايك
دورا فريدا، وبدورها منحت شخصية «حميدة» حضورا عالميا.
اختلف الأمر، بالنسبة لشادية، ذلك أنها، فى «زقاق المدق»، انتمت لحسن
الإمام أكثر من ارتباطها بالرواية، فهى هنا مجرد «دلوعة»، تمضغ اللادن
وتتمايل فى مشيتها، تخرج الكلمات من فمها بميوعة مصطنعة، وتغنى فى
الكباريه، أيام الاحتلال، أغنيات تسخر من الإنجليز.. إنها مع كاتب
السيناريو المبتدئ، حينذاك، سعد الدين وهبة، والمخرج، ولم يستفيدوا من
إضاءات نجيب محفوظ.
حققت شادية نجاحها حين قدمت «كريمة» فى «الطريق». الشخصية أصلا، فى
الرواية، من النوع الذى يمنح الممثل طاقة لا يستهان بها. إنها جامحة، مثيرة
للغرائز، ظروفها تبدو فى عينى الذئب أقرب للفريسة، فهى امرأة ناضجة، جميلة،
متزوجة من صاحب فندق عجوز، لا تخلو من غموض، يرمقها نزيل الفندق، صابر
الرحيمى، بأداء رشدى أباظة، وبدورها ترسل له، بعيونها، رسائل مبهمة، وفى
العديد من المشاهد تحافظ شادية، بمهارة، على ذلك الغموض الأخلاقى، ما بين
رفضها الحاسم لإقامة علاقة مع النزيل، أو الاستجابة لما يرغبه، وبذكاء أقرب
للخبث، تذيقه طرفا من حلاوتها، ثم تمتنع عنه، ثم تدفعه، بالإيحاء تارة
والتصريح تارة، إلى قتل زوجها العجوز.. شادية هنا، لا تلجأ لكليشيهات
الإغراء المألوفة، المكررة، فى السينما المصرية، لكن شباك الغواية عندها،
تنطلق من عيون مليئة بالوعود المترعة بالشهد.
تنوعت، بل تضاربت، نماذج النساء، التى جسدتها شادية، اعتمادا على
روايات نجيب محفوظ» من «نور» «اللص والكلاب»، حيث تبدو وكأنها الرحمة تسير
على قدمين. و«حميدة» «زقاق المدق»، المتمردة على «زقاق المدق» حسب تعبيرها،
ثم الفتنة المدمرة فى «الطريق». وأخيرا «زهرة» «ميرامار»، وهى شخصية ثرية
بالمعانى والدلالات، حللها الكثير من نقاد الأدب، فهى عند فاطمة موسى
«الشخصية الوحيدة التى تمثل المستقبل.. وهى مصر التى صورها الفنانون فى شكل
فلاحة منذ أيام مختار وتمثال نهضة مصر».. وعلى نحو متقارب، يراها محمود
أمين العالم «رمز مصر الباحثة عن سند، عن حب، عن استقرار، عن سعادة»(3)..
زهرة، يتصارع عليها نزلاء «البنسيون» الخمسة، كل منهم يريدها لنفسه، على
طريقته، ولكنها قوية، صعبة المنال، أذكى من أن تحوِل نفسها إلى مطفئة
شهوات، أو ألعوبة فى يد الآخرين. حاولت شادية، بكل طاقتها، أن تحافظ على
التوازن بين وضعها المتواضع كعاملة فى البنسيون من ناحية، وفى ذات الوقت،
شادية ذات كرامة من ناحية ثانية. وعلى الرغم من نجاح مسعاها فى أن تبدو، فى
أدائها، إنسانة جادة، قبل أن تكون مجرد أنثى، فإن الفيلم لم يسعفها فى
إبراز إصرارها على استقلالها وحريتها، وجعلها تقترن ببائع الجرائد، كى تكون
النهاية سعيدة.. لذا فإن الناقد هاشم النحـَاس يصل لنتيجة مؤداها
«..وبفقدان زهرة فى الفيلم لسماتها الأساسية الموجودة فى الرواية، إلى جانب
تحويل اتجاهاتها وتبديل أهدافها فقدت أيضا أبعادها الرمزية وأصحبت زهرة فى
الفيلم شيئا آخر تماما لا يشترك مع زهرة الرواية إلا فى الإسم فقط»(4).
أيا كان الأمر، فإن شادية، بفضل نجيب محفوظ، تألقت فنيا، فى أدائها ــ
على الأقل ــ لشخصيتين من بطلاته: «نور» فى «اللص والكلاب» و«كريمة» فى
«الطريق».. وامتدت عطايا نجيب محفوظ، لأخريات من الفنانات، جسدن شخصياته،
على نحو يستحق التحليل والتأمل.
المراجع
«1» حسن عطية، كتاب «زهرة صبار.. قمرية»، ص 27.
«2» د.فاطمة موسى، كتاب «نجيب محفوظ وتطور الرواية العربية»، ص146.
«3» محمود أمين العالم، كتاب «تأملات فى عالم نجيب محفوظ»، ص138.
«4» هاشم النحاس، كتاب» نجيب محفوظ على الشاشة»، ص233.
الشروق المصرية في
07/12/2011
سعاد حسنى.. الوحيدة التى تجاوزت بأدائها نصوص أديب نوبل
كمال رمزي
سعاد حسنى، الموهوبة، دخلت عالم نجيب محفوظ من ستة أبواب «الطريق»
لحسام الدين مصطفى 1964، «القاهرة 30» لصلاح أبوسيف 1966، «أميرة حبى أنا»
1974، «الكرنك» لعلى بدرخان 1975، «أهل القمة» لعلى بدرخان 1981، «الجوع»
لعلى بدرخان 1986.
لم تلتق سعاد حسنى مع شادية، فى «الطريق»، فعلاقة كل منهما مع «صابر
الرحيمى»، وهما، فى طبيعتهما، على طرفى نقيض. شادية عاصفة، وسعاد نسيم.
«كريمة» شظية من الجحيم، و«إلهام» عصفور من الجنة. شادية، ذات أغوار بعيدة،
غامضة، متقلبة. سعاد بسيطة، واضحة، شفافة. هنا تتجلى قدرات الروائى الكبير
على إبراز الفوارق الواسعة بين البشر.. ولأن الشخصيات الشريرة، فى الأدب
والفن، غالبا، تحظى بقوة تأثير أشد من الشخصيات الطيبة، فإن شادية، فى
«الطريق» بدت أعمق حضورا من سعاد حسنى، الباهتة نوعا، والتى وجدت ضالتها،
وفرصتها الكبيرة، فى «القاهرة 30».
تجسد سعاد حسنى شخصية «إحسان شحاتة» ــ تأمل معنى الاسم ــ فتاة فقيرة
وجميلة، يشفع لها جمالها فى الانتقال من حال لحال، ولكن بثمن باهظ، تدفعه
بجسدها الذى يعشقه قاسم بك فهمى، بأداء أحمد مظهر. وتصبح إحسان خليلته، بعد
زواجها من محجوب عبدالدايم، الذى مثله باقتدار، فى أول ظهور له، على شاشة
السينما: حمدى أحمد.. وعلى طريقته، يلخص نجيب محفوظ معالم بطله بأربع كلمات
«فتى فقير بلا خلق»، وهو فى هذا يختلف عن إحسان شحاتة، المُساقة إلى نمط
مُنحط من الحياة، دون حماس. اللافت أن «القاهرة 30»، إلى جانب لمسات صلاح
أبو سيف البديعة، ذلك التجاوب الخلاق، فى الأخذ والعطاء، بين سعاد حسنى
وحمدى أحمد، فعلى سبيل المثال، حين يدخل الزوج حجرة النوم، بعد مغادرة قاسم
بك الذى قضى وطره، يضىء النور. عندئذ تصرخ سعاد حسنى طالبة منه إطفاء
النور، فالظلام عندها هو الستر.. وربما من الممكن القول إن بصمة سعاد حسنى
الخاصة، العفوية على الأرجح، أضفت بعدا إنسانيا لا يتوافر بوضوح فى
الرواية، فعقب زفافها السريع لزوج تعلم تماما أنه مجرد ستار لعلاقة البك
بها، ترفع عينيها إلى وجه عريسها النذل، المتوتر. وقبل أن تنطق بكلمة تحس
فى نظرتها المترعة بالشجن، شفقة غامرة تجاه الرجل الفاقد الكرامة، والذى
عليه أن يقوم بدور الزوج والقواد فى آن.
رحبت الصحافة الفنية بالوجه الجديد، حمدى أحمد، وأشادت بأداء سعاد
حسنى، فكتب مصطفى محمود «سعاد حسنى مثلت دورا صعبا، متلون المواقف
والعواطف، مُعقد التركيب.. تناقضات فى التعبير لم تكن لتقدر عليها واحدة
غير سعاد حسنى. عندها الموهبة على تلوين الصوت والصورة والوجه والتقاطيع فى
كفاءة واقتناع وذوق مرهف» (1). وجاء فى مقالة لرجاء النقاش: «أما سعاد حسنى
فقد كان دورها فى هذا الفيلم من أبدع أدوارها وأكثرها عمقا.. إن سعاد ممثلة
موهوبة حقا.. وما أكثر ما تعطيه هذه الفنانة للسينما إذا وجدت إلى جانبها
مخرجا له قيمة، وإذا وجدت لها دورا حقيقيا مثل هذا الدور».. (2).
سعاد حسنى، تكاد تكون الفنانة الوحيدة التى لم تجسد بطلات نجيب محفوظ
بصدق ودقة فحسب، بل أضفت عليها رونقا يتجاوز ما هى عليه الأصول الأدبية.
دليل على هذا دورها فى «الكرنك»، الفيلم الذى أثار ضجة كبيرة عند عرضه،
وتحفظ الناقد سمير فريد على الكثير مما جاء به، ورفضه الناقد على أبوشادى
رفضا مطلقا لأنه «فتح الباب لسيل من الأفلام الهزيلة التى راحت تتمسح فى
السلطة وتتملق العهد الجديد» (3)..
وبرغم هذه التحفظات وذاك الرفض، فإن تقييم سعاد حسنى حظى بتقدير رفيع.
كتب سمير فريد: «.. ودور زينب بالنسبة لسعاد حسنى يضاف إلى رصيدها الكبير
فى السينما المصرية.
فهى تتلون فى الفيلم بين عدة أحوال متباينة تماما، من البراءة إلى
السقوط مرارا بالمعاناة الهائلة بعد الاغتصاب، وفى مشهد محاولة الانتحار،
ثم ذهابها مع زين العابدين فى سيارته تحت سفح الأهرامات»(4).
أما عن البصمة الخاصة والإضافة الخلاقة لسعاد حسنى، فإنها تتجلى فى
أمرين، أولهما الروح الرقيقة، الطيبة، التى لا تخلو من صلابة داخلية، والتى
جعلتها قادرة على تحمل المحن والخطوب من ناحية، والحنو على جميع من حولها،
فى الأسرة والأصدقاء، وتفهم ضعفهم وانكساراتهم من ناحية أخرى. لكن الأهم
ذلك الإبداع الشخصى، العفوى فى تقديرى، الذى يمكنك أن تلمسه فى لحظات
خاطفة، فعندما تختلى، لأول مرة، مع حبيبها المدمر «إسماعيل الشيخ» ــ بأداء
نور الشريف ــ يكتشف أنها ليست عذراء. فيعتمل فى عينيها عدة انفعالات: ألم
معنوى، اعتذار، شفقة من أجله، على أنها اغتصبت فى أحد أجهزة الدولة بسبب
علاقتها به.. سعاد حسنى هنا تقدم ما ليس موجودا فى الرواية. وهو الإنجاز
الذى تحققه فى العديد من المواقف، فيصبح من أسباب ارتقاء الفيلم جملة
وتفصيلا، فمثلا فى «الجوع»، المأخوذ عن قصة «سارق النعمة» من ملحمة
«الحرافيش».
هنا، تطالعنا سعاد حسنى فى دور «زبيدة»، بائعة البطاطا، الفقيرة مثل
بقية سكان الحارة، الخاضعين لفتوات طغاة، وبرغم قوتها وكرامتها، تتعرض
للاغتصاب من أحد الفتوات، ويتكور بطنها بجنين، وبلا تردد، يقبل «جابر
الجبالى» ــ بأداء متميز من عبدالعزيز مخيون ــ الزواج بها، سترا لها ومنعا
للفضيحة. فى ليلة الزواج، داخل حجرة رطبة مظلمة، فى بدروم، يبدو «جابر»،
القريب منها، منصرفا عنها. حينئذ، تتابعه بنظرات تفيض بالمعانى: الخجل،
الامتنان العميق والتقدير الرفيع، المحبة الصافية، والأهم أنها تتمنى أن
يُقدم عليها، ليس بدافع من رغبتها، ولكن كنوع من رد الجميل. فى وقفتها أمام
الحائط الكالح، بالانحناءة الخفيفة لرأسها، وتركيز بصرها عليه، وبانكسار،
توحى أنها على استعداد للركوع عند ركبتيه وتقبيل كفيّه، وطبعا لا تفعل، وإن
كانت تعبر عن كل هذا بسلاسة ونعومة وبساطة.. سعاد حسنى، تجعلنا نكتشف مناطق
ثرية فى النفس الإنسانية.
مشهد النهاية، فى «خان الخليلى» الذى حققه أحد أساتذة المدرسة المصرية
فى السينما، عاطف سالم 1966، من المشاهد القوية، التى لا تنسى على مرّ
السنوات: عربة كارو تحمل عزال أحمد عاكف ــ عماد حمدى ــ الذى يسير بجانب
والديه، عبدالوارث عسر وآمال زايد. الكاميرا ترصدهم من مكان مرتفع،
وبالتالى يبدو انسحاقهم واضحا. إنهم يغادرون المكان عقب وفاة الابن الشاب،
أمل الأسرة فى الانتقال من حال لحال. على الجانبين، يقف بعض سكان «خان
الخليلى»، فى صمت ووجوم، كأنهم يشيعون جنازة.
عماد حمدى، من أكثر نجومنا توافقا، مع قطاع من أعمال نجيب محفوظ، فمنذ
ظهوره لأول مرة، فى «السوق السوداء» لكامل التلمسانى 1945، قام بدور الموظف
المصرى، ابن الطبقة الوسطى، عدة مرات، وعلى نحو ناجح ومقنع، فالواضح أن
قسمات العناء المرتسمة على وجهه، وطريقة حديثه المتمهلة، وصوته المنخفض،
ووقاره العفوى، كلها معالم هيأته لأداء هذه الشخصية التى صاغها نجيب محفوظ
فى الكثير من رواياته، بخبرة ودراية، عن معرفة ومعايشة، وجسدها عماد حمدى،
بدقة وصدق وإبداع، من الصعب تخيل ممثل آخر يحل مكانه.
«أحمد عاكف»، موظف منسى، قضى سنوات طويلة على الدرجة الثامنة، لم
يستكمل تعليمه العالى لسببين، أولهما رعاية أسرته حيث فصل والده من خدمة
الحكومة، وكى يتيح لشقيقه رشدى، حسن يوسف، مواصلة دراسته، وهو فى هذا يعكس
إحدى قيم الفداء والتضحية التى تتسم بها الطبقة الوسطى.. فى زاوية من قلب
أحمد عاكف، نوع من الإحساس بالمرارة. يحس أن قطار الزمن مرق سريعا، لذا فإن
فى عينى عماد حمدى، منذ المشهد الأول، سحابة أسى، يعوضها إيمانه بأنه
«عبقرية مضطهدة» حسب تعبير نجيب محفوظ، يعبر عنها عماد حمدى بنظرة استعلاء
خجولة، ودرجة ما من الانفصال بينه وبين الآخرين، حتى حين يقضى سهرات، ذات
طابع ماجن، فى بيت الراقصة المعتزلة، وتمنعه كرامته أن يحكى لها عن مشاكله،
وينسبها لصديق له.. وباقتصاد فى إظهار الفرح، وبشبح ابتسامة، مع وقفة أطول
أمام المرآة، يجسد عماد حمدى ضياء الأمل الذى يتفتح فى قلبه حين ينبض بالحب
تجاه ابنة جيرانه «نوال» ــ سميرة أحمد ــ ولكن شقيقه، العائد من أسيوط ،
يرتبط بابنة الجيران، ويخطبها، وبرغم عدم اعتراف أحمد عاكف بالألم، فإن
عماد حمدى، بلفتاته الوئيدة، وفتور حماسه، وصمته، وانسحابه داخل ذاته، يوحى
بمدى الأسى المعتمل فى وجدانه.. لكن الضربة القاصمة، تأتيه بموت شقيقه، أمل
الأسرة، عقب فترة قصيرة من مرض السل.
يصف نجيب محفوظ، حياة أحمد عاكف، على لسان إحدى الشخصيات، وصفا فاجعا
حين تقول له «حياتك ليست بذى بال»... ويترجم الفيلم هذه الجملة التى
استوعبها، فى تقديرى، عماد حمدى تماما، عندما يدخل حجرة شقيقه الراحل،
يتأملها للحظة. ينكفئ على وجهه فوق السرير ويجهش ببكاء مر، كما لو أنه لا
يبكى على وفاة أمل الأسرة وحسب، بل على حياته كلها.
ماذا كان سيحدث لو أن أحمد عاكف استفاد من ثقافته وعمل
بالصحافة؟..أغلب الظن أنه سيصبح «عامر وجدى» فى «ميرامار» لكمال الشيخ
1969.. هنا، عماد حمدى، الأقدر على أداء هذا الدور، يطالعنا فى البنسيون.
جاء من القاهرة ليستقر فى الإسكندرية، مرفأ الأمان وملجأ المهزومين. انخرط
فى الأيام الخوالى فى حزب الوفد، حزب الأفندية، وتم الاستغناء عنه فى مجال
الصحافة لأنه من أصحاب الأساليب العتيقة، وشأنه شأن «أحمد عاكف»، لم يتزوج
ولم يخلف ذرية، وأمسى وحيدا، منسيا، يكتفى بدور المشاهد. يعلق على الأحداث
ولا يشارك فيها. وإذا كان بعض النقاد، أيامها، أخذوا على عماد حمدى،
والمخرج، أن صاحب ومؤدى هذه الشخصية «لم يكن له وجود يذكر فى الفيلم»(5).
و«دور عامر وجدى فى الفيلم يتقلص حتى يكاد يتلاشى تماما»(6). فإن الأمر،
بعد أربعة عقود، يبدو مختلفا، ذلك أن عامر وجدى، أصلا، من نماذج نجيب محفوظ
التى تعيش على الهامش، ضربها الوهن حتى النخاع، انسحبت من الحياة
بصراعاتها، بحلوها ومرها، وهذا ما جسده عماد حمدى الذى يبدو شبحا من الماضى.
أما «أنيس زكى»، أو عماد حمدى، فى «ثرثرة فوق النيل» لحسين كمال 1971،
فإنه ينتمى، أو زميل، لكل من «أحمد عاكف» و«عامر وجدى».. إنه موظف منسى،
مثل «أحمد عاكف»، وإذا كان بطل «خان الخليلى» يرى نفسه «عبقرية مضطهدة»،
فإن بطل «ثرثرة فوق النيل» «نصف مجنون نصف ميت»، حسب رؤية الصحفية سمارة
بهجت، التى تواصل: «يمكن أن تصفه بأى شىء أو لا تجد صفة على الإطلاق»..
وبينما يعزل عامر وجدى نفسه داخل البنسيون، ينعزل «أنيس زكى» داخل العوامة،
وإذا خرج، نستمع إلى مونولوج داخلى، بصوت عماد حمدى، يعلق على ما يراه فى
الشوارع، وما يخطر على باله. المنولوج، فى حد ذاته، يعنى أن مردده يعيش فى
وحدة، لا يجد من يحدثه أو يستمع له.
إنه لم يتزوج، كما الحال بالنسبة لبطلى «خان الخليلى» و«ميرامار»،
والفارق بينهما وبينه، أنه، على العكس منهما، وجد سلواه فى المخدرات. وها
هو، عماد حمدى، يخرج من صفحات نجيب محفوظ، ليسير فى الشوارع، فى حالة
هذيان.. إنه يوفق تماما، فى تجسيد إحدى الشخصيات المتكررة، المتباينة
الأبعاد، فى كتابات الروائى الكبير.
تجربة السينما المصرية مع الثلاثية مهمة وفريدة. مهمة لأنها تقدم
واحدة من أهم أعمال نجيب محفوظ، ومن القطع الأدبية الثمينة فى الثقافة
المصرية، فضلا عن كونها تغطى مساحة زمنية واسعة، تمتد من منتصف الحرب
العالمية الأولى، إلى أعقاب دوامة الحرب العالمية الثانية.. وفريدة لأنها
تعتمد، فى شخصياتها الأساسية، على ذات الممثلين: يحيى شاهين أو أحمد
عبدالجواد، فى الأجزاء الثلاثة، كذلك الحال بالنسبة لعبدالمنعم إبراهيم
الذى حظى بدور الابن الكبير ياسين.. أما نور الشريف، فكان من نصيبه كمال
عبدالجواد فى الجزءين الثانى والثالث، وآمال زايد، أمينة، الأم، فظهرت فى
الفيلمين الأولين.. الثلاثية، من إخراج حسن الإمام، وهى، على التوالى: «بين
القصرين» 1964، «قصر الشوق» 1967، «السكرية» 1973.
بعيدا عن التقييمات النقدية للثلاثية، ما بين الترحيب والرفض، يمكن
القول، بعد مراجعة كتابات المعلقين، أن ثمة إشادة بأداء يحيى شاهين،
واقتناعا عاما بقوة وعمق معايشته لشخصية أحمد عبدالجواد، فى المراحل
الثلاث..
مع عرض «بين القصرين» نقرأ: «.. يستهويك يحيى شاهين بصدقه غير المفتعل
فى لحظات صرامته وفى لحظات لهوه»(7). «.. يحيى شاهين أنقذ نفسه بعد عشر
سنوات من أفلام كان يؤدى فيها شخصيات لا تتفق معه، واسترد فى هذا الدور
التجاذب الواجب توافره مع الجمهور»(8).. وعلى هذا النحو، استمرت تقييمات
النقاد ليحيى شاهين فى «قصر الشوق» و«السكرية».
فى أكثر من مناسبة، قال يحيى شاهين إنه تعلم الكثير من فن التمثيل،
خلال اطلاعه على كتب الأدب، وروايات دستويفسكى على نحو خاص، ولأنه أعاد
قراءة الثلاثية عدة مرات، فإنه تشبع تماما بشخصية السيد أحمد عبدالجواد،
وأشار إلى أن نجيب محفوظ، رسم ذلك الأب الصارم، اللاهى، من الخارج رسما
دقيقا.. وفى ذات الوقت، توغل إلى أعماقه، وحلل عواطفه، وتابع برهافة، أثر
الخطوب والمحن فى نفسه، وبيّن بجلاء أثر الزمن عليه، فالرواية تبدأ وأحمد
عبدالجواد فى قمة شبابه، العنفوان والحيوية والثقة، وتنتهى به عجوز، طريح
الفراش، يحتاج لمن يؤنسه ومن يساعده.
بنيان يحيى شاهين الضخم، وصوته الجهير، المتعدد الألوان والطبقات،
وشاربه الأنيق، والملابس البلدية الأنيقة، الفاخرة، التى صممها صلاح مرعى،
كلها عناصر ساعدت الممثل على معايشة الشخصية. لكن الأهم، فهمه لنوازعها
الداخلية، وقدرته على تبين الجوانب الثابتة والمتغيرة فى شخصيته.. فى «بين
القصرين» يهتز جميع أفراد أسرته لمقدمه أو مغادرته أو لمجرد سماع صوته.
الوحيد الذى يحظى بنظرات تفيض بالمحبة منه هو «كمال»، الطفل، آخر العنقود..
وإذا ذهب السيد أحمد عبدالجواد إلى عوامة المجون، مع أصدقائه، فإنه، بأداء
يحيى شاهين، أحد ملوك الملذات، عيونه تنطلق بالفرح والمرح والشقاوة، يمسك
بالرق ويوغل فى البهجة.. إنه الإرداة والقوة تمشى على قدمين، يمسك بيديه
على زمام الأمور، أو هكذا يخيل له، فالواقع والأقدار، عند نجيب محفوظ
إجمالا، لا تعطى لأحد، أيا كان، سلطة مطلقة، فها هو يحيى شاهين، بأوامر من
جنود الاحتلال، يحمل عبوات التراب، لردم حفرة حفرها الثوار، ثم تأتى
الفجيعة حين يعلم باستشهاد ابنه فهمى ــ صلاح قابيل ــ فتميد الأرض تحت
قدميه. يحيى شاهين، بصدق الأداء الداخلى، يشعرنا بأنه يتداعى ويكاد، ببنائه
القوى، أن ينهار تماما.
برغم استرداد أحمد عبدالجواد قدرا كبيرا من عنفوانه، فإن شيئا ما قد
تغيّر. ربما سطوته على النساء الماجنات قد تضعضعت، خصوصا مع أجيال جديدة
منهن، لا يكتفين بدورهن كمطفئات للشهوة. إن رغبته اتجهت نحو زنوبة، صبية
إحدى خليعاته، ويجزل لها العطاء، لكنها ترفض الإذعان له إلا بشروط، منها
الزواج.. يحيى شاهين، فى «قصر الشوق»، تنتابه موجة عاتية من الغضب، يقمعه
بصعوبة، وإن بدا واضحا، فى عينيه، وحمولة الكدر فى صوته. إنه يحس بالهزيمة،
ومن بقايا أحمد عبدالجواد «بين القصرين» يستجمع شيئا من قوته وإرادته
وكرامته، ويغادر العوامة بلا عودة.. هكذا، يدرك يحيى شاهين الثابت والمتغير
عند أحمد عبدالجواد.
فى «السكرية» يجسد يحيى شاهين، المحطات الأخيرة لرحيل أحمد عبدالجواد.
وإذا تذكرنا نظرات الحنو التى كان ينظر بها لآخر أبنائه، فى «بين القصرين»،
ندرك ما حل به وهو ينظر، كطفل، يطمئن لوجود والده، كمال، الذى أصبح رجلا..
يحيى شاهين، كما فى الرواية، لا ينادى اسم ابنه مجردا، ولكن يضع أمامه كلمة
«أستاذ»، الأمر الذى يزعج الابن المستسلم لتبادل الأدوار.
الآن، أيا كانت الآراء متباينة فى الثلاثية على الشاشة، فإن الاتفاق
على اعتبار أداء يحيى شاهين لأحمد عبدالجواد إحدى قمم الأداء التمثيلى فى
السينما المصرية لا يختلف عليه أحد، حتى إن فناننا الكبير محمود مرسى، الذى
مثل هذه الشخصية، فى مسلسل «بين القصرين» تليفزيونيا، قال، بنزاهته
المعهودة «بدون تواضع أو غرور، أقول إنى خسرت هذه الجولة أمام يحيى شاهين
الذى يبدو كما لو أن نجيب محفوظ رسم هذه الشخصية خصيصا ليتواءم معها يحيى
شاهين. لقد كنت أبحث عن أحمد عبدالجواد، بينما أحمد عبدالجواد يبحث عن يحيى
شاهين.. لا أظن أن أحدا يمكنه أن يغدو أحمد عبدالجواد على نحو يفوق يحيى
شاهين لعدة أجيال قادمة»(9).
الشروق المصرية في
09/12/2011
فريد شوقى مع محفوظ فى (عالم الفتوات) يلبى
حاجـة عند جمهـور الشاشة الكبيرة
كمال رمزي
محمود مرسى، مثل شخصيتين من أبطال روايات نجيب محفوظ: عيسى الدباغ فى
«السمان والخريف» لحسام الدين مصطفى 1967، وعمر الحمزاوى فى «الشحات» لحسام
الدين مصطفى 1973. وثمة أواصر صلة بين الشخصيتين. كل منهما يقع بين قبضتى
اليأس والضياع، وهما من جيل واحد، انغمسا فى العمل السياسى النضالى إن شئت،
لفترة ليست قصيرة، فأولهما كان عضوا مهما فى حزب «كلا ثم كلا»، الذى ناصب
العداء للملك، ووقف موقفا مبدئيا ضد الاحتلال، وضد النظام، خصوصا حين يكون
خارج السلطة.. لكن الفساد لم يغب عن الحزب، ولا عن عيسى الدباغ نفسه، وتأتى
ثورة يوليو 1952 لتحل الحزب، مع الأحزاب الأخرى، ويجرى التحقيق مع عيسى
الذى يفاجأ بوضعه كرجل بلا حاضر ولا مستقبل، وإن كان عليه أن يعيش.. ومثل
الكثير من أبطال نجيب محفوظ المهزومين، يلجأ إلى الإسكندرية.. كذلك الحال،
على نحو ما، بالنسبة لعمر الحمزاوى، كان عضوا فى خلية تخطط لاغتيال رجل
سياسة أقرب للخونة، وعقب تشتيت الخلية والزج بصديقه «عثمان» ــ أحمد مظهر
ــ فى السجن، ينكفئ الشحاذ فى مكتب المحاماة الذى يملكه، لكن يدرك فى لحظة
تنوير أنه فقد حياة كان يتمناها، ويغدو نهبا للضيق والاكتئاب والرغبة فى
التحرر من قضبان أيامه. ومثل شبيهه «عيسى، يتجه للثغر السكندرى، ينغمس فى
علاقات جنسية لا تشفيه.«السمان والخريف» و«الشحات»، يخلوان من الأحداث
المحورية، ويتجهان إلى الوقائع الصغيرة، بهدف تلمس أبعاد أزمة بطلين،
ويهتمان بالدقائق النفسية أكثر من الحركة الخارجية، وهذا الاتجاه يتطلب
ممثلا مرهفا، متفهما، من طراز محمود مرسى، وبرغم المآخذ، وما أكثرها، التى
وجهت إلى حسام الدين مصطفى، فإن الجميع أشادوا بأداء الممثل، والواضح أن
محمود مرسى قرأ الروايتين قراءة معمقة، وسار فى أدائه على هدى توجيهات نجيب
محفوظ ــ إن صح التعبير ــ ولكن بأسلوبه الخاص، المعتمد على ثلاثة محاور:
تفهم الانفعالات المركبة تفهما كاملا. الصدق الداخلى، الاقتصاد فى الحركة
المادية، باليدين، والسيطرة على ملامح الوجه الذى يكشف باللفتة والشفاه
والعيون، عما يجيش فى صدر الشخصية، وعلاقتها بالمكان والبشر.
يكتب نجيب محفوظ: «ما أشد انطواء الإسكندرية على نفسها.. حتى لتبدو
مغلقة الأبواب فى وجه الغريب». الغريب هنا، عيسى الدباغ، أو محمود مرسى،
الجالس على رمال الشاطئ ليلا. صحيح، البحر أمامه، لكنه يجلس بإهمال وكأنه
حبيس زنزانة، ينظر لداخله أكثر مما ينظر إلى الأفق الممتد.. وفى صباح اليوم
التالى، يقع بصره على قدمى فتاة الليل التى باتت معه، فيجدهما متسختين،
فيفصح وجهه عن اشمئزاز منها، يمتزج بشعور بالهوان، بسبب ما آل له، سياسيا
وعاطفيا.
أحيانا، يبدو نجيب محفوظ كما لو أنه مخرج، يشرح لممثله دقائق الموقف،
ويوجهه إلى طريقة التعبير، فعندما يضيق بعيسى الدباغ ذرعا بفتاة الليل
«ريرى» ــ المتميزة نادية لطفى ــ التى تقيم معه، يعاملها بغلظة، فكيف يكون
رد فعلها؟. نجيب محفوظ يشرح ويوجه «عند الإساءة ينقبض وجهها فيلحظ خفية
الجهد الذى تبذله لشكم غضبها والتنفيس عن استعدادها العدوانى المكبوت
المكتسب من حياة الأرصفة بمعركة باطنية تفتضح آثارها فى خديها وشفتيها
وانقلاب سحنتها.. سارت «نادية لطفى» على هدى إرشادات نجيب محفوظ فحققت، عن
جدارة، نجاحا مرموقا.
أزمة «عيسى الدباغ» من خارجه، ترجع لقطار الثورة الذى داهمه وتركه
وحيدا، أما أزمة «عمر الحمزاوى» فتأتى من داخله، بسبب ذلك الفراغ الذى يحسه
برغم ازدحام حياته بأسرة وأصدقاء، لذا فإن محمود مرسى فى «السمان والخريف»
يغضب، ويجهش بالبكاء، بينما فى «الشحات» يزداد يأسا وتعاسة، ولعل التنوير
المنبعث من صفحات نجيب محفوظ هو الذى أضاء طريقة أداء محمود مرسى، وانتقاله
من تدهور أشد وطأة.. فإذا كان نجيب محفوظ يشير، فى البدايات إلى أن بطله
يعانى خمولا وضجرا فى عمله وأسرته، فإن الرواية تتابعه وهو يمضى فى ارتياد
الملاهى الليلة، متنقلا من امرأة لأخرى، ومع ذلك تزداد غربته عن العالم
يوما بعد يوم، وبالتالى ينسحب نفسيا ويغرق داخل ذاته، ويقترب شيئا فشيئا
إلى ما يشبه الهذيان والجنون.. محمود مرسى، يجعلنا نتابع، كيفية انسحاب رجل
من الحياة.
بعد عقدين من الزمان، عقب «بداية ونهاية»، ويعود فريد شوقى إلى نجيب
محفوظ، فى «الشيطان يعظ» 1981، بذات الجوهر ولكن بمظهر جديد، فالبلطجى أصبح
فتوة. لم يعد يحمى ويفرض سطوته على بعض نساء حارة الفساد، ولكن غدا مهيمنا
على منطقة كاملة. وهو، فى وضعه الجديد، يستخدم النبوت لتأديب من يخرج عن
طوعه، بعد أن كان يستخدم رأسه لينطح بها رأس خصمه، فيما يعرف بـ«الروسية»،
لذا أطلق عليه، فى «بداية ونهاية» اسم «حسن أبوالروس».
دخل نجيب محفوظ «عالم الفتوات» من بوابة السينما، حين شارك المخرج
نيازى مصطفى فى كتابة سيناريو «فتوات الحسينية» 1954. فيما قبل، لم يظهر
الفتوات فى روايات نجيب محفوظ، وفيما بعد بدأ تواجد الفتوات فى قصصه
القصيرة ليهيمنوا على أعمال كبيرة، مثل «أولاد حارتنا» و«الحرافيش».
فالواضح أن كاتبنا الكبير وجد إمكانات واسعة، للتعبير عن عشرات القضايا، من
خلال الفتوات، ومعانى أعمق مما جاء فى «فتوات الحسينية» الذى قام ببطولته
فريد شوقى أمام غريمه الدائم.. محمود المليجى.
فى حوار مع فريد شوقى قال: «.. عشت فى أحياء شعبية عندما كنت طفلا،
شاهدت الفتوات بملابسهم البلدية الأنيقة، ولمست مدى ثقة كل منهم بنفسه وكيف
ينازل خصمه ويتعارك حتى الرمق الأخير.. لا شك فى أن هذه المعايشة أمدتنى
بعشرات التفاصيل التى أبرزتها فى «فتوات الحسينية» و«الشيطان يعظ» و«فتوات
بولاق» على سبيل المثال لا الحصر.. وهنا، فى مجال الفتوات، لابد أن أشير
إلى ما أمدتنى به كتابات نجيب محفوظ فى هذا المجال، لا أظن أن كاتبا آخر
تبختر الفتوات فى رواياته وتقاتلوا واكتسبوا دلالات عميقة، كما هو الحال
عند نجيب محفوظ. إن كتاباته، بالنسبة لى كممثل، من أهم الينابيع التى
ارتشفت منها الكثير»(1).
أفلام الفتوات، إجمالا، تتضمن أحداثا وشخصيات تشد انتباه المشاهدين،
فهنا، تندلع الخصومات، وتتصاعد التناقضات، وتتوالى المواجهات، حاملة معها
معظم ألوان الصراعات، المعنوية والمادية، وثمة معركة تصفية الحساب الأخيرة،
الدامية غالبا.. لكن، لا يمكن تجاهل أن هذه الأفلام، تلبى حاجة عند
الجمهور، أشمل وأهم من مجرد كونها تنتمى إلى «سينما العنف»، أو «سينما
المغامرات»، ذلك أنها، فى بعد من أبعادها، تعبر عن حلم العدالة، فالفتوة
عادة، هو رمز الطغيان، سلطة القمع، قوة الظلم والظلام. وفى المقابل، أناس
يعملون وينتجون، يذهب عرقهم لحملة النبابيت، وكلما انهار فتوة، يحل مكانه
فتوة آخر، ينعش الآمال قليلا، لكن سرعان ما تصبح سلطته المطلقة، هى الفساد
المطلق، ويتحول إلى غول لا يرحم.
بعد فريد شوقى، توالى ظهور الفتوات، بأداء موفق من صلاح قابيل فى «شهد
الملكة» لحسام الدين مصطفى 1985، حيث يطالعنا بعين مفقوءة، بينما العين
الأخرى، تفيض بنوع صامت من الغدر.. ثم مجدى وهبة، فى «المطارد» لسمير سيف
1985، الذى لا يعرف الرحمة، والذى لا يتوقف عن فرض المزيد من الإتاوات..
وفى «التوت والنبوت» لنيازى مصطفى 1986، نشهد حمدى غيث، وهو يذل من يخرج عن
طاعته، فيجبر الأم أمينة رزق، على صفع ابنها عزت العلايلى، على مرأى من
أهالى الحارة. وهكذا، حسب وصف نجيب محفوظ للفتوات بأنهم «يتبخترون فوق
صدرونا»، بما فى ذلك محمود عبدالعزيز، الذى أعلن، وربما صادقا، فى «الجوع»
أنه لن يظلم أحدا، ولكن مع استمرار الحياة الناعمة، والسلطة، يصبح شرها،
شريرا، مستبدا.. إنها مجموعة من أفلام تعد احتجاجا متواليا من أجل العدل.
المساحة الزمنية التى تعرضت لها روايات نجيب محفوظ طويلة، ومنذ أكثر
من نصف قرن اتجهت السينما المصرية إلى تلك الأعمال، وتلقف كل جيل من أجيال
المخرجين المتعاقبة الروايات التى تتعرض لفترات عاشوها، أو كانوا قريبين
منها: صلاح أبوسيف اختار «القاهرة 30» و«بداية ونهاية» اللتين تدور
أحداثهما فى الأربعينيات. عاطف سالم فضل «خان الخليلى» التى تدور فى دوامة
الحرب العالمية الثانية. حسن الإمام حقق «الثلاثية» التى تمتد من سنوات ما
قبل ثورة 1919 إلى مشارف الخمسينيات.. أما الجيل التالى من المخرجين، فإنه
تعرض إلى ما يتوافق معه. حسام الدين مصطفى قدم «السمان والخريف» التى تتعرض
إلى ما جرى عقب ثورة 1952، وكانت «الحب تحت المطر» التى تعبر عن الندوب
الروحية التى أصابت أبطالها بسبب هزيمة 1967 من نصيب حسين كمال الذى قدم
أيضا «ثرثرة فوق النيل» التى ترصد أجواء الإلهاء والطمأنينة الكاذبة التى
أدت للنكسة.. ثم يأتى جيل لاحق، من مخرجيه على بدرخان، ليراجع، على نحو
نقدى، ممارسات مخالب السلطة ضد أبناء الثورة فى «الكرنك»، ويفضح قيم
الانفتاح المنحطة فى «أهل القمة». وتتوالى الأجيال لينظر عاطف الطيب، بغضب،
إلى واقع الثمانينيات خلال «الحب فوق هضبة الهرم» 1986.
وجد كل جيل ضالته فى منجم نجيب محفوظ، ليس بالنسبة للمخرجين فحسب، بل
للممثلين فى المحل الأول، وفى أكثر من لقاء، صرح نجيب محفوظ «بأن الممثل،
هو أفضل عنصر فى السينما المصرية»، ولنا أن نضيف: خصوصا فى الأفلام التى
تعتمد على رواياته، والتى جسدتها أجيال متعددة من الممثلين. الآباء
والأمهات، عبدالوارث عسر فى «خان الخليلى» وأمينة رزق فى «بداية ونهاية»،
والملاحظ أن الأمهات أوسع انتشارا من الآباء، باستثناء الحضور الطاغى ليحيى
شاهين فى الثلاثية، ربما لأن والد نجيب محفوظ رحل مبكرا.. طابور الأمهات
يضم آمال زايد فى «بين القصرين» و«قصر الشوق» و«خان الخليلى»، وعقيلة راتب
فى «السراب» لأنور الشناوى 1970، وتحية كاريوكا فى «الطريق» و«الكرنك».
وهذا على سبيل المثال لا الحصر.. أما الجيل التالى فإنه يشمل فيما يشمل
عماد حمدى، رشدى أباظة، فريد شوقى، عمر الشريف، شادية، سميرة أحمد.. ثم لحق
بهم حسن يوسف، صلاح قابيل، ماجدة الخطيب، سعاد حسنى، سهير رمزى.. وهكذا،
حتى نصل إلى أحمد زكى وآثار الحكيم فى «الحب فوق هضبة الهرم»، والفيلم من
واقعيات عاطف الطيب النضرة. كتب قصته نجيب على طريقة المعالجات السينمائية،
وتجدها فى العديد من رواياته المتوسطة الطول أو القصيرة، حيث عدم الالتزام
بالبناء الصارم، واللجوء إلى التقرير بدلا من التجسيد، والتعليق على
المواقف، والتعبير عن الفكرة بعبارات مباشرة، تأتى على لسان المؤلف أو من
خلال إحدى الشخصيات، وهذه الكتابات وإن كانت تزعج، أو على الأقل لا ترضى،
نقاد الأدب، إلا أن كتّاب السيناريو يتلقفونها كمادة بالغة الثراء، لصياغة
فيلم مكتمل، على الورق.
كاتب السيناريو، مصطفى محرم، ترجم بالصورة، عبارات نجيب محفوظ، ترجمة
موفقة، أزاد ألقها أحمد زكى وآثار الحكيم، بقيادة عاطف الطيب طبعا.. القصة
تروى من خلال البطل وتبدأ بالجمل التالية «أريد امرأة. أية امرأة.. إنها
صرخة مدوية. انبعثت أول ما انبعثت من جوانحى على هيئة هسمات من الذهول.
همسات من الأنين. همسات من الغضب».. هذه الحالة، يحولها الفيلم، قبل ظهور
العناوين، إلى لقطات لـ«على» أو «أحمد زكى»، يسير فى شوارع المدينة
المزدحمة بالناس والعربات، سيارة فخمة تقودها امرأة جميلة تقف بجانبه.
المرأة تدعوه بإيماءة فيلبى النداء فورا. المرأة تنطلق بعربتها إلى الخلاء.
تنقض عليه مقبلة حاضنة.. يسمع صوت والدته التى توقظه من النوم. وجه أحمد
زكى المتفصد عرقا يعبر عن الضيق وبقايا نشوة الحلم والإحباط. إنه أستاذ
الانفعالات المركبة.. الفيلم، كما القصة، يتلمس، بفهم، أزمة جيل
الثمانينيات، فى العمل والسكن والمستوى الاقتصادى والحياة.. وفى نوبة من
نوبات التحدى والجنون، يتفق الحبيبان «أحمد زكى» و«آثار الحكيم» على الزواج
سرا، من دون مشقة أو معرفة أسرتيهما. يذهبان إلى فندق، أو قل «لوكاندة»
متواضعة الحال، مريبة، للاختلاء ببعضهما بعضا.. وفى موقف تؤديه آثار الحكيم
ببراعة، تلسعها نظرات موظف الاستقبال، وتنتابها حالة من الرفض النفسى
للمكان، خصوصا حين ترى مشبوهات يسرن فى الطرقة مع طلاب متعة. تتجمد تماما
ولا يبقى أمام زوجها، أحمد زكى، إلا الاستجابة لنفورها الكامل. يخرجان معا،
وقد داهمهما ما يشبه الهزيمة التى تتجلى فى أقصى صورها، حين يُزَجُّ بهما
فى صندوق عربة شرطة، لارتكاباتهما فعلا فاضحا، فوق هضبة الهرم.. وها هما،
ينظران، بيأس وغضب وانكسار، من شبكة شباك عربة الشرطة، إلى شوارع المدينة
المزدحمة.
على خارطة شخصيات نجيب محفوظ، ستجد المرأة القوية، جالبة الضياع
والموت لكل من رغبها واقترب منها، مجسدة فى «نادية الجندى» حين قدمت
«زهيرة» فى «شهد الملكة» لحسام الدين مصطفى 1985.. كما سترى معنى الإجحاف
فى وجه «نبيلة عبيد» حين اغتصبها الفتوة الطاغية «عادل أدهم» فى «الشيطان
يعظ» أمام زوجها نور الشريف.
نور الشريف، صاحب الحظ الأوفر فى منجم نجيب محفوظ. دخل عالم الروائى
الكبير من بوابة «قصر الشوق» عندما أسند له حسن الإمام دور «كمال عبدالجواد»،
وهو أول دور له على شاشة السينما.. وبعد أحد عشر عاما، يمثل ذات الشخصية فى
«السكرية» لحسن الإمام، حيث أصبح كمال عبدالجواد فى خريف العمر، بعد أن
تلاشت آماله، وفشل حبه، ولم يتزوج أو يحقق نجاحا يذكر.. وللحظة، يخفق قلبه
بحب شابة صغيرة تشبه «عايدة»، حبيبة الأيام الخوالى، ويدرك أنها علاقة لا
يمكن أن تنمو أو تستمر.. وها هو يتأملها، أمام زجاج محل الملابس، فتتجلى فى
عينيه نظرة كابية، تحمل معانى احتضار الأمانى، وإدراك قسوة مرور الزمن،
ورثاء الذات.. إنه، فى هذه اللقطة، يختزل، ويعبر عن صحفات من الكتاب.
نور الشريف، من أكثر، وأفضل الممثلين الذى جسدوا المهزومين والخاسرين
عند نجيب محفوظ: إنه «كامل لاظ رؤوبة»، المتلاشى فى قوة شخصية والدته،
المنطوى على نفسه، الفاشل فى تعليمه وعمله وزواجه، بطل «السراب» لأنور
الشناوى.. وهو الذى سرق رواتب الموظفين من أجل حبيبته «معالى زايد»، كى
يقضى معها أياما جميلة على شاطئ بعيد، ويكتشف أنها مخادعة، خائنة، وتبدأ
رحلة جنونه حين يُقبض عليه... ويصل إلى مستوى رفيع من القدرة على الإقناع،
فى موقف اغتصاب زوجته، أمامه، فتنطق رقبته، وملامح وجهه، بعروقه النافرة،
وعيونه الجاحظة، بكل ما فى «الشيطان يعظ» من مقت للفتوات، وكراهية لظلم
الطغاة، ورغبة فى الثأر، وإحساس مر بالعجز... إنه أحد نجوم السينما المصرية
ــ وما أكثرهم ــ الذين لمعوا، فى سفينة نجيب محفوظ.
الشروق المصرية في
09/12/2011
الذهب الأسود
كمال رمزي
تهيأت نفسيا أن أرى عملا سينمائيا مبهرا، فالأخبار، والتنويهات، وبعض
المقالات، تشيد بالفيلم الذى تكلف 40 مليون يورو، وحشد له 300 حصان، و500
جمل، و10000 كومبارس، بالإضافة لإقامة 700 ديكور، ووزعت بطولته على نخبة من
نجوم كبار، على رأسهم أنطونيو باندرياس والجزائرى الأصل طاهر رحيم والهندية
فريدا بنتو والبريطانى مارك سترونج، وتم تصويره فى تونس والدوحة، وأسند
إخراجه للفرنسى جان جاك آنو، وشارك فى إنتاجه عدة دول فى مقدمتها.. قطر.
موضوع الفيلم، كما قيل، يدور حول ملابسات اكتشاف آبار النفط فى شبه
الجزيرة العربية، قبل الحرب العالمية الثانية.. وفعلا، يبدأ «الذهب الأسود»
بمندوبين من شركات أجنبية، يتحدثون مع رؤساء قبائل عن الخير الذى ستجنيه
المنطقة من اكتشاف واستخراج ذلك المعدن الثمين، ثم تنطلق نافورات السائل
الأسود السميك من سطح الصحراء. وسريعا، تختفى تماما مسألة «الشركات
الأجنبية» ليتابع الفيلم، بخمول، الصراع الذى لا يتوقف، بين قبيلتين
عربيتين افتراضيتين. واحدة اسمها «حبيقة»، يتزعمها رجل داهية، يؤدى دوره
بندرياس، والثانية اسمها «سلامة»، يقودها المتجمد فكريا، المعادى للتطور،
المسمى «عودة»، بأداء الأمريكى مارك سترونج.. وبعد حوارات طويلة، تبعث على
الملل، تستغرق ثلث الفيلم، تندلع المعارك الصحراوية، بين القبيلتين.
«الذهب الأسود»، يتجاهل صراع الدول الغربية، فيما بينها، للحصول على
حق التنقيب واستخراج النفط، ويتناسى قضية ملكية هذه الآبار، وعائداتها،
وينغمس، متعمدا، فى تصوير الحروب بين القبيلتين المتنافستين على «المنطقة
الصفراء» التى يوجد بها حقول النفط.. بعبارة أخرى، يجعل الصراع قبائليا، بل
شخصيا، فبينما يرفض أحدهما كل ما يأتى من الغرب، يرى الثانى أن النهضة
ستقترن بالاكتشافات البترولية التى ستنقل المنطقة من حال لحال.. وفيما يبدو
أن المخرج، وهو نفسه كاتب السيناريو، حاول، ونجح فى مسعاه، أن يضفى على
عمله نوعا من الجمالية المستوحاة من لوحات المستشرقين، فأخذ يصور الجبال
والصحراء الممتدة على طول الأفق والكثبان الرملية، فضلا عن مصادمات الخيول
ووقوع الجمال، ولم يفته الاهتمام بالصقور، يطلعها هذا، حاملة رسالة، إلى
ذاك.. وهذه المشاهد واللقطات، إجمالا، تبدو كمحاكاة مكررة، لأفلام من طراز
«لورانس العرب» لدافيد لين، مع الفارق الشاسع بين الأصل والتقليد.
ينسج الفيلم قصة حب بين أبناء الجيل الثانى، فبعيدا عن «جيل
الانتقام»، يأتى «جيل التفاهم»، الأمير المتفتح يخفق قلبه بحب الأميرة
«ليلى» ــ الممثلة الهندية السمراء ــ ابنة الزعيم المنافس، ويتزوجها،
وتؤول له السلطة، ويقدم وعدا بتحقيق المساواة والسلام، ويرسل بالرجل
الداهية، المعزول، ليفاوض الشركات فى شروط تقسيم عائدات النفط.
«الذهب الأسود»، فخر الإنتاج السينمائى المبكر لقطر، مع بلجيكا
وفرنسا، يأتى مشوشا، مرتبكا، مزدحما، ينخفض فيه الأداء التمثيلى المتعجل،
بما فى ذلك باندرياس، على نحو يوحى أن الكل اعتبر المسألة مجرد غنيمة، عليه
أن ينهل منها ويرحل.. إنه فيلم مخيب للآمال.
الشروق المصرية في
14/12/2011
هلا لوين
كمال رمزي
إنه يشبه لبنان، جميل ومتأنق، مزدهر بالألوان، شغوف بالحياة، يفيض
بالحيوية والنضارة، يختطف لحظات البهجة وسط الأحزان، لا يفقد روح الأمل
أبدا، يرنو إلى السلام وهو لا يزال مهددا بالحرب.. إننا بإزاء فيلم مشرق،
تختلط فيه الدموع بالضحكات، واقعى فى جوهره، فانتازى فى أسلوبه المتحرر من
تقاليد وشروط الأنواع التقليدية، فهنا، يمتزج الأداء التمثيلى الطبيعى
بالحركة الإيقاعية، وتنطلق الأغنيات، وتتحول حركة العمل إلى رقصات، وتكتسب
المواقف والصور أكثر من معنى. إنه اسلوب لا ينتمى إلا لمخرجته الموهوبة،
المتمكنة من فنها، العاشقة لبلدها، نادين لبكى.
«هلا لوين»، أو «إلى أين»، يبدأ بجنازة، وينتهى بجنازة. لكن، بين
القوسين، نرى، بعيون لبكى، ما يدور فى واحدة من القرى، تعبر عن لبنان كله،
بأمانيه ومخاوفه، بضيق أفق سكانه ورحابة قلوبهم.. فى المشهد الافتتاحى
تطالعنا نساء الضيعة فى مسيرتين، يتشحن بالملابس السوداء، يضربن على
صدورهن، فاليوم ذكرى وفاة أحد الشباب، المسيرتان تتجهان نحو مقابر متجاورة،
متقابلة، لمسلمين ومسيحيين. وبينما تصلى مجموعة عند هذه المدافن، تصلى
الأخرى عند الطرف القريب. هكذا، أرض واحدة تحتضن الجميع، سواء تحتها أو
فوقها.. وتنهى لبكى فيلمها، بطريقتها، حين يحمل الرجال جثمان شاب قضى نحبه
فى ظروف غامضة، تسير خلفهم كل نساء القرية، وتتوقف المسيرة أمام المقابر
المزدوجة، فالراحل، ابن الضيعة المحبوب، الذى اعتبره الجميع جزءا منهم،
وبالتالى تظهر على الشاشة كلمتا «هلا لوين».
كل ما فى الفيلم يدعم الإحساس بالألفة، فالمؤثرات الصوتية لصياح
الديوك وضوضاء لعب الصبية، والتنوع فى أشكال النساء، بما فى ذلك الرفيعة
والبدينة، واختلاف طبائع الرجال، وطريقة تصوير البيوت، ذات الطابع الحميمى،
كلها أمور تدعم الإحساس الدافئ بالناس والمكان والزمان.. القرية المعزولة
تبتهج بقدوم جهاز تلفاز لأول مرة، ولكن بينما تستمر الحياة بوتيرة واحدة،
تبدأ اسوأ ما فى داخل البشر: الغباء المدجج بالعنف، أو العنف المدجج
بالغباء إن شئت، فثمة من يهشّم تمثال السيدة مريم، وثمة من يوقع صبى أعرج
على الأرض. وتقترب الضيعة من ما يشبه الحرب.. ووسط هذا الاحتقان الطائفى
الزنيم، وبينما يعد رجال كل طرف العدة للقضاء على الآخر، تقوم النساء،
أمهات الحياة، بدور فعال فى إطفاء نيران الغضب الأهوج.. إنهن يرحبن بفرقة
الراقصات الأوكرانيات اللاتى يلهبن خيال الرجال. وطبعا، لا يفوتهن التقليل
من شأنهن، ومراقبتهن. ومن ناحية أخرى، يقررن التفنن فى إثارة أزواجهن..
وتعبر نادين لبكى عن هذا التوجه باستعراض بديع أثناء اشتراكهن فى عمل فطائر
لا تخلو من مواد مقوية، مصحوبة بأغنية «حشيشة قلبى» الطريفة، سواء على
مستوى الكلمات المحرضة على السعادة، أو اللحن النابض بالمرح.. نساء القرية،
يمتزجن مع بعضهن بعضا، وبشجاعة، مستمدة من جرأة نادين لبكى، تتظاهر
المسيحيات أنهن أصبحن مسلمات، والمسلمات أصبحن مسيحيات، وهذا الموقف الرمزى،
بخياله الإنسانى الشفاف يعنى أن «كلنا بشر» نعيش على أرض واحدة، ونموت
وندفن فى أرض واحدة.. إنه فيلم غنى بالمعانى، مثل لبنان.
الشروق المصرية في
17/12/2011 |