بعد أن سَنّت إستوديوهات وورنر بروز سُنةَ "غير" حسنة: تقسيم الأفلام
المأخوذة عن روايات إلى جزئين - ولو أن الجزء الثاني من "هاري بوتر وآثار
الموت" كان تحفة سينمائية - صار مِن المُمكِن في هوليوود "مط" أي كتابٍ "فانتازي"
ليتحول إلى فيلمين - ويكسب الجميع ضعفين.
يُتَوقَع لبعضِ مشاريع الجزئين أن تكون رحلاتٍ بصرية وروحية مُدهشة ("الهوبِت"،
مثلاً)، بينما يُتوقَع لبعضها الآخر أن يُقدم قصة مُملة ويجعلها أكثر مللاً
(الجزء الأخير من سلسلة "توايلايت"، "بزوغ الفجر"، الذي قُسِم إلى فيلمين).
لكن "بزوغ الفجر - 1" ليس مُملاً فحسب. إنه حالةٌ جديرة بالنظر فيها
في السينما اليوم، ولعل قرار تقسيمه كان قراراً موفقاً، لأنه سمح بكُل
غرابات السلسلة في الظهور، وأوقع الجمهور لما يزيد عن ساعةٍ ضحية للخيال
السريالي الدموي لمجموعة من العقليات في هوليوود التي تُقدِم في هذا الفيلم
مادةً لا يُمكِن أن أتفق معها بالمرة، لكنني لا أجد في نفسي القدرة على
وصفها بأنها "مريضة"، لِما في ذلك من شُبهةِ حجرٍ على المُخيلة الفنية.
بكامل إرادتك الحرة
اتخاذُ قرارٍ بالذهاب لمشاهدة رابع أفلام سلسلة "الشفق" أو "توايلايت"
الشهيرة، "بزوغ الفجر - 1"، لم يكُن ناتجاً عن رغبةٍ حقيقية في مُشاهدة
الفيلم - الذي وجدت مانولا دارغِس من "نيويورك تايمز" أشياء جيدة فيه،وإنما
لأن الأفلام الأخرى المعروضة في صالة السينما لا تُشجِع على دخولها، كما
أنها فُرصةٌ للاحتكاك بجمهور "توايلايت" الحقيقي. (بالإضافةِ إلى سببٍ آخر
سيأتي بيانه).
مواعيد عرض الفيلم كانت غير مسبوقة، فأول عروضه تبدأ في الواحدة
والنصف ظُهراً،وهذا نادرٌ في المدينة التي أسكن فيها ، وتمتدُ العروض حتى
الواحدة والنصف بعد مُنتصف الليل، ويُعرض الفيلم عروضاً متتالية، بين كُل
عرضٍ وآخر فيها نصف ساعة.
كان اختيارُ وقتٍ من الشاشة الوامضة المُزدحمة صعباً، لذا طلبتُ من
قاطعة التذاكر أن تقطع لي تذكرة في العرض القادم، فقطعت تذكرة لعرضٍ يبدأ
بعد رُبع ساعة.
سألت: "ألن تكون الصالة مُزدحمة؟" فردت، "بقيت مائة تذكرة للعرض، ليست
كُل المقاعد مُمتلئة."
الصالة العملاقة
لم يكُن إيجاد المقعد المُفضل مما يَهُم في هذا الفيلم، فقُلتُ لنفسي،
"لِمَ لا؟". هكذا، فوتُ طابور هذا الفيلم ، والوقوف في طابور الفيلم من
تجاربي المُفضلة في السينما، لكنني تمكنتُ من رؤية صالة ذاتِ ثلاثة آلافِ
مقعد مُمتلئةً بشكلٍ يُصيب بالدوار.
جمهور "توايلايت" المُعتاد هُن الفتيات من الثانية عشرة حتى السادسة
عشرة، لذلك شعرتُ ببعض الإحراج من دخول الفيلم. في صالةِ السينما، بدا
الفيلم - للوهلةِ الأولى - مُناسبةً عائلية، فكثيرٌ من الأسر حضرت بكُل
أطفالها. لكن البحث عن مقعدٍ لا يتسبب في ألمٍ للرقبة جعلني أنتبه إلى أن
معظم الحضورِ كانوا أزواجاً في مراحِل عمرية مُختلفة، ومجموعاتٍ من
الصديقات حضرن كـ"شلةِ" واحدة معاً، ومعظمهن تجاوزن سِنَ الأربعين أو
الخمسين.
في الواقع، كانت نسبةُ المُراهِقات في صالة السينما التي دخلتها
قليلةً جداً. (في صالاتِ السينما المُجاورة، كانت أُسرٌ تُخيِم أمام
الأبواب بانتظارٍ عروضٍ تبدأ بعد ثلاث ساعاتٍ ليحصلوا على أفضل مقاعد في
الصالة. حتى أنني عندَ خروجي، وددتُ لو سألتُ الأمهاتِ عن الأسباب اللائي
تجعلهن يُخيمن مع بناتهن وأبنائهن هكذا، وما القيمة التي يتوقعن أن يُقدمها
الفيلم لهن ولذرياتهن، لكن عملاً كهذا ينمُ عن قلةِ ذوقٍ لا مراء فيها).
جاء مقعدي بجوار "شلةٍ" من ثلاث صديقاتٍ هُنَ نموذجٌ صادفته كثيراً
لسيداتٍ مُتقاعداتٍ قررن ارتداء الجاكتات والأحذية الجلدية، وقيادة
الدراجات النارية، والتدخين، والتحدث بعباراتٍ صادمة - خصوصاً عند مُخاطبة
الجيل "واي". (وهُن النقيضُ التام للسيدات المُتحفظات - في مثل سنهن -
اللائي يُخاطبن الجيل "واي" بعباراتٍ من قبيل: "أيتها الشابة!" أو "أيها
الشاب!" وهذه عبارةٌ "بطريركية" لها ما يُقابلها في العالم العربي،
ويُتوقَع الرد عليها بـ"يِس مام"، أو "يِس سِر".
السيداتُ المُحافظات كُن موجوداتٍ أيضاً في صالة العرض، لكن، برفقةِ
أزواجهِن المحافظين، وبملابس لا أثر للجلد والسلاسل فيها. ورغم أن موعِد
بدء الفيلم كان يُفترض أن يكون بعد رُبع ساعة، إلا أن الفيلم لم يبدأ إلا
بعد ساعةٍ كاملة من عثوري على مقعدٍ، وبعد أن امتلأت صالةُ العرض عن آخرها،
حتى باتَ مُرعباً مُشاهدةُ هذا العدد كُله من الناس - ويبدو لي أن هذه
الصالة بالذات كانت أكبر من صالة عرض "الأسد الملك".
فيلم للعائلة
تصنيف الفيلم بي. جي. 13، أي أنه من المُمكِن مشاهدته لجميع أفلام
العائلة بحضور الأبوين، لكنني وجدتُه تجربةً شنيعة. رُبما يعود ذلك
لاختلافِ الثقافاتِ بين المُجتمع العربي والمُجتمع الأمريكي، لكنني لو
كُنتُ أماً في صالة العرض مع أطفالي، لأخذتهم وغادرتُ الفيلم في العشرين
دقيقةٍ الأولى منه، ولو اجتزتُ الجزء الفضائحي منه - رغم كُل ما فيه من
أشياء لا يُمكِن قبول عرضها على الأطفال، لأخرجتهم من صالةِ العرض في الجزء
الدموي منه.
الفيلمُ ليس مُناسباً للعائلة، وقد يُقدم هذا فكرةً عن الطريقة التي
تعمل بها هوليوود. فيلمٌ مثل "هاري بوتر وآثار الموت - 2" حصل على تصنيفٍ
مُماثِل، رغم أنه يتعامل مع ثيماتٍ ناضجة، لكن المُدافعين عن تصنيفه بهذا
الشكل، قالوا إنه ليس في الفيلم ما يُبرر تصنيفه بـ"آر"، من حيث أنه لا
يعرض مشاهِدَ دموية صريحة، أو مشاهِد جنسية.
في الواقع، فإن نصف "بزوغ الفجر" الأول فضائحي، ونصفه الآخر دموي. مما
يعني أن تصنيف الأفلام يخضع لنفوذ شركاتِ هوليوود، لا لمقاييس مُحددةٍ لما
يُناسِبُ عرضه الأطفال وما لا يجوز عرضه عليهم.
هذا الخللُ في التصنيف لا يُسيء فقط للعائلات، لكنه يؤذي الجمهور الذي
ذهبَ ليحضر فيلماً "خفيفاً"، فإذا به يجدُ نفسه عالقاً في فيلمٍ دموي
ومقزز، وكأنه قد ذهب لحضور "برام ستوكر دراكيولا" - مثلاً - مع الفارق
الفني بين الفيلمين. ويدخل في بندِ الغِشِ التجاري، لكن الجمهور لم يحتج.
وإن غادر الصالةَ أبٌ وابنته الصغيرة - يبدو لي أنها لم تتجاوز الثامنة -
وأخذت أسرٌ أخرى تُرسِلُ أطفالها من حينٍ لآخر لشراء ما أمكن شراءه من
كافتيريا السينما - رغم غلاء أسعارها.
ويبدو لي غريباً عدم قُدرةِ الأسرِ على الاحتجاج على ما يشاهدونه في
السينما، حتى أن تجربة العرض برُمتها كانت شبيهة بمُجتمعٍ أورويلي يتقبل
إملاءات الشاشة من دون مقاومة.
بعد أن استشرت مجموعة من الأشخاص الذين هم آباء وأمهاتٌ حقاً - لا
مجازاً، فإنهم يُبررون عدم استطاعة العائلات في السينما التصرف بالخوف من
اتهامهم بالقسوة والتحجر، والتبعات الوخيمة لمثل هذه الاتهامات. إحدى
الأمهات قالت: "لا أرغب أن يذهب أطفالي في المُستقبل إلى أحد البرامج
الحوارية النهارية ليتحدثوا كيف أنني منعتهم من مشاهدة "بزوغ الفجر"، بينما
كُل الأسر تشاهده مع أطفالها. إنه "المقبول اجتماعياً" الآن، وإبعاد أطفالي
عنه سيجعل المجتمع وضغط الأقران يُبعدهم عني".
الجمهور
مع ذلك، كان الجمهورُ حاضراً. إذ صفَق بحرارة في أول عشرين ثانيةٍ من
الفيلم، حين خرج المُستذءب جيكُب (تايلر لوتنر) غاضباً من كوخه وخلع قميصه
ثم تحول إلى ذئب. هُنا، لا بُد من سؤال: هل ذهب الجمهور إلى صالةِ السينما
لمشاهدة مراهق يخلع قميصه ويتحول إلى ذئب؟ ما دلالاتُ المشهد التي تحمل
جمهوراً من البالغين على التصفيق لهذا المشهد الذي يؤديه مراهق في سِن
أبناء معظمهم، إن لم يكُن في سِن أحفادهم؟
كذلك، انفجر الجمهور ضحكاً عند عرض صورةِ غرفة النوم بعد ليلةِ الزفاف
الأولى. ولا أعرف ما إذا كان ذلك إعجاباً بمصاص الدماء إدوارد كولِن (روبرت
باتنسُن)، أم لأن المشهد هزلي بالفعل. لم يُصفِق الجمهور عند نهاية الفيلم
- لحُسن الحظ - لكن الأفواج التي توقفت في مُنتصف السُلم، عندما ظهر المشهد
الذي تلا الأسماء، تهاتفت: "هل يُعقل أننا كنا سنفوت هذا المشهد الهام؟"،
بشكلٍ لو قُدِمَ في فيلمٍ ما، لاتُهِم معه الفيلم بالمبالغة والهزلية.
غير أن هُناك تفسيراً قد يشرح جُزءاً مما يجري، فالسيدات بجواري -
اللائي أضفن تعليقاتهن "المفصلة" لِما يجري في الفيلم - يُحللن ما يجري في
الفيلم، من وجهة نظر من هو في مرتبةٍ فكرية "أعلى" مما يجري. ولعل هذا من
ألعاب المرواغة في الفيلم: الجمهور يظنُ أنه أعلى من الفيلم، وأنه "يمتلك"
مفاتيحه، فيما الفيلم - في الواقع - يحول الجمهور إلى "مسخرة".
زفاف القرن
زفاف القرن الحقيقي الزفافُ المُنتظر بين البشرية بيلا سوان (كريستِن
ستيوارت) - خريجة الثانوية المُتمةُ ثمانية عشرَ عاماً من العُمر، مما
يجعلها بالغة راشدة في نظر القانون الأمريكي - ومصاص الدماء إدوارد كولِن -
البالغ من العُمرِ قرناً ونيف، لم يفعل فيه غير التخرج من الثانوية مراراً
وتكراراً. تُنظِم الزفاف أختُ الزوج، ويتكفل بمصاريف الحفل أهل الزوج، وهم
جماعة من الأثرياء مصاصي الدماء - حرفياً.
قبل الحفل، يعترفُ إدوارد كولِن لزوجته بأنه كان يُمارس مص دم البشر -
رغم أن جماعة مصاصي الدماء التي ينتمي إليها لا تُمارس مص دماء البشر،
وتستعيض عنه بدماء الحيوانات. أي أنها أسرةٌ مصاصي دماء "نباتية" - لكنه
كان يمتصُ دماء سفاحي النساء، فتصرف الأمرَ وكأنه يعترف لها - مثلاً - بأنه
كان سكيراً. بل وتدافع عنه: "لقد أنقذت حيواتٍ أكثر مما سلبت".
في البداية، يوحي الفيلم بأن إدوارد سيمتص دماء امرأة في صالة
السينما، لكنه لا يفعل، ويمتص دماء قاتلٍ كان يترصدها. يبدو لي هذا عملاً
جباناً من ستيفاني ماير - مؤلفة السلسلة - ومن كاتبة السيناريو ومُخرج
الفيلم. لِماذا لم تعبر السلسلة هذا الجسر الأخلاقي الواهي وتجعل من إدوارد
كولِن سفاح نساء؟ هو بالفعل كذلك. لكن السلسلة تُخاطب جمهوراً يُريد
معضلاتٍ أخلاقية سهلة: "كان يقتل الأشرار، إذن هو جيد. (أو جورج بوش)".ماذا
لو استمر كولِن في عمله سفاحاً للنساء؟ ليست هذه الأسئلة مما يشغل سلسلة "توايلايت"
التي تُرسِلُ رصاصةٍ إلى عقل كُلِ مشاهدةٍ يافعة واحترامها لذاتها. رغم
ذلك، تحلُم العروس، بيلا سوان، بمذبحة تقف على رأسها مع زوجها - إدوارد
كولِن - ومن ضمن الضحايا أبوها وأمها. كابوس العروس يتحقق فيما بعد، إذ
أنها تذبح أبويها - مجازياً - في نهايته.
مشاهِد الزفاف كانت مُسلية، بدءاً من عدم قُدرة العروس على السير في
الحذاء الذي صممته لها أخت زوجها، وانتهاء بالأنخاب الطريفة التي قُدِمت -
خصوصاً أنخاب والِد العروس، الشخصية الوحيدة التي بدت لي قابلةً للتعاطف
معها في هذه الفوضى من العته الذي يُصيب النساء والرجال من دون تفريق.
ما تلا ذلك في جزيرة إِزمي التي يملكها كارلايل كولِن - والد العريس -
قُرب شواطئ البرازيل - يحتل كارلايل كولِن حالياً المرتبة الأولى في قائمة
فوربز لأغنى خمسة عشر شخصية خيالية، متفوقاً على شخصياتٍ مثل سكروج مكداك،
بروس واين "باتمان"، وتوني ستارك "الرجل الحديدي" - مع أن وظيفته في
السلسلة أن يكون طبيباً في مقاطعةٍ نائية، كُل شيءٍ فيها مُتهالك.
في الجزيرة، كُل شيء فضائحي وهزلي، ويصلُ إلى حد اختلالٍ نفسي مُركب
من السادو- مازوخية والتلصص. ولعل الشيء الوحيد المعقول في مشاهد الجزيرة،
أن الساكنين المحليين الذين يقومان على رعاية البيت يعرفان أن آل كولِن
"شياطين"، وتعتقد الزوجة أن إدوارد كولِن قد اختطف بيلا ويحتفظ بها رهينة
يقوم بتعذيبها وفقاً لنزواته - وتفسيرها لا يبعد كثيراً عن الحقيقة، لأن
بيلا غير ناضجة، وقواها العقلية أوهَن بكثيرٍ من أن تدرك هشاشة وضعها،
وكونها ضحيةً لسفاح نساء يزيد عُمره عن قرنٍ يتسلى بمرافقة فتيات الثانوية.
تأثير كروننبرغ
اشتهر المخرج ديفد كروننبرغ في الجزء الأول من مسيرته السينمائية
بأفلام الرُعب الجسدي، التي تصورُ التحولات الشنيعة التي تُصيب الجسد
الإنساني - رغم أنه قد انتقل إلى الرُعب النفسي في الجزء الثاني من مسيرته
- ويبدو أن القِسم الثاني من فيلم "بزوغ الفجر - 1" تحيةٌ له، ولغيره من
مخرجي رُعب الجسد. فالجنين الذي يكبرُ بسرعةٍ جنونية في أحشاء بيلا، يُحطم
عظامها من الداخل، ويمتصُ طاقتها الحيوية، ويتغذى عليها. بل إنّه يُجبر أمه
البشرية على تناول الدماء ليُبقي عليها. يبدو المشهد فاجعاً وحزيناً حين
يقول إدوارد - الذي يستطيع قراءة الأفكار -إن الجنين يُحِب أمه وأباه.
ويُرسِخ فكرة السلسلة في أن الرجال وحوشٌ بطبيعتهم - إما ذئاب أو مصاصو
دماء.
الجديدُ في الأمر أن الوحش الجديد الناتج فتاة. (ولعل ذلك ليس مفهوماً
جديداً، وإنما إعادة إنتاج لفكرة الأنوثة الممسوخة).
مشهد الولادة
من أبشع مشاهِد الفيلم، مشهد الولادة (حتى أنني رغبتُ في مغادرةِ صالة
العرض خلاله). بيلا سوان مُمدةٌ على طاولةِ تشريح، مُحاطة بمصاصي دماء
ومستذءب، يشقون بطنها، وينتزعون جنيناً من أحشاءها، ومن ثم يحاولون إعادتها
للحياة. عملية الولادة مُرعبة ومقززة بشكلٍ يجعلني أشكك جدياً في سلامة
حُكم الأهالي الذين لم يُغادروا قاعة السينما بأطفالهم وقتها. (الخُرافة
القائلة بأن الأطفال لا يستوعبون ما يرونه، خُرافةٌ بالفعل. صحيحٌ أن
الأطفال في سِنٍ مُعينة يكونون منجذبين إلى قصص الرُعب ومصاصي الدماء، لكن
على الأهل أن يكونوا أكثر حزماً مع محاولاتِ هوليوود لافتراسِ أبنائهم).
في نهاية الفيلم، تُجمّلُ بيلا، وتُزيَن، استعداداً لنهوضها من الموت
بوصفها مصاصة دماء. إنه "بزوغ الفجر" الذي يفصل بين بيلا سوان وبين
عائلتها، حتى أن المشهد يعود إلى ولادة بيلا، وحمل والديها البشريين لها.
لقد أتمّت بيلا تحولها، بعد عمليةٍ جراحية قام بها الزوج، إدوارد كولِن.
(تُقارِن مانولا دارغِس من "نيويورك تايمز" بين هذه المشاهد وبين مشاهِد
فيلم "شجرة الحياة" بشكلٍ يجلب عليها "شتيمة" القراء، ورغم رفضي الشخصي
لـ"الشتيمة"، وإدراكي بأن لهذه المُقارنة ما يُبررها، إلا أن فيلم "بزوغ
الفجر" فيلمٌ صادِمٌ ومُدِمر، ورديء الصنعة بشكلٍ يجعل من مقارنته مع فيلم
"شجرة الحياة" عملاً غير حكيمٍ بالمرة، فجمهور "توايلايت" المُتعِطش
لاعترافٍ فكري بمُعتقداته المُريعة ليس بحاجة إلى تشجيع.
زوجات ستِبفورد
تقول ستيفاني ماير، مؤلفة السلسلة، إن السلسلة كُلها تتعلق بخياراتِ
بيلا سوان، وهذا ردها على كُل من يعتبرون السلسة مُسيئة للنساء. لكن، أيُ
نوعٍ من الخياراتِ تُعطيه ستيفاني ماير لبيلا؟ الخيارُ الوحيد المتوفر لدى
بيلا - المُراهِقة، طالبة الثانوية - إمّا مصاصُ دماء "يبرق"، وإما مستذءب.
يبدو الأمرُ مُضحكاً، خصوصاً وأن على بيلا أن تختارَ في سنِ لا يصلح معها
الاختيار. المُحافظون يرون أنها بلغت سن الرشد، وأن عليها أن تكون مسؤولةً
عن خياراتها، وهذا يصبُ في الخانة الفكرية التي تسمح بارتباطِ رجالٍ أثرياء
مسنين بفتياتٍ في عُمر بناتهن، طالما وأن هؤلاء "قد اخترن". بل إن التشكيك
في إمكانية أن "تختار" بيلا، يقود إلى هجومٍ مُضاد من الإنجيليين الجُدد:
من أنت حتى تُقرر متى يختار الناس؟
إن بيلا حين تتزوج إدوارد كولِن، مصاص الدماء، وتسمح له بأن يعبث
بجسدها، ويشقه، ويُغيره، ويحولها إلى مصاصة دماء، إنما تُمثِل عملية التحول
إلى زوجة آليةٍ بشكلٍ دموي ومقزز. لقد صارت الآن اللعبة المثالية. ولعل في
هذا رسالةً للفتيات، بأن يعتنقن هذا النموذج غير الإنساني للجمال، مصاصة
الدماء التي تبقى في الثامنة عشرة للأبد.
بيلا لا تملكُ من التوازن النفسي والعقلي ما يسمح لها بالاختيار، بل
إنها توقع نفسها - ومن حولها - في مآزق كبيرة، خصوصاً أبويها. مفارقة بيلا
لأبويها - خصوصاً والدها، رجل الشرطة الفقير الذي يُصاحِب الهنود الحُمر -
ولحاقها بآل كولِن الأثرياء الذين يقطنون بيتاً أشبه بالتحفة الفنية في
الناحية الأخرى من البلدة، واعتناقها لمبادئهم يُمثِل الكيفية التي تمسخُ
بها الطبقة المخملية هويةَ فتاةٍ من الطبقةِ العاملة، بوهم أن كُل شيء يجري
بـ"اختيارها".
تحاولُ ستيفاني ماير أن تُسَخِف من قدر الانتقادات النسوية الموجهة
إلى كتابها بالقول إن قيام بيلا بطهي العشاء لوالدها من حينٍ لآخر، لا يعني
أنها نموذجٌ "بطريركي". الواقعة التي تنتقيها ماير "مُغرِضة"، لكنها
مُفيدةٌ في النظر إلى السياق الذي تتحول فيه بيلا من فتاةٍ عادية تطهو
العشاء (مجموعة من المعلبات) لوالدها، إلى مصاصةِ دماء فائقة الجمال تعيش
في الطرف الثري من البلدة، لا تنام ولا تأكل ولا تعطش ولا ينالها الردى،
فيما يبقى أبوها في البلدة الهالكة والبيت الخرب، ممنوعاً حتى من رؤيتها،
وهي على بعد دقائق منه.
مستعمرون وهنود
صديق بيلا، جيكُب بلاك، هندي أحمر، يُقيم في مستوطنة هندية، ويعمل في
تصليح الدراجات. جيكُب يحمل "جين" الاستذءاب الذي يسري في قبيلتهم، ويتحول
إلى ذئب حين يأتيه النداء. كانت هذه واحدةً من أكبر المآخِذ على السلسةِ
مُنذ بدايتها، لأنها تُقدِم الهنود الحُمر بوصفهم "متحولين جينياً" بينما
مصاصو الدماء - البيض، عادةً - متحولون "فكرياً"، في مرحلةٍ مُعينة من
حياتهم. ولا تظهر جيناتهم في وقت "البلوغ" كما هو الحال مع الهنود الحُمر.
كذلك، في الثقافة الشعبية، يحتل المستذءبون مكانةً أدنى من مصاصي
الدماء، الذين يُشكلون المُجتمع المخملي للمخلوقات "الليلية". وهذا يُضيف
بُعداً جديداً إلى رفض بيلا المُستمر لجيكُب، فبيلا - التي تأتي من خلفية
اقتصادية أقرب إلى خلفيته الاقتصادية - لا تزال بيضاء، وأمامها فُرصةٌ
للترقي الاقتصادي قد تضيع تماماً إذا ما ربطت مصيرها بمصير هندي أحمر يدعوه
مصاصو الدماء "كلباً".
ورغم العداء الشديد بين مصاصي الدماء والمستذئبين، إلا أن مصاصي
الدماء يقتنعون بالسماح لجيكُب بالاقتراب من بيلا أثناء حملها، لأنه الوحيد
القادر على تدفئتها، ولأنه يحميهم من هجوم عشيرته من الذئاب. يُعيد الفيلم
حكاية قصة استعمار أمريكا من جديد: المستعمرون البيض يحتقرون الهنود الحُمر
- الأدنى "عرقياً" - ومن ثم يستخدمونهم لضرب بعضهم البعض بدعاوى باطلة من
قبيل الحُب والتضحية والإيثار، وأقصى ما يناله الهندي الأحمر لقب "المتوحش
النبيل".
ولعل واحداً من أفضل مشاهِد الفيلم المشهدُ الذي تسأل فيه إحدى رفيقات
جيكُب، "لِمَ لا تكون سعيداً مثل باقي القطيع؟" فيرد: "إنهم ليسوا سُعداء!
"الجين" يُخبرهم بأنهم سُعداء فيما هم ليسوا كذلك فعلاً!" فيما بعد، تقترح
رفيقة جيكُب أن يصير الذكر ألفا في قطيع الذئاب ليتحدى سُلطة سام - الذكر
ألفا - عليه، فيفعل جيكُب ذلك بالفعل، لكنه لا يصير الذكر ألفا، وإنما
يصيرُ مُنشقاً عن القطيع. ولعل ذلك عائدٌ إلى بُطلان الدعوى التي استخدمها:
هو ليس أقوى بدنياً من سام - في الفيلم - وليس لديه ما يؤهله للقيادة، سوى
أن جده كان زعيم القبيلة. الأمرُ الذي لا يتفق مع مجتمعات الهنود الحمر
التي لا تؤمن بوجود سلالات مقدسة. ويصبُ في خانة الخطاب الاستعماري.
مؤثراتٌ رديئة
الحديث عن مشهد تحدي جيكُب لقائد القطيع - سام - يقود إلى الحديث عن
المؤثرات البصرية - والصوتية - الرديئة في الفيلم. شركة "سمِت"، مُنتجة
الفيلم لم تعد شركةً محدودة القُدرات كما كانت في الجزء الأول، بل تحولت
إلى مُنتجٍ كبير مع السلسلة، وصار في تصرفها ميزانية كبيرةٌ يُمكِن أن
تنفقها على مؤثراتٍ بصرية لائقة، خصوصاً وأن هذا ثالث فيلمٍ يظهر فيه قطيع
الذئاب.
تُفسِد المؤثرات الرديئة مشهد تحدي جيكُب لسام، خصوصاً وأنه يأتي في
ذروةِ تصاعدٍ درامي، يبدأ بأن يُلزم سام جميع الذئاب بطأطأة رؤسها علامة
خضوعٍ له وخنوع، فيرفض جيكُب، وينزل سام إليه، ويأمره بأن يخفض رأسه، ويهجم
عليه، يخفض جيكُب رأسه تدريجياً قبل أن يرفع رأسه ويرفض. بسبب رداءة
التنفيذ - ورداءة الفيلم في المُجمل - لا يُمكِن أن يأخذ هذا المشهد
المكانة التي يستحقها، وهذا خطأ مشترك بين مخرج الفيلم، وفريق المؤثرات
الخاصة، ومُنتجة الفيلم، ستيفاني ماير.
التصوير وشريط الصوت في الفيلم رديئان أيضاً، الأمرُ الذي يجعلُ
مشاهدة الفيلم في المنزل لا تختلف عن مشاهدته في السينما - ورُبما تفضلها،
إذ يُمكِن خفض الصوت حين يصير مزعجاً ومشوشاً. وهذا يجعل المرء يتساءل عن
الكيفية التي تُنتَج بها الأفلام في هوليوود في عصر سيادة الصورة، وتفوق
ألعاب الفيديو في إنتاج البيئات الرقمية، والشخصيات المُتحركة حركةً تُحاكي
الحياة الواقعية.
قفص الحريم
السببُ الرئيسي الذي جعلني أشاهِد أفلام "توايلايت" - رغم أنني لستُ
من قُراء السلسلة، وآخر مصاصِ دماءٍ راق لي مُشاهدته كان بيلا لوغوسي - أن
كاتبتها امرأة، ومخرجة الجزء الأول امرأة (كاثرِن هاردوِك)، وكاتبة
السيناريو لكل الأجزاء امرأة (مِليسا روزنبرغ). أُنتِج الفيلم الأول على
شرط عدم الشروع في الأجزاء الأخرى حتى يُحقق الفيلم مائة وخمسين مليون
دولار، ففعلها، وكان أول فيلمٍ تُخرجه امرأة يحصل على هذه الأرباح في
التاريخ. بعد نجاح الجُزء الأول، طُرِدَت كاثرِن هاردوِك من الإخراج،
واستُبدلت بمجموعة من المخرجين الذكور، ومع وصول السلسلة حداً بعيداً من
السادو-مازوخية واستقباح الذات، فإنه ينبغي أن يتوقف أحدٌ ليسأل: ما الورطة
التي أوقعن أنفسهن فيها وأوقعننا معهن؟
لا جدوى من توجيه السؤال لستيفاني ماير التي تُعيد إنتاج الأساطير
المورمومونية، وتستخدم حججاً متهافتة في النقاش. لكن السؤال ينبغي أن يوجه
إلى كاثرِن هاردوِك ومليسا روزنبرغ. لقد بذلت الإثنتان مجهوداتٍ خُرافية
للحصول على تمويلٍ لإنتاج الفيلم الأول. اختارتا قصةً فانتازية لتبنيا على
نجاح سلسلة "هاري بوتر" - واستوردتا روبرت باتِنسُن من "هاري بوتر وكأس
النار"، وجاءتا بكريستِن ستيوارت التي تحمل شبهاً ما بإيما واتسُن "هرمايني
غرينجر في سلسلة هاري بوتر" - ثم رضختا لشروط الأستوديو المجحفة.
كان الخلل يكمن في القصةِ التي اخترنها، وفي التنازلات التي قدمنها
ليُنتَج الفيلم. الأمرُ الذي يُذكرُ - رغم اختلافِ السياق - بحديث إدوارد
سعيد عن اللاتفاوض، الذي هو خيرٌ من التنازل بلا نهاية. ها نحن الآن نشهدُ
فيلماً مروعاً، وسيادة "بطريركية" لا سابق لها، تستخدم النساء أنفسهن بيادق
لها. كاثرِن هارودِك نفسها انتقلت إلى إخراج أفلامٍ مُشابهة مع فيلم "ذات
الرداء الأحمر" الذي صدر بداية هذا العام. ويالها من خدمةٍ عظيمة لأجيالٍ
من الشابات اللائي يُرِدنَ تسلم القيادة في هوليوود
في المُجمل
فيلم "بزوغ الفجر" تحفة سينمائية لمهووسي السلسلة، المورمون، كارهي
النساء، الذين لم يُشاهِدوا فيلماً في حياتهم من قبل، ومُحبي الثلاثي
(ستيوارت، باتِنسُن، ولوتنر). وهو فيلمٌ معقول بالنسبة لمانولا دارغِس من
"نيويورك تايمز" ومجموعة من الناقدات والنقاد الذين يخشون وصمهم بالتأثر
بالفكر النسوي أو المسؤولية الاجتماعية. فيما عدا ذلك، هذا فيلمٌ رديء
الصنعة - في بنائه الفني وأدواته - ورسالته مسمومة - على مستوى تحليل
الخطاب. وإذا كان لا بُد من مشاهدته، فمع ذرة ملح، ومع نقاشٍ عميق مع
الصغار حول الرسالة التي يتلقونها منه
عين على السينما في
24/11/2011 |