"إن السينما سياسة و كل ماهو خارج عن السياسة فهو بدون شك خارج عن
المعنى الحقيقي للسينما " هكذا قالها المخرج السينمائي التونسي الفيتوري
بلهيبة عندما التقيته في بيته أين يقيم في مدينة ستراسبورغ الفرنسية.
الفيتوري بلهيبة وجه سينمائي تونسي كبير يقيم بفرنسا منذ سنة 1973 ،
أستاذ جامعي سابقاً في جامعة ستراسبورغ ، صاحب قاعات سينما عديدة في
ثمانينات وتسعينات القرن الفارط (في باريس وليون ). أخرج وانتج العديد من
الأفلام التي بث أغلبها في العديد من القنوات الفرنسية والألمانية ،،،هذا
الوجه السينمائي الذي لم يأخذ حظه زمن النظام النوفمبري يجيبنا اليوم عن
عدة اسئلة تفادى الكثير من السينمائيين التونسيين الإجابة عنها. بكل جرأة
وبكل مع يحمله معنى الفن السينمائي من حرية. فكان لي معه الحوار التالي :
·
الفيتوري بلهيبة، لو حدثتنا عن
واقع السينما في تونس اليوم ؟
لو تمعنا جيداً في بدايات السينما التونسية ومنذ إنشاء الستباك بقمرت
لاحظنا أن هذه الفكرة كانت جيدة جداً من حيث تكوين وجوه سينمائية عديدة
وبفضل جهود المرحوم الطاهر شريعة الذي كان سبباً في النهوض بالفن
السينمائي. في الحقيقة كانت الإهتمامات الإجتماعية بالعديد من المواضيع على
قائمة مشاغل رجال السينما انذاك ، فتناول مسألة المرأة ، مسألة الهوية،
مسألة التحرر من الإستعمار ... إذن كان السينمائيين يأتون للسينما ليس فقط
لصناعة الأفلام بل للتعبير عن مشاكل إجتماعية بالتحديد . بعد تلك الفترة
خرجت السينما التونسية وبسرعة من ذلك النوع من الأفلام حول قضايا الإستعمار
وحرب التحرير ، على عكس السينما الجزائرية أو سينما إفريقيا السوداء التي
واصلت ولعدة عقود الحديث عن تلك المسائل ذات الصبغة التحررية والتاريخية.
بعد تلك الفترة لاحظنا أن السينما التونسية تقدمت كثيراً على مستوى معالجة
المواضيع الأكثر أهمية في فترة ما بعد الإستقلال إلى حد تفوقت فيه السينما
التونسية على السينما المصرية والجزائرية وأصبحت تستقطب الكثير في الأنظار
في الخارج. هذه الديناميكية أثرت وبدون شك على المسار الثقافي للبلاد بما
أن لها إرتباط كبير بالحالة السياسية التونسية، فكانت لسياسة الحبيب
بورقيبة أثر كبير على دعم الثقافة والفن في تلك العقود الأولى من الإستقلال
وهو ما اعطى نوعاً من الدفع المعنوي للنهوض بالسينما أكثر. إذن كل ذلك أعطى
للشعب التونسي مزيداً من التشجيع لتذوق ثقافة أكثر إنفتاحاً على الآخر ،
لكن بعد تلك الفترة سرعان ما أصبحت صناعة الفيلم في تونس تعاني نوعاً ما من
المشاكل أهمها الدعم السينمائي الذي يتطلب أموالاً طائلة وقاعات سينما
كثيرة ترتقي بهذا الفن نحو إنتاج أكثر صلابة للمنافسة الخارجية. صحيح أن
العديد من السينمائيين قاموا بإنتاج أفلام يمكن أن تحقق صدى عالمي لكن لضعف
الإمكانيات فإن تلك الأفلام بقي الكثير منها لم يتجاوز المستوى الوطني.
يمكن كذلك الإشادة بفكرة قام بها رجل الأعمال التونسي طارق بن عمار في تلك
الفترة (مع انني لم انتمي لذلك العالم ) حينما قام بإستقطاب العديد من
المنتجين الأجانب شرط أن يكون 70% من التقنيين تونسيين ، تلك الفكرة مكنت
العديد من التونسيين للعمل كمساعدين مخرجين وتقنيين ... مع العديد من
المخرجين العالميين الأوروبيين أو الأمريكيين ... هذه التجربة مكنتكم من
إكتساب خبرات جيدة تقنياً ... وهو في الحقيقة مكسب كبير بما أنها طريقة
جيدة في التكوين والرسكلة أنتجت العديد من الخبرات في مجال صناعة الصورة
والصوت ... وحتى نظرة جديدة للدفاع عن الأفكار ... بعد تلك الفترة وبقدوم
النظام النوفمبري تغيرت المعطيات فظهرت وجوه جديدة في الإنتاج كأحمد بهاء
الدين عطية الذي قام بمجهودات هامة جداً. لكن ما يمكن أن أشيرإليه هنا هو
انني ضد ظهور ما يسمى بالإثارة أو اديولوجيا السينما فبالنسبة لتلك الأعمال
المثيرة (provocatrice)
لا ترتقي أن تكون سوى أعمال مناسبتية دورية لأغراض شخصية قصد كسب الرزق
والشهرة لا غير. فمنذ 4 أو 5 سنوات مثلاً ينتابني نوع من الإحساس أن هذا
الفن أصبح أكثر تهميشاً وركوداً من ذي قبل فلجنة الدعم السينمائي أصبحت كل
سنتين وأحياناً أكثر ليظل السينمائيين ينتظرون نتائج معلومة ومنقاة حسب
العلاقات مع أعضاء لجنة الدعم وحسب التحزب والإنتماء للحزب المنحل وهو ما
انتج نوعاً من الفساد والإحتكار في هذا المجال
تلك الفكرة دفعت بالكثير من السينمائيين للبحث عند دعم خارجي. كل ذلك
كان أمر لا يمت للثقافة بشيء بما أن من شروط خصال السينمائي هو أن يكون
مستقلاً إستقلالاً تاماً عن الأحزاب السياسية ، و أن لا ينتمي لأي حزب.
يمكن أن أعجب بأفكار حزب معين أو احزاب أخرى اليوم لكن ذلك يبقى في إطار
استقلاليتي التامة كي أحافظ دائماً على الجانب النقدي كمخرج وكمثقف حر وإلا
فإن غياب تلك الاستقلالية ستقود حتماً إلى نوع من أنواع التوجيه المقنن وهو
ما يسبب أولى أنواع التهميش للسينمائي وللسينما ، هذه الفكرة دفعت اليوم
البعض من السينمائيين بعد إندلاع الثورة إلى الجري بسرعة للحصول على مكانة
تمكنهم من صعود سلم الشهرة في حين أن الأهم من ذلك هو البحث عن وسائل أكثر
جدوى للتخلص من عقود من القمع والإستبداد الثقافي والفني من خلال إبتكار
طرق معالجة جديدة لتجاوز أزمة الدعم السينمائي بإعتماد مقاييس جديدة ذات
مصداقية لإنتقاء أجود الأفلام وأحسنها سيناريو ...
·
ماذا تمثل الثورة التونسية
بالنسبة لك كرجل سينما ؟
الثورة التونسية هي ثورة فكر وثقافة أيضاً، قام بها شبان لهم مستويات
عالية من الثقافة والتعلم ... لهم نظرة تحررية للأشياء ويؤمنون بالمعنى
الحقيقي للحرية والديمقراطية التي حرموا منها مدى حياتهم . فالشعب التونسي
أبهر العالم بهذا السلوك الحضاري الراقي في طريقة إنتخاب مرشحيه بطريقة
ديمقراطية. فمسألة أن يفوز هذا الحزب أو ذاك ليست مشكلة مادام الشعب هو
الذي إختار من يمثله. فحسب رأيي فإن فوز حزب النهضة بأكثر المقاعد لا يشكل
لي أي إحراج أو قلق قد يمس بالفن أو بالثقافة مادام ذالك الحزب فاز عن طريق
إنتخابات ديمقراطية ومادامت له برامج لا تهدد حرية الإبداع الفكري
والسينمائي. لكن في المقابل يبقى ذلك رهينة ما سيحققه من تلك الوعود ،
فالحكم على هذا الحزب يجب أن لا يكون متسرعاً أو مسبقاً ، فالسينمائي يجب
أن يواصل نضاله وإبداعه دفاعاً عن أفكاره دون تحزب .
·
ماهي المشاكل التي يعانيها
السينمائيون في تونس اليوم ؟ مع العلم أننا لاحظنا ومنذ 10 أشهر ركود في
مجال الإنتاج ، هل أن السينمائيين مازال ينتابهم نوع من الخوف كالرقابة
الذاتية التي لازمت الكثير منهم زمن الحكم النوفمبري ، هل أن هذا الإنتظار
مرتبط إرتباطاً واثقاً بحالة البلاد سياسياً ؟ ولماذا كل هذا الصمت خاصةً و
أن الحديث عن أيام قرطاج السنمائية يكاد يكون غائباً كلياً هذه السنة ؟
لا بد من الإشارة هنا إلى أن هذا النوع من التظاهرات يتطلب وقت للتوقع
، يعني ماهي المواضيع التي يجب طرحها سينمائياً، ماهي المشاغل الأكثر
إستحقاقاً من غيرها . هناك من قفز مباشرةً لإستغلال الثورة قصد إنتاج أفلام
وثائقية بما أن هناك كم هائل من الصور والشهادات ... في المقابل هناك من
توخى طريقاً مغايراً مثل طريق الدين لكسب الشهرة بطرق اخرى . فحسب رأيي وجب
الإقتراب أكثر من المجتمع لفهم مشاغله وتطلعاته ، يجب أن يكون الموضوع
المطروح طازجاً للدرس كي نتجنب الأفلام الماقبلية التي تسعى للظهور فقط لا
للدفاع عن فكرة معينة . بالنسبة لهذا الصمت السينمائي فهذا طبيعي جداً
ومعقول بما أن مسألة الدعم السينمائي متعطلة كلياً الآن فلا توجد أموال
لصناعة أفلام ، فحالة السينما مرتبطة كلياً بالوضع السياسي والإقتصادي
للبلاد . فالسينما حسب رأيي هي وليدة أوضاع سياسية معينة ، فلا يمكن أن نجد
ولو فيلماً واحداً غير سياسي ، ولذلك أرى أن السينمائيين التونسيين اليوم
في فترة ضياع أو تيه وقتي بما أن كل ما هو سينمائي هو سياسي بإمتياز حيث أن
كل فيلم هو في الحقيقة مع أو ضد سياسة معينة.
·
هل أن ذلك يعود للرقابة
السينمائية ؟
لا ، هذا مرتبط بنا نحن لأننا لم نجد إلى حد الآن الطريقة المناسبة
للدفاع المضاد ولذلك وبما أن الساحة السياسية لم تكتمل بعد فالمسائل
الثقافية والسينمائية تبقى هي الأخرى في الإنتظار ، لكن أنا متفائل كثيراً
وأعتقد أن الأمور ستسير على النحو الإيجابي حتى ولو تطلب الأمر إنتظاراً
أكثر .
·
نعود إلى مسألة الرقابة
السنمائية ، ما هو التعريف الذي يمكن أن تعطيه لهذا المفهوم ، بعد وقبل
الثورة ؟
قبل الثورة كان لدينا نوعان من الرقابة : هناك الرقابة المسلطة على
السينمائي من قبل المؤسسة أو الدولة وهي التي يستحال معها كلياً تصوير
أفلام قد تمس بهيكل الحكم ... حتى وإن كان الأمر متعلقاً بكوميديا لنقد
الطبقة البرجوازية في تونس مثلما تقوم به عديد من السينماءات في العالم، أي
أن السياسة كانت خطاً أحمر بالنسبة للسينما التونسية قبل الثورة ، لكن
بالرغم من تلك الرقابة يجب الإشادة صراحةً بعدة أعمال تعبر حقيقة عن شجاعة
مخرجيها ، مثل فيلم "آخر فيلم" للنوري بوزيد الذي قدم فيه صورة قاتمة لرجل
الأمن أو البوليس في تونس ، فتصوير فيلم كهذا زمن حكم بن علي يعد شجاعة
كبيرة من طرف النوري بوزيد ، إذن في هذا الفيلم لا يجب تسليط الضوء فقط على
مسألة الإسلامين فذلك يعد بمثابة المنعرج لمعالجة مواضيع اخرى.
بالنسبة للنوع الثاني من الرقابة هو ما يسمى بالرقابة الذاتية وهي
الأكثر خطورة من الأولى لأنه في الوقت الذي يكتب فيه المخرج السينمائي
السيناريو هناك مواضيع وأفكار تأتي على مخيلته بالقوة و بحرية التخيل فهو
يريد كتابتها في السيناريو لتجسيدها في الفيلم لكن عامل الخوف الذاتي يفرض
عليه تجاوزها أو محوها من أفكاره كلياً وهو أمر خطير جداً . خصوصاً
المواضيع التي تتعلق بالحياة السياسة ... فتجاوزها تحت ضغط الرقابة الذاتية
هو في الحقيقة أمر خطير يؤدي إلى قمع ذاتي أكثر خطورة من أنواع القمع
السياسي المعروفة ، فهو يقتل الإستقلالية في الفكر عند رجل السينما وربما
في الفن ككل.
·
هل يمكن أن نقول أن هذه الرقابة
الذاتية يمكن أن تكون رقابة إيجابية في خدمة المجتمع التونسي الذي يرفض
مواضيع مثل الجنس ؟ و في المقابل هل يمكن الحديث هنا عن نوع من أنواع
النفاق الإجتماعي ؟
نعم هناك أيضاً هذا النوع من النفاق الإجتماعي الذي يجب الإشارة إليه
، فالمجتمع التونسي في غالبيته مطلع على الأنترنات وهناك الكثير من رواد
هذه الشبكة الذين يحبذون كثيراً مشاهدة أفلام العراء والجنس ... لكن عندما
يتعلق الأمر بمعالجة تلك المواضيع في السينما تصبح الصورة عكسية لدى
المشاهد التونسي الذي يرفض رؤية صورته أمامة ( وإن كنت ضد بعض الطرق في
تجسيد هذا النوع من المواضيع). كذالك فإن الذاكرة الجماعية للشعب التونسي
تحتفظ بالكثير من الطرائف والنكت في مجال الحياة الجنسية ، والتي تحكى
كثيراً في حياتنا اليومية. لكن في المقابل و حسب رأيي لمعالجة هذا الموضوع
لسنا بحاجة للكشف المباشر عن جسد المرأة بطريقة ربما تحرج العديد ، هناك
طرق عديدة لإيصال تلك الأفكار مثل تصوير الحلي مثل تصوير شفاه المرأة ،
تصوير عين المرأة ... فما يشاهده التونسي اليوم على صفحات الأنترنات من
أفلام جنس هو في الحقيقة ينتمي إلى ثقافات أخرى يعني ذلك اننا بصدد الصراع
مع ثقافتنا الجنسية على حساب ثقافات أجنبية أخرى وتبجيل ثقافات خارجية على
ثقافتنا الجنسية. فثقافتنا الجنسية مثلاً يمكن أن نجسدها في العديد من
الصور الأخرى ، فالعراء يمكن أن يأخذ صور أخرى غير الذي نراه في السينماءات
الأوروبية مثلاً ، فالشعر العربي مثلاً فيه صور رائعة مجازياً لتجسيد جمال
المرأة ... فلماذا لا تكون السينما التونسية كذلك ، لماذا يتقبل التونسي
تلك الصور في الشعر ولا يتقبلها في السينما- إن كانت مقدمة بطريقة لا تخدش
الحياء - هذا ما يمكن أن نسميه "نفاق إجتماعي " سوى من قبل الدولة أو من
قبل المجتمع . يجب أن يكون للسينمائي دائماً نظرة نقدية للأشياء ، يجب أن
يكون للسينمائي دور المحرك في تغيير العقليات حسب تغير العصر والظروف
البئيةو الحضارية لا تكريس ثقافات أجنبية على حساب ثقافتنا .
·
ما رأيكم في مسألة الدعم
السينمائي قبل وبعد الثورة ؟
بالنسبة للثقافة كانت هناك بادرة من بورقيبة قد يجهلها الكثير من
التونسيين وهي أن يؤخذ ما قدره 100 مليم على كل قارورة خمر تباع كي تخصص
لخزينة الثقافة ، ففي السبعينات مثلاً كانت ميزانية الثقافة هامة على عكس
العهد النوفمبري. لكن عندما اتحدث عن رأيي الشخصي فيمكن أن اقترح حلولاً
كفيلة طالما تمنيت تحققها صراحةً. هذه الفكرة تنص على أن يؤخذ على كل سائح
قادم إلى تونس مبلغ رمزي قدره نصف أورو واحد ليخصص للثقافة ، ونتصور أن
تكون البادرة والمداخيل كبيرة وحتى السائح عندما يكون على علم بذلك فهو
سيبارك ويشجع هذا المشروع أيضاً
بهذه الفكرة أنا واثق أن الثقافة والسينما التونسية ستتمكن من القيام
بأعمال ستلقى صدى عالمي ودولي. إذن 50 سنتيم لا تعني شيء بالنسبة لسائح
قادم لبلادنا ، لأنني لا أظن أن هناك سائح واحد سيرفض هذه اللفتة الثقافية
، في المقابل فإن السينمائي عندما يعرض فيلم في فرنسا وبلجيكا ... فهو بذلك
يقوم بإشهار لتونس و للمناطق الجميلة صحراوية أو جبلية أو بحرية كانت ...
إذن هناك مبادلة بين وزارة الثقافة ووزارة السياحة ونخرج بذلك عن فكرة
الإعانة أو السلفة ... وأنا متأكد أن ميزانية الثقافة ستكون أكثر بكثير من
الميزانية الحالية . أنا اقترحت هذه الفكرة لأن ميزانية الدولة في الوقت
الحالي غير كافية وهناك ضروريات أخرى أهم من السينما، هناك مشكلة التشغيل،
ضرورة توفير العيش الكريم للمواطنين ...وبذلك من العيب أن ندافع نحن
السينمائين ونطالب بأموال ضخمة لإنتاج الأفلام في وقت يحتاج فيه الشعب
التونسي إلى شغل ومسكن وأكل...كذلك يجب على التلفزة أن تلعب دورها مثلما هو
الشأن في أوروبا ، يعني أن تأخذ قسماً من إنتاج هذه الأفلام عبر لجان دعم
في صلب وزارة الثقافة الذين ينتقون مجموعة من الأعمال التي يقع اقتراحها في
التلفزات وليست الدولة هي التي تقرر ذلك بل يجب أن يكون هناك ممثلين عن كل
قناة تلفزية في صلب تلك اللجان الثقافية. وهكذا تكون هذه الفكرة تونسية
100% ونصبح نحن كتونسين قد ابدعنا في إنشاء مشروعات جديدة للنهوض بالسينما
دون الحاجة للدعم الأجنبي ...
·
المركز الوطني للسينما والصورة ،
أهو لإستقلالية السينما عن سلطة الدولة ؟ أضن انكم طالبتم بذلك منذ سنوات،
فماذا تنتظرون من هذا المولود الجديد ؟
نعم هذا مطلب قديم وهو فكرة رائعة ، لكن ذلك يقتصر على كيفية إدارة
وتسيير هذا المركز ، ولما لا نطالب بمراكز فنية أخرى للموسيقى والمسرح ...
نفس الشيء كما ذكرنا سابقاً فإن هذا المركز يمكن أن يسلك نفس السياسة في
بناء ودعم ميزانية كتخصيص نسبة من ثمن كل تذكرة يقع بيعها لدعم موارد هذا
المركز ، ففكرة إنشاء هذا المركز شيء جميل لكن السؤال ماهي برامجه ، كيف
سيسير ، ماهي الإضافات التي سيأتي بها للسينما ، كيف سنتجاوز مسائل كالرشوة
والرقابة والفساد المالي ... هل سيكون إختيار أعضاءه بواسطة صناديق
الإنتخاب ؟
يجب أن يكون إختيار أعضاء هذا المركز من طرف المثقفين والسينمائيين لا
مسقطاً من فوق أو مقترح من طرف الدولة. ففي صورة ما فشل هذا المركز في أداء
مهامه فإن الوزارة بريئة من ذلك لأنها تركت كل المسؤوليات للسينمائيين.
·
السينمائين الشبان في تونس
اليوم، هل يحملون سينما جديدة، أم العكس ؟
أظن أن التاريخ يعلمنا أن الظروف والعقليات وفكر الشعوب قد تغير وأن
الشباب اليوم له طاقات كبيرة وهو أكثر ثقافة ومواكبة لمتطلبات العصر من
الجيل الذي سبقه ولذلك أنا أرى أن هؤلاء الشبان الذين يحملون أفكار ومشاريع
جديدة لإنجاز أعمال سينمائية إبداعية يجب دعمهم وإعانتهم وتوفير ظروف عمل
ملائمةلهم سوى في التكوين أو الجانب التقني أو كتابة السيناريو ... أما
القدماء في هذا الميدان فلا بد أن يساعدوا هؤلاء الشبان من خلال معرفتهم
بسوق صناعة السينما داخلياً وخارجياً وإفادة هذا الجيل بخبراتهم السابقة في
التصوير وكتابة السيناريو ...
ولذلك أظن أن هذا الجيل من السينمائين قد يحمل سينما جديدة أكثر
تطوراً من سابقيه من السنيماءات بأكثر حرية وأكثر دفاعاً عن الفن والثقافة
وأكثر تصدياً لكل الأديولوجيات. أما القدماء في هذا الميدان فيجب أن يتخلص
الكثير منهم من بعض العادات المرتبطة بالرقابة الذاتية ... ومن الصعب
التخلص منها بسهولة ، ولذلك يجب أن يتركوا المجال للسينمائيين الشبان
ويساعدونهم ويؤطرونهم... كي نحقق سينما حرة غير مقيدة وتعود بالربح على
الشعب التونسي مادياً ومعنوياً ، يجب أن تكون سينما ذكية .
·
التدخل الأجنبي في السينما
التونسية ؟ ماهي نظرتك لمسألة عرض الفيلم الإيراني برسيبوليس ، كمخرج
وكمواطن في نفس الوقت ؟ وما رأيك في ردة فعل التونسيين في نفس الوقت ؟
بالنسبة لفيلم برسيبوليس ، حسب رأيي ، أن يتحدث مخرج سينمائي عن أشياء
تتعلق بالثورة الإيرانية في فيلم فهذا عمل شجاع ، لكن تتغير الأشياء عندما
يكون الأمر متعلق بدبلجة هذا الفيلم إلى اللهجة العامية التونسية . فحسب
رأيي لكل إنسان الحق في التعبير عن رأيه كما يريد لكن أن لا يفرض رأيه على
الآخرين ويريد تكريس سينمائه على الآخرين وبطريقة تعسفية . صحيح أن هناك
أشياء صحيحة في هذا الفيلم وقعت في عهد آية الله الخميني فيما يتعلق
بالسياسة أو مسألة المرأة ... لكن أن يصل الأمر إلى تجسيد الذات الإلاهية
وبلهجة عامية مبتذلة وعلى قناة تلفزية تونسية فهذا أمر غير مقبول وغير مبرر
بالنسبة لشعب مسلم وهذا حسب رأيي اعتبره خطأ كبير . صحيح في أوروبا قاموا
بتجسيد السيد المسيح ... لكن نحن لسنا مثل الأوروبيين تاريخياً ، لسنا في
تلك المراحل التي عاشتها أوروبا دينياً ، كذلك يجب أن نطلق العنان لجانب
منسي كلياً اليوم وهو الإجتهاد في الإسلام كي تكون المعاملة مع هذا النوع
من السينماءات أكثر ذكاءً ، فتجسيد الذات الإلاهية ربما كان يكون أقل حدة
صوتياً من مشهدياً ، فهذا التجسيد المشهدي كان متسييساً ، غابت فيه الحنكة
والخيال السينمائي الذكي. يجب أن يؤكل الثمار طازجاً لا مراً ولذلك أرى أن
طرح مسائل كهذه في السينما على شعب مازال يعيش ثورة هو خطأ كبير ، فعرض
الفيلم كان مفاجئاً وفي غير محله . يجب تعليم حدود الديمقراطية والحرية قبل
كل شيء وإعطاء الوقت للشعب التونسي ثم بعد ذلك نمر إلى مواضيع مثل هذه،
يعني يجب أن لا تساهم السينما في صناعة التطرف عوض مقاومته وهذا حسب رأيي
خطء تكتيكي ، فالصورة دائماً أقوى من الكلمة ، فحسب رأيي الشخصي لا يجب
إعطاء هذا الفيلم كل هذه الهالة التي لا يستحقها ، فالحديث عنه بهذه
الطريقة هو شكل من أشكال الإشهار لصالحه. كذالك هناك نوع من التناقض لأن
الملحد لا يؤمن بالله فكيف يجسده بالصورة مادام الإله غير موجود بالنسبة له
وهذا حسب رأيي إبتزاز واضح وهنا نكتشف حقيقة النية الخبيثة في بث هذا
الفيلم.
بالنسبة للتدخل الأجنبي في السينما التونسية في الحقيقة لا يمكن أن
نتحدث عن تدخل أجنبي واضح، ففيلم بيرسيبوليس وقع إختياره في مهرجان كان من
طرف مجموعة من الأفراد الذين يشكلون لجنة تحكيم بمعزل عن شعب كامل . إذن
هذه المجموع لا تمثل كل الفرنسيين ولا يجب الحديث عن تدخل أجنبي هنا . ربما
يكون التدخل من حيث الدعم السينمائي أو من حيث التأثير الثقافي المستورد
بطريقة غير مباشرة كما ذكرت ذلك في إطار حديثنا عن توريد الثقافة الجنسية.
·
لماذا لم يفهم التونسي اليوم
سينمائييه؟
في الحقيقة هذه العلاقة هي مسألة ذوق لا غير وهي مسألة معقدة جداً .
يعني أن كلما اقتربت السينما من الجمهور إلا ويغير هذا الأخير من نظرته لها
ويصبح أكثر حذراً منها ، وهي في الحقيقة أمور عائدة إلى ثقافتنا السينمائية
الذوقية التي لم نتعلمها لا في المدرسة ولا في الجامعات ، فنحن لم نتربى
على حرية إختيار الذوق والذوق المخالف وبقينا في حالة نفور . كذلك فإن
السينمائي التونسي هو أيضاً مسؤول عن هذا الجانب فهو لم يجد الزاوية
الصحيحة لفهم الجمهور فهو يعاني كذلك من الرقابة والرقابة الذاتية ، وهذا
أمر يحدث نوع من المضايقة في نفسية السينمائي الذي كان أمام لعبتين ، لعبة
الرقابة ولعبة المجتمع . ضف إلى ذلك المشكل الكبير وهو كتابة السيناريو
التي تعاني منها السينما التونسية. يجب مزيد من الدعم في هذه النقطة وإيجاد
زاوية إلتقاء بين السينمائي والشعب ، فمهم جداً في السيناريو أن نجد حكاية
ومهم جداً أن نعطيها الوقت والدعم الكافي لتجسيدها سينمائياً .
·
الشعب التونسي مل من مواضيع حول
المرأة والجنس في سينمائه ما رأيكم في هذه الفكرة ؟ وماهية اقتراحاتكم ؟
ليس المشكل في طرح مسألة المرأة وحتى وإن طرح من جديد فالأمر ليس
مشكلة ، لكن ما ألاحظه هو أن الشعب التونسي شعب يريد الحياة ، محب للنكتة
والكوميديا والضحك ...لكن ماهي المواضيع التي يمكن أن تحقق له هذه النكتة
وتجلب له الضحك ؟ كل المواضيع يمكن أن تكون مهمة ، يمكن أن نصنع أفلام
كوميدية جديدة ، يمكن أن ننتج أفلام تربوية للأطفال كذلك يمكن أن ننتج
أفلام عائلية ... هناك عدة مواضيع يعتقد أنها تافهة لكنها في حقيقة الأمر
مهمة . يجب خلق سينما تربوية جديدة تجمع كل العائلة مثلاً ولا تكون
المشاهدة دائماً فردية . وأنا قد أنتجت فيلم للأطفال لكن لم يقع بثه أبداً
على القنوات التلفزية التونسية في حين بث في عديد القنوات الأوربية . أنا
من السينمائين الذين ينبذون الإبتذال في السينما سوى باللفظ أو بالصورة .
فالالفاظ البذيئة بالنسبة لي تقوض التربية التي هي من مهام السينما .
·
مارأيكم في مسألة النقد
السينمائي والنقاد السينمائيين في تونس قبل الثورة وبعدها ؟
في الحقيقة النقاد السينمائيين يعانون كذالك من الرقابة بشكليها ،
لدينا الكثير من النقاد السينمائيين المهنيين وهم كثر ، لكن نظام بن علي لم
يدع لهم المجال للتعبير بحرية . اليوم تغير كل شيء فيجب أن يعمل النقاد
السينمائيين بمعزل عن تلك الرقابة التي كانت مسيطرة ، يجب أن تعطى الفرصة
كذلك إلى النقاد الشبان فلهم كذلك نظرة جديدة للسينما التونسية ، يجب أن
يكون النقد دقيقاً وبناءً وصريحاً يدفع السينما للتقدم والتطور وإعادة
النظر في أخطائها لا تجاهلها كما كان سائد طيلة عقود .
·
هل لديكم إقتراحات جديدة في مجال
السينما ؟
في الوقت الحالي يجب تجديد المواضيع لا الإقتصار دائماً على موضوع
المرأة والجنس ... هناك مواضيع عديدة جديدة أكثر أهمية وأقرب للشعب ، يجب
أن لا ننسخ المواضيع من الغرب ونعطيها صبغة وطنية . حسب رأيي اقترح إنشاء 3
مراكز تكوين (شمال - وسط - جنوب ) في مجال السينما والصورة وكتابة
السيناريو ... مثل إختيار فرد واحد من كل ولاية حسب مقاييس معينة دون
تدخلات ولا رشوة في إختيار المترشحين . واقترح أن يكون العمل تطوعي بدون
أجر وأنا متطوع للقيام بذلك إن طلب مني ، وبهذه الفكرة نصنع سينما جديدة
تونسية بطرق تكوين محلية وبخبرات تونسية و أنا واثق أننا سنبدع في ذلك .
موقع "أدب فن" في
25/11/2011
"ابن بابل" فرح تثقله الاسئلة
قراءة في فيلم "ابن بابل" لمحمد الدراجي
حميد حداد
منذ ان سقط النظام في بغداد عام 2003، بدأ الهم السينمائي ونداء
النهوض بالسينما يتصاعد، وتجلى ذلك، في محاولات العديد من السينمائيين
العراقيين، وعلى الاخص الشباب منهم لما يتوفرون على طاقة الاندفاع في تحقيق
منجز يساهم في انشاء سينما عراقية حقيقية. وعلى الرغم من كل الصعاب التي
تحول دون الاندفاع كثيرا في هذا المسعى الا ان البعض كان لديه من الاصرار
ما يكفي لخوض التجربة الصعبة. ومن هؤلاء المخرج عدي رشيد الذي انجز فيلمه
المهم ضمن مرحلته "غير صالح للعرض". وكذلك المخرج محمد الدراجي في فيلمه "احلام"
وغيرهم العديد في المجال الوثائقي. وكرر عدي رشيد التجربة في فيلم "كرنتينة"
وكذلك محمد الدراجي في فيلمه الجديد "ابن بابل" وكنا نعد انفسنا بالمزيد من
الفرح لمشاهدة "ابن بابل" الذي انتظرناه بفارغ الصبر، بعد ان قرانا وسمعنا
الكثير عنه. وبعد ان خرجنا من مشاهدته رافقتنا العديد من الاسئلة وعلامات
الاستفهام التي تثقل على الدراجي وفيلمه سنحاول هنا مناقشة بعضها.
يبدأ "ابن بابل" زمنيا، بعد سقوط النظام في بغداد بثلاثة اسابيع،
بمشهد يضم سيدة كردية وحفيدها احمد على طريق وسط جبال كردستان العراق،
محاولين ايجاد سيارة توصلهم الى مدينة الناصرية للبحث عن والد الطفل احمد
"ابراهيم" المفقود منذ حرب تحرير الكويت عام 1991. وعندما يجدان من يوصلهما
يطلب صاحب السيارة منهما مبلغا كبيرا لايصالهما الى بغداد وعليهما ان
يتدبرا امرهما للوصول الى الناصرية. وفي بغداد تعترضهما مشكلة سرعان ما
تزول وهما يحاولان الصعود الى حافلة متهالكة لتقلهما الى الناصرية. وعندما
يصلان الى الناصرية للبحث في قوائم السجناء والمفقودين لم يعثرا على اثر
لابراهيم، غير انهما يتعرفان الى شخص اسمه "موسى" يتكلم لغة كردية بسيطة
لانه خدم في الجيش في كردستان وساهم في عمليات الابادة التي تعرض لها
الاكراد ابان النظام السابق. وفي هذه الاثناء يسمعان عن اكتشاف مقابر
جماعية في بابل فيتوجهان الى بابل للبحث في المقابر الجماعية عن ابراهيم
دون جدوى. هذه هي فكرة الفيلم بايجاز.
اذن يعتمد الفيلم فكرة السفر او الرحلة باطار واقعي. واذا كان الحال
كذلك، فمن المنطقي ان تتداخل مع خط القصة العام ما تصادف الابطال من قصص
جانبية تؤثر في القصة الرئيسة. يقطع بطلا الفيلم مسافة تتجاوز 800 كيلو متر
مارين بالعديد من المدن في بلد مليء بالاحداث ولكل مدينة لها احداثها
المتميزة. ومعالجة واقعية لقصة قوامها الرحلة تتطلب اظهار بيئة وقوع القصة.
وليس صحيحا ان يفترض صانع الفيلم عدم معرفة المشاهد بجغرافيا هذه البيئة
التي يتناولها الفيلم. وانه من المنطقي ان يشير الى ما ينوء به مكان حدوث
القصة من احداث في الزمن الذي يتحرك فيه ابطال الفيلم. فلتك تاثيرات مباشرة
لابد للمخرج او صناع الفيلم من اخذها بنظر الاعتبار، ولا يمكن العبور عليها
وتجاهلها، بطريقة كأن لا احد يعرف بما يحدث ففي تناول مثل هذا استخفاف
بالمشاهد. بل ان اهمية اي خطاب فني يتناول مرحلة زمنية ما، يتطلب من مرسل
ذلك الخطاب. الوعي باهمية ما يريد وعليه البحث طويلا في زمان الحدث ومكانه.
والا سيبدو الخطاب منقطعا عن جذوره، ومن السهل معرفة حجم التلفيق الذي
اصابه. وللاسف فان "ابن بابل" قد وقع في هذا المأزق.
وما شاهدناه هو عمل واقعي يهرب من واقعه الى الاستسهال والخفة. فضلا
عن ذلك، فقد انفق المخرج الكثير من الجهد في التوفيق بين توقعات المنتجين
وداعمي الفيلم منه، وهذا واضح من السيناريو المكتوب وفقا لتصورات بعيدة عن
هموم المساهمة في بناء سينما متميزة. ما انعكس سلبا على مصداقية الفيلم.
ولو اردنا تجاوز العديد من المشاكل التي وقع فيها سيناريو الفيلم التي
ربما لا ينتبه لها المشاهد غير العراقي. لا يمكننا تجاوز المشاكل الفنية
التي وقع فيها المخرج محمد الدراجي. فمشكلة الفيلم الاساسية تكمن في فهم
الدراجي للمعالجة السينمائية، فكل ما كان يفكر فيه الدراجي، هو ان يوصل
ابطاله الى النهاية التي ارادها وقد نجح في ذلك مقارنة مع تجربته الاولى في
فيلم احلام، التي شاهدنا تخبطه فيها. غير ان الدراجي في مقابل نجاحه هذا
خسر العديد من جماليات السينما التي كانت في متناوله، خصوصا في مشاهد كان
يمكن ان تكون رائعة لو انه استثمرها وراهن عليها واعطاها قوة التعبير التي
كان الفيلم بامس الحاجة لها وسط ركام المشاهد التي تستدر مشاعر المشاهد حد
الاستجداء. احد هذه المشاهد، عندما تجلس الجدة مع حفيدها على جسر الناصرية
العائم وتغرف من ماء الفرات بيدها لتغسل وجه حفيدها، استعدادا للقاء ابنها
ابراهيم والد الطفل احمد. ففي هذا المشهد قوة تعبيرية ورمزية هائلة، غير ان
محمد الدراجي نفذه بطريقة عادية، اذ جعل الصبي يغسل وجه جدته ايضا مما افقد
المشهد قوة التعبير لانه سحب المشاهد الى مساحة مفرغة من اي حمولة رمزية.
في الوقت الذي يفترض ان يمثل الطفل المستقبل النقي بانتمائه الى الارض
ومياه الفرات الجارية تحته. فجاء التعبير عكس ما يريد المخرج ومثل ارتدادا
الى الماضي، الذي سينساه الدراجي لاحقا عندما تموت الجدة في نهاية الفيلم،
وبهذا يكون الدراجي قد ناقض نفسه في الفيلم وهو ما يفصح عن تخبط ما زال
الدراجي يعاني منه.
والمشهد الاخر الذي كان يمكن ان يمنح الفيلم قوة، ايضا، لما توفر من
جمالية رائعة وكان فرصة للابتعاد قليلا عن العويل المتواصل في المقابر
الجماعية التي استغرقت من الفيلم زمنا طويلا تجاوز المعقول وحدود التعبير
الفنية. ذلك المشهد الذي طغى عليه اللونان الابيض والاسود، بياض تلال الرمل
حول المقبرة التي ترتقيها النساء بالعباءات السود. فقد افسده الدراجي،
بتتابع اللقطات غير المؤثر، وكان بالامكان صياغة المشهد باعادة ترتيب
اللقطات واضافة لقطة كبيرة للنسوة وهن يقفن على ذروة التلة ينظرن باسى الى
الاسفل بزمن طويل نسبيا، لترك المشاهد يتشبع بصريا بجمالية اللقطة المعبرة
جدا، مع لقطات قريبة لوجوه النسوة. وبذلك يوصل ما يريده دون اللجوء الى
الدوران في المقبرة والعويل الطويل دون هدف سوى ابتزاز مشاعر المشاهد،
بمشاهد طويلة ثقيلة استغرقت اكثر من ربع ساعة من زمن الفيلم دون حدوث تصاعد
درامي. كما لا يمكن ان ننسى مشهد الطفل وهو يبحث بين الهياكل العظمية بحثا
عن اثر لابيه، كان المشهد جارحا للمشاعر اذ كيف يمكن لطفل في الثانية عشرة
من العمر، يمضي كل هذا الوقت في مقبرة جماعية ويستطيع ان يحتفظ ببراءته،
خصوصا تلك اللقطة التي يقيس فيها حجم احد الجماجم مقارنا اياها بجمجمته عله
يستدل الى جمجمة ابيه.انه سؤال اخلاقي كان على الدراجي ان يطرحه على نفسه،
قبل ان ينفذ المشهد بالطريقة التي رايناها.
اداء الممثلين
كان اداء الممثلين متباينا، وتباين اداء الممثلين عادة يؤكد قوة اداء
الممثل الجيد لا قدرة المخرج على ادارة الممثلين. فالجدة كانت تؤدي بشكل
جميل طوال المشاهد التي كانت فيها صامتة وعندما بدأت تتكلم فسد اداؤها.
بينما كان اداء الطفل احمد في تصاعد مستمر وكلما تقدمت المشاهد التي يظهر
فيها كلما كان اداؤه افضل واكثر صدقا وتقمصا للدور. ما يؤكد موهبته. وتجدر
الاشارة الى ان الجدة "شاه زاد" والطفل احمد "ياسر طالب" هما ممثلان غير
محترفين. والممثل الذي قام بدور "موسى" "بشير الماجد" (لا ادري لماذا اسمه
موسى ربما اشارة توراتية! ومن المعني بها!!) هو الممثل المحترف الوحيد
بينما كان اداؤه جيدا فقط في اللقطات الصامتة اما في العموم فكان عاديا
للغاية. ويبدو لي ان مشكلة اداء الممثلين تكمن في الحوارات غير المتماسكة،
ولم تعط للصورة شحنة تعبيرية اضافية، فكانت عنصر كبح. وهو ما يفسر جودة
اداء الممثلين في اللقطات الصامتة فقط، وحين يتحدثون تفسد المتعة البصرية،
بسبب كثرة الصراخ، وهشاشة الحوار.
مرد كل مشاكل الفيلم الى المخرج محمد الدراجي، فهو يصر على انجاز
الفيلم كله بنفسه من كتابة السيناريو الى الانتاج الى التصوير فضلا عن
الاخراج، وربما فرض سطوته حتى على المونتاج لدرجة انه لم يترك معها اي هامش
لمبدع شاركه العمل. ويبدو انه حاول التخلص من عملية الجمع بين كل الوظائف
ولو شكليا، تحاشيا للنقد، كما هو الحال في فيلمه الاول احلام من خلال اشراك
مصور معه وكاتبة سيناريو.
ثمة امران يحسبان للمخرج محمد الدراجي في فيلم "ابن بابل" الاول، هو
جودة التصوير فقد توفر الفيلم على تصوير مميز، والتقاطات ذكية خصوصا
اللقطات القريبة التي تظهر الجدة صامتة بينما الخلفية مضببة. والامر الاخر
وهو سياق الفيلم فقد استطاع الدراجي ان يقود فيلمه من البداية الى النهاية
كما وضعه في ذهنه. اي انه كان يعرف الى اين يمضي بابطاله. وكل ما عدا ذلك
لم يحز على اهتمام الدراجي.
موقع "أدب فن" في
25/11/2011 |