قد تنتشر «العدوى» على يد ستيفن سودربيرغ، بينما تتحول الحياة إلى
ثوان معدودة
ما أن تنفد حتى نموت في فيلم أندرو نيكول «في الوقت المحدد»، لكن يبقى
الأمل بكوكب
آخر طبق الأصل عن الأرض بحجرها وبشرها وارداً مع فيلم مايك كاهيل «أرض
أخرى».
ثلاثة أفلام من انتاجات هذا العام اندرجت تحت مسمى الخيال العلمي،
بما يعيد في الوقت نفسه التباس هذا التوصيف الذي تندرج تحته أفلام الرعب
ومصاصي
الدماء والكائنات الفضائية وغيرها ما يمزج الفنتازيا بالرعب،
وصولاً إلى خيال علمي
له أن يكون طوباوياً أيضاً لكن بعيداً من تقديم ما لا وجود له بل بتتبع
تعريف آخر
للطوباوية بوصفها تبنياً لما يبدو في الوقت الحالي مستحيل الإنجاز لكنه
يحمل
إمكانية تحققه في وقت لاحق.
سودربيرغ في فيلمه «عدوى» لا يطمح إلا أن يكون
الفيلم تجسيداً لعنوانه، إنه يتتبع حال البشرية إن أصيبت بمرض
فتَّاك مجهول النشأة
والهوية، والفيلم من أوله حتى آخره لن يكون مشغولاً إلا بالوصول إلى
الكيفية التي
ينتشر فيها مرض يتسبب بمقتل ملايين البشر. فهو يبدأ من اليوم الثاني ويترك
اليوم
الأول إلى آخر الفيلم، كون الأول سيقول لنا تماماً من أين جاء
هذا المرض الفتاك
الذي يصيب الخلايا الدماغية ويفضي إلى موت سريع. فنحن حيال امرأة اسمها بث
(غوينث
بالترو) ستكون أولى المصابات وذلك في هونغ كونغ حيث تنقله معها إلى أميركا،
وسرعان
ما تظهر علائم المرض عليها وتموت والدهشة وعدم التصديق ما يرافق زوجها ميتش
(مات
ديموند)، وليتبع ذلك وفاة ابنها أيضاً.
سيمضي الفيلم في تتبع لحالات عدة،
وعلى شيء من تقديم سيناريوات للكيفية التي سيتعامل بها العالم
مع جائحة كهذه، على
صعيد القرارات الحكومية وعمل منظمة الصحة العالمية في هذا الخصوص، ولا
يفصلنا
الكثير عن «انفلونزا الخنازير» و «الجمرة الخبيثة»، إنه فيلم يروي بواقعية
قصة
خيالية، ومدجج بالنجوم: كيت وينسلت وماريون كوتـــيار وجود لو
وآخرون، ما من «قياميـــة»
في مشاهد الفيلم، ولا شـــيء من أفلام مثل «عمى» فرناندو ميراليس الذي
تكفي إصابة البشر بالعمى الأبيض كما تخيله خوسيه ساراماغوا
لنكون حيال إعادة تكوين
للبشرية بصراعاتها البدائية.
خيال عاديّ
بالانتقال إلى فيلم «في
الوقت المحدد» لأندرو نيكول نجد أن الخيال الذي بني عليه
الفيلم تتقاسمه أفلام
كثيرة مثل «1984» لمايكل أندرسون وفيلم فرانسوا تريفو «فهرنايت 451» وصولاً
إلى
فيلم أقرب زمنياً إلى وقتنا الحالي وهو فيلم ألفونسو كوران «أطفال الرجال»
(2006)،
فإن كان أندرسون جسّد رواية أورويل الشهيرة ليقدم هجائية كبرى
للديكتاتوريات
والأنظمة الشــمولية فإن «في الوقت المحدد» سيكون هجائية للرأسمالية
المتوحشة، وإن
كانت الكتب هي التي تحرق بدرجة 451 فهرنايت لدى تريفو، فإن المال سيتحول
إلى وقت في
فيلم أندرو نيكول، وكل ما نحصل عليه سيكون لقاء أعمارنا، وفي
تتبع مقارنة «في الوقت
المحدد» مع «أطفال الرجال»، فإن الأخير يتخيل الحرب المقبلة في لندن بين
السكان
الأصليين والمهاجرين وإقامة مناطق عازلة خاصة بالمهاجرين، بينما تكون
المنطقة
العازلة في «في الوقت المحدد» من نصيب الفقراء الذين يملكون
زمناً قليلاً على هذه
الأرض.
في هذا الفيلم الأخير تتوقف أعمار البشر في الخامسة والعشرين من
العمر، نشاهد البشر وعلى أيديهم ساعات رقمية تكون ملتحمة بالبشرة، وكلما
ازدادت
الأرقام كلما كان أمام الإنسان متسع من الوقت ليعيشه، وعليه
فإن الفقراء هم من لا
يملكون كثيراً من الوقت، بينما يمتلك الأغنياء قروناً لا بل ملايين السنين
ليعيشوها، لدرجة يصبحون فيها خالدين.
سنتتبع في الفيلم ويل سالاس (جوستين
تمبرلانك) وقد وهبه رجل ثري وقته ومن ثم أقدم على الانتحار،
وعليه فإنه سيتمكن من
دخول منطقة الأغنياء، وفي الوقت نفسه ستبدأ ملاحقته من قبل حراس الوقت،
وهناك
سيقامر بوقته ويربح مزيداً منه، ومن ثم سيقوم باختطاف سليفيا (أماندا
سيفريد) ابنة
أحد الأثرياء الذي يملك بنوك الوقت، ويمتلك ملايين السنين، وعليه يتحول ويل
وسيلفيا
إلى مخلّصين للفقراء على طريقة روبن هوود، وكثيراً ما تتردد
عبارات
تصف سرقة البنك
بأنه أمر مشروع، كون ربح البنك قائم على مصّ دماء البشر، كما أن كل ما يقوم
به كل
من ويل وسيلفيا يتحول ليصير تجسيداً لمقولة برتولد بريخت الشهيرة «أين
جريمة سرقة
بنك من جريمة تأسيس بنك».
الفيلم في أحد ملامحه خارج من رحم «الماتريكس»
وافلام تارنتينو على صعيد بناء مواقع التصوير والسيارات والأزياء
والشخصيات،
والمستقبلية فيه تنتمي من حيث الشكل إلى سبعينات القرن الماضي.
لكن يبقى
الأمل في مكان آخر ونحن نتكلم عن «أرض أخرى» فيلم مايك كاهيل (جائزة لجنة
التحكيم
الخاصة في ساندانس 2011) حيث الفضاء لــيس مــصدراً للغزاة الذين لا يعرفون
رأفة
بالبشر، ولا مساحة لكواكب صالحة للحياة فقط، بل يتعدى ذلك إلى
إيجاد كوكب آخر صالح
لأن يكــــون مجــازاً لكل الأفـــكار المــيتــافــيزيــقة التي تهيمن على
البـــشر وتشــكيل إجابات عن آمال لها أن تتحـــقق في الفيلم كتعـــويض عن
المآسي
التي تحتاج بقوة لأرض أخرى.
بداية بدلاً من النهاية
فيلم «أرض أخرى»
يقف على النقيض من فيلم لارس فون ترير «ميلانخوليا» الذي يبشرنا بنهاية
الكرة
الأرضية عبر اصطدام كوكب آخر بها. يخبرنا فيلم كاهيل بتقطيع مونتاجي وسرد
بصري
مدهشين أن الأمل كل الأمل في كوكب آخر وذلك من خلال قصة رودا
(بريت مارلينغ)
وتسببها بحادث سيارة يقضي على حياة أم حامل وابنها بينما ينجو الأب. ستمضي
رودا
فترة عقوبتها في السجن، تخرج منه وعلى عاتقها شعور بالذنب لن
يخلصها منه عملها
كعاملة تنظيف في إحدى المدارس، ولا تواصلها مع الأب المفجوع بعائلته جون
(وليام
موبثير)، ومن ثم نشوء قصة حب بينهما، سرعان ما يتخلص منها جون حين يعرف من
تكون.
في هذه الأثناء تتوالى الأخبار عن «أرض أخرى» وحين تتمكن «ناسا» من
الاتصال بذلك الكوكب الذي يشبه الأرض تماماً. تكون النتيجة صاعقة،
فالبروفيسورة
التي تتولى أمر الاتصال سيجيبها على
الطرف الآخر صوت مطابق لصوتها، لا بل ستكون هي نفسها، الأمر
الذي يكون في بث مباشر
على التلفزيون، بمعنى أن الكوكب الآخر ليس شبيهاً بالأرض فقط، بل إن لكل
إنســان
على ســطح الأرض نســخة منه على ذلك الكوكب.
ستفوز رودا بجائزة أفضل مقال
يكتب عن «الأرض الأخرى» وبالتالي فإنها ستكون من بين من
سيتوجهون إلى ذلك الكوكب في
رحلة مخصصة لذلك. هنا ستحضر أمور كثيرة، سيكون الأمل وارداً بأن يلاقي جون
ابنه
وزوجته في ذلك الكوكب، وسيكون لرودا ما تفعله في هذا الخصوص حين تقدم على
منح جون
مكانها في تلك الرحلة.
في ما تقدم ملامح مما حمله فيلم «أرض أخرى» القادر
بامتياز على تحريض أسئلة كثيرة لن تغيب عنها الإجابات أيضاً وكل ذلك في
بناء
سينمائي محكم.
الحياة اللندنية في
09/12/2011
«فارس
النهر»...
مرثية سينمائية عن الفنان
جمال السجيني
القاهرة - محمد الروبي
جمال قاسم واحد من المخرجين المصريين الذين وهبوا أنفسهم لعالم
السينما
التسجيلية، ومن أفلامه العلامات «طبيعة حية» الذي دخل عبره إلى عالم الفن
التشكيلي
من بوابة خاصة كان مفتاحها سؤال حول «أين ذهب الموديل البشري في عالم الفن
التشكيلي؟»، ولماذا تآكل إلى حد الانقراض وبخاصة نوعه النسائي
الذي بدأ عارياً
واضطر إلى الاحتشام هروباً من هجمات ردة فكرية باغتت المجتمع المصري مع
منتصف
السبعينات ووصلت ذروتها إلى حد تحريم الفن ذاته.
ومن علاماته أيضاً فيلمه الرقيق المعنون باسم شخصيته الرئيسة «بثينة»،
فنانة
المسرح التلقائية التي استجابت لنداهة هذا الفن منذ كانت طفلة في أربعينات
القرن
الماضي، وظلت تعمل مع فرق الهواة الجوالة حتى وصل بها الأمر أن حوَّلت
بيتها الريفي
البسيط مسرحاً يرتاده جيرانها كل حين ليشاهدوا واحداً من إبداعاتها
المسرحية.
وها هو جمال قاسم يصيغ أخيراً علامة جديدة، يختار لها جمال السجينى
أحد رموز
الفن التشكيلي المصري، الذي فاجأ العالم في أحد صباحات صيف عام 1969
بإلقائه مجموعة
من منحوتاته في النيل! لم يكن السجيني مجنوناً حين قرر إلقاء منحوتاته في
النهر.
وكذلك لم يكن باحثاً عن شهرة حصل عليها بالفعل، لا في الأوساط المصرية
والعربية
فحسب، بل وفي الأوساط العالمية أيضاً. إذاً، لماذا قرر هذا العبقري أن يلقي
بعضاً
من روحه في النيل وسط دهشة المارة وصراخهم؟
كان هذا السؤال هو هاجس جمال قاسم حين شرع في صنع فيلمه «فارس
النهر... جمال
السجيني»، لكنه ببراعة فنان يؤمن بأن إثارة الأسئلة لا الإجابة عنها هي
الأجدر بعمل
الفنان، سينأى بنفسه عن ادعاء الحكمة وسيدعوك أنت – كمشاهد – لتكون شريكه
في محاولة
الإجابة.
من النيل يبدأ جمال قاسم حيث تتأمل الكاميرا شريان الحياة من زاوية
أقرب إلى بيت
السجيني، أو بالأحرى أقرب إلى الموقع الذي التهم منحوتات الفنان اليائس.
بمزج رقيق (سيكون أسلوباً طوال الفيلم) ننتقل إلى صورة
فوتوغرافية بمساحة الشاشة لجمال
السجيني واقفاً يتأمل النهر، وعلى جانب منها تتلاحق حروف تخط
خبراً مصاغاً بحيادية،
يقول: «في عام 1969وفي مشهد عبثي قام المثال المعروف جمال السجيني بإلقاء
تماثيله
في النيل». حيادية الخبر لا تنفي عنه الإدهاش وبل وتثير التساؤل المنطقي،
لماذا؟
وقبل أن تفيق من دهشتك سيطالعك المشهد التالي مباشرة للابن مجد
السجيني، يقف في
المكان نفسه في الزاوية نفسها، بل نكاد نقول بالملابس ذاتها (القميص الأبيض
والبنطال الأسود والنظارة السوداء) يتأمل هو الآخر النيل لكن بنظرة أكثر
حزناً
تؤكدها كلماته في مشهد تال مباشرة حيث يقول: «في يوم كهذا، وفي
المكان نفسه تقريباً
قال لي أبي... هيّا سنلقي تماثيل أبيك في النيل». تقديم جيد لشخص هو الأقرب
إلى
عوالم جمال السجيني ومبرر لوجوده طوال الوقت كدليل رحلتك داخل هذه العوالم.
دخول حذر
بعدسة أقرب إلى عين السمكة وعلى خلفية جملة موسيقية ابتدعها باقتدار
الفنان سامي
الحفناوي تقترب الكاميرا من الباب الذي فتحه الابن للتو، تدخل بحذر وتهيُّب
يزدادان
حين تطالع أعمال الفنان المكتظ بها المكان (تماثيل ولوحات ومطروقات وأوانٍ)
مصفوفة
في كل ركن وممر وعلى الأرفف والحوائط ودرجات السلّم الداخلي.
حركة الكاميرا تشيع في نفسك إحساساً بجلال المكان ومعروضاته، بل تكاد
تشعر
بحيرتها. أي من هذه الأعمال تختار لتقترب منها أكثر؟ واللحن الأساسي يزيدك
شجناً،
فيزداد سؤالك إلحاحاً: «كيف لفنان له كل هذا الإنتاج وكل هذا التنوع أن
تطاوعه نفسه
على إلقاء بعض من أبنائه في النيل؟ لكن جمال قاسم لن يهديك
الإجابة، ولن يدعك تهنأ
بالسبب قبل أن تتعرف أكثر إلى عوالم السجيني الفنية ومدى ارتباطها الوثيق
بحركة
مجتمعه.
تقترب الكاميرا ببطء من تمثال تختاره بعناية من بين أكوام المعروضات،
إنه سيد
درويش يتكئ على عوده المطرز بالورود والحمائم ووجهه ينضح بكثير من تأمل
وكأن
السجيني التقطه في لحظة اصطياده للحن جديد.
التمثال سيصحبنا بنفسه إلى الزمن الذي كان. فعبر غرافيك متقن يطير
التمثال
محلّقاً فوق صور فوتوغرافية ومشاهد فيلمية لأحداث ثورة 1919 تؤطرها جملة
لحنية هي
تنويعة على لحن عبدالوهاب الأشهر والملائم «خايف أقول اللي في قلبي».
ومن التاريخ يعود جمال قاسم مرة أخرى إلى الواقع... إلى بيت السجيني؛
لتختار
الكاميرا بعد جولة متأنية كعادتها تمثالاً آخر، إنه وجه الرائد توفيق
الحكيم الذي
سينقلنا إلى أجوائه كما نقلنا سيد درويش. لكن جمال قاسم يختار هذه المرة أن
تقف رأس
توفيق الحكيم النحاسية على خلفية مشهد مقتطع بعناية من فيلم
توفيق صالح «يوميات
نائب في الأرياف» المبني في الأصل عن رواية الحكيم. صوت بطل الفيلم من خارج
الكادر
يأتي وكأن الذي تنطقه هي تلك الرأس النحاسية، حيث تقول: «إن الأموال تنفق
بسخاء على
التافه من الأمور... أما إذا طلبت لإقامة العدل أو تحسين حال
الشعب، فإنها تصبح
عزيزة وشحيحة، ذلك أن العدل والشعب كلمات لم يزل معناها غامضاً عن العقول
في هذا
البلد... 22 تشرين الأول (أكتوبر) سنة 1935».
تمهيد لقرية اخرى
وكأن قاسم بهذا المشهد يمهد لقرية أخرى بدأت تتشكل بعقول أخرى كان
الشعب والعدل
يعنيان لها الكثير. إنها عقول ما بعد ثورة يوليو، وهنا سيصحبنا قاسم في
جولة متأملة
لمنحوتات السجيني الخاصة بالقرية المصرية بعد الثورة، بل إن لحن سامي
الحفناوي
سيتحرر من حزنه وسيصبح أكثر فرحاً، ليكتمل تفسير جمال قاسم
الذي يرى أن جمال
السجيني مثله كمثل سيد درويش، كان الأول مؤذن ثورة 19، وكان الأخير مؤرخ
ثورة يوليو
الذي سجل أحداثها في منحوتات لا يبليها الزمن.
وفى نقلة ذكية تؤكد ما يريد من معنى، سيعود قاسم إلى البيت (هو دوماً
يعود إليه)
لنشاهد الابن مجد يقف بإجلال في جوار تمثال ضخم للزعيم جمال عبدالناصر،
يمسحه بحنان
وهو يقول «ذكرياته جميلة هذا التمثال... أبي كان يحبه كثيراً... كان من
المفروض أن
يتوسط ميدان التحرير... التمثال فيه كل مقومات النحت». لن
تكتفي كاميرا جمال قاسم
بوصف السجيني الابن للتمثال، بل ستشرع في تأمله باقتراب وابتعاد يكشفان
التفاصيل...
جسد عبدالناصر الضخم ينبت كشجرة من وسط
فئات الشعب (فلاح... عامل... طالب...
جندي... امرأة... رجل...) وكل منهم يمد يده بوردة يهديها صدر الزعيم.
وكعادة جمال قاسم سيجعل التمثال يحلّق على خلفية زمنه الذي ولَّى، فها
هو يطير
فوق حشود الشعب المصري التي تتدفق لترى وتبايع وتفرح بابنها الذي حقق
كثيراً من
أحلامها. بل إن لحن سامي الحفناوي سينطق بالكلمات للمرة الأولى « بلادي...
بلادي...
لك حبي وفؤادي... الثورة أمنا... الثورة أمنا... يا مصر عامل يا بدر
كامل... يا مصر
جندي... يا مصر فلاح... حي على الفلاح... حي على الفلاح».
لكن وسط هذا الانتشاء يفاجئنا قاسم بإظلام الشاشة لثوان، نتابع بعدها
سقوط عملة
نحاسية تحمل وجه الزعيم فتخطف رنّاتها القلب... لقد مات ناصر إذاً.
الكاميرا تعود حزينة إلى بيت السجيني، دخولها أكثر توتراً، ولحن سامي
الحفناوي
يتخلى عن صحبتها ليتركها لمؤثر صوتي يزيد إحساسنا بالترقب المنذر بالخطر.
تقترب
الكاميرا أكثر من مطروقة نحاسية معلقة على صدر الحائط، إنها لفلاح مصري
يحاول
اجتثاث شجرة خبيثة تتزين بالأفاعي والثعابين ونجمة داود...
الكاميرا تركز أكثر على
قدم الفلاح لنرى عروقها النافرة، وجزءاً من جذع الشجرة مكسوراً، لعلها
منحوتة
السجيني لما بعد النكسة التي قتلت ناصر، فهو كغيره من أبناء جيله لم تكسره
الهزيمة
وراهن على نصر آمن أنه سيأتي.
على هذا المنوال سيستمر إيقاع فيلم جمال قاسم، يحدده توازن بين دخول
وخروج..
دخول إلى البيت وخروج إلى النيل... وما بينهما استعراض لمنحوتات وتماثيل
ومطروقات
تسجل لحظات انتصار مصر والمصريين وتزيد من غضبك على دولة (الردة) التي لا
تزال
تتعنت في تخصيص متحف خاص للسجيني.
قبيل نهاية فيلمه، واتساقاً مع الهدف الذي بات مكشوفاً الآن، سيفاجئنا
جمال قاسم
بسر عن كيفية موت السجيني، فها هو يخط على الشاشة خبراً (أصر على أن يصيغه
بحيادية
مشابهة لحيادية خبر البداية) يقول: «... في 22 تشرين الثاني (نوفمبر) 1977
توفي
جمال السجيني في إسبانيا جراء أزمة قلبية دهمته قبلها بيومين
عندما شاهد على شاشات
التلفزيون الرئيس السادات يزور القدس»!
الحياة اللندنية في
09/12/2011
سينما القارات الثلاث في نانت الفرنسية:
عنف وعنصرية وشباب تائه
نانت - ندى الأزهري
كيف تعبر سينما القارات الثلاث، آسيا أفريقيا اميركا اللاتينية عن هذا
العالم الذي يتغير من حولنا؟ لم يكن للتغيير الأكبر صدى في مهرجان القارات
الثلاث في نانت لهذا العام 22-29 تشرين الثاني (نوفمبر). غابت أفلام العالم
العربي تماماً واختفت ثوراته، لعل باريس قد احتكرتها، إذ لا يمر شهر فيها
دون تكريس أيام، أو أسابيع... للسينما «الثورية» العربية. أو لعل مهرجان
نانت أراد الاكتفاء من الثورات بمسبباتها، ففضل الابتعاد عن الحدث والآنية
لينصرف إلى التحليل. أو ربما انشغل المهرجان بثورته الخاصة التي تكاد تقضي
عليه هو الآخر مع غياب المؤسسين الأخوين جالادو اللذين أنزل حمل المهرجان
عن كاهلهما العام الفائت.
شاب أروقة المهرجان هدوء حذر. هذا المكان الذي كان يغص بنجوم سينما
العالم
الثالث الذين لا يكترثون بالبساط الأحمر بقدر ما يهتمون بلقاءات حميمة مع
جمهور
المدينة المخلص للتظاهرة، المكان الذي كانت صالاته تمتلئ بأناس يحبون
السينما
واشتهروا «بصبرهم» المدهش أمام أفلام تتمتع بإيقاع أقل ما يمكن
أن يقال أنه غير «مستعجل»،
إيقاع لم تعودهم عليه السينما المعاصرة، أناس فضوليون للاطلاع على الآخر،
ثقافته وعالمه من خلال أفلام تحتاج إلى وقت قبل الدخول في أجوائها والتفاعل
مع
شخصياتها، هذا المكان الذي طالما استقطب الصحافة المحلية
والعالمية ومديري
المهرجانات لدوره المرجعي في الاكتشاف، المكان الأقدم أوروبياً الذي اكتشف
كباراً
مثل( كيارستمي، فرهادي، إيليا سليمان...) وفتح أمامهم دور العرض الفرنسية
والأوربية، وكان له السبق في تكريس تظاهرات فريدة وندوات
لسينما العالم العربي( أول
من خصص ندوة للسينما الخليجية..)، هذا المكان بدا مقفراً بعض الشيء وهؤلاء
الناس
بدأوا بالغياب، فهل أضناهم الضجر؟ أم خشوا التغيير مع الإدارة الجديدة؟
من المبكر الجزم بنتائج هذه الثورة الصغيرة، فبعد حكم دام ثلاثين
عاماً ونيّفاً
من حكم الأخوين جالادو، يصعب تطبيق المثل «المكتوب يبان من عنوانه»، صحيح
أن
التغيير «محلي»، لكنه أتى في زمن تتصارع فيه المهرجانات مع أزمات اقتصادية
خانقة.
تعويض
ندرة النجوم وانحسار المد الجماهيري، عوّضه المستوى الفني للمسابقة
الرسمية التي
أكدت هوية المهرجان في اكتشاف المخرجين الشباب، وكذلك تنظيم التظاهرات
الموازية
ومنها التعريف بالمخرج الهندي ماني كول وببعض من روائع إنتاجات استوديو
نيككاتسو
الياباني لمناسبة مرور مئة عام على تأسيسه، كما باستعادة
لأعمال المخرج المكسيكي
الكبير آرتورو ريبستاين.
طغى العنف على أفلام المسابقة وكذلك معاناة الشباب في عالم معاصر تهزه
أزمات
اقتصادية ومسائل الهوية. الفيلم الفائز بالجائزة الأولى «ساوداد» للياباني
كاتسويا
توميتا ينذر بالكارثة الاجتماعية، فمن العصبية القومية لبعض الشباب
الياباني(حتى
بنات الهوى يجب أن يكن «صنع في اليابان»)، إلى أوهام الهوية
والديموقراطية والثروة
والقرف من البلد مروراً باضطرار الشباب للعمل المياوم في بلدة يابانية
صغيرة، يخضع
هؤلاء لضغوط حياتية تقودهم للتمرد عبر الموسيقى وبوسائل اقل «فنية»
كالانتقام من
المهاجرين القادمين من البرازيل والفيليبين.
الضحية باتت جلاداً في الفيلم الثاني للصيني كاي شانغ جون «ناس الجبال
وناس
البحار» الذي نال الجائزة الفضية. رحلة بحث في جنوب الصين عن قاتل في مجتمع
مقتول،
مفتت.. رجل يقرر الكشف عن قاتل شقيقه الشاب فيقع هو نفسه في هوة العنف
ليمارسه في
بلد حيث البؤس والرشى للشرطة وعمال مسحوقون في مناجم غير شرعية
وسرقات وقتل في
الظلمة وفي وضح النهار.
جائزة الجمهور ذهبت للفيلم الإسرائيلي» الشرطي»
لنداف لبيد في عمله الأول الذي
ينتقد عنف المجتمع الإسرائيلي وعنصريته، فيلم صادم عن مجموعة مكافحة
الإرهاب في
الشرطة الإسرائيلية في مواجهة شباب متمرد لجأ إلى العنف كوسيلة للخلاص.
إدانة مدهشة
من مخرج درس الفلسفة والتاريخ قبل أن يدرس السينما. وصور لا
تمحى لشخصيات محكمة
البناء ولأداء لافت للجميع.
ومن تايلند موضوع متفرد في
P-O47»»
الفيلم الثالث للمخرج كونغ جاتورانرسميي.
شابان يجربان، هرباً من الفراغ، الدخول في عالم الآخرين عبر اقتحام منازلهم
في
غيابهم، ليس للسرقة ولكن لعيش حياتهم، يدخلان في جلد الآخر، يرتديان ملابسه
ويستخدمان أغراضه، يعيشان حياته لساعات ثم ينصرفان. كأنهما
يسعيان إلى معرفة الجواب
عن السؤال «ما نحن وما الآخرون فينا؟».
شابات مملات
الشباب أيضاً ومعهم كل وسائلهم التكنولوجية وهمومهم وتمردهم في شريط
الصيني
التايواني هانغ غي شين «عسل بوبو». إنها فترة انتقالية بين القديم والجديد
في
تايوان حيث تمحى التقاليد بما يتماشى والمصلحة المادية. شبان يتواصلون عبر
شبكة
اجتماعية وتشغلهم مسائل اختفاء «برهان على وجودنا»، والفراغ «إذا أحسست
فراغاً في
الحياة فهذا يعني أن ثمة من تركه»، والتمرد « أهلي أرادوني
روبوت».
الأرجنتيني أيفان فن عمل في»اليوم لست خائفاً» على مقاطع للالتفاف على
السرد
المتسلسل. الشريط أثر من تجارب المخرج الشخصية فالسينما «طريقة لنكون
معاًَ» كما
قال، وكما ما لم يحصل للأسف! فلم ينجح في شدنا بسبب تقديمه اليومي في
تفاصيله
المملة لثلاث شابات في حركة كاميرا سريعة متعبة وغير مجدية.
ثمة فيلمان خرجا بموضوعهما عن الخط العام. الفيلم الفيليبيني « أسطورة
السمكة»
لأدولف بوريناغا. بين الحقيقة والأسطورة زوجان في منطقة عشوائية من ضواحي
مانيلا
يعمل أهلها في التنقيب في جبال القاذورات المحيطة بهم عن الورق
والبلاستيك لبيعها،
الزوجة تحمل بعد يأس وتنجب...سمكة! عالم بائــس مزر حيث لا سبيل سوى الحلم
المستـــحيل. أسلوب الإخراج بسيط مشوق في بداية الفيلم لكنه سرعان ما وقع
في
الكيتش، فلم يُجد المخرج رسم الحدود بين الواقع والأسطورة.
أما» هوية الســـيف» للصيني اكســـوها وفيــنغ فكان عملاً فنياً
رفيعاً عن فنون
القتال في الصين القرن الخامس عشر. استخدام حرفي للجسد ضمن حيز المكان،
وحوار غني
يعتمد العبارة القصيرة ذات المغزى العميق. من نوع «ما تقولينه له معنى،
ولكن الحرب
ليس لها»...
أفلام هندية
المخرج السريلانكي فيموكتهي جاياسندارا قدم فيلمه الثالث المتميز
«الفطر».
المخرج كان فاز في كان والبندقية عن أفلامه. يتأسف هنا أمام البناء الذي
يجرد كل
شيء أمامه «آسف لأجلكم يا أجدادي لا مكان لكم لتذهبوا»، عن حقول الرز التي
كانت هنا
والتي اختفت أمام أبراج «أقفاص» عملاقة، عن الهجرة وسلطة المال
في العالم وأناس
تعامل بأقل من لا شيء من خلال سرد ينطلق من الإحساس قبل الحدث ويتوغل
عميقاً في
التأثير الهدام للعالم المعاصر على نفسيات الفرد.
وخصص المهرجان عرضاً خاصاً لأفلام الهندي ماني كول الذي اختفى في
الصيف الماضي.
وهو مخرج مغاير بعيد عن التصنيف بفضل سينماه التي تعتمد التجريب. في «اللاقرار»
قصة
جني يقع في هوى فتاة رائعة الحسن فيتلبس جلد زوجها المسافر
ليعيش قربها. عن الغواية
والعشق في اختلاط للأسطورة بالحقيقة، أما في «نظر» فسلوك حيادي للشخصيات لا
انفعال
فيه مهما بلغ التوتر وحوار يتم، كالإلقاء الشعري وعلى نفس الوتيرة. في
أفلام كول
أجواء شديدة الشاعرية، وسرد يبتعد عن التسلسل المنطقي ومغزى
عميق: لا جواب مبسط على
غموض الحياة.
الحياة اللندنية في
09/12/2011 |